|
(الجسد والمكان والزمن في رؤيا آلهة الطوفان: قراءة ثقافية تكاملية في قصيدة -أنثى الرمّان- )
سعد محمد مهدي غلام
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 23:56
المحور:
الادب والفن
المقدمة: نحو قراءة ثقافية تكاملية
إنّ قراءة القصيدة الحديثة، خاصة تلك التي تحمل حمولة وجودية وأسطورية وبصرية مثل «أنثى الرمّان في رؤيا آلهة الطوفان» للشاعرة العراقية بشرى البستاني، تتطلب أكثر من مجرد تذوّق أدبي أو تحليل بلاغي سطحي. فهي نصّ شعري مركّب يتجاوز الحدود الفنية ليصبح فضاءً فكرياً وجودياً يفتح أبواباً متعددة أمام القراءة النقدية.
وفي هذا السياق تبرز الحاجة إلى منهج نقدي شامل يجمع بين:
- السيميائية (بارت، إيكو، غريماس) - النقد الثقافي (إيغلتون، سعيد) - نظرية الهيمنة (فوكو، غرامشي) - التحليل الجنسي/الثقافي للجسد الأنثوي (كريستيفا، الطباع)
القصيدة ليست فقط نصاً شعرياً، بل حدثاً ثقافياً يُعيد تمثيل العلاقة بين الجسد الأنثوي والأرض والتاريخ والفكر في زمن الخراب الكوني. إنها ليست استعارة بل شهادة وجود، حيث تُصبح الأنثى مركزاً لتقاطعات متعددة: جغرافية، تاريخية، فلسفية، فنية.
وتستند هذه القراءة إلى ما أسّسه أمبرتو إيكو حين يقول: "العلامة لا تشير إلى مرجع خارجي، بل تُنتج دلالتها من خلال شبكة العلاقات داخل النظام الثقافي واللغوي" (إيكو 1981: 45).
وهذا يعني أن الدلالة في النص الشعري المعاصر لا تُستخرج من العمق، بل تُبنى في لحظة التفاعل بين النص والقارئ، وبين النص والسياق الثقافي. فالنص ليس كياناً مغلقاً، بل شبكة من العلامات تتقاطع فيها الأسطورة والتاريخ والجسد والفلسفة والزمن لتُنتج خطاباً شعرياً مفتوحاً لا يُغلق بل يدعو القارئ إلى ملء فجواته.
ولذلك فإن هذه القراءة لن تقتصر على التوصيف أو التحليل الشكلي، بل تسعى إلى فكّ :بنية الهيمنة التي تستهدف الجسد الأنثوي، وتُعيد تشكيل المكان كجسد مشظّى، وتحوّل الفلسفة إلى أداة تفكيك ذاتي.
المحور الأول: الأنثروبولوجيا الثقافية للرمان (من الثمرة إلى الأسطورة) 1-الرمان: (كائن رمزي عبر الحضارات) ليس من قبيل الصدفة أن تختار الشاعرة بشرى البستاني "الرمان" كعنوان مركزي لقصيدتها، فالرمان ليس مجرد فاكهة، بل كائن رمزي حمل أعباء الثقافات عبر آلاف السنين. يقول بيرند برونر في كتابه الرمان: تاريخ وحكايات من حول العالم: "الرمان ليس مجرد فاكهة، بل كائن رمزي حمل أعباء الخصوبة، الموت، الإثم، والفداء عبر الحضارات."(1) فالرمان، في التقاليد اليونانية، يرتبط بأسطورة بيرسيفوني التي أكلت ست حبات منه، فقضت ثلث السنة في العالم السفلي، رمزًا للدورة الكونية/ الفصول الأربعة: الخريف/ الشتاء / الربيع/ الصيف. أما في التقاليد الإسلامية، فقد ورد الرمان في القرآن الكريم في ثلاث مواضع : "فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ". سورة الرحمن (الآية 68) "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۖ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". سورة الأنعام (الآية 99) "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۖ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". سورة الأنعام (الآية 141)
وتنسب أحاديث للنبي محمد غير متواترة عن الرمان: ما من رمانة إلا وفيها حبة من رمان الجنة، فإذا وقعت في معدة امرئ مسلم إلا أنارتها أربعين صباحاً". "كلوا الرمان فليس منه حبة تقع في المعدة إلا أنارت القلب وأخرجت الشيطان أربعين يوماً".
