|
|
(مِرْآةُ القَندِيلِ: من الغيابِ إلى دهشةِ العرشِ)
سعد محمد مهدي غلام
الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 12:55
المحور:
الادب والفن
(أَناشِيدُ القَنْدِيلِ فِي كِتابِ الغِيابِ لِأَسْفارِ الرَّمْلِ وَالمَنْفَى، فِي مَوْتِ المَعْنَى وَخُلُودِ الفَقْدِ)
"وَقَصَرتُ عَقلي بِالهُوِيَّةَ طالِبًا فَعادَ ضَعيفاً في المَطالِبِ هاوِيا" " الحسين منصور الحلاج"
تَقْدِمَةٌ : وفي الغِيابِ... تتهجّى الرُّوحُ أسماءَها على جُدْرانِ الرَّمْلِ، وتَخُطُّ بالقَنْدِيلِ خارطةَ النُّورِ في دَفاترِ الفَقْدِ. ذاكَ ضوءٌ يُؤنْسُ وَحْشَةَ العَتْمَةِ، ويُرَمِّمُ نُبُوءَةَ العائدينَ من صَمْتِ المَعاني. مَنْ يَدْخُلُ القَصِيدةَ دُونَ وُضُوءٍ بِمَاءِ الصَّبْرِ، ومَنْ يَعْبُرْ أَعْتَابَها قَبْلَ أَنْ يَخْلعَ عَنْهُ رِجْسَ الظُّنونِ، سَينْزِغِ الشَّيْطانُ قَلْبَهُ، وتُصيبَهُ اللَّعْنةُ، وتَأْخُذهُ النَّدَّاهةُ إِلى جَحيمِ مَجَاهيلِ الحَيْرةِ ودَهْشةِ الحَريقِ. فَهٰذَا النَّصُّ لَيْسَ قَصيدَةً مُركَّبةً بِقَدْرِ مَا هُوَ مِعْمارٌ رُؤْيويٌّ مُتَداخِلٌ، يَتَحرَّكُ عَبْرَ أَسْفَارِ الغِيابِ، ويَتَّكِئُ على ثَلاثَةِ مَحاوِرَ كُبْرى: الغِيابُ - السَّفرُ - القَنْديلُ. "كلّ ما أدركتْهُ الأوهامُ، فهو مخلوقٌ مثلُك." "محيي الدين بن عربي" الغِيابُ: لا يَعْني هُنا غِيابَ الجَسدِ فَقطْ، بَلْ غِيابَ اليَقينِ، والهُوِيَّةِ، والجُذورِ؛ حَيْثُ تَتَبدَّدُ الخَرائِطُ الخَارِجيَّةُ، وتَتفَكَّكُ الخَرائِطُ الدَّاخِليَّةُ في الذَّاتِ. السَّفَرُ: لَيْسَ عُبورًا جُغْرافيًّا في المُدُنِ والمَرافِئِ، بَلِ انْتِقالٌ مُتَكرِّرٌ بَيْنَ خَرائِطِ الذَّاتِ المُتَصدِّعةِ؛ سَفَرٌ في فَلكِ الحَيْرةِ، والانْخِطافِ، والتَّمزُّقِ بَيْنَ المَرايا المُهشَّمةِ. القَنْديلُ: رَمْزٌ هَشٌّ ومُزْدَوجٌ؛ نُورٌ يُقاوِمُ العَتْمَةَ، ويَشي - في الوقْتِ نَفْسِهِ - بِعجْزِ الصُّوفيِّ أَمَامَ اتِّساعِ الفَقْدِ الوُجوديِّ. يَتَحرَّكُ النَّصُّ عَبْرَ خَمْسةِ "أَسْفَارٍ" تُحَاكي بِنْيةَ النُّصوصِ المُقَدَّسةِ ، لَكِنَّها هُنا مَعْكُوسةٌ: لَيْسَ سِفْرَ الخَلاصِ بَلْ سِفْرَ الفَقْدِ. السِّفْرُ الأَوَّلُ: السُّقوطُ في الغَرقِ الدَّاخِليِّ (القَلْبُ الغَريقُ). السِّفْرُ الثَّاني: مُحَاولةُ العَاشِقِ أَنْ يُمْسِكَ الحُبَّ في عُزْلتِهِ النَّبيلةِ (الحُبُّ وَالمُسْتَحيلُ). السِّفْرُ الثَّالِثُ: خَرابٌ جَمْعيٌّ يُلاحِقُ الذَّاتَ (الأَنْقَاضُ الكُبْرى). السِّفْرُ الرَّابِعُ: الدُّخُولُ إِلى مَسْرحِ وعْيِ الوهْمِ (مِرْآةُ الفَقْدِ). السِّفْرُ الخَامِسُ: صَرْخةُ الوَحْدةِ في حَضْرةِ العَرْشِ (القَنْديلُ والفَراغُ). الرَّمْلُ مَكانٌ هُوَ زَمانٌ مُتَجمِّدٌ، مُسَبْسَبٌ مِنْ قَبْضةِ الكائِنِ: تَتَلاشَى فِيهِ الخُطى، وتَضيعُ عَليْهِ الهُوِيَّاتُ؛ مَنْفًى لا يُقيمُ في الجُغْرافْيا بَلْ في هُوَّةِ الذَّاتِ المُـمزَّقةِ. المِرْآةُ لا تَرُدُّ صُورةَ الذَّاتِ، بَلْ تَفْضحُ انْكِسارَها. القَنْديلُ يَهْتزُّ نُورُهُ فَوْقَ الحَافَّةِ، شَاهِدًا على احْتِضارِ المَعْنى وشُحُوبِ المَقاصِدِ. الغَريبُ كصَوْتٍ في مَجازٍ مَفْتُوحٍ: كُلُّ النَّصِّ مَحْكُومٌ بِلُعْبةِ حُضورٍ وغِيابٍ بَيْنَ الذَّاتِ والمُطْلقِ. حَتَّى حِينَ يُذْكرُ "اللهُ" في السِّفْرِ الخَامِسِ، يَأْتي حُضورُهُ وَحيدًا، مُشْبعًا بِالتِماسٍ، وَلَكِنَّهُ غَائِبٌ عَنْ فِعْلِ الخَلاصِ. الكَيْنونَةُ هُنَا وَحْدَةٌ مَريرَةٌ، لَا يُبدِّدُها حَتَّى القُرْبُ مِنَ العَرْشِ. كَما