أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سمير خطيب - العلامة -- قصة قصيرة















المزيد.....

العلامة -- قصة قصيرة


سمير خطيب

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 09:48
المحور: القضية الفلسطينية
    


العلامة
قصة قصيرة
بقلم : سمير الخطيب - أفكار وخواطر
"الذاكرة ليست ما حدث. الذاكرة هي ما نرفض أن يُمحى" . هكذا قال أبي على فراش الموت في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، صيف 1982، بينما القذائف الإسرائيلية تدك المدينة. كان صوته خافتًا كهمس الريح في أوراق الزيتون، لكن الكلمات كانت واضحة كنقش على حجر: "الخطوات يا يوسف... خمسمائة وثلاثون من الشارع للعين... مائتان وأربعون من العين للبيت... لا تنسَ... الأرض تحفظ خطوات أصحابها."
كنت في العاشرة من عمري عندما هُجرنا من قريتنا، ذلك الصباح الملعون من أيار 1948. أتذكر كل شيء بوضوح غريب، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة وبقي معلقًا في ذاكرتي. الضوء الذي كان يتسلل من شقوق الباب الخشبي القديم، رائحة الخبز في التنور، صوت أمي تُهدهد أختي الرضيعة، ثم فجأة، الصراخ والركض ودوي البنادق.
أبي أمسك يدي بقوة أوجعتني، سحبني خارج البيت رغم احتجاج أمي. مشينا بسرعة من البيت إلى العين، وهو يعد الخطوات بصوت مسموع، كأنه يؤدي صلاة. عدنا، ثم مشينا من الشارع الرئيسي إلى العين، عدّ مرة أخرى. لم أفهم وقتها. قلت له إني أعرف الطريق، أعرف كل حجر وكل شجرة. قال: "نحن لا نصف ما نرى يا ولدي، نحن نصف ما نتذكر. والذاكرة تحتاج إلى خريطة، إلى تفصيل صغير، إلى رقم، إلى علامة، وإلا ضاعت في متاهة النسيان."
في تلك الليلة الأخيرة، بينما القرية كلها تحزم ما خف حمله وغلا ثمنه، تسللت إلى فناء البيت. شجرة الزيتون الضخمة كانت تقف هناك كحارس أبدي، الشجرة التي زرعها جد أبي عام 1880 عندما بنى البيت. أخرجت المطواة الصغيرة التي أهداني إياها جدي في عيد ميلادي الأخير، ونحت على الجذع الغليظ: ي. ع. وتحتها التاريخ: 1948. ثم رسمت بيتًا صغيرًا بخطوط طفولية بسيطة. كانت يدي ترتجف، ليس من الخوف، بل من إحساس غامض بأني أترك وصية، أغرس ذاكرة في جسد الشجرة.
قالوا سنعود بعد أسبوع، أسبوعين على الأكثر، حتى تهدأ الأمور. تركت أمي العجين على الطاولة، والقدر على نار هادئة. أبي دفن المفتاح تحت الحجر الكبير عند العتبة، "للأمان" قال. لكن الأسبوع صار شهرًا، والشهر سنة، والسنة عقودًا، والعودة صارت حلمًا يتوارثه الأبناء عن الآباء.
في مخيم برج البراجنة في بيروت، نشأت وكبرت. الخيمة صارت بيتًا من صفيح، ثم غرفتين من الباطون، لكنها بقيت مؤقتة في وعينا، محطة انتظار طالت. تزوجت من ابنة الجيران، فتاة من قرية مجاورة لقريتنا. أنجبنا ثلاثة أولاد. علمتهم الخطوات قبل أن أعلمهم الحروف. كانوا يضحكون، يقولون إن أباهم يهذي، يعد خطوات إلى مكان غير موجود. لكني ما توقفت. في كل ليلة، قبل النوم، أغمض عيني وأمشي الطريق في ذاكرتي. خمسمائة وثلاثون خطوة من الشارع إلى العين، مائتان وأربعون من العين إلى البيت، عشرون خطوة من البيت إلى الشجرة.
الحرب الأهلية اشتعلت في لبنان. المخيم صار ساحة معركة. في إحدى الليالي، قذيفة طائشة أصابت بيتنا. أبي أصيب بشظايا في صدره. حملناه إلى المستشفى تحت القصف. على سرير أبيض في غرفة تفوح منها رائحة المطهرات والموت، أمسك يدي بقوة، نفس القوة التي أمسك بها يدي ذلك الصباح البعيد. همس: "الذاكرة يا يوسف... احفظها... العين ما زالت هناك... والشجرة... شجرة الزيتون لا تموت... حتى لو قطعوها تنبت من الجذر... لا تنسَ الخطوات..."
مات أبي ودُفن في مقبرة الشهداء، بعيدًا عن تراب قريته. لكن قبل أن يُسجى، وضعت في جيب كفنه حفنة تراب كنت أحتفظ بها من ساحة بيتنا القديم، تراب هربته أمي في صرة قماش يوم الرحيل.
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، قررنا الهجرة. ألمانيا فتحت أبوابها للاجئين. في مدينة شتوتغارت الباردة، بدأت من الصفر. عملت في مصنع للسيارات، تعلمت اللغة، انتظرت سبع سنوات طويلة كأنها سبعة قرون حتى حصلت على الجنسية الألمانية. الجواز الأحمر بنسره الأسود. جواز السفر الذي يفتح كل الحدود، حتى تلك المغلقة في وجه الفلسطينيين.
صيف 1985، تركت العائلة في ألمانيا وسافرت وحدي. في مطار اللد والذي صار يسمى مطار بن غوريون والذي توسع على أنقاض القرى المهجرة بين اللد والخيرية، حيث كانت البيوت تُطلّ على بساتين البرتقال، قبل أن تتحول الأرض إلى مدارج للطائرات تُحلّق فوق ذاكرة أصحابها. الضابط الإسرائيلي الشاب نظر إلى جوازي الألماني، قلّبه، ختمه دون سؤال. دخلت. قلبي يخفق بعنف. سبعة وثلاثون عامًا، والآن أعود.
