أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - صراع النقد حول رواية -عوليس- لجيمس جويس














المزيد.....

صراع النقد حول رواية -عوليس- لجيمس جويس


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 22:14
المحور: الادب والفن
    


هناك كتب تُقرأ ثم تُنسى، وكتب تُقرأ ثم تُستقر في الذاكرة مثل حجر كريم، ثم هناك كتاب مثل «يوليسيس» لجيمس جويس؛ لا يُقرأ ولا يُنسى لأنه في الحقيقة لا يكتمل قراءته أصلًا، بل يظل يتحداك حتى بعد أن تطوي صفحته الأخيرة. إن جويس لم يقدّم رواية بالمعنى التقليدي، بل قدّم تجربة وجودية داخل اللغة نفسها. ما كان يُنظر إليه يومًا كأداةٍ للحكي أصبح في يديه مختبرًا لتشريح الوعي، وتوسيع الزمن، واختراق ما هو مألوف. قبل «يوليسيس» كان الزمن في الرواية يتحرك نحو الأمام، بعد «يوليسيس» صار الزمن يدور داخل الرأس، يلتفّ، يتشظى، يتكرر، ويتحول إلى مرايا لا إلى ساعات.
أولئك الذين احتكّوا بهذا العمل لم يخرجوا منه سالمين. لم يعد بمقدورهم النظر إلى الرواية بالطريقة ذاتها. فبعضهم شعر أن جويس فتح الأبواب المغلقة على مصاريعها، ومنح الأدب حرية مطلقة لطالما حلم بها الروائيون، بينما رأى آخرون أنه لم يفتح الأبواب بل فجّرها، وأن ما تبقى ليس حرية بل فوضى متعمدة لا غاية لها سوى إدهاش الآخرين. ولعل أجمل ما في هذا الانقسام أنه صحيٌ وضروري؛ فالأدب الذي يحوز على إجماع كامل هو أدب مروّض، مضمُون النتائج، قليل المخاطرة. أما روايةٌ تستطيع أن تجعل عباقرة القرن العشرين ينقسمون إلى نصفين متواجهين، فهي بلا شك عمل يستحق التأمل.
في الجانب الأول من السجال، يقف من رأوا في «يوليسيس» قفزة جريئة نحو المستقبل الروائي. قال بعضهم -بمعنى أو بآخر- إن جويس أنجز ما لم يجرؤ أحد على فعله قبله: كسر الهيكل السردي من الداخل، وسمح للوعي البشري أن يتحدث بلغته الطبيعية، المرتبكة، المتداخلة، المتناقضة. لم يعد الراوي العليم هو السيد، بل أصبحت الفوضى الداخلية للإنسان هي الراوي الحقيقي. أحد الكتّاب المعجبين قال إنه يشعر بالخجل من أعماله حين يقرأ جويس، وكأنه يقف أمام قارة لم تطأها قدمه بعد. آخر قال إن قراءة الرواية كانت بمثابة صدمة كهربائية في دماغه، لحظة اكتشاف أن اللغة قادرة على أكثر مما ظنّ. وهناك من رأى أن قوة جويس تكمن في أنه جمع بين العبقرية والانحلال، بين القداسة والابتذال، بين الفلسفة والمزاح، دون أن يعتذر عن أي منها.
أما في الجانب الآخر، فتقف كتيبة لا تقل قوة في حجتها، تقول بصراحة إن ما فعله جويس أقرب إلى الاستعراض البلاغي المتعمد على حساب التواصل الإنساني الحقيقي. بعضهم رأى أن العمل يحتاج إلى محرر صارم ليعيد له توازنه، وآخرون اشتكوا من أنه كتاب يصلح للباحثين لا للقراء، وأنه يتطلب قاموسًا ومشرفًا أكاديميًا أكثر مما يتطلب قارئًا عاديًا. هناك من قال إن جويس لم يخلق موسيقى جديدة للغة بل أحدث ضجيجًا متواصلًا لا لحظة صمت فيه، وأنه بالغ في تفكيك الجملة حتى فقد المعنى نفسه. أحدهم شبّه القراءة بمحاولة الجلوس على كرسي لا وجود له؛ تشعر بالهواء تحتك، وتظل تبحث عن شيء يستقر عليه وعيك فلا تجده.
المفارقة أن الفريقين -المعجبون والناقمون- يستخدمون لغة الانفعال ذاتها، ولكن لأهداف متعاكسة. المعجبون يقولون: هذا كتاب لا يُحتمل لأنه عظيم. المعترضون يقولون: هذا كتاب لا يُحتمل لأنه فارغ. كلاهما يشعر بالتعب، بالصدمة، بالارتباك، ولكن أحدهم يرى في هذا الإرهاق فتحًا، والآخر يراه إغلاقًا.
