أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - سمير خطيب - الطبيب_الجائع














المزيد.....

الطبيب_الجائع


سمير خطيب

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 09:48
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


في قبو مظلم من مستشفى محطم في غزة، حيث تختلط رائحة الدم بعبق الدخان المتصاعد من الأنقاض، وقف الدكتور أحمد أمام مرآة مكسورة. وجهه الهزيل ينعكس عليها كأشباح متناثرة، عيونه الغائرة تحدق في نفسها بنظرة من يحاكم ضميره في محكمة داخلية لا رحمة فيها.
"ثلاثة أيام..." همس لنفسه، وصوته يرتجف كأوراق الخريف تحت وطأة العاصفة. "ثلاثة أيام والمعدة تعوي كذئب جريح، والعقل... آه، العقل الذي كان يوماً حاداً كمشرط الجراح، أصبح الآن ضبابياً كالغبار المتطاير فوق الركام."
دخل عليه صوت أنين من الردهة المجاورة، صوت طفل يستنجد بأمه التي لن تأتي أبداً. فرفع رأسه ببطء، كمن يحمل على كتفيه ثقل الكون، ومشى بخطوات متثاقلة نحو المصدر.
هناك، على سرير محطم، استلقى صبي في العاشرة من عمره، نصف وجهه مغطى بالضمادات الملطخة بالدم، والنصف الآخر يحمل عينين واسعتين مليئتين بالرعب والأمل الأخير في إنسان يرتدي المعطف الأبيض المخضب بدماء الآخرين.
"دكتور..." تمتم الصبي بصوت خافت، "هل... هل ستشفيني؟"
وقف الدكتور أحمد مشدوهاً، يدرك فجأة أن السؤال ليس موجهاً إليه وحده، بل إلى كل ذرة في جسده المتهاوي، إلى كل خلية في دماغه المعذب، إلى ضميره الذي يتمزق بين واجب مقدس وجسد خائر.
"أتعلم يا بني..." قال وهو يجلس بجوار السرير، يداه ترتجفان، ليس من البرد، بل من شيء أعمق، شيء يشبه اليأس الممزوج بالعار، "أتعلم أن في داخل كل طبيب شخصين؟ واحد يريد أن يشفي، وآخر... آخر يتوسل للبقاء حياً."
تحسس جبين الطفل بأطراف أصابعه المرتجفة، لكن الجوع جعل لمسته غير مؤكدة، كأنه يحاول قراءة كتاب بلغة منسية.
"أنا لست إنساناً سيئاً، تعلم ذلك أليس كذلك؟" استطرد كأنه يبرر لنفسه أكثر منه للطفل. "لقد قضيت سنوات أحفظ تفاصيل كل عضو في الجسد البشري، كل عرق، كل شريان... لكن لم يعلمني أحد كيف أتعامل مع جوع يلتهم قدرتي على التذكر."
رفع الطفل يده الصغيرة نحو خد الطبيب، وبحركة بريئة مسح دمعة لم يعرف الطبيب أنها سقطت.
"أمي كانت تقول أن الأطباء ملائكة..." همس الصبي.
"وماذا لو كان الملاك جائعاً؟" رد الدكتور أحمد بمرارة لا تُحتمل، "ماذا لو كان الملاك عاجزاً عن الطيران لأن جناحيه أصابهما الضعف؟"
في تلك اللحظة، انتبه إلى أن يديه تمسكان برأسه، كما لو كان يحاول منع عقله من التفكك. "أنا أقف فوقك الآن كالأعمى، أحاول أن أتذكر الفرق بين الشريان والوريد، بين الكسر والخدش، بين الحياة والموت... لكن كل ما أسمعه هو صوت معدتي تصرخ طلباً للطعام."
نظر إلى الطفل بعينين مليئتين بالخزي والغضب معاً، "أتعلم ما هي المفارقة؟ أن من يفترض به أن يداوي الجراح، أصبح هو نفسه جرحاً نازفاً."
صمت برهة، ثم تابع بصوت متهدج: "ولكن... ولكن أليس هذا ما يريدونه؟ أن يجوّعونا حتى نصبح عاجزين عن مداواتكم؟ أن يحولوا الطبيب إلى مريض، والمنقذ إلى غريق؟"
خارج النافذة المحطمة، كان صدى الانفجارات يتردد كأجراس جنازة لا تنتهي، وفي الداخل، كان صراع أعمق يدور في نفس إنسان واحد: صراع بين الرغبة في الشفاء والعجز عن البقاء، بين القسم الذي أقسمه يوماً والواقع الذي يسحقه الآن.
"سأحاول..." همس أخيراً، وهو يضع سماعته على صدر الطفل، "سأحاول أن أداويك... حتى لو كان آخر ما أفعله."
لكن في أعماقه، كان يعلم أن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان سيشفي هذا الطفل، بل ما إذا كان العالم سيشفى يوماً من صمته المميت أمام مشهد طبيب جائع يحاول إنقاذ حياة بيدين ترتجفان من الجوع.
"يا إلهي..." تمتم وهو يغمض عينيه، "لقد جعلتموني أسأل نفسي السؤال الأكثر رعباً: هل يستحق الطبيب الجائع أن يُدعى طبيباً؟ أم أنه مجرد إنسان آخر يحتضر بصمت؟"
وفي الصمت الذي تلا، لم يكن هناك سوى صوت قلبين ينبضان: قلب طفل يأمل في الشفاء، وقلب طبيب يموت من الداخل.