القرية اختفت. محيت من الخريطة. مكانها الآن كيبوتس تحيط به حقول القمح الذهبية. لكن الطريق القديم ما زال، صار معبدًا بالإسفلت لكنه نفس الطريق. والعين، مدفونة تحت كومة من الحجارة والأعشاب البرية، لكنها ما زالت هناك.
وقفت عند بداية الطريق. أغمضت عيني لحظة، استحضرت صوت أبي، صورته وهو يمسك بيدي. فتحت عيني وبدأت المشي. أعد. خطوة، اثنتان، عشر، مائة... مع كل خطوة تنبعث ذكرى. هنا كان دكان أبو موسى يبيع الحلوى والسكاكر، هنا كانت المدرسة ذات الغرفة الواحدة، هنا لعبنا بكرة من "الشرايط" حتى غابت الشمس... خمسمائة وثلاثون. وصلت.
ركعت عند العين المدفونة. أزحت الحجارة بيدي العاريتين. تحتها ماء آسن راكد، لكنه ماء عيننا. غرفت بكفي، شربت. طعم الصدأ والطحالب والزمن. طعم الذاكرة.
من العين، اتجهت شمالاً كما علمني أبي. مائتان وأربعون خطوة. الأساسات الحجرية للبيت ما زالت ظاهرة بين الأعشاب. تحسست الحجارة. هذه كانت زاوية غرفة الضيوف حيث كان أبي يستقبل رجال القرية. هنا كانت العتبة حيث دفن المفتاح. بحثت، حفرت بأصابعي في التراب. وجدته. المفتاح الصدئ. مفتاح باب لم يعد موجودًا. وضعته في جيبي.
عشرون خطوة من البيت. الشجرة.
وقفت أمامها مشدوهًا. شجرة الزيتون العجوز ما زالت واقفة، أضخم، أقوى، جذعها صار بعرض ثلاثة رجال، أغصانها تظلل مساحة واسعة. اقتربت بخطوات مرتجفة. على الجذع، على ارتفاع صدر طفل في العاشرة، تحت طبقات من اللحاء الجديد الذي نما عبر السنين، ما زالت العلامة. ي.ع. 1948. والبيت الصغير بخطوطه الطفولية البسيطة.
مددت يدي، أصابعي تتحسس النقش كما يتحسس الأعمى وجه حبيبته. سبعة وثلاثون عامًا والعلامة ما زالت. الشجرة حفظت ذاكرتي. حرست توقيعي. انتظرتني.
جلست تحت ظلها وبكيت. بكيت كما لم أبك منذ كنت طفلاً. ليس حزنًا على ما ضاع، بل فرحًا بما بقي، دهشة من أن الذاكرة لم تخطئ، أن الخطوات كانت دقيقة، أن أبي علمني جيدًا.
أخرجت سكيناً صغيرة من جيبي. تحت نقشي القديم، أضفت: "عدت - 1985 - الذاكرة أقوى من النسيان." ثم قطفت بضع أوراق من الشجرة، قشرت قطعة صغيرة من اللحاء حول نقشي، ملأت جيوبي بالتراب من نفس المكان حيث كانت عتبة البيت.
قبل أن أغادر، عدت إلى العين. عددت الخطوات مرة أخرى، بالعكس هذه المرة، من الشجرة إلى البيت إلى العين إلى الشارع. للتأكد. للحفظ. لأعلّم أولادي يومًا ما.
عدت إلى ألمانيا. في تلك الليلة، جمعت أولادي الثلاثة. أعطيت كل واحد حفنة من التراب، ورقة زيتون، قطعة صغيرة من لحاء الشجرة. قلت لهم: "هذا من بيتكم الحقيقي. احفظوا الأرقام. خمسمائة وثلاثون من الشارع للعين. مائتان وأربعون من العين للبيت. عشرون من البيت للشجرة."
ابني الأصغر، المولود في ألمانيا، قال بألمانية مكسرة بالعربية: "بابا، أنت قلت لا يوجد بيت هناك."
قلت: "البيت موجود يا ولدي. في الخطوات. في العلامة على الشجرة. في هذا المفتاح الصدئ. في التراب الذي في يدك. البيت موجود طالما نحن نتذكره."
السنوات مرت. أولادي كبروا، تزوجوا، أنجبوا. علمتهم الخطوات كما علمني أبي. بعضهم آمن، بعضهم شك، لكنهم جميعًا حفظوا الأرقام.
اليوم، أربعون سنة بعد رحلتي الأولى، ابني الأكبر يتصل من فلسطين. استطاع الدخول بجواز أمريكي حصل عليه بعد سنوات في نيويورك. صوته في الهاتف يرتجف من الانفعال: "بابا... الشجرة... الشجرة ما زالت. والعلامة... وجدت علامتك. ووضعت علامتي تحتها. كتبت: الجيل الثالث - م.ي.ع- 2025. الخطوات يا بابا... الخطوات صحيحة. كل خطوة."
أغلقت الهاتف. نظرت من نافذة شقتي في برلين. المطر ينهمر على المدينة الباردة. فتحت الصندوق الخشبي الصغير حيث أحفظ كنوزي. التراب الذي صار ترابًا أسود من القدم. أوراق الزيتون اليابسة المتفتتة. قطعة اللحاء. المفتاح الصدئ.
أشم رائحتها. أغمض عيني. أرى أبي يمسك يدي. أسمع صوته: "الخطوات يا يوسف..." أرى الطريق. أعد. خمسمائة وثلاثون. مائتان وأربعون. عشرون.
أبتسم. الذاكرة لم تمت. الشجرة لم تمت. والأرض، الأرض لا تنسى أصحابها، حتى لو مرت مئات الأعوام.
الحنين، كما قال أحدهم، ليس ضعفًا. الحنين هو أن نرفض النسيان. أن نصر على أن ما فقدناه ما زال موجودًا، في مكان ما، في زمان ما، في ذاكرة ما. والعودة، العودة ، ليست أن نصل باجسادنا فقط . العودة هي أن نحفظ الطريق. أن نورثه. أن نحفر العلامات على جذوع الأشجار التي تعيش أكثر منا، وننقش الخطوات في ذاكرة الأجيال.
الليلة، سأعلّم حفيدي الصغير العدّ. ليس الأرقام العادية. سأعلمه أرقامنا الخاصة. خمسمائة وثلاثون. مائتان وأربعون. عشرون. سأحكي له عن الشجرة التي لا تموت. عن العلامة التي تنتظر. عن الأرض التي تحفظ خطوات أهلها.
وعندما يسأل: "متى سنعود يا جدي؟"
سأقول له ما قاله لي أبي، وما قاله لأبي جده: "نحن لم نغادر يا ولدي. نحن هناك."
ملاحظة : القصة من وحي الخيال ولكنها يمكن أن تكون حقيقية لأنها فلسطينية.