وعن علي بن أبي طالب ورد أنه قال: "أطعموا صبيانكم الرمان فإنه أسرع لألسنتهم".
وورد عنه أيضًا أنه قال: "كلوا الرمان بشحمه؛ فإنه دباغ المعدة".
وعن الإمام الصادق: ورد أن الإمام الصادق قال: "كلوا الرمان فليس منه حبة إلا أنارت القلب وأخرجت الشيطان أربعين يومًا".
لكن عند البستاني، يُقلب هذا الرمز رأسًا على عقب: فالرمان لا يُرمز إلى الجنة، بل إلى الجراح المتناثرة: "فَتَشَقَّقَتْ مِنْ حُبِّهَا عَنْ حَبِّهَا"
هنا، لا يُلدغ الجسد بالحب، بل ينفجر من الداخل. إنها ليست أمًّا، بل أرض تنفجر من حرقة الانتظار.
2- أنثى الرمّان: (من الخصوبة إلى التشظّي)
العنوان ذاته: "أنثى الرمّان"، يُحوّل الفاكهة إلى كائن حي، وأنثى إلى كيان أسطوري. فهي ليست "امرأة"، بل أسطورة حية، تجسّد دورة الحياة والموت، الخصوبة والخراب، الوطن والضياع.
يقول فراس السواح في القصص القرآني ومتوازياته التوراتية: "الأنثى في الأساطير الشرقية غالبًا ما تُربط بالأرض، باعتبارها مصدر الحياة، لكنها أيضًا مصدر الدمار حين تُجرح."(3) وهذا بالضبط ما يحدث: فالأنثى لا تُخلق، بل تُولد من جرح الأرض. وهي لا تُقتل، بل تُعاد ولادتها في كل مرة تشتعل فيها النيران.
3- الرمان كعلامة منزلقة: ( من الجسد إلى الوطن)
يقول رولان بارت: "الجسد في الشعر علامة بلا مدلول ثابت، مما يجعل جسد الأنثى في هذا النص دالًا منزلقًا دائمًا floating signifier، قابلًا لأن يُؤوّل كأرض، وطن، نهر، قارة، أو لوحة."(4) وهذا هو حال "أنثى الرمّان": فهي لا تُقرأ كفرد، بل كـ: - رمز للخصوبة - مرآة للوطن - جسد للأرض - ضحية للحرب - ملاذ للذاكرة
وهي بهذا المعنى، علامة كبرى تختزل هوية شعب بأكمله.
المحور الثاني: (الطوفان كبنية مضمرة بين جلجامش ورؤيا آلهة الطوفان)
1- أقدم قصة طوفان: ملحمة جلجامش: تُعدّ ملحمة جلجامش، وخاصة لوحة الطوفان الموجودة في مكتبة الملك آشور بانيبال في نينوى، من أقدم الوثائق المسجّلة عن الكارثة العالمية. وفيها، يُطلب من أتراحاسيس (أو أوتانابشتم) بناء سفينة لإنقاذ نفسه وحيواناته من الفيضان.
يقول النص: "اصنع السفينة، واحفظ بذرة الحياة البشرية!"(5) وهذا المشهد لا يُقرأ فقط كقصة نجاة، بل كنموذج ثقافي مُضمر يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والإله، وبين الذكر والأنثى، وبين الأرض والسماء.
في قصيدة البستاني، لا يأتي الطوفان كعقاب، بل كظاهرة كونية مستمرة تمثل الحرب، الاحتلال، والخراب. "في انْدِغَامِ الفُرَاتِ بِدِجْلَةَ فِي لَحْظَةٍ كَوْنِيَّةٍ، / عَلَى خَاصِرَةِ الجُرْحِ" هنا، يُصبح الطوفان حدثًا دائمًا، لا لمرة واحدة، بل كحالة وجودية.
2- الطوفان في الكتاب المقدس والقرآن:
في سفر التكوين، يُطلب من نوح بناء الفُلك لإنقاذ من آمن، بينما يُغرق الباقون. أما في القرآن الكريم، فيُذكر نوح عليه السلام بوصفه نبيًّا صابرًا: ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ (نوح: 5–6) لكن في قصيدة البستاني، لا يوجد نوح، ولا وعد بالنجاة. هناك فقط: "لحظة تفتح ذراعيها لمطلع خلاصٍ لا يخلُص"
هذه العبارة تُشكل صدمة ثقافية: فالخلاص ليس ممكنًا، بل مستحيل. وهذا ما يجعل القصيدة نقدًا وجوديًّاللوعود الثقافية والأسطورية.
