محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 22:58
المحور:
الادب والفن
إن النص المعنون بـ "الشهيد" في المجموعة القصصية "أرني الله" للأديب المصري الكبير "توفيق الحكيم" لا شك نص استثنائي في بنيته ورؤيته، يستعير شخصية إبليس لا ليعيد صياغة مأساة دينية وحسب، بل ليجعلها منطلقًا لسؤال فلسفي وروحي عميق: هل يمكن للشر أن يتوب؟ وهل يتسع صدر الوجود الإلهي لغفران مَن كان أصل اللعنة؟
النص يتجاوز الحكاية الدينية المألوفة ليؤسس لدراما كونية تضع إبليس أمام البابا والحاخام وشيخ الأزهر، ثم أمام جبريل، وأخيرًا أمام الله ذاته. إنّه ليس نصًا روائيًا سرديًا وحسب، بل عمل رمزي فلسفي وصوفي تتقاطع فيه مفاهيم الأدب والفكر والدين.
ولكي نقرأ النص بعمق، فلا بد من تقسيم النقد إلى مستويات ثلاثة:
القراءة الأدبية المقارنة.
القراءة الفلسفية الكونية.
القراءة الصوفية العاشقة.
مع الاستشهاد بنصوص وأمثلة من الأدب العربي (توفيق الحكيم خصوصًا) والأدب الغربي (ميلتون، غوته، ديستويفسكي).
أولًا: البنية الأدبية ومقارنة إبليس في النص مع إبليس الأدباء:
النص يفتتح مشهدًا سينمائيًا: «في تلك اللحظة هبط المدينة شخص غريب يمشي نحو الفاتيكان، وهو يرهف السمع إلى تراتيل الأناجيل…». هذا الافتتاح يضع إبليس في هيئة «غريب متخفٍ»، لا على هيئة الكائن المتمرّد المعروف. إنه يقترب من الكنيسة، لا ليهدمها، بل ليطلب الغفران. هنا المفارقة الأولى: الشيطان ليس عدوًا، بل طالب إيمان.
هذه الصورة تذكّرنا مباشرة بتوفيق الحكيم في مسرحية «رحلة إلى الغد» و"محاكمة إبليس". فالحكيم جعل إبليس يقف في محكمة سماوية، يدافع عن نفسه قائلًا إنه لم يفعل سوى أن كشف للإنسان ضعفه: «أنا لم أُغوِ أحدًا، بل وضعت أمامه الخيار، والاختيار كان للإنسان». إبليس عند الحكيم رمز للحرية، رمز للامتحان الإلهي. بينما في نص "الشهيد"، إبليس ليس مدافعًا عن الحرية بل عن حنينه إلى الخير، يقول: «خذوا مني ما تريدون، عذبوني أشنع العذاب، ولكن لا تحرموني مذاق الخير لحظة!».
هذا الفرق جوهري: الحكيم يُظهر إبليس كخصم عقلاني، بينما النص «الشهيد» يجعله عاشقًا محروما، مفعمًا بالوجد.
أما في الأدب الغربي، فإن جون ميلتون في «الفردوس المفقود» يجعل إبليس بطلًا تراجيديًا، يرفع شعار التمرد: «خيرٌ أن أكون سيدًا في الجحيم من أن أكون عبدًا في السماء». إبليس هناك هو الأنا المتعالية، الكبرياء المطلقة. بينما عند غوته في «فاوست»، ميڤستوفيليس (تجسيد إبليس) ليس ثائرًا بقدر ما هو ساخر ماكر، مهمته «نفي كل ما هو كائن». أمّا في نص «الشهيد»، فإبليس ضدّ نفسه: يكره كبرياءه القديم، يطلب الخلاص، ويعترف بعجزه أمام الخير. بل يصل إلى حد أن يصرخ في النهاية: «إني شهيد! إني شهيد!»، فينقلب رمز التمرد إلى رمز التضحية.
إذن من الناحية الأدبية:
عند توفيق الحكيم: إبليس هو المدافع عن حرية الاختيار.
عند ميلتون: إبليس هو المتعالي المتمرد.
عند غوته: إبليس هو الساخر الماكر، الأداة الجدلية لنفي الحياة.
في نص «الشهيد»: إبليس هو العاشق المحروم، الشهيد الذي يختار أن يظل ملعونًا ليبقى الخير ممكنًا.