#سمير_خطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطبيب_الجائع
- لن تقاوموا⁉️
- أنشودة الشوق
- مُسافِرونَ في الحافِلةِ 480
- بين الكود والروح
- قارئة الفنجان
- على شفير الانفجار: هل بدأ العدّ التنازلي للحرب العالمية الثا ...
- في مأدبة الكاميرات‼️
- #رغيف_الخبز_في_غزة
- فلسطين… بوصلة التموضع في العالم المتعدد الأقطاب: هل تستطيع ا ...
- ))العقل بين الحصار والتحرر(( قراءة فلسطينية ماركسية لمشروع د ...
- اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية
- طائِرُ الفِينِيق الأَسِير... نَسْلُ الأَبَدِيَّة
- أيّوبُ القرنِ الواحدِ والعشرين
- لحن الحياة- قصة قصيرة
- قناع الليبرالية وذراع الصهيونية: بين دم الحقيقة , خجل الخطاب ...
- فَاطِمَةُ وَالْمِفْتَاحُ الْخَالِدُ
- التراجع الاستراتيجي
- يوم الارض
- دورةُ الأسى ما بين غزَّة ومكَّة


المزيد.....




- بعد -رأس الحكمة-.. مصر على موعد مع صفقة استثمارية خليجية جدي ...
- عُثر عليها داخل الخط الأصفر شرق غزة... إسرائيل تتسلم رفات ره ...
- من كان ديك تشيني... -العقل المدبر- لحرب العراق؟
- زامير مستعد لإخراج 200 مسلح من رفح مقابل جثة الجندي هدار غول ...
- تونس رحلت 10 آلاف مهاجر في 2025 وتتعهد بعدم التحول لمنطقة عب ...
- واشنطن: ترامب سيلتقي الشرع في البيت الأبيض يوم الاثنين
- لماذا يربط السوداني نزع سلاح الفصائل بخروج أميركا من العراق؟ ...
- عاجل | مصادر دبلوماسية للجزيرة: مشروع قرار أميركي بمجلس الأم ...
- الاتجاه المعاكس.. النظام الفدرالي هل ينقذ سوريا أم يدمرها؟
- إدارة ترامب تضع 3 خيارات للتدخل العسكري في فنزويلا


المزيد.....

- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سمير خطيب - العلامة -- قصة قصيرة