3-الطوفان كطقس إعادة ولادة: في العديد من الثقافات، يُفهم الطوفان ليس ككارثة، بل كتطهير وإحياء. فالعالم يجب أن يُمحى ليُعاد بناؤه.
يقول فراس السواح: "الطوفان في الميثولوجيا الراقدية ليس نهاية، بل بداية. وهو يُعيد ترتيب الكون بعد الفوضى."(6)
لكن عند البستاني، لا تأتي الولادة الجديدة، بل تُرفض. فالأنثى لا تنجب، بل تشقّق. ولا تُنقذ، بل تُحرق.
"تذبل كفاكِ منكفئةً بإشعال الحريق" هنا، يُقلب الطقس رأسًا على عقب: لا ولادة، بل موت؛ لا نجاة، بل استباحة.
المحور الثالث: الجسد الأنثوي كموقع هيمنة ثقافية :
1-الجسد كمجال هيمنة: (قراءة فوكوية) يقول ميشيل فوكو: "السلطة لا تُمارس من أعلى إلى أسفل فقط، بل تُنتج في العمق، وتُرسّخ عبر الجسم."(7)
وفي القصيدة: "تذبل كفاكِ منكفئةً بإشعال الحريق" "يسخر من حواريّة باختين" "يُشظّيها بأصابعه جاك دريدا"
نلاحظ أن الجسد الأنثوي لا يُستهدف بالرصاص فقط، بل بالخطاب، النظرية، الفلسفة. فالطيار الأمريكي ليس مجرد جندي غازٍ، بل أداة لمشروع بصري هيمني، حيث يُصبح الجسد المشتعل مشهدًا مرئيًا تحت السيطرة. وهنا، تظهر ما يسميه فوكو بـ"الرؤية التصويرية للسلطة"، أي تلك الآلية التي تجعل الجسد قابلًا للقراءة، التصنيف، والتحكم. فالأنثى لا تُحرق فقط، بل تُرى وهي تحترق، وتُدرس وهي تشظى. في هذا السياق، فإن استدعاء الشاعرة لأسماء مثل دريدا، باختين، هايدغر ليس مجرد زينة ثقافية، بل دليل على أن العنف قد تسلل إلى أعماق الفكر نفسه. فالتفكيك لم يعد أداة تحرير، بل أداة تفتيت الذات.
"يُشظّيها بأصابيعه جاك دريدا" هذه الجملة الصادمة تقلب مفهوم "التفكيك" رأسًا على عقب. فالتفكيك، الذي كان يُفترض أنه يحرر النص من المركزية، يتحول هنا إلى فعل تمزيق جسدي. إنها ليست "كتابة"، بل تشريح ذاتي تُفرضه آليات الهيمنة.
يقول فوكو أيضًا: "الجسم هو الموقع الأول للسلطة، لأنه الوسيط بين الفرد والمجتمع."(8) وهذا بالضبط ما يحدث: الجسد الأنثوي يُحوّل إلى مجال خاضع، لا لأن العدو قوي، بل لأن الخطاب نفسه أصبح معادياً.
2- الجسد كفضاء سياسي:
يقول حسن حنفي: "الجسد في الخطاب الثقافي العربي لم يعد جسدًا بيولوجيًا، بل نصًّا يُقرأ ويُكتب عليه العنف."(9)
فالأنثى في هذا النص ليست موضوعًا للرؤية، بل موضوعًا للقراءة، وكل قارئ يقرأها من موقعه: - القارئ الذكوري قد يقرؤها كرمز للجمال المهدور - القارئ النسوي يقرؤها كجسد سياسي مستباح - القارئ العراقي يقرؤها كأرض الوطن المحترقة وهكذا، تتحول القصيدة إلى فضاء مقاومة، حيث يُعيد الجسد الأنثوي تشكيل نفسه في وجه هيمنة الحرب، الذكورة، والاستعمار الثقافي.
