أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - إبسن والصوت الخفي للشخصيات: نحو دراما صادقة















المزيد.....

إبسن والصوت الخفي للشخصيات: نحو دراما صادقة


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


كنتُ دائمًا مشغولًا بتلك اللحظة الغامضة التي يصفها الكاتب المسرحي النرويجي "هنريك إبسن" حين يجلس في عقله مع شخصياته، يتأملها كما لو كانت كائنات حية تشاركه الوجود، لا مجرد خيالات على الورق. هذا الطقس الداخلي ليس مجرد حيلة للكتابة، بل هو في جوهره فعلُ خلقٍ يشبه ما كانت الأساطير تنسبه للآلهة حين نفخت الروح في الطين. إبسن لم يكن مجرد كاتب مسرحي، بل كان صانع عوالم، يضع يده في الطين الاجتماعي والفكري والنفسي، ثم يترك لعقله ووجدانه أن يسكبا فيه الحياة. لهذا حين أقرأه أو أستعيد طريقته أشعر أنني أمام سرّ جوهري في الإبداع، سرّ يجعل الدراما ليست حرفة ولا تقنية بل تجربة وجودية كاملة.
إن الدخول إلى الشخصيات حتى معرفة تفاصيلها الجسدية والاجتماعية والنفسية هو ما يحوّل الكاتب إلى شاهد خفي على حيوات الآخرين. فبدلًا من أن يصفهم من الخارج، يعيش معهم، يجلس بينهم، يسمع أنفاسهم، يعرف صمتهم وارتعاشاتهم، وحتى تلك اللحظة التي يمدون فيها أيديهم إلى فنجان قهوة أو يشيحون بوجوههم بعيدًا عن الحوار. هذه التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو عابرة هي في الحقيقة ما يمنح الشخصيات قوتها، لأنها تجعلها تنتمي إلى عالمنا لا إلى مجرد عالم متخيل. من هنا يمكنني أن أقول إن أعظم ما يفعله الكاتب هو أن يربط بين العابر واليومي وبين ما هو أبدي وكبير، وأن يجعلنا نرى في لحظة بسيطة كل ثقل الحياة.
حين نفكر في إبسن نجده لم يكن يخترع شخصيات من فراغ، بل كان يعكس فيهن أزمة مجتمعه، أزمة الإنسان الحديث وهو يواجه قناع النفاق الاجتماعي. شخصياته تبدو مألوفة؛ زوجة، أب، صديق، ابنة، مسؤول… لكنها في العمق مرايا تكشف الزيف الذي يغلف العلاقات. لقد استطاع أن يجعل الدراما مختبرًا أخلاقيًا، لكن دون أن يسقط في فخ الخطابة. إنه لا يعظ، بل يكشف. وهذه القدرة على الكشف هي التي تجعل المسرح عنده صورة للحياة لا نسخة مزيّفة منها.
وحين أتأمل طريقته أشعر أن ما قاله ليس وصفًا لأسلوبه فقط، بل قاعدة كبرى في كل إبداع. سواء كتبتُ رواية أو قصة قصيرة أو مسرحية أو حتى قصيدة، فإن الدخول إلى عمق الشخصيات ومنحها لحمًا ودمًا وذاكرة هو ما يهب النص قوته. ربما لهذا السبب شعرتُ دومًا أن الشعر الحقيقي ليس هو زخرف اللغة فحسب، بل هو تلك اللحظة التي يتكلم فيها شيء داخلي أعمق مني ومن اللغة، حين تتجسد الأصوات والصور في داخلي كأنها مخلوقات تطلب حقها في الوجود.
هذا يقودني إلى فكرة أوسع: أن الكاتب، قبل أن يكون مؤلفًا، هو في الأصل وسيط بين عالمين. العالم الأول هو العالم الظاهر الذي نعيش فيه جميعًا، بعلاقاته وأزماته وضجيجه. والعالم الثاني هو عالم الصمت الباطني، حيث تختبئ الرؤى وتنتظر أن تجد تعبيرها. وبين هذين العالمين يقف الكاتب، يفتح بابًا خفيًا، ويسمح بعبور الكائنات من الداخل إلى الخارج. في تلك اللحظة يتحول النص إلى جسر، لا بين المؤلف والقارئ فحسب، بل بين الممكن والمتحقق، بين ما لم يوجد بعد وما يتجسد في الكلمات.