في تَجارِبِ الحلَّاجِ، وَالنَّفَّريِّ، وابْنِ عَرَبيٍّ. الخَوَاتيمُ هيَ الفَناءُ المُطْلقُ؛ حَيْثُ لَا يَحُطُّ الذَّوْقُ إِلَّا في قَلْبٍ نَزَعَ عَنْ نَفْسِهِ ذَاتهُ، وتَجرَّدَ مِنْ عُنْوانِهِ، فَامْتَلكَ الحُلولَ، وحلَّقَ مَعَ سِرْبِ السِّيمُرْغِ*، يُسبِّحُ دُرِّيًّا في أَنْوَارِ عَرْشِ المَلكُوتِ. "ما رأيتُ شيئًا إلّا ورأيتُ الله فيه." "الحلاج" الزَّمَانُ مَكانٌ سَائِلٌ يَتَفلَّكُ: دَائِريٌّ لا خَطِّيٌّ؛ يَبْدأُ مِنْ فَجْرِ البَشَريَّةِ، ويَدُورُ في سُدُمِ الضَّياعِ، حَتَّى تَنْكسِرَ دَوْرتُهُ الأَثِيريَّةُ في مُفَارَقةٍ شَاحِبةٍ: شَاختِ السَّمَاءُ، وخَسِرَ خُلودُ المَوْتِ. هٰذَا العَملُ في جَوْهرِهِ كِتابٌ شِعْريٌّ لِلفَناءِ، لا عَنِ المَكانِ والزَّمانِ كمَوْضُوعاتٍ، بَلْ كَكَيْنُوناتٍ تَتناوَبُ بَيْنَ الصَّلابةِ والسُّيولةِ. إِنَّهُ تَجْسِيدٌ لِفَناءٍ مُخلِّصٍ، تَرْسُمُ خَرائِطُ الذَّاتِ فيهِ تَشَظِّيها، وَتِيهَها، وَحَنينَها المُفتَّتَ، وشَكَّها الَّذي لا يَبْلُغُ مَرْفأً إِلَّا حِينَ يَغَادِرَها ويُقيمُها الرُّوحُ الحُرُّ، غَيْرُ المُقَيَّدِ بِالجَسدِ. هُوَ نَصٌّ لا يَعِدُ بِالخَلاصِ، بَلْ يُعلِّقُ قَارِئهُ في المَسافةِ الرَّمْزيَّةِ بَيْنَ النُّورِ والعَدمِ، السُّيولَةِ وَالجَمادِ، البِدَايةِ وَالنِّهايةِ، بَيْنَ سِدْرةِ المَقْبرَةِ الأَرْضيَّةِ وسِدْرةِ المُنْتهى. إِنَّهُ نَصٌّ مِنْ نُصوصِ التَّبرْزُخِ. "فالمَوجُ هو الماء، وصورةُ الموجِ غيرُ الماءِ، فما ثَمّ إلّا حكمُ خيالٍ لا حقيقةَ له، وهو عينُ الحقيقة." "ابن عربي" " فصوص الحكم - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية" إِنَّهُ أَثَرُ الغُرْبةِ في الذَّاتِ العَربيَّةِ، حَيْثُ تَتكَثَّفُ الأَمْكِنةُ لا كجُغْرَافْيا، بَلْ كَأَوْعيَةٍ للزَّمنِ السَّائِحِ، والهُوِيَّةِ المُتشَظِّيةِ كالمَرايا. يَتنقَّلُ الشَّاعِرُ بَيْنَ مُدُنٍ وَمَرافِئَ وكُهُوفٍ رَمْزيَّةٍ، لا لِيَسْتقِرَّ، بَلْ لِيَكْشِفَ هَشاشةَ الاستِقْرارِ نَفْسِهِ. "فلا تَذُمَّ أحدًا، فإنّ اللهَ ما سَكَنهُ سِوى صُوَرِهِم، فمَن ذمَّهم، فقد ذمَّ ربَّه." "ابن عربي " "فصوص الحكم - فصّ حكمة إمامية في كلمة هارونية" مِحْرَابُ الغُبارِ - تَحْتَ وَهْجِ النِّسْيانِ: هٰذِهِ مَرْثيَةُ الحُضورِ الغَائِبِ، وانْبِثاقُ الهُوِيَّةِ في قَلْبِ المحْوِ، حَيْثُ يَتدَاخلُ الفَرْديُّ بِالكَوْنيِّ، ويُصْبِحُ الكائِنُ شَاهِدًا على عُبورِهِ المُتكرِّرِ بَيْنَ الرَّمادِ والوَهْجِ، الحُضورِ والغِيابِ، في مَوْقِفِ الموْقِفِ. "وقفتُ بي على طرفِ الفناء، فقال: انظر، ما ترى؟ قلت: لا أرى شيئًا، قال: ذاك أنا." "النفّري" هُنَا، يُكْتَبُ النَّصُّ على الرَّمْلِ، وتُعلَّقُ الذَّاكِرةُ بِخَيْطٍ مِنَ السَّرابِ، وتَغْدُو الكَلِماتُ أَصْداءً تَتناسَلُ في حَالِ الفَراغِ... "الكونُ كلُّه خيالٌ، وأعظَمُ الخيالِ من رآهُ حقيقةً، ثم ترقّى فرأى الحقّ نفسَه في الخيال، فعلِمَ أنه هو، وبِه هو." "ابن عربي " " الفتوحات المكية" لَيْسَتْ حُدُودُكَ فِي الجِدارِ، وَلا خُطاكَ على الحَصى… بَلْ إِنَّ ظِلَّكَ حِينَ تَمْشي هُوَ الَّذي يَرِثُ الصَّدى. "الظلُّ صورةُ المانع، والمانعُ نورٌ احتجب." "ابن عربي" "فصوص الحكم - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية" والبَيْتُ - في هَذا السُّكونِ - حَنينُ مَنْ نَادى… ولَمْ يُجبْ، فَاكْتُبْ على رَمْلِ الجِهاتِ: "أَنا الْغَريبُ، أَنا الهُلامُ!" "أَنا المُنادي، أَنا النَّدى" "أَنا النَّديُّ، أَنا المُسْتجابُ!