المحور الرابع: الهيمنة الثقافية عند غرامشي (عندما تُصبح الفلسفة سلاحًا)
1-الهيمنة الثقافية: ( قراءة غرامشية في بنية الموافقة)
إذا كانت قراءة فوكو تركز على السلطة/الجسد، فإن آنتونيو غرامشي يقدم لنا إطارًا أوسع: الهيمنة الثقافية Cultural Hegemony ، حيث لا تحافظ الطبقة المسيطرة على سلطتها بالقوة فقط، بل بإقناع الجماهير بقبول هيمنتها .
يقول غرامشي: "الدولة ليست فقط جهاز قمع، بل هي أيضًا موقع إنتاج للموافقة."(10)
في القصيدة، تُستخدم الفلسفة (باختين، دريدا، هايدغر) ليس لتحرير، بل لتبرير التفكيك . فالتفكيك لم يعد أداة تحرر، بل أداة تفتيت الهوية.
"يسخر من حواريّة باختين"
هنا، الحوارية التي تفترض تعدد الأصوات والانفتاح النصي تُسخر، فلا يحدث حوار، بل انقطاع. والقارئ لا يشارك في إنتاج المعنى، بل يُجبر على تقبل التشظي كـ"حقيقة فكرية". وهذا هو جوهر الهيمنة عند غرامشي: - العدو لا يغزو فقط، بل يُعيد تشكيل طريقة التفكير - يجعل الضحية تُصدق أن تفكيك ذاتها هو "تقدّم فكري" - يحوّل الجسد الأنثوي إلى مشارك في تفكيكه الذاتي
فالأنثى لا تُهزم بالسلاح، بل بالنظرية. وهي تُقتل ليس فقط بالرصاص، بل بالكلمة.
يقول عبد الله الغذامي: "النص المعاصر لا يبني معنى، بل يبني قارئًا. وهو لا يُسأل: ماذا قال الشاعر؟ بل: ماذا فعل بك النص؟(11) وفي هذه القصيدة، يُبنى قارئٌ يعرف أن الفلسفة قد تُستخدم كسلاح، وأن الجمال قد يكون وجهًا للدمار.
المحور الخامس: الجندر كبناء ثقافي ( من التشييء إلى المقاومة)
1-الجندر ليس جسدًا، بل خطاب:
لا يُفهم الجندر في قصيدة "أنثى الرمّان" كهوية بيولوجية، بل كبناء ثقافي يُشكّله الخطاب. فالأنثى لا تكون أنثى بفعل جسدها، بل بفعل الطريقة التي يُنظر بها إليها، والطريقة التي تُكتب بها في السياقات الثقافية المختلفة.
تقول جوليا كريستيفا: "الجسد الأنثوي في النص الحديث ليس جسدًا بيولوجيًا، بل حقل دلالي يُعاد فيه تعريف الهوية، التاريخ، والسلطة."(12)
وفي القصيدة، يُبنى الجسد الأنثوي عبر شبكة من العناصر: - الأسطورة (أنثى الرمّان) - الحرب (الطيار الأمريكي) - الفلسفة (دريدا، هايدغر) - الفن (ماتيس، سيورا)
فهي لا تُخلق، بل تُكتب عليها السلطة. ولذلك، فإن كل فعل ضد الجسد هو فعل ضد الهوية.
يقول نضال الطباع: "الشعر النسوي العربي الحديث لا يُعيد تمثيل المرأة، بل يُعيد تشكيلها كموضوع مقاومة."(13)
وهذا ما يحدث: فالأنثى لا تُصور كضحية، بل كشاهد وجودي، تقف عارية أمام آلهة الطوفان، لا لتنجو، بل لترى.
2-من التشييء إلى المقاومة: (تحوّل الدلالة)
القصيدة تُظهر تحوّل الجسد من موضع فعل إلى فاعل مقاومة:
- في البداية: "تذبل كفاكِ" - في المنتصف: "تقوّس قلبها في رحلة الرمّان" - في النهاية: "أنا: من تحتوي الزمان"
هذا التحوّل هو انتصار سيميائي، حيث ترفض الأنثى أن تكون "مُشاهَدة"، وتُعلن أنها القارئة، المُنتجة، والمُمسكة بالكلمة.
"أنا: من تحتوي الزمان"
هذه الجملة لا تقول: "أنا ضحية"، بل: "أنا مركز الكون". إنها استرجاع للذات بعد التشظي.