هنا يلتقي الإبداع مع ما هو صوفي. فالمتصوفة كانوا يقولون إن الإنسان حين يتأمل ويتطهر من صخبه يرى الحقائق كما هي، لا كما يشتهيها. وكذلك الكاتب حين يغوص في شخصياته، لا يفرض عليها إرادته، بل يصغي إليها حتى تنطق. إنه يسمعها أكثر مما يكتبها. ومن هنا يتجلى جوهر الصدق الفني: ألا تكون الشخصية دمية في يد المؤلف، بل كائنًا يطالب بالحرية. لذلك كثيرًا ما نسمع الكتّاب يقولون إن شخصياتهم "فاجأتهم"، أو إنها "أجبرتهم" على تغيير مسار القصة. في الحقيقة لم يفعلوا سوى الإصغاء، والإنصات هو بداية الحكمة.
ولعل ما يجعل الدراما فنًا عظيمًا هو أنها تجسيد لهذا الإصغاء. على الخشبة يتحرك الممثلون فيجعلون الشخصيات لحمًا ودمًا أمام أعيننا. نسمع صراعاتهم الداخلية بصوت مسموع، ونرى جراحهم تنبض على وجوههم. وهنا يتحقق ما حلم به إبسن: أن تتحول المعرفة الداخلية التي عاشها في عقله إلى تجربة جماعية يعيشها الجمهور. فالجمهور لا يتلقى خطابًا، بل يشارك في حياة. وحين يخرج من المسرح فإنه لا يخرج خالي الوفاض، بل محمّلًا بأسئلة، ربما محرجة، ربما مؤلمة، لكنها في النهاية توقظه من سباته.
ولأنني أكتب الآن، فإنني أجد في هذه الرؤية عزاءً شخصيًا. فما يدفعني إلى الكتابة هو الحاجة العميقة لأن أجلس مع شخصياتي كما جلس إبسن، أن أتعرف عليهم وأشعر بآلامهم وأحلامهم، ثم أتيح لهم أن يتكلموا. أحيانًا أشعر أنني أكتب كي أستطيع أن أسمعهم، لا العكس. وكأنهم ينتظرونني في مكان ما من عقلي أو روحي، يطرقون الباب، ويطلبون أن يولدوا. فإذا ترددت أو توانيت، ظلوا يحاصرونني بصمتهم حتى أستسلم.
إن جوهر تخليق الدراما، هو هذا اللقاء السري بين الكاتب وشخصياته. لقاء قد يطول لسنوات قبل أن يجد مخرجه على الورق. لكنه حين يحدث يصبح النص كيانًا حيًا. ليس صدفة أن أعظم الأعمال الأدبية تبدو لنا بعد عقود أو قرون وكأنها لم تُكتب، بل وُجدت منذ الأزل. كأن الكاتب كان مجرد أداة لتسجيلها، مثلما يسجل العارف إشاراته عن الحقائق الكونية. ولهذا السبب أرى أن الإبداع في عمقه هو فعل إيمان: إيمان بأن ما لم يوجد بعد يمكن أن يوجد، وأن الكلمة قادرة على أن تمنح الحياة.
وحين أستعيد ما قاله إبسن عن تيار الوعي، أجد نفسي أتبسم. فتيار الوعي لم يكن عنده مجرد تقنية أدبية كما صارت عند بعض من جاؤوا بعده، بل كان انغماسًا حقيقيًا في سيولة الفكر والشعور. إن الكتابة التي تنبع من الداخل لا يمكنها أن تسير بخط مستقيم، بل تنساب كما ينساب النهر، تلتف وتعود، تتوقف عند لحظة ثم تنفجر في أخرى. هذا ما يجعل النص حيًا لا آلة ميكانيكية. وحتى لو كان الشكل ظاهريًا تقليديًا، فإن الروح الداخلية تظل متدفقة.
وفي ضوء هذا كله يمكنني أن أفهم لماذا شعرت أن حديث إبسن هو أجمل ما في الإبداع. لأنه لا يكشف لنا فقط طريقة كتابة مسرحية، بل يكشف لنا سرّ الوجود الإنساني نفسه: أننا لا نعيش وحدنا، بل نعيش دائمًا في حوار مع آخرين، مرئيين أو غير مرئيين. وأن الحياة ليست مجرد وقائع، بل شبكة من العلاقات التي لا تنفك تكشف عن نفسها. والكاتب هو من يتطوع أن يكون الشاهد والناقل، أن يلتقط تلك الشبكة ويمنحها صورة يمكن للآخرين أن يروها.
لقد علمتني تجربة التأمل في إبسن أن الإبداع الحقيقي ليس في الزخرفة ولا في الفكرة المجردة، بل في تحويل التجربة الداخلية إلى حضور حي. وهذا الحضور يتطلب صدقًا، والصدق يتطلب شجاعة، والشجاعة تعني أن يقف الكاتب عاريًا أمام شخصياته وجمهوره، دون أقنعة، لأن مهمته ليست أن يُخفي بل أن يُظهر. وهنا تلتقي الدراما مع الأخلاق مرة أخرى: إنها مرآة لا ترحم، تكشف ما نحاول ستره. لكنها في الوقت نفسه تمنحنا فرصة للتطهر، لأننا حين نرى زيفنا بوضوح، نصبح أقدر على تجاوزه.