القصيدة : (مِرْآةُ القَندِيلِ: من الغيابِ إلى دهشةِ العرشِ)
{1} (يَا ابْنَ مَزونَةَ، أَيُّ فَجْرٍ قَادَنِي حَتَّى نَسِيتُ خَرِيطَتِي، وَسَرَتْ يَدَايَ)
[السِّفْر الأوّل: القلبُ الغريق]
المَوْجَةُ عَاتيَةٌ، اِعْتَصَرَتْ قَلْبي، غَسَلَتْ نَبْضَهُ، عَلَّقَهُ الذُّهُولُ شِرَاعًا... أَشْهَدُ لِيَباسٍ كَشَفَ عَوْرَةَ فُرْشاةِ العُمْرِ. بُهَاقُ صُورَتي لَفَحَتْها سُمْرَةُ المَعْرِفةِ، قَضْمَةٌ قَادَتْني لِسَحيقِ القَصْرِ، شَقَاءُ النَّفْسِ، شَهْقةُ لَذَّةٍ، قِناعُ الصَّمْتِ... "وقالَ العَرّافُ: هٰذا الفتى مَرْزوقٌ، لكنَّهُ لَنْ يَسْعَدا، محفوظٌ بسِرٍّ رَبّانِيٍّ، لكنَّهُ سَيُصْحِبُهُ الشَّقَاءُ كَوَسْمٍ لا يَزُولُ..." [كمْ وُرِّثتَ من المَنافي؟ مذْ خُطَّتِ النقوشُ على جُدرانِ وِلادتِك، والماءُ غَرْبٌ، والصلاةُ بَرْدٌ، والسماءُ بلا جَناحينِ ولا طَلَلٍ…]
أُرْخِيتُ نَجْمِي فِي الدُّجَى، وَتَمَايَلَتْ خُطُوَاتُ نَفْسِي فَوْقَ صَهْوَةِ غُرْبَتِي. {2} (مَا بَيْنَ زُبَيْدٍ وَسَلُوقَةَ غُصَّتِي، وعَلَى يَدَيَّ تَمَزَّقَتْ سُبُلُ المَعَانِي)
[هلْ كانتْ وطنًا؟ أم خَيمةً للغيم؟ أم نَبيًّا ضَلَّ فِي لُغَةِ السراب؟ وحْدَهَا سَلُوقَةُ تُطفئُ فَزَعَ المدى، تُربِّي الأسماءَ فِي كِنَانَةِ الشكِّ، ثُم تُلقِّنُهَا النِّسْيَانَ، اسْمًا بَعْدَ اسْمٍ.]
"فَلَنْ يُفَارِقَ جُرْحُ الرُّوحِ مَنْ لَا يَكْرَهْ… سَيَبْقَى وَحِيدًا طُولَ عُمْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْسَى." ضَاعَتْ خَرَائِطُنَا، وَكُنَّا نَكْتُبُ الـ مَجْهُولَ فِي أَسْفَارِ رَمْلِ الْمَأْتَمِ. وَالْقَنْدِيلُ يَنْقُشُ فَوْقَ جِدَارِ نَفْسِي أَنَّا سَنَرْجِعُ… لَوْ بِوَهْمِ الْعَاشِقِ! {3} (أَرْنُو إِلَى ظِلِّي… وَأَرْجُو صُورَتِي، لَكِنَّنِي… فِي دَاخِلِي… كُنْتُ الْغَرِيبَا)
[وَكُنْتَ تَقُولُ: هَذَا الضَّبَابُ وَطَنٌ، أَوْ: هَذِهِ السُّحُبُ الَّتِي لَا تَهْطِلُ إِلَّا شُبْهَ نَارٍ… قُرَيَا؟ لِي مِنْهَا ظِلٌّ وَاحِدٌ فِي كُلِّ فَجٍّ، وَلَكِنْ لَا رَبِيعَ لِي.]
"احْتَجَزَ الْبَرْقَ فِي الظَّلَامِ، وَأَهْدَرَ ضَوْءَ الصُّبْحِ عِنْدَ عَتَبَاتِ الْحُلْمِ." فَتَحَتْ نُفُوذَ الْغَيْمِ فِكْرَتُنَا، وَمَا خَرَجَتْ سِوَى الْأَشْوَاقِ مِنْ جُبِّ الدُّجَى. {4} (قَصْرُ طَيْبَةَ فِي جُفُونِي رُقْعَةٌ، وَالْمَاءُ يُهْمِسُ فِي الرِّمَالِ: هُنَا الْمَآبُ)
[السِّفْر الثاني: الْحُبُّ وَالْغِيَابُ وَالْمُسْتَحِيل]
بَعِيدًا عَنِ الشَّاطِئِ، الْوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْنِي هُوَ اللَّهُ. الْحُبُّ… الْأُنْثَى الْمُجَرَّدَةُ مِنْ مَفَاتِنِهَا، الصَّدَى يُنَازِعُ صَوْتِي آنَئِذٍ… أَحْلَامُ ضُحَى الشُّمُوعِ نَفَقَتْ بُكَاءً. أَيَّتُهَا الْجَزِيرَةُ الْمَنْشُودَةُ… أَعْلَمُ أَنَّكِ لَنْ تَكُونِي حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ الطَّبْعُ: الِاحْتِفَاظُ بِالْوَرْدَةِ طَيَّ دَفْتَرِ ذَاكِرَتِي… لَمْ أَكُنْ مَعْنِيًّا بِالْعِطْرِ، أَتَوَقَّعُ الشُّحُوبَ… هِيَ مَا اقْتَرَفْتُهُ خَطِيئَةً أَعْتَزُّ بِهَا. "عُشْبَةُ النِّسْيَانِ تَاهَتْ، وَعَقِيقُ الصَّغِينَةِ عِنْدِي… مِنْهُ أَرْتِيكَارِيَا! فَكَيْفَ النِّسْيَانُ؟ وَأَيْنَ مَخَارِجُهُ؟ وَأَنَا؟ أَنَا لَسْتُ النِّسْيَانَ."