يقول حسن حنفي: "الجماليات في زمن الكارثة لا تكون في الزينة، بل في البقاء."(14)
وهكذا، فإن المقاومة لا تكون بالسلاح، بل بالاستمرار في القول.
3-الجندر والسيميائية: (الجسد كنصّ مفتوح)
يقول رولان بارت: "النص لا يُغلق، بل يدعو القارئ إلى المشاركة."(15)
وهو ما يتحقق في هذه القصيدة: فالجسد الأنثوي ليس نصًّا مغلقًا يمكن قراءته بطريقة واحدة، بل نصًّا مفتوحًا، يتحوّل حسب موقع القارئ.
- من يرى في "الرمان" فاكهة؟ - ومن يراه أسطورة؟ - ومن يقرأ "دجلة" كنهر؟ - ومن يقرؤه كروح أمّ متألمة؟
الجسد هنا لا يُملك، بل يُتنازع عليه دلاليًّا، وهو ما يجعل منه مجال مقاومة دائم.
المحور السادس: (الأنساق المضمرة في التمثلات الثقافية)
1-كيف تُبنى الصورة النسوية في الخطاب الثقافي؟
الأنثى في الخطاب الثقافي العربي الحديث لا تُبنى من الداخل، بل تُشكل من الخارج عبر بنى ثقافية عميقة ومضمرة، تعمل خلف الوعي، وتُنتج صورتها عبر:
| المصدر | الصورة المنتجة | |--------|----------------| | الأسطورة | الأنثى كأرض/أم/مغتصبة | | الدين | الأنثى كعورة/مُغوية/مظلومة | | الفلسفة | الأنثى كموضوع للتفكيك | | الحرب | الأنثى كجسد محترق |
وهذه الأنساق لا تعمل بشكل منفصل، بل تتداخل لتُنتج صورة مضمرة: الأنثى = الجرح المستمر
فالأنثى ليست فقط تُحارب، بل تُبنى كضحية دائمة، حتى قبل أن تحارب. 2- الأنساق المعرفية المضمرة:
تُنتج الثقافة العربية الحديثة صورة نسوية تقوم على ما يسميه عبد الكريم بكاربـ"الأنساق المضمرة"، أي تلك البُنى المعرفية التي لا تُعلن نفسها، لكنها تُوجه التفكير.
يقول بكار: "النص الثقافي لا يقول كل شيء، بل يُخفي أكثر مما يُعلن. والأنساق المضمرة هي ما يُوجّه القراءة قبل أن تبدأ."(16)
في القصيدة، نرى هذا جليًّا: - لا يُقال صراحة: "الأنثى هي الوطن" - لكن كل رمز يقود إلى ذلك - لا يُذكر "العراق" باسمه - لكن دجلة، شط العرب، ابن الفارض... كلها دلائل مضمّرة
وهكذا، تصبح القصيدة نصًّا مضمرًا، يعمل في العمق، ولا يُعلن نفسه إلا لمن يعرف اللغة الثقافية.
3-من التمثيل إلى إعادة التشكيل:
لكن الشاعرة لا تتوقف عند التمثيل، بل تُعيد التشكيل. فهي لا تسأل: "كيف يُنظر إلى المرأة؟"، بل: "كيف يمكن أن تُعيد المرأة النظر في ذاتها؟"
وهنا، تنتقل من كونها تمثيلاً إلى أن تصبح مُشكّلة. من أن تكون مكتوبة عليها إلى أن تصبح كاتبة.
"أنا: من تحتوي الزمان"
هذه الجملة هي انقلاب كامل في البنية الثقافية: - من "تُرى" إلى "تُرى وهي ترى" - من "تُقرأ" إلى "تُقرأ وهي تقرأ" - من "تُكتب عليها" إلى "تكتب هي"
المحور السابع: السيميائية الشاملة ( شبكة العلامات في القصيدة)
1-دجلة كعلامة مركّبة: من النهر إلى الكائن الوجودي:
يتحول دجلة من معلم جغرافي إلى كائن رمزي، يُذكّر بالنهر في الأساطير المؤسسة (كنهر الغانج أو الفرات الأسطوري)، ويتجلى بوصفه:
- تارةً قنديلاً - وتارة جمرةً - وتارة خيطًا نافراً
ما يمنحه دلالة مركبة: - الذاكرة - الوطن - الحنين - الانطفاء
يقول غاستون باشلار: "المكان في الشعر ليس خلفية، بل فاعل دلالي؛ يُنتج معنى التيه، الاختيار، أو العجز عن الاختيار."(17)
وهو ما يتحقق في القصيدة، حيث لا يُذكر دجلة كنهر، بل كروح: "دجلة يتطيّر من غروبٍ يحتويها" "دجلة قنديلٌ يُصلّى، دجلة جمرةٌ تشتعل"
هنا، يصبح النهر جسدًا ميتافيزيقيًّا ، يحمل أوجاع الأمة، وحرق الجذور. إنها ليست هوية جغرافية، بل كينونة متألمة.
