أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. إمكانيات وتحديات نموذج المقاطعة الشاملة في مشروع التغيير















المزيد.....

6. إمكانيات وتحديات نموذج المقاطعة الشاملة في مشروع التغيير


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 20:47
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


المقاطعة الشاملة هي عملية نفيٍ مادي تتجاوز حدود الرفض إلى إنتاج شروط واقعٍ جديد، حيث يتحول تعطيل آليات السيطرة إلى فعل تأسيسٍ لبدائلها. فمن داخل الانسداد التاريخي الذي راكمته الدولة البرجوازية التابعة، تنشأ لحظة الوعي بضرورة الانتقال من مقاومةٍ مشتتة إلى ممارسةٍ ثورية تعيد تعريف العلاقة بين المنتجين والسلطة، وتفتح أفقًا لتجاوز الإصلاحات الشكلية التي لم تفعل سوى إعادة إنتاج البنية الطبقية في أشكالٍ جديدة من التبعية والتفتيت. من هنا، تصبح المقاطعة الشاملة لحظةَ انقطاعٍ جدليٍّ مع النظام القائم، تنفي شرعيته السياسية وتفتح في الوقت ذاته أفقاً لبناء سلطة جديدة من الأسفل. في هذا المسار، تتطور العملية من المقاطعة إلى اللاحكومة، ومن اللاحكومة إلى السلطة المزدوجة، وصولاً إلى الثورة بوصفها التحول النوعي في بنية السيطرة الطبقية.

لكن هذا المسار يواجه تحديات مادية وتنظيمية وأيديولوجية معقدة. فالقمع العسكري هو أداة الدولة الأخيرة للحفاظ على تراكم رأس المال، إذ تلجأ السلطة إلى العنف المباشر حين تفقد شرعيتها الأيديولوجية. الاعتقالات، قطع الاتصالات، عسكرة المدن، وتفكيك البنى الشعبية ليست سوى محاولات لردّ الجماهير إلى حالة العجز والانعزال. غير أن العنف لا يوقف العملية الجدلية، بل يعمّق وعي الجماهير بطبيعة الدولة كجهاز قمع طبقي. كل ضربة قمع تخلق طاقة مقاومة جديدة، وتكشف بصورة أوضح التناقض بين المجتمع الحي والجهاز الميت الذي يدّعي تمثيله.

أما ضعف التنظيم الثوري، فيشكّل معضلة بنيوية. فالمقاطعة العفوية، مهما اتسعت، تبقى محدودة ما لم تجد أداةً تنظيريةً وقياديةً قادرة على توحيد مسارها الطبقي. التنظيم هنا لا يعني البنية الهرمية الجامدة، بل شبكة طليعية مرنة تمتلك القدرة على استيعاب المبادرات المحلية وتوحيدها ضمن أفق جدليّ واحد. هذه الشبكة ليست سلطةً فوق الجماهير، بل عقلها الجمعيّ، وذاكرتها التاريخية التي تمنع الانقطاع بين النفي والبناء. فالمقاطعة التي لا تنتج تنظيماً واعياً تتحول إلى دورة غضبٍ متكررة، بينما التنظيم الثوري يمنحها مضمونها الطبقي واتجاهها التحرري.

في المقابل، ينشأ خطرٌ داخلي يتمثل في البيروقراطية، حين تتحول المؤسسات الشعبية الناشئة إلى أجهزةٍ منفصلة عن قاعدتها. كل تجربة حكمٍ موازٍ تحمل بذور انحرافها في ذاتها إن لم تُحاصر من الأسفل بآليات رقابةٍ شعبية ومساءلةٍ مباشرة. الثورة ليست مجرد إقامة مؤسسات جديدة، بل استمرار في نفي كل أشكال التمركز داخل هذه المؤسسات. فحين تنفصل القيادة عن القاعدة، يتحول جهاز التحرر إلى أداةٍ جديدةٍ للهيمنة. الحفاظ على الطبيعة الجماعية للقرار شرط لبقاء الثورة حيّة، والمجالس القاعدية هي الضمانة الوحيدة لعدم إعادة إنتاج الاغتراب. ويمكن لهذه الآليات أن تتجسد في لجان رقابة قاعدية، وجلسات تقييم دورية مفتوحة، ومحاسبة مباشرة للمسؤولين أمام قواعدهم دون وساطة بيروقراطية.