[أَعْرِفُ أَنَّكَ - مِثْلِي - تَحْفُرُ صَوْتَكَ فِي جُدُرَانِ قَصْرِ طَيْبَةَ، وَتَمْسَحُ مِلْحَكَ عَنْ رُخَامِ مَغَارَةٍ فِي صِقِلِّيَّةَ، وَتَنْقُشُ وَجْهَكَ فِي زُرْقَةِ عَيْنِ امْرَأَةٍ تُسَمِّيهَا الْمَنْفَى…]
مَنْ فِي التَّنَاصِيفِ اغْتَسَلْنَا طِينَهُ، لَمْ يَسْتَطِبْ خَمْرَ الْمَعَانِي وَافْتَرَى. {5} (صِقِلِّيَّةُ نَادَتْ بِرِيحٍ تَائِهٍ، وَرَمَتْ عَلَى سَفَرِي مَلامِحَ ضَيْعَتِي)
[لَيْسَ فِيكَ مَكَانٌ وَاحِدٌ، بَلْ كُلُّ مَا نُفِيَ فِيكَ… صَارَ مَقَامًا. سَاحِلُ ظُفَارٍ، أَدْغَالُ غَامْبِيَا، ضَوْءُ بَرْكَةِ الْحَسْوِ حِينَ تَفُتُّ جُثَّتَكَ الْقَدِيمَةَ… إِذْ تَنَامُ، وَيَغُوصُ الدُّودُ فِيكَ. فِي فَلْكِنَا نَحْنُ النُّجُومُ، وَوَعْدُنَا فَوْقَ الرِّمَالِ… وَمُهْرُنَا: أَسْرَارُنَا. وَالْمَنْفَى امْرَأَةٌ تَبِيعُ أَصَابِعِي، وَتُعِيدُنِي لُغَتِي… لِأَمْحُوَ مَا بَقِيَ. "دَلَعَ لِسَانَ طَيْفِهَا، تَغَنَّجَ عِطْرُهَا، ذَاكَ الَّذِي يَسْكُنُ فِي أَحْنَاءِ نَفْسِي..."
[هٰذَا جِدَارُكَ! يَا ابْنَ غُبَارِ الْقَوَافِلِ… مَا كَتَبْتَ عَلَى الْحَجَرِ؟
(اسْمِي نَسِيءٌ فِي الدَّفَاتِرِ… كُلُّ هُوِيَّاتِي رَمَادٌ…)] {6} (ظُفَارُ أُنْشُودَةُ الدُّخَانِ بِرَأْسِيَ، غَانَا تَبْكِي فَوْقَ مَوْتِ الْبِدَايَةِ)
الْعِشْقُ، بِفَرَحٍ غَامِرٍ، يَسْكُنُ مِشْكَاةَكَ. أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، هَشٌّ نُورُكَ...
[سِفْرُ الثَّالِثُ: الْأَنْقَاضُ الْكُبْرَى] مَأْتَمُ الدُّخَانِ، أُمَمٌ تَؤُمُّ مَوَانِئَ النِّسْيَانِ، تَمْلَأُ الرُّوحَ أَنْفَاسَ الْأَوْثَانِ الْمُغِيثَ لِلْغَرْقَى بِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ غَصًّا! عَيْنَاكِ تُدَاعِبُ أَوْجَاعِي، خَجَلِي... كُلُّ مَا سَأُصَادِفُهُ هُنَاكَ. "لِيَكُنْ هٰذَا الْبُكَاءُ صُورَةَ الرُّوحِ الَّتِي لَا تَسْتَظِلُّ سِوَى نَفْسِهَا…" رُوحُ الْمَكَانِ كَانَتْ مُحِقَّةً. أُفَكِّرُ بِالنَّهْرِ الْمَالِحِ، وَعَبْرَةُ الرِّيحِ تَتَوَضَّأُ لِتُمَارِسَ فِعْلَ التَّنَاسُلِ مَعَ الْجُرُوفِ.
[لَمْ تَصِلْهَا…، لَا لِأَنَّهَا وَعْرَةٌ، بَلْ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُشْبِهُكَ حِينَ تُخَاصِمُهُ، فَتَأْخُذَكَ مِنْكَ الرِّيحُ، وَتُرَوِّحُنَكَ الْجِهَاتُ.]
