أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 4. العصيان الشامل: من الفعل الأخلاقي إلى الإضراب السياسي وبداية السلطة البديلة















المزيد.....

4. العصيان الشامل: من الفعل الأخلاقي إلى الإضراب السياسي وبداية السلطة البديلة


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8513 - 2025 / 11 / 1 - 08:51
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


العصيان الشامل هو الذروة الجدلية لمسار المقاطعة الثورية، اللحظة التي تتجاوز فيها الجماهير حدود الرفض إلى بناء القوة المادية القادرة على شلّ جهاز الدولة البرجوازية من الداخل. المقاطعة الثورية تعطل حركة رأس المال في السوق، أما العصيان الشامل فيوقف دوران الدولة في حياتها اليومية، في الإدارات والمصانع والموانئ والمصارف ووسائل النقل. الامتناع الجماعي هنا ليس انسحاباً من الفعل بل ولادة لفعله الأعلى، فعل التأسيس. حين يتوقف العمل المأجور وتنقطع الطاعة وتتعطل آليات الإنتاج، لا يُصاب النظام بالشلل فحسب، بل تنكشف بنيته على حقيقتها: جهاز قهرٍ لا يقوم إلا على استمرار الخضوع اليومي للطبقة المنتجة.

الانهيار اليومي للدولة البرجوازية هو لحظة اكتمال أزمتها البنيوية. الدولة لا تسقط حين تواجه العقوبات أو تتعرض للضغط السياسي، بل حين تعجز عن إعادة إنتاج علاقات السيطرة التي تحفظ هيمنتها. الأزمة حين تبلغ هذا الحد تتحول من ظرف سياسي إلى واقع مادي، ومن اضطراب إداري إلى انهيار في بنية السيطرة الطبقية نفسها. عند هذه النقطة يتحول العصيان من تكتيك احتجاجي إلى استراتيجية ثورية، إذ يفقد النظام قدرته على فرض الطاعة ويبدأ المجتمع المنتج في ممارسة سيادته الفعلية. هذه ليست مجرد أزمة شرعية سياسية، بل لحظة انكشاف البنية الطبقية بكامل تناقضاتها، حين تتقدم الجماهير لتعيد تنظيم الحياة وفق مصالحها المباشرة لا وفق منطق تراكم رأس المال.

العصيان المدني الليبرالي يظل محصوراً في أفق الضمير والأخلاق الفردية. هو يستنكر الظلم دون أن يمس مصدره، يطالب بالاعتراف دون أن يغيّر علاقات القوة التي تنتج الاضطهاد. التناقض الجوهري فيه أنه يناشد الدولة كي تُصلح نفسها، بينما الدولة هي الأداة التي تضمن استمرار الاستغلال. في المقابل، العصيان الشامل ينطلق من الوعي بأن الدولة ليست كياناً أخلاقياً، بل مؤسسة طبقية تُعيد إنتاج التبعية عبر القانون والإيديولوجيا والاقتصاد. الصراع ليس بين قيم أو ضمائر، بل بين مصالح طبقية متناقضة في موقعها من الإنتاج والثروة. لذلك فالعصيان الشامل لا يطلب من السلطة أن تُصلح ذاتها، بل يسحب منها إمكانية الوجود نفسها.

الإضراب السياسي هو الوجه العملي لهذا التحول الجدلي. حين يتوقف الإنتاج، حين تُغلق المصانع والمصارف والمرافئ، حين يتوقف التعليم والنقل والإدارة، يتعرّى جوهر الدولة. السلطة التي تبدو مطلقة تفقد وجودها المادي بمجرد أن يرفض المنتجون أداء وظائفهم. العمل هو ما يصنع الدولة، والطاعة اليومية هي ما يبقيها. كل توقف جماعي عن العمل إعلانٌ بأن الجماهير تملك القوة التي تصنع التاريخ، وأن الاقتصاد نفسه يمكن أن يتحول من أداة هيمنة إلى ساحة تحرر. في هذه اللحظة لا يكون الإضراب مجرد وسيلة احتجاج، بل لحظة انتقال القوة من الطبقة المالكة إلى الطبقة المنتجة، من الدولة إلى المجتمع.