2-الحديقة، الباب، المبغى: (بنية الخراب)
تُستخدم هذه الرموز الثلاثة لتكوين مشهد متكامل للخراب:
| العلامة | الدلالة | |--------|--------| | الحديقة | الجنة الأولى — الطهر المؤسس | | الباب | العتبة الوجودية — نقطة العبور | | المبغى | التشييء — فقدان المعنى — الاستباحة |
إنها بنية سيميائية تُعيد تمثيل سقوط الإنسان العربي من الطهارة إلى الاستباحة، من الجنة إلى المبغى. فالحديقة لم تعد مكانًا للنعيم، بل مجالًا للجراح: "تدخل الحدائقَ صالةَ أساهَا كي تضمدها بجروح القدّاح"
هنا، يُقلب المعنى رأسًا على عقب: فالجراح لا تُداوى، بل تُستخدم كدواء. وهذا ما يسميه بول ريكور بـ"العلاج بالجرح"، حيث يُصبح الألم نفسه مصدر الشفاء.
3- النار، اللبلاب، ميلودي: (علامات حسّية متداخلة)
تظهر في القصيدة علامات حسّية عميقة، تتجاوز الوصف إلى التأثير:
- النار: لا ترمز فقط إلى الحرق، بل إلى الرؤية الهيمنية، وإلى الدمار المفروض - اللبلاب: لا يُقرأ كنبات، بل كيد اختناق تُطبق على المدينة - ميلودي: لا تعني "لحنًا"، بل نداءً متكررًا من داخل الذاكرة، كأنه صوت مفقود يحاول العودة
"مِيلُودِي، مِيلُودِي، مِيلُودِي / فِي غَفْوَةِ الرُّمَّانِ بِظِلِّ نَخْلَةٍ عَلَى سَاعِدِ شَطِّ العَرَبِ…"
التكرار هنا ليس زينة، بل تكرار تنافري، يُشعر بالضياع، والانفصال، والانزياح : إنه تدمير للأفق المتوقع.
4-النخلة، شط العرب، دم الجرح: (مثلث الهوية)
النص يُشكّل مثلثًا رمزيًّا محوريًّا:
| العلامة | الدلالة | |--------|--------| | النخلة | الصمود، الجذور، الثبات | | شط العرب | الهوية، الأرض، الحدود | | دم الجرح | المعاناة، التاريخ، الفقد |
وهذا المثلث هو مركز الهوية العربية ، الذي يُستهدف في القصيدة، لا بالسلاح فقط، بل بالتشويه الدلالي.
خاتمة : ( أنثى الرمّان كعلامة كبرى)
"أنثى الرمّان" ليست شخصية، بل علامة سيميولوجية كبرى تُجسّد نسيج الهويات الممزقة، وتختزل أوجاع الأرض في صورة امرأة تقف عارية أمام كل آلهة الطوفان.
القصيدة لا تتعامل مع الزمن كخط مستقيم، بل ككائن حي ينمو، يتجدد، ويعاني. إنها شبكة معقدة بين:
- الزمن الداخلي (الانتظار، التوجس) - الزمن الخارجي (اللحظة المظلمة، الخيانة)
ليصنع معجمًا شعريًا يعكس . الصراع الأزلي بين الأمل واليأس، وبين الفعل والتوقف. والشاعرة لا تقدم حلولًا، بل تطرح السؤال الوجودي: كيف نبقى إنسانًا في زمن الطوفان؟
الإجابة: بقول الكلمة الأخيرة. بتحويل الخطيئة إلى وشم. وبالوقوف عارية، دون أن تنكسر.
