|
|
(الرَّمادُ والرُّمّانُ)
سعد محمد مهدي غلام
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 01:01
المحور:
الادب والفن
1 يَا أَنْتَ، كَمْ بَقِيَ مِنْ صَدَاكَ فِي أَذَنِ الحَنِينِ؟ كَمْ مِنْ رُؤَاكَ تَكَسَّرَ فِي زُجَاجِ الغِيَابِ؟ أَنَا الَّذِي يَكْتُبُكَ مَاءً، وَيَقْرَؤُكَ نَارًا 2 مَا بَيْنَ نَبْضَيْنِ، أَغْسِلُ خُطَايَ بِحَبْرِكَ، وَأَتْرُكُ لِلدَّمْعِ نَافِذَةً تَسْقُطُ فِيهَا اللُّغَةُ 3 أُرَتِّبُ فِي عُيُونِكَ لَيْلِي، وَأُخَبِّئُ ضَوْءَكَ تَحْتَ جِلْدِي، لِئَلَّا يَفْنَى المَكَانُ. أُقَلِّبُ الرَّمَادَ، فَتَنْبُتُ مِنْهُ حَبَّاتُ رُمَّانٍ 4 أَدْخُلُ غَيمَكَ وَحيدًا، تَسْتَفِيقُ بِيَ الفُصُولُ كَأَنَّها وَرَقٌ فِي مَاءِ الخُطَى. أَمْشِي وَالنَّارُ تَلْمَعُ فِي حَجَرِ الأَنْفَاسِ، أَبْحَثُ عَنْ صَوْتٍ كَانَ يَنْقُرُ صَدْرَ اللَّيْلِ كَالرَّحِيلِ 5 كُنْتَ لِي وَطَنًا مِنْ خَفَقٍ، وَأَصْبَحْتَ صُورَةَ مَاءٍ تُشْبِهُ الحُلْمَ، تَنْفُضُ مِنْ نَفْسِهَا نُدُوبَ المَوَاسِمِ، وَتَكْتُبُ عَلَى جِلْدِ الرَّمْلِ أُغْنِيَةَ التَّبَدُّدِ 6 أُرَتِّبُ فِي ظِلِّي نَبْضَكَ، وَأُعَلِّقُ عَلَى جِدَارِ المَسَاءِ مَسَافَاتٍ مِنْ نَدَمٍ، لِأَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّمَادُ 7 مَا الَّذِي فِي صَمْتِكَ يُشْبِهُنِي؟ أَسْتَمِعُ لِحِرْفٍ يَنْزِفُ فِي المَدَى، وَيَتَدَثَّرُ بِأَسْمَائِي القَدِيمَةِ. أَسْأَلُ: هَلْ يَسْمَعُ النُّورُ خُطَايَ وَهُوَ يَتَعَثَّرُ فِي الطِّينِ؟ 8 كَأَنَّ الغِيَابَ الَّذِي فِيكَ نَهْرٌ، تَصُبُّ حَوَافِيهِ فِي جَسَدِي، وَيَغْسِلُ وَجْهِيَ مِنْ وَحْلِ أَيَّامِنَا، وَيُعَلِّمُنِي كَيْفَ أُصْغِي إِلَى صَمْتِكَ النَّازِفِ الآنَ، كَيْ أَفْهَمَ المَاءَ حِينَ يَبُوحُ بِلَوْنِ الرَّمَادِ 9 أَنَامُ عَلَى رِيشِ جُرْحِكَ، أَسْتَعِيرُ مِنَ الرِّيحِ نَبْضَكَ، وَأَغْزِلُ مِنْ عَرَقِ المَسَاءِ قَمِيصًا لِيَوْمِي، فَأَصْحُو عَلَى كَفِّ نَارٍ، تُسَمِّينِي بِمَا لَا أُطِيقُ 10 فِي عَيْنَيْكَ وَرْدٌ يَنَامُ عَلَى جَنَاحِ الحَرِيقِ، وَيُوقِظُ فِيَّ رَغْبَةَ البَحْرِ، أَنْ أَسْقُطَ أَكْثَرَ فِي المَوْجِ، وَأُولَدَ مِنْ جِسْرِ ضَوْئِكَ طِفْلًا 11 كُنْتَ فِي الأُفُقِ شَمْسًا تُفَاجِئُ طِينِي، وَتُوقِظُ فِي صَمْتِيَ الغَيْمَ، وَفِي عَرَقِيَ النَّبْتَ، حَتَّى صِرْتُ أُغَنِّي ظِلِّي 12 مَتَى تَرْجِعُ الأَغَانِي الَّتِي ضَيَّعَتْهَا النُّدُوبُ؟ وَيَرْجِعُ الحُلْمُ مِنْ فَوْضَى الوَجَعِ، وَيُصْلِحُ كَسْرَ المَرَايَا؟ 13 أَمْضَغُ أَسْمَاءَنَا القَدِيمَةَ، كَمَا يُمْضَغُ التَّمْرُ فِي مَوَاسِمِ الجُوعِ، وَأَبْكِي إِذَا مَا تَسَرَّبَ مِنِّي الرَّمَادُ 14 فِيكَ أَسْكُنُ وَأَنْسَى المَدَى، أَسْكُنُ وَجْهَ الحُرُوفِ، وَأَتَسَلَّقُ نَبْضَ اللُّغَةِ، حَتَّى يُصْبِحَ الكَلَامُ بُخَارًا 15 أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ، تَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَجَسَّدُ فِي نَفْسِ الصَّدَى، وَتَكُونُ الْمَوْتَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفَ يُحِبُّ 16 فِي زَمَنِ الْعَطَشِ، أَشْرَبُ مِنْ عَيْنِكَ صَبْرَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَكْتُبُ فِي الظِّلِّ أَسْمَاءَ مَنْ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ 17 يَا ابْنَةَ الرَّمَادِ، يَا مَنْ تَسْكُنِينَ فِي وَهَجِ النَّارِ، أُسَمِّي الغِيَابَ قُبْلَةً، وَأَمْشِي عَلَى سُرُوجِ الغَيْمِ، وَأَحْمِلُ نَفْسِي إِلَى مَهَبِّ النُّورِ الأَعْمَى 18 أَرَى فِي خُطَاكِ حُرُوفًا تُصَلِّي، وَفِي نَبْضِكِ مِئْذَنَةً تُنَادِي لِلرَّمَادِ، فَأَسْقُطُ فِي المَاءِ كَمَنْ يَعُودُ مِنَ الغُفْرَانِ 19 أَضَعُ قَلْبِي عَلَى الطِّينِ، فَيَنْبُتُ فِيهِ بَابٌ مِنَ الحُلْمِ، يَفْتَحُهُ لَيْلٌ يَتَنَفَّسُ بِنَارِكَ 20 يَا زَمَنَ الْحُرُوفِ الْمَحْرُوقَةِ، هَلْ بَقِيَ فِي الصَّفْحَةِ مَاءٌ لِكِتَابَتِنَا؟ هَلْ بَقِيَ فِي الْحُلْمِ مَتَّسَعٌ لِلنُّورِ؟ 21 مَدِينَتُنَا تَنْهَضُ مِنْ تَحْتِ الرَّمَادِ، تَرْتَدِي جَسَدَهَا مِنْ نُورٍ وَخُوفٍ، وَتُسَمِّي الشُّهُودَ أَبْجَدِيَّةَ الدَّمِ 22 أَضَعُ نَفْسِي فِي وَرَقِ الْعُمْرِ، أُسَمِّي النِّهَايَةَ بَدَايَةً، وَأَخْتِمُ الرُّمَّانَ بِرَمَادٍ، لِكَيْ تَبْدَأَ الْحِكَايَةُ مِنْ نُقْطَةِ النَّارِ 23 كودا
الرَّمَادُ… مِسْكُ الحُرُوفِ بَعْدَ احْتِرَاقِهَا، وَالرُّمَّانُ… قَلْبُ المَاءِ حِينَ يَنْزِفُ جَمَالًا فِيهِمَا تَلْتَقِي الأَضْدَادُ، وَيَبْدَأُ الوُجُودُ مِنْ لَهِيبِ اللَّذَّةِ وَخُشُوعِ الفَنَاءِ.
وقفة مع القصيدة: 1- البنية الرمزيّة القصيدة تنفتح على ثنائيةٍ متقابلة: النار/الماء - الغياب/الولادة - الفناء/الخصب. فالرَّماد ليس بقايا الاحتراق فحسب، بل هو جوهر التحوّل؛ نهايةٌ تلد بداية. أما الرُّمّان فهو رمز البذرة الخصيبة، التي تحمل داخلها انبعاثًا جديدًا من داخل العطب ومن هذا التقابل تولد القصيدة بوصفها طقسًا تطهيريًا؛ إذ يُحرق الشاعر ذاته ليزرع في رماده حياةً جديدة. يتمركز الرمز في دائرة أنثوية - ذكورية مزدوجة: فالأنثى تُستعاد مثل ابنة الرَّماد وقدّيسة النار، في حين يتماهى الشاعر مع :ماء الغياب، أي الذكر المتحوّل إلى رحمٍ لغويّ يولِّد المعنى من الألم. بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى رحم رمزيّ للخلق والانبعاث. 2- الإيقاع والمعمار الصوتي تقوم القصيدة على تعدّد البحور (الرمل /الكامل / الرجز)، لكن هذا التعدّد ليس عشوائيًّا؛ بل يعكس تحوّل الحالة الشعورية في كل مقطع: بحر الرمل: يُستخدم في المقاطع التأمّلية والوجدانية الهادئة، بحر الكامل: يحضر في لحظات الاندفاع والانخطاف العاطفي ، بحر الرجز : يُستثمر للسؤال والتمرد والاحتجاج. بهذا، تتحوّل التفعيلة إلى جهازٍ نفسيّ دلاليّ،ينبض مع توتر المعنى، ويكشف ما يسميه ياكوبسون :انزياح الوظيفة المرجعية نحو الوظيفة الشعرية؛ أي إن الإيقاع لا يُزيِّن القول، بل يشارك في خلق الدلالة نفسها. 3-التحوّل الرؤيوي يتدرّج النص من الاحتراق إلى الانبعاث، ومن الغياب إلى الخلق. فالقصيدة تُبنى على مسار تصاعديّ،وينتهي باختتام الرمان بالرماد لتبدأ الحكاية من النار . وهذا التحوّل يُعيد إنتاج مفهوم الموت الرمزي كشرطٍ للبعث الجمالي. في قلب هذا المسار يظهر :الرماد كقيمة روحية وجمالية مزدوجة: إنه أثرُ النار، لكنه أيضًا مكان الكتابة - الورق الجديد الذي يُكتب عليه وجودٌ آخر. ومن ثم يصبح الشعر نفسه فعلَ احتراقٍ واستعادة. 