هذا التحول لا يكتمل من تلقاء ذاته. الوعي العفوي، مهما بلغ عمقه، يبقى مهدداً بالاحتواء أو القمع أو التشتت. لذلك يصبح التنظيم الثوري ضرورة تاريخية. ليس تنظيماً بيروقراطياً يفرض وصايته من فوق، بل شبكة تنسيقية تولد من قلب الجماهير وتنظم تفاعلاتها في الأحياء والمصانع والقرى. لجان المقاومة، النقابات المستقلة، الاتحادات القاعدية، كلها تشكل البنية المادية التي تحفظ استمرارية العصيان وتمنحه شكله الواعي. في هذا التنظيم تتجسد وحدة النظرية والممارسة، فيتحول الفعل الجماعي من رد فعل على القمع إلى فعل منتج للبديل. التنظيم هنا هو الذاكرة الحية للثورة، يربط بين الحراك الآني والمشروع التاريخي، ويمنع الانحراف نحو التسويات أو العزلة.

حين تحتكر الدولة وسائل العنف وتستخدمها لحراسة مصالح الطبقة المالكة، يظهر العنف الثوري كحقيقة مادية لا كخيار أيديولوجي. الدفاع عن التنظيم الذاتي للجماهير ليس عنفاً، بل ممارسة للحق الطبيعي في البقاء. العنف في المنظور الماركسي ليس فعلاً أخلاقياً بل ضرورة تاريخية؛ هو الأداة التي تكسر الحلقة الحديدية التي تربط العمل بالاستغلال. ماركس وصفه بأنه القابلة التي تلد المجتمع الجديد، أي تلك القوة التي ترافق المخاض التاريخي بين نظامين متناقضين. تحطيم أجهزة السيطرة ليس انفعالاً بل فعل وعي منظم، يهدف إلى فتح الطريق أمام ولادة علاقات إنتاج جديدة أكثر عدلاً وإنسانية.

في السودان، تتجسد هذه المعادلة في أوضح صورها. الأزمة لم تعد ظرفاً سياسياً، بل واقعاً وجودياً. الدولة فقدت قدرتها على أداء وظائفها دون طاعة المنتجين. كل إضراب في المصارف والمواصلات والتعليم، كل توقف عن العمل أو الخدمة، هو إعلان عملي بأن المجتمع يمكنه أن يسير نفسه دون الدولة البرجوازية. هذه اللحظات التي يدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم هي البذور الأولى للسلطة الجديدة. لجان الأحياء التي تنظم توزيع الغذاء والماء، النقابات التي تضع خطط التعليم والخدمات، المجالس التي تدير الأمن الذاتي، كلها تشكل نسيجاً مادياً لسلطة بديلة تمارس سيادتها من الأسفل، من قلب العمل الجماعي. هنا يتحول العصيان من وسيلة ضغط إلى ممارسة حكم، من نفي السلطة القديمة إلى تأسيس سلطة جديدة.

جدلية التحول من العصيان إلى السلطة البديلة تقوم على هذا الانتقال نفسه. الإضراب السياسي حين يتسع وينتظم ويتصل بالبنى الشعبية يتحول إلى سلطة موازية. لجان الإضراب تصبح مجالس إدارة مؤقتة، والمجالس الشعبية تتحول إلى مراكز قرار. الجماهير التي كانت ترفض الأوامر تصبح من تصدرها. كل خطوة في تنظيم الحياة اليومية هي نفيٌ مادي للدولة القديمة. ويمر هذا التحول باختبارات عملية حاسمة: قدرة التنظيم الشعبي على تحويل الإدارة المؤقتة إلى حكم دائم، ومواجهة محاولات النظام لاستعادة السيطرة عبر القمع أو الاختراق، وبناء البدائل الاقتصادية التي تضمن استقلالية القرار السياسي. الثورة لا تُقاس بعدد الشعارات أو سقوط الحكومات، بل بمدى انتقال القرار إلى المنتجين أنفسهم. حين يدير المجتمع إنتاجه وتوزيعه وخدماته بشكل مستقل، تكون الدولة البرجوازية قد انهارت فعلياً وإن لم تُعلن نهايتها رسمياً.