فالقصيدة ليست استعارة، بل شهادة وجود، حيث تُصبح الأنثى مركزًا لتقاطعات متعددة: جغرافية، تاريخية، فلسفية، فنية. وهي بذلك تُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد الأنثوي، الأرض، التاريخ، والفكر في زمن الخراب الكوني.
الهوامش / المراجع :
1. إيكو، أمبرتو، نظرية السيميائيات. ترجمة: سامي الدروبي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1981. 2. برونر، بيرند، الرمان: تاريخ وحكايات من حول العالم، ترجمة: سمر منير، القاهرة: دار العربي للنشر والتوزيع. 3. السواح، فراس. القصص القرآني ومتوازياته التوراتية: أساطير الأولين، بيروت: دار التنوير، 2017. 4. فوكو، ميشيل، المراقبة والمعاقبة: نشأة السجن، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992. 5. فوكو، ميشيل ،تاريخ الجنسانية 1: إرادة المعرفة. ترجمة: علي عبد الملك بيروت: دار التنوير، 1997. 6. غرامشي، أنطونيو، مفكرات السجن ، ترجمة: فايز الصيّاغ. بيروت: دار الساقي، 2009. 7. بارت، رولان ، نظام الموضة. ترجمة: فتحية الزهراء، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000. 8. بارت ، رولان ، متعة النص. ترجمة: هدى وجيه ،بيروت: دار الآداب، 1998. 9. غريماس، ألفونسو، في المعنى 2: مقالات سيميائية ترجمة: عبد السلام المسدي ، تونس: دار الجنوب، 1993. 10. كريستيفا، جوليا ثورة الشعرية، ترجمة: محمد برادة. بيروت: دار التنوير، 1985. 11. الطباع، نضال، الجسد الأنثوي في الشعر العربي الحديث: بين التحرير والتمثيل ، عمان: دار الفرسان، 2016. 12. حنفي، حسن، الفقر والثورة الثقافية ،القاهرة: دار الشروق، 1980. 13. الغذامي، عبد الله ، القراءة العربية: نظرية النص، الرياض: دار الثقافة، 1994. 14. بكار، عبد الكريم ،نحو جمالية التلقي ، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1998. 15. باشلار، غاستون ، شعرية الفضاء، ترجمة: محمد حبيب. دمشق: دار المدى، 1992. 16. ريكور، بول ،الزمن والسرد الجزء الأول ، ترجمة: طه عبد الرحمن، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1995. 17. ملحمة جلجامش، لوحة الطوفان، مكتبة آشور بانيبال، نينوى. 18. الكتاب المقدس، سفر التكوين، الفصل 6–9. 19. القرآن الكريم 20.البستاني، بشرى. "أنثى الرمّان في رؤيا آلهة الطوفان". صحيفةالمثقف الإلكترونية ،12/9/2025.
#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(من الشكل إلى الدلالة: التأويل البصري والبنية التناصية في قص
...
-
( كَأَنَّنِي فِي مَجَازِ الكَوْنِ: أُغْنِيَةٌ)
-
(موجوعَةٌ قَدَمي، وكُلِّي أنا وَجَعُ)
-
(مِرْآةٌ فِي الرِّيحِ)
-
( غَيَّاب )
-
(نظرية القراءة وجمالية التلقي لقصيدة -أنثى الرمّان في رؤيا آ
...
-
(فقط شَهْوَة)
-
(حين تنقر الزنابق شبابيك الخريف يشتعل الرُّضاب حتى وإن كان ف
...
-
(أَحْلَامُ صَعْلُوكٍ)
-
(حُلْمُ النُّهوض)
-
4//الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا
-
3//الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا
-
(المدينة التي تأكل خيالها)
-
2//الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا
-
(على تخوم الشَّمال ومَراتِع الخُزامى: نَزْوة)
-
1//الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا
-
(سيميولوجيا الأهواء وتجلياتها في قصيدة -أنثى الرمّان وآلهة ا
...
-
(هَلْ مُمْكِنٌ؟)
-
(قبسات من وجهها في الليل المتحرك:تواقيع شوارِد سماء رصاصية)
-
(مجازُ الانطفاءِ العظيم)
المزيد.....
-
لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص
...
-
صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت
...
-
أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
-
الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
-
تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
-
رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و
...
-
الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة-
...
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|