4-اللغة ككائن حيّ اللغة في هذه القصيدة لا تُستخدَم بل تتخلّق؛تسري في الجسد، وتتنفّس، وتُصاب بالوجع، ثم تتطهّر بالماء والنار معًا،ويُلاحظ أن الخطاب يتراوح بين الضميرين (الأنا/الأنت) في حركةٍ تبادلية تذيب الحدود بين الذاتي والآخر، فيتحوّل الحوار الشعري إلى تجلٍّ صوفيّ للاتحاد،ولذلك تبدو الجملة الشعرية هنا ذات طبيعة سائلة - نارية في آنٍ واحد: تتمدّد في الصور كالماء، وتضيء بالاختراق كاللهيب، وهو ما يمنح النص نَفَسًا رؤيويًا أقرب إلى التجربة العرفانية منه إلى البوح الغزلي المباشر. 5- تأويل العنوان العنوان : الرَّمادُ والرُّمّانُ :يُقيم تماثلًا صوتيًّا بين كلمتين تتجاوران في البنية الصرفية، لكن تتضادان في المعنى: الرَّمادُ: النهاية، الفناء، السكون، البرد بعد النار. الرُّمّانُ: الامتلاء، الخصب، الدم الحيّ في ثمرةٍ مغلقة. وفي هذا التضاد تكتمل الرؤية: فمن الرماد تنبعُ بذرةُ الرمان، ومن الفناء يُولَد الجمال. هكذا تصير القصيدة ميتافيزيقيا التحوّل، وفيها يلتقي الحبّ بالموت، والنار بالماء، والذات باللغة. 6- الخاتمة : القصيدة لا تروي حكايةً، بل تُعيد تشكيل الأسطورة الإنسانية الأولى: أسطورة الاحتراق بوصفه شرطًا للبعث. إنها تُعيد تعريف العلاقة بين الجسد واللغة، بين الأنثى والخلق، بين الصمت والنار. فالرّماد هنا ليس موتًا، بل عتبةٌ نحو المعنى، والرّمّان ليس ثمرةً، بل قلب العالم حين ينزف جمالًا. وبهذا، يُمكن القول: إن الرَّمادُ والرُّمّانُ هي قصيدةُ الانبعاث من الفناء قصيدةُ التحوّل من الألم إلى الخلق، ومن الوجع إلى لغةٍ تُنبت من رمادها جنائن رمزية لا تزول.
#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
)قراءة جديدة لقصيدة سابقة (
-
(مَجازُ الطِّين)
-
(صَهِيلُ النُّبُوءةِ)
-
(لا تُشْعِلْ مِلْحَكَ في الطِّين)
-
(سِفْرُ التَّبَدُّدِ)
-
(مارْشٌ، رَصاصَةٌ، أُفْعى، أَفْيونٌ)
-
(تجَلٍّ في المِرآة) (وَصَيْدُ عُرْيِ الرُّوحِ)
-
(القلق شعرية بين الرمز والتلقي والسيمياء - قراءة في قصيدة شل
...
-
(رَغبةٌ تُراوِغُ شكلَها)
-
(ماءُ الْآهِ)
-
(الجِهةُ البَاهِتةُ مِنَ الكَوْكب)
-
(في البدءِ كانتِ المدينةُ نارًا)
-
( الأَمَلُ: شَجرَةٌ )
-
(فِرَاقُ غَمَامَةِ الفَجْرِ)
-
(الجسد والمكان والزمن في رؤيا آلهة الطوفان: قراءة ثقافية تكا
...
-
(من الشكل إلى الدلالة: التأويل البصري والبنية التناصية في قص
...
-
( كَأَنَّنِي فِي مَجَازِ الكَوْنِ: أُغْنِيَةٌ)
-
(موجوعَةٌ قَدَمي، وكُلِّي أنا وَجَعُ)
-
(مِرْآةٌ فِي الرِّيحِ)
-
( غَيَّاب )
المزيد.....
-
لغة الدموع الصامتة
-
مصر.. عمر هلال يجمع أحمد حلمي وهند صبري في فيلم -أضعف خَلقه-
...
-
فنانة سورية تصبح سيدة نيويورك الأولى...من هي ؟
-
صوّر في طنجة المغربية... -الغريب- خلال استعمار الجزائر في قا
...
-
يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان
...
-
-صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان
...
-
انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل
...
-
رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
-
-المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن
...
-
موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية
...
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|