#سمير_خطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لن تقاوموا⁉️
- أنشودة الشوق
- مُسافِرونَ في الحافِلةِ 480
- بين الكود والروح
- قارئة الفنجان
- على شفير الانفجار: هل بدأ العدّ التنازلي للحرب العالمية الثا ...
- في مأدبة الكاميرات‼️
- #رغيف_الخبز_في_غزة
- فلسطين… بوصلة التموضع في العالم المتعدد الأقطاب: هل تستطيع ا ...
- ))العقل بين الحصار والتحرر(( قراءة فلسطينية ماركسية لمشروع د ...
- اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية
- طائِرُ الفِينِيق الأَسِير... نَسْلُ الأَبَدِيَّة
- أيّوبُ القرنِ الواحدِ والعشرين
- لحن الحياة- قصة قصيرة
- قناع الليبرالية وذراع الصهيونية: بين دم الحقيقة , خجل الخطاب ...
- فَاطِمَةُ وَالْمِفْتَاحُ الْخَالِدُ
- التراجع الاستراتيجي
- يوم الارض
- دورةُ الأسى ما بين غزَّة ومكَّة
- أيمن عودة يريد تغيير الواقع لا أن يحلله ويحتج عليه فقط| سمير ...


المزيد.....




- بالنص والفيديو.. شريهان تستعيد مشاركتها التاريخية في احتفالي ...
- مصدر يوضح لـCNN تفاصيل مساعي إدارة ترامب للدفع بقرار أُممي ب ...
- ميرتس: لا أساس قانوني لبقاء السوريين وأدعوهم للعودة لإعادة إ ...
- رونالدو يعلن اقتراب اعتزاله ويستعد للفصل الأخير من مسيرته
- ماكرون يعلن إطلاق سراح فرنسيين كانا محتجزين في إيران منذ عام ...
- غوتيريش: مجلس الأمن مرجعية أي كيان ينشأ لغزة وحان وقت السلام ...
- وفاة ديك تشيني أحد أبرز مهندسي غزو العراق عن 84 عاما
- بدء محاكمة لافارج الفرنسية بتهمة -تمويل الإرهاب- في سوريا
- صحف عالمية: تقارير تكشف جرائم الدعم السريع بالفاشر ودعوات لت ...
- للحد من الاحتباس الحراري.. ماسك يخطط لـ-حجب الشمس-


المزيد.....

- الاقتصاد السياسي لمكافحة الهجرة / حميد كشكولي
- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - سمير خطيب - الطبيب_الجائع