كما أن الانقسامات الطبقية الداخلية تمثل تحدياً حقيقياً في المجتمعات التابعة. فالبرجوازية الصغيرة، التي تتأرجح بين الثورة والنظام، تحاول دوماً تحويل المقاطعة إلى إصلاحٍ اقتصادي أو خطابٍ أخلاقي منزوع المضمون الطبقي. إعادة توجيه هذه الفئات نحو خط الصراع الحقيقي تتطلب حسمًا سياسيًا وفكريًا ضد كل نزعة وسطية أو تصالحية. فالثورة لا تُبنى على الإجماع، بل على وضوح التناقض بين العمل ورأس المال، بين المنتجين والمستحوذين. بهذا المعنى، المقاطعة ليست معركة الجميع، بل معركة الطبقات المنتجة ضد من يحتكرون وسائل الإنتاج والثروة.

ويُضاف إلى هذه التحديات البعد الأيديولوجي، المتمثل في الوعي الزائف الذي تنتجه أجهزة الدولة والمجتمع البرجوازي. الإعلام الرسمي والدين المؤدلج والقومية الزائفة يعملون معاً على تحويل الصراع الطبقي إلى نزاعاتٍ هووياتية، وتشتيت الغضب الشعبي في مساراتٍ وهمية. كسر هذا الوعي لا يتم عبر الخطاب التنويري المجرد، بل عبر تربية سياسية ثورية تعيد تعريف الهوية بوصفها موقعاً في عملية الإنتاج لا انتماءً ثقافيًا أو إثنيًا. المعرفة الثورية هنا ليست محايدة، بل سلاح صراعٍ في خدمة الممارسة، والتعليم الشعبي يتحول إلى مدرسةٍ يوميةٍ للوعي الطبقي.

ومع التحول الرقمي، تدخل المقاطعة مرحلةً جديدةً من إمكانيات الفعل. المقاطعة الرقمية، والتحويلات المجتمعية، والاقتصاد الشعبي الإلكتروني، كلها أدوات تفكّ الارتباط عن النظام المالي الرسمي وتخلق فضاءاتٍ مستقلة لتبادل القيمة. المقاطعة لم تعد محصورة في الأسواق المادية، بل صارت سلاحاً في الفضاء الافتراضي، حيث يمكن تعطيل تدفقات رأس المال الرمزي والمعلوماتي التي تغذي سلطة الشركات والدولة. هكذا يتحول المجال الرقمي إلى ساحةٍ جديدةٍ للصراع الطبقي، وتغدو التكنولوجيا أداة تحررٍ حين تُستخدم لبناء شبكات تضامنٍ لا مركزية تتجاوز حدود الدولة الوطنية.

في هذا الإطار، يمكن تصور المراحل الانتقالية للمقاطعة عبر ثلاث محطات مترابطة: أولاً، مرحلة التأسيس، حيث تثبت المؤسسات الشعبية قدرتها على إدارة الخدمات الأساسية. ثانياً، مرحلة التوسع، حيث تنتشر هذه النماذج وتتصل بشبكات أوسع. ثالثاً، مرحلة السيادة، حين تتحول من إدارة القطاعات إلى إدارة المجتمع ككل، أي من سلطة موازية إلى سلطة بديلة. ويتطلب هذا الانتقال مواجهة ثلاث معضلات عملية: أولاً، بناء تحالفات طبقية راسخة تتجاوز التحالفات التكتيكية المؤقتة. ثانياً، تطوير آليات تمويل ذاتي تحقق الاستقلال المالي عن النظام الرأسمالي. ثالثاً، خلق أشكال تنظيمية مرنة تجمع بين المركزية في التخطيط واللامركزية في التنفيذ. هذه المراحل لا تتبع تسلسلاً زمنياً جامداً، بل تتداخل وتتفاعل بحسب توازن القوى الطبقية وسيرورة الوعي والتنظيم.

في السياق السوداني، تجسدت هذه العملية في فترات المقاطعة والعصيان التي شهدت نشوء نوى حكمٍ ذاتيٍ شعبيٍ، من لجان المقاومة إلى المجالس الميدانية. انتزعت الجماهير مساحات متزايدة من الاستقلال عن الدولة، وأدارت شؤونها في ظل فراغ السلطة الرسمي. واجهت هذه التجارب محاولات قمعٍ عنيفة من النظام، لكنها تركت أثراً لا يُمحى في الوعي الجمعي حول إمكانية ممارسة السلطة من القاعدة. وما زال التحدي الأكبر يتمثل في تحويل هذه التجارب المبعثرة إلى مشروع تحرري موحد، قادر على مواجهة تحالفات النظام الإقليمية والدولية، وبناء اقتصاد مقاوم يحقق القطع النهائي مع التبعية.