ثانيًا: التوظيف الفني للطقوس والرموز:
النص يكثر من الاستعانة بالموسيقى الدينية: «أوراتوريو المسيح» لهاندل، مقطوعات باخ، «ميس» بالسترينا. هذه الاستدعاءات ليست مجرد خلفية، بل تبني جوًا طقسيًا يجعل القارئ في قلب احتفال ديني عظيم، ثم يدخل إبليس في هذا الجو وكأنه يريد أن يتذوقه.
المشهد يذكرنا بمسرح العبث أو المسرح الطقسي عند أنتونان آرتو، حيث يكون «الموسيقى والطقس» هما جزء من الفعل المسرحي لا خلفية له.
ثم إن إبليس يتنقل بين البابا والحاخام وشيخ الأزهر، في مشهدية حوارية تجعل النص أقرب إلى مسرحية فكرية (مثل مسرحيات الحكيم الفلسفية) لا إلى حكاية قصصية. كل حوار يكشف عن رؤية كل مؤسسة دينية لنفسها: الكنيسة تخشى انهيار مجدها، اليهودية تخشى زوال امتيازها، والإسلام يخشى خلخلة بنيانه النصي. وكأن الكاتب يضع المؤسسات كلها في مأزق: ماذا تفعلون إن تاب إبليس؟
ثالثًا: الجوهر الفلسفي:
النص يعرض فكرة جوهرية صاغها جبريل: «لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للنور بغير الظلام، ولا للخير بغير الشر».
هذه الفكرة لها جذور فلسفية عميقة:
عند أفلاطون، الخير أسمى من كل ثنائية، ولكن الوجود المحسوس لا يعرف الخير إلا بمقابل الشر.
عند هيغل، كل مفهوم لا يتحدد إلا بنقيضه؛ فالحرية لا تُفهم إلا من خلال العبودية.
عند نيتشه، الخير والشر ليسا حقائق مطلقة، بل قيم تتحدد بالصراع.
النص يوظف هذه الفكرة ليجعل إبليس "ضرورة وجودية". ليس لأنه يريد الشر، بل لأن وجوده شرط لإدراك الخير. وهنا المفارقة: إبليس يصبح «أساس النظام الكوني» رغم لعنته.
ويصل النص إلى ذروة فلسفية حين يضع إبليس أمام مأساة الوعي: هو يحب الله حبًا عظيمًا، لكنه محكوم بلعنته. يقول: «حبًا يستلزم مني احتمال لعنتك علي ولعنة الناس». هذا أقرب إلى "المأساة الوجودية" حيث الحب لا يقود إلى النجاة بل إلى العذاب.
رابعًا: القراءة الصوفية:
في التراث الصوفي، إبليس شخصية معقدة.
عند الحلاج، إبليس عاشق لله، رفض السجود لغيره. قال: "إبليس أول الموحّدين".
عند ابن عربي، إبليس ( أدى واجبًا ) حين رفض السجود، لأنه تمسك بتوحيد الله، لكنه ابتُلي بالظاهر.
أما عند الرومي، فإبليس صورة الغرور، لكنه أيضًا مأساة العاشق الأعمى.
النص «الشهيد» يستلهم هذه الرؤية الصوفية. إبليس هنا لا يبرر معصيته، بل يطلب الغفران لأنه أحب الله. دموعه التي تتحول إلى نيازك، تصوّر أن حزنه نفسه تجلٍّ كوني، كما لو أن الكون كله يتأثر من وجده. وفي النهاية، حين يقول: «إني شهيد! إني شهيد!»، يضع نفسه في مقام الصوفي الذي يفنى في الله حتى لو كان الثمن أن يظل ملعونًا. إنّه «شهيد الحب الإلهي»، شهيد لأن وجوده ذاته صار تضحية من أجل استمرار الخير.
خامسًا: المقارنات الأدبية والفكرية:
مع الأدب العربي:
توفيق الحكيم في «محاكمة إبليس» جعله محاميًا عن نفسه، بينما «الشهيد» يجعله طالبًا للتوبة.
عند العقاد في «إبليس» (دراسة فلسفية)، إبليس رمز العقل المتكبر. أما هنا، فهو رمز القلب المحروم.