مَنْ يَجْمَعُ الْآفَاقَ فِي كَفِّ الرُّؤَى؟ مَنْ يَسْتَعِيرُ النُّورَ مِنْ خَفَقِ الدَّمِ؟ {7} (بِرْكَةُ الْحَسْوِ الَّتِي كُنَّا بِهَا شَرِبَتْ جُرُوحَ الْقَافِلَةِ… ثُمَّ انْطَفَأَتْ)
[السِّفْرُ الرَّابِعُ: مِرْآةُ الْفَقْدِ وَمَسْرَحُ الْوَهْمِ خَزَنَ عَقْلِي دِفْءَ لَوْنِ الْفُقْدَانِ... أَيَّتُهَا الْأُكْذُوبَةُ: أَضِيئِي فَنَارَ الْعَتْمَةِ، دَرْبُ الْعَوْدَةِ دَنِفٌ بِالْغِيَابِ، صَحْبُ الْبِلَاشِينِ الْمُهَاجِرَةِ، سَحَرَتْهُ نَجْمَةُ الشِّمَالِ. "يَتَكَوَّرُ الْحُلْمُ الْمُبَاحُ بِدَمْعِهِ، وَيُرَتِّقُ الذِّكْرَى عَلَى أَشْلَاءِ نَفْسِي" مُنْذُ فَجْرِ الْبَشَرِيَّةِ أَسْمَالُ مَنَادِيلِ التَّضَرُّعِ تَمْسَحُ دَمْعَ الضَّيَاعِ.. يَلُوحُ لِأَسْرَابِ الطُّيُورِ، شَاخَتِ السَّمَاءُ، وَهُوَ خَسِرَ خُلُودَ الْمَوْتِ.]
[أَكَانَ الْحِجْرُ مَخْبَأً لِلْغَيْمِ؟ أَكَانَ الْمَوْتُ رُقِيًّا؟ أَكَانَ دَفْقَ بُكَاءٍ فِي عُيُونِ الْأَوَّلِينَ؟ أَكَانَ الطِّينُ مَوْطِئَكَ الْأَخِيرَ؟ لِتَكُنْ رَحِيلًا دَائِمًا…]
كُلُّ الْمَنَارَاتِ انْحَنَتْ، وَمَآذِنُ خَرَجَتْ مِنَ التَّكْبِيرِ صَوْتًا مُعْتِمًا. {8} (مَا بَيْنَ أَنْطَاكِيَةَ وَالْحِجْرِ ضَوْءٌ قَدْ نَامَ فَانْحَدَرَتْ خُطَايَ إِلَى الرَّمَادِ)
(فَالْعَتْمَةُ غَابَةٌ أَثْمَرَتْ كُلَّ مَا فِي السَّلَّةِ...)
"مَا بَقِيَتْ إِلَّا الرُّمُوزُ تُلَاحِقُنِي، نَحْوَ سُؤَالٍ هَادِرٍ لَا يَرْحَمُ"
[أَنْتَ الْآنَ تُقِيمُ، لَا فِي بَيْتٍ، وَلَا فِي قُبَّةٍ، بَلْ فِي تَأَمُّلِ وَرَقَةٍ طَارَتْ مِنْ صُفْرَةِ الْخَرِيفِ… يَا ابْنَ النِّسْيَانِ، هَلْ أَنْتَ شِعْرٌ لَمْ يُكْتَبْ بَعْدُ؟]
وَالْوَقْتُ يَبْصِقُ فِي السَّمَاءِ نُذُورَهُ، وَالْأَرْضُ تَخْشَى أَنْ تُجِيبَ، وَتُتْهَمَا! {9} (أَسْأَلُ جِدَارَ الْوَقْتِ: هَلْ يُخْفِي دَمِي؟ وَيَقُولُ: دَعْ عَنْكَ الْوُجُوهَ، وَابْدَأْ!)
(الْعُوَيْلُ، هُوَ الْآخَرُ، مِنْ أَوْطَانِ الضَّلَالِ.)
"كُلَّمَا أَقْبَلْتُ صَامِتًا كَصَلَاةٍ، أَخْرَجَتْنِي الدَّمْعَةُ الْكُبْرَى لِنَفْسِي"
[فِي جُرْزِ الْهُوِيَّةِ رَأَيْتُ رُؤَايَ، رَأَيْتُ الْوَحْيَ بَيْنَ أَظَافِيرِ الْعُمَّالِ… فِي بَازِلَ سَكِرْتُ بِخُبْزِ الشُّعَرَاءِ، وَفِي مَتْرُو أُوسْلُوَ قَرَأْتُ هُوِيَّتِي مَطْمُوسَةً…]
نَحْنُ الَّذِينَ تَفَحَّمُوا مِنْ صَمْتِهِمْ، وَتَفَجَّرُوا فِي الشِّعْرِ صَوْتًا مُلْهَمًا. {10} (فِي … كُنْتُ الْقَصِيدَةَ، ثُمَّ قَبَضَتْ يَدَايَ عَلَى اِرْتِجَافِ التُّرْجُمَانِ)
(ظِلُّكَ عَرَبَةُ غَجَرٍ تَقْرَعُ جَرْسَ الرِّحْلَةِ الْجَافَّةِ…)
"كُلَّ مَا فِيهَا يُنَادِينِي خَيَالًا، ثُمَّ يَخْفِي وَجْهَهُ فِي جَوْفِ كَأْسِي"
[تَقُولُ الْحُرُوفُ: هَلْ هَذَا غُصْنُكَ؟ تَقُولُ الْأَنْهَارُ: هَلْ هَذَا نُعَاسُكَ فِينَا؟ تَقُولُ التَّوَارِيخُ: كُنَّا هُنَاكَ… وَلَمْ نَجِدْكَ.]
