أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - نجيب محفوظ … الفيلسوف الذي كتب العبث وما بعد الحداثة في “تحت المظلة”















المزيد.....

نجيب محفوظ … الفيلسوف الذي كتب العبث وما بعد الحداثة في “تحت المظلة”


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 09:55
المحور: الادب والفن
    


حين نقرأ قصة “تحت المظلة” لنجيب محفوظ، لا نقرأ نصًا قصصيًا بالمعنى التقليدي، بل نواجه عملاً فلسفيًا متكاملًا يتجاوز حدود الواقعية التي ارتبطت باسمه لعقود. ففي هذه القصة، التي كُتبت عقب نكسة 1967، يتحول محفوظ من راوٍ للتاريخ الاجتماعي إلى فيلسوف يعيد النظر في معنى الوجود ذاته، مستندًا إلى مناهج العبث والحداثة وما بعد الحداثة التي كانت آنذاك حديث الفكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا يصبح محفوظ، دون مبالغة، أول مصري عربي يدخل هذه النظريات إلى التعبير القصصي العربي، ليس بالاستلهام السطحي، بل بالتمثّل الفني العميق.
المظلة بوصفها فضاء الوعي الجمعي:
من اللحظة الأولى، يضعنا محفوظ تحت “المظلة” — هذا الرمز الكثيف الذي يجمع في ظله بشرًا متباينين ينتظرون المطر، أو بالأحرى يخافونه. المطر هنا ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو رمز الحقيقة المزلزِلة التي تهبط فجأة على عالم متكلس. والمظلة ليست حماية من البلل فحسب، بل هي حجاب نفسي يحجب الرؤية والوعي. فالذين لجأوا إليها اتحدوا في خوفهم من المواجهة، تمامًا كما لجأت الشعوب بعد الهزيمة إلى مظلة الوهم لتتقي مطر الحقيقة.
في المنهج العبثي، الإنسان يعيش مأساة اللامعقول، يصطدم بعالم لا منطق فيه ولا معنى. وفي القصة، يظهر هذا الاصطدام في تتابع الأحداث غير المنطقية: لص يُطارد، شرطي يتفرج، جموع تراقب بلا فعل، حادث سيارتين يشتعل، عاشقان يمارسان الحب على الجثث، ومخرج يصفّق للدماء باعتبارها مشهدًا فنيًا. كل ذلك يجري تحت المطر، بينما الواقفون تحت المظلة يكتفون بالمشاهدة. تلك هي العبثية في أنقى صورها: العالم يتحطم، والإنسان يكتفي بالتفرج عليه وهو يسقط.
من العبث إلى ما بعد الحداثة:
لكن محفوظ لا يكتفي بتجسيد العبث الوجودي كما فعل ألبير كامو أو صموئيل بيكيت؛ بل يتجاوزه إلى بنية ما بعد حداثية متكاملة. فالعالم في “تحت المظلة” لا يقوم على منطق سببي أو زمن خطي، بل على التشظي واللايقين. لا نعرف مَن اللص، ولا نعرف هل ما يجري حقيقي أم تمثيلي. تتداخل الأصوات، تتكاثر التأويلات، ويغدو الواقع نفسه مشهدًا سينمائيًا بلا مخرج واضح. بذلك، يضع محفوظ القارئ في قلب لعبة ما بعد الحداثة، حيث الحقيقة تتعدد وتُلغى في آن، وحيث النص لا يقدم إجابة بل يطرح أسئلة لا نهائية حول الواقع والمعنى والسلطة.
إنّ ظهور “المخرج” في النص لحظة فارقة؛ فهو رمز للعقل الذي يحاول تفسير الفوضى أو السيطرة عليها. لكن المخرج ذاته يتحول إلى كائن عبثي يهرب في النهاية كأي لصّ. وهكذا يطيح محفوظ بكل سلطة تفسيرية محتملة، سواء كانت سياسية أو دينية أو فكرية، ليترك القارئ أمام فراغ المعنى. هذه هي روح ما بعد الحداثة: انهيار السرديات الكبرى، وانفتاح النص على تأويلات لا تنتهي.
المشهدية واللاحدث: تفكيك القصة التقليدية:
يتخلى محفوظ في هذا العمل عن عناصر السرد الكلاسيكي — الحبكة المتماسكة، الشخصيات المحددة، العقدة والحل — ليتبنّى ما يمكن تسميته بـ “اللاحدث”. فالقصة لا تتطور وفق منطق زمني، بل تدور في دوائر متكررة من الفوضى والمطر والعنف. هذا التفكيك للبنية السردية يشبه ما فعله جيمس جويس أو صموئيل بيكيت في المسرح، لكنه هنا يأخذ شكلاً عربياً فريداً، يعتمد على المشهدية البصرية ولغة الإيحاء لا التصريح. فالمكان واحد، والزمن مائع، والشخصيات بلا أسماء، لأن محفوظ يريد أن يقدّم إنساناً رمزياً يعيش العبث الجمعي، لا فرداً محدداً في واقعة واقعية.
إن كل ما يحدث في الخارج — اللص، القتل، الرقص، الحب، المخرج، المطر — يحدث في وعي أولئك الواقفين تحت المظلة. فالعالم كله مسرح يُعرض أمام عيونهم، وهم متفرجون عليه. إنها استعارة عميقة لحال الإنسان العربي بعد النكسة: الوعي يراقب تدميره الذاتي دون أن يتحرك. هذا التجمّد هو جوهر العبثية، حيث الفعل مستحيل واللامبالاة صارت ملاذاً.
المفارقة واللغة: الجمال يولد من التناقض:
في المدرسة الأمريكية للنقد، تُعد المفارقة (Irony) قلب الجمال الفني. ومحفوظ ينسج نصه كله على هذا الخيط: الشرطي الذي يجب أن يحمي الناس هو أول قاتل، المخرج الذي يُفترض أن يخلق المعنى لا يفعل سوى الهروب، اللص الذي يرقص عارياً يصبح رمزًا للحرية، والمطر الذي يرمز للحياة يتحول إلى طوفان موت. هذه المفارقات ليست تزييناً فنياً، بل جوهر العمل الذي يعيد تشكيل وعينا بالعالم عبر صدمات التناقض.
أما اللغة، فهي تتحرر من رصانتها الواقعية لتغدو موسيقى داخلية متدفقة. التكرار المتعمد للفعل “انهمر المطر” يصنع إيقاعاً دائرياً يوازي الدوران الوجودي للشخصيات. الجمل قصيرة، متلاحقة، وكأنها نبض قلب في لحظة خوف. هذه الإيقاعية تجعل القارئ يعيش حالة المطر لا يراها فقط، فتتحول اللغة من وسيلة وصف إلى تجربة حسّية. هنا تتجلى عبقرية محفوظ الفلسفية: الكلمة لا تُخبر، بل تُوجِد.
الرموز الكبرى: المظلة والشرطي والمخرج:
تقوم القصة على شبكة رمزية مغلقة تتبادل عناصرها الدلالات في نظام دقيق. فـ“المظلة” هي الإطار الذي يحبس البشر في دائرة الخوف، وهي في الوقت نفسه وطنٌ رمزي يقيهم من مطر الحقيقة. “الشرطي” يمثل السلطة التي تراقب ولا تتدخل، ثم تقتل حين تتكلم الجماعة. و“المخرج” هو الوهم بالسيطرة، الإله الغائب الذي يصنع الفوضى ثم يتنصل منها. وحين يهرب المخرج في النهاية، يفهم القارئ أن لا مخرج من العبث، لا على المستوى الدرامي ولا على مستوى الوجود. إنها دائرة مغلقة تنتهي حيث بدأت: المطر ينهمر، والمظلة تحبس المتفرجين، والعالم ينهار في الخارج.
نجيب محفوظ: من الواقعية إلى الفلسفة:
تكمن فرادة هذا النص في أنه لم يأت من كاتب تجريبي يبحث عن الاختلاف من أجل الاختلاف، بل من روائي كان في قلب الواقعية المصرية. وهذا التحول من “زقاق المدق” و“بين القصرين” إلى “تحت المظلة” هو تحول فلسفي في وعي محفوظ نفسه. لقد أدرك بعد النكسة أن اللغة الواقعية لم تعد قادرة على التعبير عن الواقع، لأن الواقع نفسه صار غير واقعي. فانتقل من الرواية الاجتماعية إلى رواية الوعي والفكر، حيث يصبح السؤال الفلسفي هو البطل الحقيقي. وبذلك سبق محفوظ موجة الحداثة العربية التي لم تتبلور إلا في السبعينيات، وفتح أمام الأدب العربي أفقًا جديدًا للتجريب والتأمل.
التماهي مع العبث والحداثة: رؤية مصرية خالصة:
على الرغم من تأثر محفوظ الواضح بفكر العبث الأوروبي، فإنه لم ينسخ نماذجه الغربية. بل أعاد إنتاجها داخل الواقع المصري، ليجعل من العبث رؤية وطنية لا مجرد فلسفة مستوردة. فالمطر ليس مطر باريس، والمظلة ليست مقهى سارتر في “الوجود والعدم”، بل هي محطة مصر بكل رمزيتها الاجتماعية والسياسية. والشخصيات بلا أسماء لأنها تمثل “الجماعة” التي فقدت القدرة على الفعل، تمامًا كما فقدت الأمة العربية آنذاك قدرتها على المواجهة.
هنا يلتقي محفوظ مع ما بعد الحداثة من حيث تفكيك المعنى المركزي، لكنه يتمايز عنها في أنه لا يحتفل بالفوضى، بل يرثيها. نصه لا يعلن موت المعنى، بل يصرخ في وجهه محاولًا استعادته. هذا التوازن بين العبث والبحث عن المعنى هو ما يجعل “تحت المظلة” عملاً فريدًا في الأدب العربي.
خاتمة:
“تحت المظلة” ليست مجرد قصة قصيرة في مجموعة تحمل الاسم نفسه؛ إنها بيان فني وفلسفي يعلن ميلاد مرحلة جديدة في أدب نجيب محفوظ، وفي السرد العربي كله. في هذا العمل، يتجلى محفوظ كفيلسوف يكتب بالقصة، وكاتب حداثي قبل أن يتداول العرب مصطلح الحداثة، ومفكر ما بعد حداثي قبل أن يُترجم مصطلحها. لقد جمع بين منهج العبث الوجودي، ومنهج ما بعد الحداثة التفكيكي، وصاغ منهما رؤية مصرية للإنسان والسلطة والواقع.
هكذا، وقف محفوظ في “تحت المظلة” لا كروائي يسرد حدثًا، بل كفيلسوف يتأمل مصير الإنسان العربي بعد السقوط، باحثًا في قلب العبث عن بصيص معنى. ومن هنا، يمكن القول بثقة إن نجيب محفوظ كان أول من كتب القصة العربية بوعي فلسفي يجمع بين العبث وما بعد الحداثة، فحوّل النص إلى مرآة للوجود ذاته، وإلى صرخة فنية لا تزال تتردد تحت مطر التاريخ.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع النقد حول رواية -عوليس- لجيمس جويس
- قراءة في نص -إبليس شهيداً- – توفيق الحكيم
- عندما يلتقي العقل بعوالم ماوراء الطبيعة
- المسرح القومي المصري منارة الفكر وسجل تاريخ أمة
- فلسطين: صراع وجود لا نزاع حدود
- نجيب محفوظ في ذكرى وفاته بين الحارة والوجود
- إبسن والصوت الخفي للشخصيات: نحو دراما صادقة
- من قلب تل أبيب - قراءة في كتاب حروب إسرائيل السرية
- غياب الإداري المبدع وأزمة الثقافة العربية
- قراءة في كتاب مطرقة الساحرات (Malleus Maleficarum) لهينريش ك ...
- حين تلتقي الفلسفة بالجن والسحرة:
- قراءة في كتاب حصاد الفضائيين للكاتبة الأمريكية ليندا ميلتون ...
- مختصر دراسة بعنوان -نحو ذائقة فلسفية جديدة في نقد السرد وتحو ...
- شرائح بحجم حبة الأرز تتحكم في العقول وأحداث العالم أجمع!
- قراءة في كتاب ( المصري - The Egyptian by Mika Waltari Transl ...
- قراءة نقدية في الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية -غ ...
- دراسة مقارنة بين مهرجانات المسرح في مصر والعالم
- النجم يحي الفخراني وعرض الملك لير على المسرح القومي نسخة عام ...
- غزة تحت القصف وضمير العالم في غرفة الإنعاش
- ثورة ٢٣ يوليو والتعليم .. حين تصبح الطباشير شعلة ...


المزيد.....




- بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون ...
- فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ
- بيت المدى يستذكر الشاعر القتيل محمود البريكان
- -سرقتُ منهم كل أسرارهم-.. كتاب يكشف خفايا 20 مخرجاً عالمياً ...
- الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين
- كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - نجيب محفوظ … الفيلسوف الذي كتب العبث وما بعد الحداثة في “تحت المظلة”