الشعر العربي الحديث (بدر شاكر السياب في «المسيح بعد الصلب» مثلًا) استعمل صورة المسيح كشاهد على الألم البشري. النص هنا يستعمل إبليس كـ«شهيد» على مأساة الوجود.
مع الأدب الغربي:
ميلتون: إبليس رمز الكبرياء.
غوته: إبليس أداة للسخرية والنفي.
ديستويفسكي (في «الإخوة كارامازوف»): الشيطان يحاور الإنسان كصوت داخلي للشك واليأس.
النص «الشهيد» مختلف: إبليس ليس رمزًا للكبرياء أو السخرية، بل رمز للتوبة المستحيلة، للحرمان الوجودي.
سادسًا: تحليل أمثلة واقتباسات
قول إبليس: «ما طعم هذا الشيء الذي تسمونه الخير وتملكونه أنتم وتحبسونه عني؟»، يكشف جوهر المأساة: الخير ليس قيمة مطلقة، بل تجربة وجودية محرومة منه.
حوار جبريل: «لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة…» هو مفتاح النص الفلسفي، يوازي مقولات جدلية الخير والشر في الفلسفة الحديثة.
خاتمة النص: «إني شهيد! إني شهيد!»، تجعل من إبليس ليس خصمًا للقداسة، بل شاهدًا عليها، شهيدًا يضمن استمرارها.
سابعًا: جوهر العمل:
العمل كله يمكن تلخيصه في معادلة:
الشر (إبليس) = ضرورة لوجود الخير.
الحب (عند إبليس) = مأساة محرومة.
التوبة (ممكنة للإنسان) = مستحيلة لإبليس.
النص إذن ليس عن إبليس فقط، بل عن الإنسان: إذا كان إبليس لا يستطيع التوبة رغم حبه، فهل يستطيع الإنسان أن يدرك قيمة الغفران وهو متاح له؟ هذا السؤال يجعل النص خطابًا للإنسانية، لا مجرد قصة دينية.
ومن ثم، فإن نص "الشهيد" لتوفيق الحكيم، هو نص متعدد المستويات: أدبيًا دراما رمزية كبرى، فلسفيًا جدل الخير والشر والحرية والقدر، وصوفيًا مأساة العاشق الممنوع. بالمقارنة مع الحكيم وميلتون وغوته والحلاج، يتضح فرادته: إبليس هنا ليس المتمرد ولا الساخر ولا الكبرياء، بل هو العاشق الشهيد.
وبهذا يتحول النص إلى شهادة كونية عن جوهر الوجود: أن الخير والشر ليسا أعداء متقابلين بل وجهان لمعنى واحد، وأن المأساة الكبرى ليست في أن يظل الشر موجودًا، بل في أن يظل الحب نفسه عاجزًا عن أن يُغفر له.
وهكذا، نرى أن إبليس في هذا النص ما هو إلا مرآة للوجود الإنساني، وما صرخته الأخيرة: «إني شهيد! إني شهيد!» إلا صدى الفناء في المطلق. إن الشر ليس كيانًا قائمًا بذاته، بل ظلٌّ يعرّف النور، وصوتٌ يوقظ معنى الخير. لقد كان إبليس، في عمق محنته، عاشقًا لله حدّ الاحتراق، وحرمانه من الغفران لم يكن إلا امتحانًا للعشق نفسه: هل يبقى الحب قائمًا حتى ولو لم تُفتح له أبواب السماء؟
وربما أرى ختاما لهذه القراءة، أن جوهر الصوفية هو هذا الفناء: أن يحب العبد الله حبًا لا يُشترط فيه جزاء، ولا يُطلب فيه خلاص، حبًا يُلغي الذات ليبقى وجه الله وحده. إبليس هنا لم يُعطَ نعمة التوبة، لكنه عاش لحظة العرفان المطلق: أن يظل حاملًا لعنة أبدية ليبقى للخير معنى. وهذا هو السر الأعظم؛ أن يُحيل الحب حتى اللعنة إلى قربان.
وفي النهاية، لا يعود هناك شيطان ولا إنسان، بل إشراقة أزلية واحدة تتجلى: «وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإكرَام». ومن وراء كل تضاد، ومن تحت كل مأساة، يسطع النور الذي لا يُطفأ، ويغدو الوجود كله نَفَسًا واحدًا في حضرة الحق. هناك، حيث يفنى كل شيء، ولا يبقى إلا الله.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