إِنْ كَانَ فِي الْأَحْرُفِ نُجَاةٌ، فَاسْتَقِ قَنْدِيلَكَ الْمُطْفَى، وَهَاتِ الدَّمْعَ مَا! {11} (فِي أُوسْلُو… رَأَيْتُ هُوِّيَتِي تَغُوصُ، كَأَنَّهَا وَرَقٌ عَلَى سُهُدِ الشِّتَاءِ)
"هَلْ أُصَلِّي، أَمْ أُرَتِّلُ نَارَ وَجْدِي؟ أَمْ أَكُونُ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ جُلُوسِ؟"
[أَصِلُّ؟ لِمَنْ؟ لِكِتَابٍ لَمْ يُكْتَبْ؟ لِأُمٍّ بَعَثَتْنِي، ثُمَّ عَادَتْ تَوْصِينِي بِالضِّيَاعِ؟ لِظِلٍّ؟ لِرَمَادٍ؟]
يَا أَيُّهَا الْمَنْسِيُّ فِي صَحْرَاءِ نَفْسِي، كَيْفَ انْتَبَهْتَ لِمَا أَقُولُ وَغِبْتَ عَنِّي؟ مَا بَيْنَ نَصِّي وَالْمَرَايَا فَاصِلٌ، قَدْ كَانَ ظِلِّي، ثُمَّ صَارَ تَنَكُّرِي! كُنْتُ الْمُسَافِرَ وَالطَّرِيقَ، وَمَا دَرَيْتُ لِمَنْ أُضِيءُ الْحُلْمَ… لَكِنِّي أَرَى… {12} (هَلْ كُنْتُ صَوْتِي؟ هَلْ رَأَيْتُ حَقِيقَتِي؟ أَمْ أَنَّنِي كُتِبْتُ، وَلَمْ تُقْرَأْ… خُطَايَا؟)
"أَيْنَ أَزْرَارُ الْحَنِينِ إِذَا طَفِتْ فَوْقَ مَوْجِ الرُّوحِ أَشْلَاءُ الْقُيُودِ؟"
(يَقْطِينَةُ يُونُسَ، ضَرَبَتْهَا هَاجِرَةُ الْقُرُونِ.)
[السِّفْرُ الْخَامِسُ: مُنَاجَاةُ الْقِنْدِيلِ وَصَرْخَةُ الْوَحْدَةِ يَضْجَرُ أَنْ تَكُونَ قُرْبَ الْعَرْشِ تَسْمَعُ وَتَرَى، وَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَيْكَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ]
[لِكُلِّ مَا فَاتَ… أُقَبِّلُ اسْمِي عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةٍ، وَأَمْحُوهُ بِنَفَسِي.]
فِي كُلِّ نَصٍّ: نَارُ وَجْدٍ سَرْمَدِيٌّ، وَتَرَاتِيلُ الرَّمْلِ… تُسْمِعُنِي دَمًا. فِي كُلِّ جُرْحٍ أَغْنِيَاتٌ مِثْلُنَا تَبْكِي عَلَى حَافَاتِ نَفْيٍ أَسْهَرَا. {13} (يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا)
"كُلَّمَا مَرَّتْ خُطَاهَا فِي دَمَائِي، قُلْتُ: هٰذِهِ وَجْهَةٌ فَوْقَ الْوُجُودِ فَاغْتَسَلْتُ بِمَاءِ حُلْمٍ يَابِسٍ، وَانْتَشَيْتُ بِرُوحِ صَمْتٍ لَا يُفِيقُ كَيْفَ لَا تَبْكِي الظِّلَالُ عَلَيْنَا؟ كَيْفَ تَصْعَدُ دِمَشْقُ فِي وَهَجِ النُّدُوبِ؟"
(الْخَائِبَةُ كَالنَّاسِكِ، نَهْدٌ نَزَعَ عِبَادَةَ عُزْلَتِهِ.)
يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا. {14} (فَاصِلَةٌ… قَبْضَةُ السِّكِّينِ وَقَلْبُ الضَّحِيَّةِ.)
"مَا بَقِيَ فِينَا سِوَى وَجْدٍ يُنَادِي، عَاشِقٌ يُصْغِي لِحُزْنٍ فِي السُّجُودِ"
[كَأَنِّي مِنْ… يُعِيدُ اللَّهَ مِنْ مَنْفَاهُ… إِلَيْهِ.]
نَحْنُ الَّذِينَ تَنَاثَرُوا فِي غُرْفَةٍ صَفْرَاءَ، حَيْثُ النَّفْيُ يُرْعِبُ أَغْنِيَا. مَا ضَاعَ مِثْلُ الْحُلْمِ إِلَّا فِي يَدَيْـ ـنَا وَنَحْنُ نَظُنُّهُ لَنْ يُسَلِّمَا!
فَاكْتُبْ، كَمَا تَكْتُبُ النُّبُوءَةُ، صَمْتَهَا، وَازْرَعْ كَمَا يَزْرَعُ الْحَنِينُ يَبَابَنَا. وَاسْمَعْ أَنَاشِيدَ الضِّيَاءِ… فَإِنَّهَا فِي اللَّيْلِ تُعْلِنُ: أَنْتَ… أَنْتَ الْغَائِبُ.
خاتمة :وهوامش "إذا بلغَكَ عنّي ما لا تحتملهُ، فلا تُنكره، فإنّي بيني وبيني، أعرَفُ بما فيّ منكَ." "ابن عربي: "ترجمان الأشواق (ديوان)" ظِلُّكَ هُوَ وَطَنُكَ الأَخِيرُ إنْ أخطأَتْكَ بلادُكَ الأولى، إِنْ خَذلتْكَ البِدايةُ، إِنْ أَغْفلَتْكَ الخَرائِطُ، فَلا تَجْزَعْ... ولا تخفْ، فَفي الظِّلِّ سُكْنى مَنْ عَرَفَ أَنَّ الطَّريقَ هُوَ السَّائِرُ نَفْسُهُ. "وما كلُّ ظلٍّ عن النورِ يدلُّ، فقد يكونُ الظلُّ ظلَّ ذاتٍ غائبةٍ عن نفسها." "ابن عربي" "الفتوحات المكية" وفي التلاشي بيتُ -سنمار*- لمَنْ لَمْ يُكتبِ. يا أيّها المنفيُّ بينكَ والخرائطِ، يكفيكَ أنْ تمشي، ويكفي أنْ تُحبَّ… لِتَعرفَ الأرضَ التي فيكَ
يَا أَيُّها المُنْفَيُّ فِي نَفْسِكَ، لَا تَسْأَلْ عَنِ الطَّريقِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّها مَجازُكَ، والْمَسَافةَ بَيْنكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ هِيَ الرِّحْلَةُ.