أما أنا، فكلما قرأت هذه الآراء شعرت أن القيمة الحقيقية لـ«يوليسيس» ليست في كونها رائعة أو فاشلة، بل في كونها تُلزمك أن تختار موقفك الفكري والجمالي بنفسك. لا يمكنك أن تمر بها مرور الكرام. عليك أن تسأل نفسك: هل أريد الأدب مريحًا أم مزلزلًا؟ هل على الكاتب أن يحكي لي قصةً بوضوح، أم أن يهزّ يقيني بأن الحكاية ممكنة أصلًا؟ هل اللغة نافذة أم متاهة؟
ربما تكمن عبقرية جويس في أنه لم يمنح الإجابة، بل صنع السؤال. لم يكتب رواية لتُقرأ بسهولة، بل كتب مغامرةً لغوية يعيش فيها القارئ لحظة اكتشاف ذاته وهو يحاول فهم ذاته. لهذا أصدق أن «يوليسيس» ليست كتابًا للقراءة، بل كتابًا للاشتباك العقلي والوجودي. ومن يخرج منه غاضبًا، لا يقل قيمة عمّن يخرج منه مندهشًا. كلاهما عاش التجربة. وكلاهما -شئنا أم أبينا- صار جزءًا من التاريخ الذي صنعته رواية واحدة في يوم واحد داخل مدينة واحدة.
وأنا؟ ربما لن أقول إنني مع هذا الفريق أو ذاك. سأكتفي بأن أكرر ما قاله أحدهم يومًا ما بمعنى قريب: إنك لا تخرج من «يوليسيس» كما دخلتها؛ إما أن تتسع داخليًا، أو تنكمش. وفي الحالتين، ستدرك أن الأدب ليس تسلية بقدر ما هو شكل من أشكال الوعي.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في نص -إبليس شهيداً- – توفيق الحكيم
- عندما يلتقي العقل بعوالم ماوراء الطبيعة
- المسرح القومي المصري منارة الفكر وسجل تاريخ أمة
- فلسطين: صراع وجود لا نزاع حدود
- نجيب محفوظ في ذكرى وفاته بين الحارة والوجود
- إبسن والصوت الخفي للشخصيات: نحو دراما صادقة
- من قلب تل أبيب - قراءة في كتاب حروب إسرائيل السرية
- غياب الإداري المبدع وأزمة الثقافة العربية
- قراءة في كتاب مطرقة الساحرات (Malleus Maleficarum) لهينريش ك ...
- حين تلتقي الفلسفة بالجن والسحرة:
- قراءة في كتاب حصاد الفضائيين للكاتبة الأمريكية ليندا ميلتون ...
- مختصر دراسة بعنوان -نحو ذائقة فلسفية جديدة في نقد السرد وتحو ...
- شرائح بحجم حبة الأرز تتحكم في العقول وأحداث العالم أجمع!
- قراءة في كتاب ( المصري - The Egyptian by Mika Waltari Transl ...
- قراءة نقدية في الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية -غ ...
- دراسة مقارنة بين مهرجانات المسرح في مصر والعالم
- النجم يحي الفخراني وعرض الملك لير على المسرح القومي نسخة عام ...
- غزة تحت القصف وضمير العالم في غرفة الإنعاش
- ثورة ٢٣ يوليو والتعليم .. حين تصبح الطباشير شعلة ...
- النظرية الكمية تثبت أن هناك ملايين يشبهونك


المزيد.....




- احتفاء وإعجاب مغربي بفيلم -الست- في مهرجان الفيلم الدولي بمر ...
- عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
- افتتاح معرض فن الخط العربي بالقاهرة بتعاون مصري تركي
- عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في ...
- صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ ...
- تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
- مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
- سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار ...
- مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي
- معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - صراع النقد حول رواية -عوليس- لجيمس جويس