أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. الديالكتيك الثوري: التفاعل الجدلي بين تفكيك القديم وبناء الجديد















المزيد.....

5. الديالكتيك الثوري: التفاعل الجدلي بين تفكيك القديم وبناء الجديد


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 18:51
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


تتجلى الثورة، في جوهرها، كعملية ديالكتيكية تُفكك فيها الجماهير علاقات السيطرة القديمة وهي تبني في الوقت نفسه أشكالها الجديدة من التنظيم والسلطة، وفي ذات الوقت هي ليست انقطاعًا ميكانيكيًا مع الماضي، بل نفيًا جدليًا له، يحمل داخله تناقضاته ويحوّلها إلى قوة دفعٍ تاريخية. فالمقاطعة الشاملة والعصيان السياسي يمثلان نهاية الدولة البرجوازية وبداية تشكّل المجتمع الجديد، حيث يتحول الامتناع عن الطاعة إلى ممارسة جماعية للسلطة الشعبية.

في مرحلة التفكيك، تظهر المقاطعة الشاملة كأداة مادية لتحطيم ركائز السيطرة الاقتصادية والسياسية. حين تمتنع الجماهير عن شراء السلع التي تنتجها الشركات الرأسمالية، أو عن سداد الفواتير والضرائب التي تموّل أجهزة القمع، أو عن التعاون مع مؤسسات الدولة، فإنها تعطل دورة رأس المال وتكشف الطبيعة الطبقية للسلطة. إن ما يُقدَّم عادةً كـ"عصيان مدني" محدود أو احتجاج أخلاقي يصبح هنا لحظةً تاريخية لانكشاف جهاز الدولة كأداةٍ قمعيةٍ في يد الطبقة السائدة. وفي هذا الامتناع الجماعي، تتولد الطاقة التأسيسية لمجتمعٍ جديدٍ من رحم الانسحاب ذاته.

غير أن هذا النفي لا يظل سلبياً. فالثورة لا يمكن أن تكتفي بالهدم دون بناء مؤسساتٍ بديلة تُعيد صياغة العلاقات الاجتماعية على أسسٍ جديدة. في قلب مرحلة “اللاحكومة” تتشكّل مؤسسات السلطة المزدوجة: لجان الأحياء لتوزيع الغذاء والمياه وتنظيم الأمن الذاتي، اتحادات مهنية مستقلة تنفصل عن النقابات الرسمية التي تخضع للدولة، وصناديق تضامنٍ مالي تدعم الأسر والمضربين وتعيد توزيع الموارد على أساس الحاجة لا الربح. تمثل هذه المؤسسات نواة لاقتصادٍ سياسيٍ جديد، يقوم على الإنتاج المشترك والمساءلة الشعبية المباشرة.

وفي عصر الرقمنة، تأخذ أدوات النفي أشكالاً أكثر تعقيداً وفاعلية. لم تعد المقاطعة مقتصرة على الامتناع عن شراء السلع أو التعامل مع النظام المالي البرجوازي، بل تطورت إلى بناء منظومات موازية بالكامل. تقنيات مثل البلوكشين والمنظمات اللامركزية (DAOs) تتيح إمكانية تجاوز الجهاز المالي الرسمي ماديًا، عبر إنشاء شبكات تمويلٍ تعاونيٍّ قائمة على الثقة الجماعية لا على سلطة الدولة أو رأس المال. تصبح العملات المشفرة، في هذا السياق، أكثر من وسيلة تداول: إنها نواةٌ لاقتصادٍ بديل يكرّس الملكية المشتركة ويعيد توزيع الفائض على أساس الحاجة. إن هذا التحول لا يقتصر على الأدوات التقنية، بل يشير إلى إمكانية تأسيس بنية اقتصادية ما بعد برجوازية، حيث يتحول النفي الرقمي إلى فعلٍ بنّاءٍ مادياً، يُفكك احتكار الدولة للسوق ويعيد تعريف الإنتاج والاستهلاك في إطارٍ جماعي.

لكن الثورة، كي تكون شاملة، لا يمكن أن تكتفي بالبنية المادية وحدها. فالرأسمالية لا تحكم فقط بالاقتصاد، بل أيضًا بالإيديولوجيا. هنا يظهر الديالكتيك الإيديولوجي كوجهٍ آخر للديالكتيك الثوري. فكل نظامٍ طبقي يخلق أدواته الثقافية لتبرير وجوده: من النيوليبرالية التي تُقدّس الفرد وتُجرّم الجماعة، إلى العنصرية التي تُقسّم الطبقة العاملة على أسسٍ عرقية وجهوية، إلى ثقافة الاستهلاك التي تُحوّل الإنسان إلى سلعة. مهمة القاعدة الثورية ليست فقط إسقاط مؤسسات الدولة، بل تفكيك بنية الوعي السائد التي تحميها. وهذا التفكيك لا يتم إلا عبر أدواتٍ ثقافية وتعليمية مضادة.

