|
))العقل بين الحصار والتحرر(( قراءة فلسطينية ماركسية لمشروع دويري في تشريح الذهنية العربية -المحاصرة- .
سمير خطيب
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 17:55
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بداية لا بد من الإشادة الصادقة والاحترام العميق والتقدير الكبير للجهد الفكري الغني الذي قدّمه البروفيسور مروان دويري في كتابه "العقل المحاصر: أنماط التفكير المعيقة لنهضة مجتمعنا"، فهذا العمل ليس اجترارًا للمألوف ولا تكرارًا لشعارات وجمل فلسفية "عميقة"، بل عملية تحليلية نفسية–اجتماعية جريئة جدًا، والتي تحاول تفكيك أنماط التفكير السائدة في الثقافة العربية، وبشكل خاص في السياق الفلسطيني، بمنهج يجمع بين التحليل النفسي والبعد الثقافي والمنظور الديالكتيكي بطريقة سلسة ومفهومة، وبهذه المناسبة أشكر صديقي البروفسور مروان على إهدائه لي هذه التحفة الفكرية ، وكنت قد كتبت له أن هذا الكتاب لا يُقرأ بل يُدْرس ويُدَرس. في الكتاب مروان دويري يتطرّق إلى مواضيع كانت محظورة في بعض المناطق والأزمان، ويدخل مناطق "الحرام" والمسكوت عنها في الموروث الثقافي محاولًا سبر أغوار الشخصية الجمعية العربية وما راكمته من موروث سُلطوي، قَبلي، قدَري، وديني, وهو بذلك يعيد إنتاج الخضوع والفشل والنجاح (مع أنه نادرًا ). وفي ذلك، يذكّرنا جزئيًا بمحاولات الكاتب والباحث السوري جورج طرابيشي في نقد العقل العربي، وإن كان دويري يستند إلى أدوات سيكولوجية وتحليل أعمق وأكثر ملامسة للواقع الفلسطيني. ***الجديد في مشروع دويري: ثورة منهجية . من السؤال الكانطي إلى السؤال الدويري و"نظاراته" الجديد الذي يتناوله دويري لا يكمن فقط في الموضوع الذي يتناوله — فقد كُتب الكثير عن أزمة النهضة والحداثة والفكر العربي — بل في زاوية النظر وأداة التفكيك التي اختارها المؤلف: فهو لا يقارب العقل العربي من بوابة الخطاب أو النصوص أو الفقه كما فعل مفكرون وفلاسفة آخرون مثل المفكر والفيلسوف الجزائري أركون، بل يتوغل في الطبقات النفسية العميقة للعقل الجمعي، متسلحًا بتحليل نفسي اجتصاسي (الاجتصاسية كلمة جديدة, أثرى دويري بها اللغة العربية, وهي اختصار اجتماعي اقتصادي سياسي ) ، يرى أن المأزق العربي ليس فقط في النصوص بل في النفوس، ليس فقط في الموروث بل في أنماط التلقي والانفعال والاستجابة التي تشكّلت منذ الطفولة ضمن عادات وبنى سلطوية مغروسة في اللغة, التربية, القبيلة والدين. دويري لا يقدّم "علاجًا" بالمعنى الإكلينيكي، ولا حلولًا عملية بل يقترح ما يمكن تسميته بـ التحليل النفسي للحضارة العربية من الداخل، ويمنحنا بذلك أداة جديدة: لا لنقد الذات فحسب، بل لفهم كيف صارت هذه الذات غير قادرة على نقد وتطوير نفسها . حين سأل كانط: "ما الذي يمكنني أن أعرفه؟"، فتح أمام الفلسفة آفاقاً جديدة. لكن دويري يطرح سؤالاً أكثر جذرية وخطورة: "كيف تكوّن ما أعتقد أنني أعرفه؟ وهل أستطيع أن أرى العالم دون تلك "النظارات" التي وُضعت على عيني منذ الطفولة؟" هنا تكمن ثورة دويري المنهجية: إنه لا يقدم للعقل العربي مرآة ليرى نفسه، بل يقدم له مشرطاً جراحياً ليشرّح آليات تكوينه. إنه التحليل النفسي للحضارة من الداخل، وليس من الخارج. ***التواضع الفلسفي: فضيلة المفكر الحقيقي. ما أعجبني كثيرا هو، أن مروان دويري نفسه، لا يطرح أفكاره بوصفها حقائق مطلقة أو أحكامًا نهائية، بل كدعوة للحوار الجدلي والتفكير التشاركي، حيث يكتب بصراحة: "لأنني لا أملك الحقيقة وحدي... فإنني آثرت عرض مسودة الكتاب على زملاء من مشارب فكرية مختلفة... وهذا عمليًا جوهر ما أدعو إليه في الكتاب". وبما أن الكاتب فتح باب الحوار، واعتبر كتابه مشروعًا تحليليا نقديًا قابلًا للنقاش والتطوير، فقد قررت أن أكتب هذه الأفكار لا من باب