الهُوِيَّةُ: لَيْسَتْ مَا كُتِبَ فِي سِجِلِّ المَوْلِدِ، بَلْ هُوَ ذَاكَ النَّدَاءُ الَّذِي يَنْبَعِثُ مِنْ قَلْبِ العَدَمِ، فَيَسْمَعُهُ الْعَاشِقُ وَهُوَ يُرَتِّقُ نَفْسَهُ بِالأَسْمَاءِ.
"أنتَ لا أنتَ، بل أنتَ هو، وأنتَ هو لا أنت، فاعرف نفسكَ تعرفْ ربَّكَ." "ابن عربي" "الفتوحات المكية"
اِشْرَبْ دَمَكَ - أَيُّهَا السَّائِرُ - وَكُنْ سُكْرَانَ وَعْيٍ، لِتُبْصِرَ صُورتَكَ تَنْحتُهَا النَّفْسُ فِي زُرْقَةِ الغَيَابِ. لَا تَخَفْ مِنَ الجُمْجُمَةِ فِي يَدِ الزَّمانِ، فَإِنَّ كُلَّ مَصيرٍ يُقطَّعُ في حَلَقاتِ العِشْقِ.
سَيَتْرُكُونكَ فِي صَمْتِ الفَجْرِ، تُصَلِّي وَحْدَكَ صَلَاةَ التَّفَلُّتِ فِي هَيْكَلِ الغِيَابِ الْأَزَلِيِّ.
مُنْفَرِدًا... أَنْتَ وَظِلُّكَ - هُوَ أَنْتَ - تُحَاوِرانِ نَفْسَكُمَا تَحْتَ وَبْلِ النِّسْيانِ، ويَسْقُطُ الزَّمانُ مِنْ وَجْهِهِ كَما يَسْقُطُ النِّقابُ عَنْ وَجْهِ المَعْنى.
"الظلُّ موجودٌ بالنور، فلو غاب النورُ لزال الظلُّ، ولولا الظلُّ ما عُرف النور." "ابن عربي" "الفتوحات المكية"
أَنْتَ مَنْفًى لَا يَنْتَهي، ولَكِنَّكَ أَنْتَ المَقامُ الأَخيرُ، وَأَنْتَ بَدْءُ الرِّحْلةِ وَغَايتُهَا، لِأَنَّ مَا كُنْتَ تَبْحَثُ عَنْهُ كَانَ يَسْكُنُكَ مُنْذُ الْبِدايةِ.
فِي أَسْفَارِ هٰذَا الغِيَابِ، لَا يُقِيمُ الشَّاعِرُ مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ ذَاتِهِ، بَلْ يُوَاصِلُ النَّشِيدَ وَهُوَ يَعْبُرُ المَسَافَةَ بَيْنَ الصَّمْتِ وَاللُّغَةِ؛ حَيْثُ يُضِيءُ القِنْدِيلُ الأَخِيرُ لَحْظَةَ الوُقُوفِ فِي مُوَاجَهَةِ العَرْشِ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّ حُضُورَنَا فِي العَالَمِ هُوَ ذَاتُهُ غِيَابٌ مُكَرَّرٌ.
"أَنَاشِيدُ القِنْدِيلِ" لَيْسَتْ مَرْثِيَةً، بَلْ حَدْسُ كِتَابَةٍ عَلَى الحَافَّةِ: حَافَّةِ وُجُودٍ لَا يَثْبُتُ، وَزَمَنٍ لَا يَتَمَاسَكُ كَهَبَاءٍ، وَهُوِيَّةٍ تَتَقَشَّرُ فِي مَرَايَا الرَّمْلِ، كَرِيحٍ حَائِرَةٍ تُطَارِدُ ظِلًّا تَائِهًا فِي وَسَطِ العَدَمِ.
وَكُلَّمَا اشْتَدَّ ضَوْءُ القِنْدِيلِ، ازْدَادَ ظِلُّ الغِيَابِ اتِّسَاعًا، وَتَعَمَّقَتْ غُرْبَةُ الانْتِظَارِ المُوْحِشِ، مِثْلَ شَاهِدَةِ ضَرِيحٍ مَحَتْ عَلَامَاتِهَا الأَيَّامُ.
حِينَ يُضِيءُ القِنْدِيلُ فِي الغِيَابِ، لَا يَعُودُ النُّورُ خَلَاصًا، بَلْ شَهَادَةٌ هَشَّةٌ عَلَى بَقَاءِ النَّشِيدِ فِي حَضْرَةِ المَحْوِ، وَدَوَرَانِ الدَّرْوِيشِ حَوْلَ نُقْطَةِ دَهْشَةِ ذُهُولِهِ المَحْمُومِ، التَّوَّاقِ لِلشَّهَادَةِ...
هٰذَا العَمَلُ الشِّعْرِيُّ رِحْلَةٌ صُوفِيَّةٌ فِي خَرَائِطِ الذَّاتِ المُتَشَظِّيَةِ بَيْنَ الرَّمْلِ وَالمَنْفَى وَالمِرْآةِ. وَنُقُوشُ ذَوْقٍ حَدْسِيٍّ مُرْهَفٍ...
هُنَا، لَا تَكْتُبُ القَصِيدَةُ كَلِمَاتِهَا، بَلْ تَكْتُبُ حَيْرَتَهَا بَيْنَ العَدَمِ وَالمُطْلَقِ.
مَا مِنْ مَأْوًى نِهَائِيٍّ فِي هٰذِهِ القَصِيدَةِ، سِوَى اللُّغَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَصِيَّةً عَلَى شَمْشُونَ، مِثْلَ دَلِيلَةَ.