يمكن للتربية النقدية كما صاغها باولو فريري أن تكون سلاحاً مركزياً في هذا الصراع، إذ تحوّل التعليم من عملية تلقين إلى فعل تحرّر يتيح للجماهير قراءة واقعها وفهم آليات القهر الكامنة فيه. كما أن مفهوم الهيمنة الثقافية عند غرامشي يوضح أن السيطرة البرجوازية لا تُمارس بالقوة فقط، بل بالقبول الطوعي الناتج عن اختراق الوعي الجمعي. لذلك، فإن الثورة تحتاج إلى بناء إيديولوجيا جماعية بديلة تستند إلى قيم التعاون والمساواة والتضامن الطبقي، عبر الأدب والفن والإعلام والتعليم. فكما أن المقاطعة الاقتصادية تُفكك رأس المال، فإن المقاطعة الثقافية تُفكك رموزه، وتُعيد صياغة اللغة والمعنى لصالح الطبقة العاملة.

لكن كل بناءٍ جديد يحمل في جوفه خطر الاستيعاب وإعادة الإنتاج. تستخدم البرجوازية آلياتٍ دقيقةً لإفراغ التنظيمات الشعبية من مضمونها الثوري. قد تستخدم ديمقراطية شكلية لتفرغ مضمونها؛ تمنح الاعتراف القانوني للنقابات المستقلة لتقويض استقلالها؛ تقدّم تمويلاتٍ ومنحًا باسم “دعم المجتمع المدني” لتفتيت التضامن الطبقي وتحويل الفعل الجماعي إلى مشاريع فردية. هذا هو منطق الاستيعاب الطبقي (Co-optation): امتصاص التهديد الثوري وإعادة تدويره ضمن النظام القائم. لذلك فإن الوعي الجدلي لا يكتمل إلا بإدراك أن الحفاظ على جوهر الفعل الثوري يقتضي الصراع الدائم ضد كل أشكال الإدماج المؤسساتي التي تُعيد إنتاج السيطرة البرجوازية في شكلٍ أكثر نعومة.

ولأن التنظيم القاعدي وحده لا يكفي لعبور العتبة الثورية، يظهر هنا الدور الحيوي للحزب الطليعي، لا بوصفه سلطة فوقية، بل كأداة تنسيق جدلي بين المستويات المختلفة للفعل الشعبي. فالحزب الثوري، في المفهوم اللينيني الأصيل، ليس جهازاً بيروقراطياً يحتكر القرار، بل طليعة نظرية–تنظيمية تحفظ وحدة الاتجاه وتربط بين التجارب المتفرقة ضمن رؤية استراتيجية شاملة. إن الوعي الجدلي، حين يُترجم تنظيمياً، يُنتج حزباً يعرف أن قيادته لا تُمارَس من فوق، بل تُستمد من القدرة على بلورة الوعي الجماعي وتعميم التجربة. بهذا المعنى، لا يتعارض التنظيم المركزي مع الديمقراطية القاعدية، بل يُكملها ويمنع تفتتها في مواجهة آلة الدولة البرجوازية.

في السياق السوداني، يتجسد هذا المسار بوضوح. انهيار الدولة المركزية فتح مساحات للتنظيم الشعبي، ولجان المقاومة تحولت إلى هياكل إدارة محلية. الإضرابات الشاملة عطلت آليات الحكم التقليدية. وما يميز التجربة السودانية هو تعقّد مرحلة السلطة المزدوجة، حيث تواجه التنظيمات الشعبية تحديين متزامنين: الحفاظ على استقلاليتها في مواجهة الدولة العميقة، وبناء تحالفات طبقية واسعة قادرة على تجاوز الانقسامات الإقليمية والجهوية.

لكن هذه التجربة لا تخلو من تناقضاتها الخاصة. فلجان المقاومة تجسد الصراع بين اللامركزية القاعدية، التي تمنحها طاقتها الثورية، والحاجة إلى تمثيلٍ سياسيٍّ موحد في مواجهة الدولة. يعكس هذا التناقض جدلية التنظيم الثوري ذاته: كيف يمكن الحفاظ على ديمقراطية القرار من الأسفل دون الوقوع في فوضى الانقسام، وكيف يمكن تحقيق التنسيق المركزي دون إنتاج بيروقراطية جديدة. الحل الجدلي هنا يكمن في تنظيم مرن ومفتوح، تُشتق قراراته من القاعدة وتُنسق مركزياً عبر مجالس تفويضية قابلة للمساءلة الدائمة، مما يجعل الوحدة نتاجًا للوعي الجماعي لا لسلطة فوقية.