وفي النهاية، أجد نفسي أردد أن ما يجعل الفن خالدًا هو هذه القدرة على المزاوجة بين الشخصي والعام، بين اليومي والمطلق. فحين أجلس مع شخصياتي وأصغي إليهم، فإنني لا أكتب عنهم وحدهم، بل عن نفسي وعن مجتمعي وعن الإنسان في جوهره. ولعل هذا هو السبب الذي يجعلني أعتبر لحظة الكتابة صلاةً سرية، طقسًا مقدسًا يربط بيني وبين الحياة، بيني وبين الآخر، بيني وبين المجهول الذي لا يكف عن إنجاب الصور والأصوات. إن جوهر الإبداع هو أن نترك لهذا المجهول أن يتكلم من خلالنا، أن نكون وسائط بين الصمت والكلمة، بين الغياب والحضور. وهذا ما فعله إبسن، وما يفعله كل كاتب حقيقي، وما أطمح أن أفعله أنا حين أضع قلمي على الورق وأتركه ينصت ويكتب.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من قلب تل أبيب - قراءة في كتاب حروب إسرائيل السرية
- غياب الإداري المبدع وأزمة الثقافة العربية
- قراءة في كتاب مطرقة الساحرات (Malleus Maleficarum) لهينريش ك ...
- حين تلتقي الفلسفة بالجن والسحرة:
- قراءة في كتاب حصاد الفضائيين للكاتبة الأمريكية ليندا ميلتون ...
- مختصر دراسة بعنوان -نحو ذائقة فلسفية جديدة في نقد السرد وتحو ...
- شرائح بحجم حبة الأرز تتحكم في العقول وأحداث العالم أجمع!
- قراءة في كتاب ( المصري - The Egyptian by Mika Waltari Transl ...
- قراءة نقدية في الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية -غ ...
- دراسة مقارنة بين مهرجانات المسرح في مصر والعالم
- النجم يحي الفخراني وعرض الملك لير على المسرح القومي نسخة عام ...
- غزة تحت القصف وضمير العالم في غرفة الإنعاش
- ثورة ٢٣ يوليو والتعليم .. حين تصبح الطباشير شعلة ...
- النظرية الكمية تثبت أن هناك ملايين يشبهونك
- العرض المسرحي يمين في أول شمال رائعة المخرج عبد الله صابر
- البلبوص ! ( من القصص السياسي )
- نجيب محفوظ .. عين الفلسفة في الحارة المصرية ( الجزء الثالث )
- نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الثاني ...
- نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الأول )
- التغيير التربوي وتوسيع آفاق التفكير النقدي


المزيد.....




- فيلم “صوت هند رجب” يفوز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقي ...
- -فوات الأوان- لمحمد أبو زيد: في مواجهة الوقت الذي أفلت
- صوت هند رجب: فيلم عن غزة يفوز بالأسد الفضي لمهرجان البندقية ...
- فيلم -هند رجب- يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائ ...
- جائزة الأسد الفضي لـ -صوت هند رجب- في مهرجان البندقية السينم ...
- -صوت هند رجب-... أبرز الأفلام المرشحة لنيل -الأسد الذهبي- بم ...
- أبكى الجمهور... فيلم التونسية كوثر بن هنية حول غزة مرشح لنيل ...
- فيلم -هجرة- للسعودية شهد أمين يفوز بجائزة -NETPAC- في مهرجان ...
- مهرجان البندقية السينمائي: اختتام دورة تميزت بحضور قوي للسيا ...
- -التربية-: إعادة جلسة امتحان اللغة العربية لطلبة قطاع غزة في ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - إبسن والصوت الخفي للشخصيات: نحو دراما صادقة