كُلُّ الأَمَاكِنِ مَعَابِرُ، وَكُلُّ الأَسْمَاءِ مَحَطَّاتٌ تُخْتَبَرُ فِيهَا الهُوِيَّةُ، لَا لِتُثَبَّتَ، بَلْ لِتُسَائِلَ نَفْسَهَا.
لَيْسَ السُّؤَالُ: أَيْنَ وَطَنِي؟ بَلْ: مَتَى أَمْتَلِكُ ظِلِّي؟
"وما كلُّ ظلٍّ عن النورِ يدلُّ، فقد يكونُ الظلُّ ظلَّ ذاتٍ غائبةٍ عن نفسها." "ابن عربي " "الفتوحات المكية "
لَعَلَّ مَنْفَى الرُّوحِ أَصْدَقُ مِنْ أَلْفِ دَارٍ، وَلَعَلَّ مَنْفَى الدَّارِ أَصْدَقُ مِنْ أَلْفِ رُوحٍ...
"وأنا ظلّي، وظلّي غيري، فلا أنا أنا، ولا هو هو."
"الترجمان" (ديوان ابن عربي )
هوامش : مزونة( مازونة ) : مدينة ساحلية جزائرية قديمة ، ربما تعود جذورها إلى العهد الروماني،وقد لعبت دورًا هامًا في الحفاظ على التراث الثقافي الديني، وكانت أيضًا مركزًا للمقاومة ضد الوجود الإسباني ومن ثم الفرنسي. و اسم مازونة: في بعض الروايات مشتق من اسم رئيس قبيلة زناتية يُدعى ماسون. وفي رواية أخرى إن الاسم مستمد من اسم ملكة كان لها كنز يسمى "موزونة". ورواية ثالثة تزعم أن ملكًا اسمه ماتع جاء إلى إليها ومعه ابنة تدعى زونة. نسب منبع الماء في المكان إليها ، فعرف ب "ماء زونة". إشعاع ثقافي وعلمي ولمكانة المدينة بعد صوفي وشاعري وظفه الشاعر هنا . زُبيد: مدينة يمنية عريقة ذات بُعد تراثي صوفي، تمثل الوطن الشعري المفقود. سَلُوقَة: منطقة عراقية قديمة في محيط بغداد، يُقال إنها مأوى للأنبياء الهاربين. قصر طيبة: إشارة رمزية لقصر مهجور داخل الخيال العربي، قد يشير إلى قصر في مصر القديمة أو طيبة الشامية. صقلية: جزيرة إيطالية، كانت إحدى بوابات الحضارة العربية إلى الغرب. ظُفار: منطقة جنوبية في سلطنة عمان، رمزية الطقس والمطر فيها عالية. غامبيا: دولة أفريقية صغيرة، تستدعى هنا لتضادها الجغرافي مع الظلال العربية. بركة الحَسْو: اسم مركب تخييلي يستلهم من أسماء الواحات المهجورة. الحِجر: إشارة إلى منطقة الأنباط، قد تشير إلى المدائن أو "الحِجْرِ النبويّ" أيضًا جرز الهوية: تعبير مبتكر عن الجزر الأوروبية التي امتصّت هوية المهاجرين. بازل، أوسلو: مدن أوروبية تستعير أصوات المنفى العربي في الشتات.
#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(الرَّمادُ والرُّمّانُ)
-
)قراءة جديدة لقصيدة سابقة (
-
(مَجازُ الطِّين)
-
(صَهِيلُ النُّبُوءةِ)
-
(لا تُشْعِلْ مِلْحَكَ في الطِّين)
-
(سِفْرُ التَّبَدُّدِ)
-
(مارْشٌ، رَصاصَةٌ، أُفْعى، أَفْيونٌ)
-
(تجَلٍّ في المِرآة) (وَصَيْدُ عُرْيِ الرُّوحِ)
-
(القلق شعرية بين الرمز والتلقي والسيمياء - قراءة في قصيدة شل
...
-
(رَغبةٌ تُراوِغُ شكلَها)
-
(ماءُ الْآهِ)
-
(الجِهةُ البَاهِتةُ مِنَ الكَوْكب)
-
(في البدءِ كانتِ المدينةُ نارًا)
-
( الأَمَلُ: شَجرَةٌ )
-
(فِرَاقُ غَمَامَةِ الفَجْرِ)
-
(الجسد والمكان والزمن في رؤيا آلهة الطوفان: قراءة ثقافية تكا
...
-
(من الشكل إلى الدلالة: التأويل البصري والبنية التناصية في قص
...
-
( كَأَنَّنِي فِي مَجَازِ الكَوْنِ: أُغْنِيَةٌ)
-
(موجوعَةٌ قَدَمي، وكُلِّي أنا وَجَعُ)
-
(مِرْآةٌ فِي الرِّيحِ)
المزيد.....
-
بابكر بدري رائد تعليم الإناث في السودان
-
-على مدّ البصر- لصالح حمدوني.. حين تتحول الكاميرا إلى فلسفة
...
-
هل تحلم بأن تدفن بجوار الأديب الشهير أوسكار وايلد؟ يانصيب في
...
-
مصر.. انتقادات على تقديم العزاء للفنان محمد رمضان بوفاة والد
...
-
الإمارات.. جدل حكم -طاعة الزوج- ورضى الله وما قاله النبي محم
...
-
ساحة المرجة.. قلب دمشق النابض بتاريخ يتجدد
-
جلسة شعرية تحتفي بتنوع الأساليب في اتحاد الأدباء
-
مصر.. علاء مبارك يثير تفاعلا بتسمية شخصية من -أعظم وزراء الث
...
-
الفيلم الكوري -أخبار جيدة-.. حين تصنع السلطة الحقيقة وتخفي أ
...
-
بالاسم والصورة.. فيلم يكشف قاتل شيرين أبو عاقلة
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|