ويتطلب تجاوز هذه التحديات تطوير آليات ملموسة للتمويل الذاتي، وبناء شبكات اتصال مستقلة، وإنشاء هياكل قضائية شعبية تحل محل مؤسسات الدولة البيروقراطية. ولا يمكن فهم هذا التحول دون الرجوع إلى التجارب التاريخية الكبرى التي شكّلت الوعي الثوري العالمي. فكما أظهرت كومونة باريس إمكانية قيام سلطةٍ شعبيةٍ مباشرة من رحم الهزيمة، وكما جسدت السوفييتات الروسية التحول الجدلي من التنظيم الاقتصادي إلى السلطة السياسية، فإن اللجان الشعبية في السودان والعالم العربي اليوم تواصل هذه السيرورة التاريخية نفسها. غير أن التحدي المعاصر يكمن في أن النظام الرأسمالي أصبح عابرًا للحدود، وأن الثورة بدورها يجب أن تكون أممية في أدواتها وأفقها، تستفيد من البنية الرقمية لتوسيع التضامن الطبقي العابر للدول.

لا يعرف الديالكتيك الثوري الثبات، فكل بنية جديدة تحمل في داخلها بذور انحرافها البيروقراطي، وكل انتصارٍ ثوري يحتاج إلى رقابةٍ دائمةٍ من الأسفل لضمان ألا تتحول أدوات التحرر إلى أجهزة سيطرة. الوعي الجدلي هو الضامن الوحيد لعدم تحوّل الثورة إلى سلطةٍ جامدة. فالثورة هي فعل وعيٍ مستمر يربط بين النفي والبناء، بين الماضي والمستقبل، بين النظرية والممارسة.

بهذا الأفق، يصبح المشروع الثوري عمليةً مفتوحة لتجاوز التناقضات عبر الفعل الواعي. فكل لجنةٍ قاعدية، وكل تعاونٍ إنتاجي، وكل فعل مقاومةٍ رقميٍّ أو ميدانيٍّ واعٍ هو خطوة في نفي النظام القائم وبناء المجتمع البديل. وهكذا، لا يعود التفكيك والهدم نهاية، بل بداية التاريخ الجديد.

"الثورة ليست قطيعة ميكانيكية، بل نفي جدلي يتجاوز القديم دون أن ينساه."
أنطونيو غرامشي.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 4. العصيان الشامل: من الفعل الأخلاقي إلى الإضراب السياسي وبد ...
- 3. من الفعل الشعبي إلى السلطة الموازية
- 2. صناعة الأزمة: المقاطعة الشاملة كأداة تفكيك الدولة الطبقية ...
- الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1
- أسئلة بلا طبقة
- 14. التنظيم الثوري وبناء الحزب الجديد: من النظرية إلى الممار ...
- 13. نحو ماركسية سودانية جديدة: الدروس العالمية والتأسيس النظ ...
- 12. البيئة والمناخ: الإمبريالية الخضراء والعدالة المناخية
- 11. الثقافة والأدب في السودان: جبهات الصراع الإيديولوجي
- 10. الإعلام والوعي الزائف: آليات الثورة المضادة في السودان
- 9. الهوية والدين: أسلحة الطبقة الحاكمة في السودان
- 8. التبعية والصراع الإمبريالي: الديناميكيات الإقليمية والدول ...
- 7. العنف المضاد للثورة: تشريح جهاز الدولة البورجوازي
- 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة الع ...
- 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...
- 10. آفاق الثورة السودانية في السياق الأممي: نحو قطيعة مع أوه ...


المزيد.....




- البوليساريو: القرار الأممي بشأن الصحراء الغربية خطوة إيجابية ...
- جبهة البوليساريو تعتبر قرار مجلس الأمن الدولي بشأن قضية الصح ...
- بعد وقف إطلاق النار، مهامنا من أجل تحرير فلسطين
- The Woman Liberation Paradigm and the Universal Claim of the ...
- Human Rights Beyond Liberalism: ?calan’s Call for a Democrat ...
- Rejection of Imperialist Aggression and the Authoritarian Re ...
- There is No Rock Bottom: The Trump Regime’s Depravity Will C ...
- زهران ممداني.. هل يعد المرشح الديمقراطي لعمدة نيويورك النسخة ...
- الإسلام والاشتراكية في قلب أمريكا، المرشح ممداني يقترب من قي ...
- Bomber Nobel? Compare and Contrast


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. الديالكتيك الثوري: التفاعل الجدلي بين تفكيك القديم وبناء الجديد