العصيان الشامل هو الامتداد الجدلي الطبيعي للمقاطعة الشاملة. المقاطعة تكشف حدود السوق البرجوازي وتفكك علاقاته الاستهلاكية، والعصيان يكشف حدود الدولة ويفكك آلياتها السياسية. كلاهما يشكلان جناحي الثورة الطبقية: الأول يعطل تراكم رأس المال، والثاني يعطل جهاز السيطرة. الوعي الجماهيري حين يدرك الترابط بين الاقتصاد والسياسة، بين السوق والدولة، يصبح قادراً على تحويل المقاطعة والعصيان إلى مشروع لبناء السلطة الشعبية. في تلك اللحظة لا تعود الثورة شعاراً أو حدثاً، بل سيرورة مادية لإعادة توزيع القوة والثروة في المجتمع.

العصيان الشامل هو الاقتصاد السياسي للثورة في لحظة ولادتها. هو الفعل الذي يجسد وحدة النظرية والممارسة، حيث يتحول الوعي إلى تنظيم، والتنظيم إلى سلطة، والنفي إلى بناء. في كل إضراب شامل تتعلم الجماهير كيف تدير العالم دون سادتها، وفي كل امتناع جماعي عن الطاعة تكتب فصلاً جديداً من التاريخ الإنساني. الثورة ليست وعداً بمستقبل غامض، بل فعل حاضر يعيد تشكيل الواقع. حين يمسك المنتجون بزمام حياتهم اليومية، يكون العالم الجديد قد بدأ يولد من رحم القديم.

"العنف الثوري هو القابلة التي تلد المجتمع الجديد."
كارل ماركس.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3. من الفعل الشعبي إلى السلطة الموازية
- 2. صناعة الأزمة: المقاطعة الشاملة كأداة تفكيك الدولة الطبقية ...
- الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1
- أسئلة بلا طبقة
- 14. التنظيم الثوري وبناء الحزب الجديد: من النظرية إلى الممار ...
- 13. نحو ماركسية سودانية جديدة: الدروس العالمية والتأسيس النظ ...
- 12. البيئة والمناخ: الإمبريالية الخضراء والعدالة المناخية
- 11. الثقافة والأدب في السودان: جبهات الصراع الإيديولوجي
- 10. الإعلام والوعي الزائف: آليات الثورة المضادة في السودان
- 9. الهوية والدين: أسلحة الطبقة الحاكمة في السودان
- 8. التبعية والصراع الإمبريالي: الديناميكيات الإقليمية والدول ...
- 7. العنف المضاد للثورة: تشريح جهاز الدولة البورجوازي
- 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة الع ...
- 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...
- 10. آفاق الثورة السودانية في السياق الأممي: نحو قطيعة مع أوه ...
- رأسمالية التعليم وإخصاء الوعي


المزيد.....




- جبهة البوليساريو تصدر بيانا ردا على قرار مجلس الامن
- بعد رفض ضريبة زوكمان، هل من توافق ممكن مع الاشتراكيين لتفادي ...
- أول رد من ممثل البوليساريو لدى سويسرا والمنظمات الدولية
- تصريح المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية حول التطور التا ...
- Stop Talking About “Protests”
- قرار مجلس الأمن يقبر طموحات البوليساريو في الاستقلال
- Trumponomics is Dangerous to Your Health
- Workers Strike at Coca Cola Germany
- The Suspension of SNAP Benefits Gives No Kings Day Protestor ...
- فرنسا: الجمعية الوطنية تصوت ضد مقترح اليسار بفرض ضريبة كبرى ...


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 4. العصيان الشامل: من الفعل الأخلاقي إلى الإضراب السياسي وبداية السلطة البديلة