إن التجربة التاريخية تؤكد أن الثورة ليست حدثاً لحظياً، بل سيرورة تراكمية. كل موجة مقاطعة تخلق وعياً جديداً، وكل تجربة تنظيم تترك تراثاً نضالياً، وكل هزيمة تزرع بذور الانتصار القادم. فالمقاطعة الشاملة ليست امتناعاً عن الفعل، بل بناء لقوة جديدة للفعل، حيث يتحول الامتناع إلى ممارسة، والمقاومة إلى سلطة، والنفي إلى خلق. في هذا المعنى العميق، تصبح المقاطعة نواة الثورة المقبلة، مختبر المجتمع الجديد، وإعلاناً مبكراً عن موت النظام القديم.

"التحرر ليس امتناعًا عن الفعل، بل بناء قوة جديدة للفعل."
فرانز فانون.

بنهاية هذه السلسلة، تتكشف المقاطعة الشاملة كاستراتيجية ثورية متكاملة. انتقلنا من تحليل الدولة البرجوازية كأداة طبقية، إلى كشف آليات تفكيك شرعيتها عبر المقاطعة، ثم إلى ولادة السلطة الشعبية الموازية، فتحول العصيان إلى إضراب سياسي شامل، وصولاً إلى الجدلية الثورية بين النفي والبناء.

المقاطعة الشاملة، في قراءتها الماركسية، ليست تكتيكاً احتجاجياً عابراً، بل عملية تحول جذري في بنية الصراع الطبقي. من رحم الرفض ينبثق البناء، ومن عمق الأزمة تولد البدائل. ليست مجرد امتناع عن الاستهلاك، بل ممارسة يومية لسلطة المنتجين.

لقد بيّنت السلسلة أن طريق التغيير الثوري يمر عبر تفكيك شرعية الدولة البرجوازية من خلال المقاطعة الشاملة، وخلق فراغ السلطة بوصفه لحظة اللاحكومة ومساحةً للتنظيم الذاتي، وبناء مؤسسات السلطة المزدوجة من القاعدة كأشكالٍ أوليةٍ للسلطة الشعبية الجديدة. كما أوضحت أن العصيان، حين يبلغ ذروته، يتحول إلى إضرابٍ سياسيٍ شامل يُعيد تعريف السلطة نفسها، وأن تجاوز التحديات لا يتم إلا عبر الوعي الجدلي والتنظيم الثوري القادر على تحويل الرفض إلى مشروع تحرري.

هكذا تتحول المقاطعة من فعل مقاومة إلى فعل تأسيس، ومن أداة ضغط إلى استراتيجية تغيير، ومن ممارسة ظرفية إلى عمليةٍ ثوريةٍ مفتوحة على أفقٍ دائم التجدد.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 5. الديالكتيك الثوري: التفاعل الجدلي بين تفكيك القديم وبناء ...
- 4. العصيان الشامل: من الفعل الأخلاقي إلى الإضراب السياسي وبد ...
- 3. من الفعل الشعبي إلى السلطة الموازية
- 2. صناعة الأزمة: المقاطعة الشاملة كأداة تفكيك الدولة الطبقية ...
- الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1
- أسئلة بلا طبقة
- 14. التنظيم الثوري وبناء الحزب الجديد: من النظرية إلى الممار ...
- 13. نحو ماركسية سودانية جديدة: الدروس العالمية والتأسيس النظ ...
- 12. البيئة والمناخ: الإمبريالية الخضراء والعدالة المناخية
- 11. الثقافة والأدب في السودان: جبهات الصراع الإيديولوجي
- 10. الإعلام والوعي الزائف: آليات الثورة المضادة في السودان
- 9. الهوية والدين: أسلحة الطبقة الحاكمة في السودان
- 8. التبعية والصراع الإمبريالي: الديناميكيات الإقليمية والدول ...
- 7. العنف المضاد للثورة: تشريح جهاز الدولة البورجوازي
- 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة الع ...
- 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...


المزيد.....




- محمد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ي ...
- المتحف الكبير.. بين تلميع الفرعون وصناعة الهوية (1-2)
- حرية الصحافة بالمغرب: تكميم وخنق واعتقال
- مشروع قانون التعليم العالي بين: رهان خوصصة الجامعة وتطلعات م ...
- الشباب قيود الأخلاق التقليدية وما تتيحه التكنلوجيا الحديثة م ...
- أوقفوا هجمات ترامب على فنزويلا وأمريكا اللاتينية: بيان المكت ...
- أكثر من عام رهن الحبس الاحتياطي.. تجديد حبس أشرف عمر 45 يومً ...
- رسالة أوجلان.. كيف تؤثر على العملية السياسية في تركيا؟
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- زهران ممداني: شيوعي معادي للسامية؟


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. إمكانيات وتحديات نموذج المقاطعة الشاملة في مشروع التغيير