النقد أبدًا، ولا من باب المعارضة الأيديولوجية ، بل من باب توسيع آفاق الحوار نحو حقيقتنا المركبة والمعقدة . وأنا هنا لست باحثًا ولا مفكرًا، ولكني أتناول الكتاب من الزاوية التي أعرفها وأعتقد أنها الأكثر عمليا وواقعيا في تحليل الظواهر والتغيرات، وهي المنهج الماركسي وتحديدًا المادية التاريخية، مدفوعًا بهمّنا المشترك: كيف نُحرر الإنسان الفلسطيني من قيوده الذهنية والطبقية والاستعمارية، دون أن نقع في فخ اختزال العقل في المرآة النفسية وحدها، أو عدم إعطاء البنية الطبقية الأهمية اللازمة أثناء التحليل. ***في موازنة العلاقة بين الفكر والمادة: جدلية أم تراتبية؟ كفلسطيني نشأت في واقع يتقاطع فيه القمع الاحتلالي مع الاستغلال الطبقي، وعيي لا يمكن أن يُفصل عن السياق المادي الذي صيغ وتكون فيه ومن خلاله. من هنا، أقرأ كتاب البروفيسور مروان دويري، "العقل المحاصر: أنماط التفكير المعيقة لنهضة مجتمعنا"، ليس بعيون التحليل النفسي فقط -مع أن هذا مهم- ، بل من زاوية المادية التاريخية التي ترى أن "الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، وليس العكس" – كما كتب ماركس في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي. ومن هذا المنطلق وجدت أن الكتاب، وبالرغم من كونه جهدًا تحليليًا فلسفيًا مهمًا، ولم يغفل الجانب الطبقي، لكنه لم يُعطه في رأيي الموقع المركزي الذي يستحقه في تفسير وتكوين أنماط التفكير. فقد أشار الكاتب في أكثر من موضع إلى تفاعل الفكر مع المادة، وبيّن في رسم توضيحي ثلاث علاقات ديالكتيكية: فكرة مقابل فكرة، طبقة مقابل طبقة، وفكرة مقابل طبقة. كما أوضح أن النظام السياسي ليس مفصولًا عن الدين والثقافة، بل في تحالف عضوي معهم. وهذه إشارات مهمة تُحتسب له. ولكن من زاوية المادية التاريخية، فإن هذه الإشارات لم تتحول إلى قاعدة تفسيرية واضحة تُعيد تشكيل العلاقة بين الوعي والبنية الطبقية. مثلًا، شاب فلسطيني يتخرّج من الجامعة ولا يجد عملًا بسبب الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يفرضه الاحتلال؛ هل مشكلته هي طريقة تفكيره، أم أن بنية الاقتصاد الاستعماري هي التي تصوغ تفكيره وتحدّ من خياراته؟ لذلك أعتقد أن أي تحليل لأنماط التفكير يبقى ناقصًا ما لم يُربط بالبنى الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته، وتلك التي تعيد إنتاجه. لذلك اعتقد أن أي تحليل لأنماط التفكير يبقى ناقصًا ما لم يُربط بالبنى الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته، والتي تعيد إنتاجه. وهو ما يُذكّرنا بمقولة إنجلز الشهيرة: "لا يمكن لفكر جديد أن يسود إن لم يجد له قاعدة مادية يتحقق فيها." نحن، كماركسيين، لا ننكر أهمية التحليل النفسي، بل نعتبره أداة ضرورية، شريطة ألا تُغني عن التحليل الطبقي. لذلك فإن قراءتي ليست رفضًا، بل توسيعًا للحوار مع الكاتب الذي أجلّه وأشاركه في مشروع التحرر. ومع هذا ، فإن كل محاولة لتحليل الذهنية العربية – مهما بلغت دقتها النفسية – لا تكتمل ما لم تُشتق من تموضعها في خريطة السيطرة الطبقية، وتعود لتفكيك هذه السيطرة، لا التكيف معها. ***الجانب الطبقي في تشكيل العقل: لا انفصال بين المادة والفكر لا يمكن لأي نقاش جاد حول العقل الجمعي العربي أن يتجاهل حقيقة أساسية بسيطة: الوعي لا ينشأ من الفراغ ولا يتحرر فيه. الوعي هو دائمًا انعكاس لعلاقات القوة المادية في المجتمع. فعلى سبيل المثال، أبناء الطبقات الغنية في رام الله يدرسون في مدارس دولية توفر لهم منهجًا مختلفًا ولغة أخرى وطريقة تفكير تختلف تمامًا عن طلاب القرى أو المخيمات الذين يُجبرون على مواجهة واقع اقتصادي واجتماعي خانق يفرض عليهم أسلوب تفكير مختلف. ومن هنا، فإن تأكيد دويري على وجود علاقة ديالكتيكية بين الفكر والمادة يُمثل مدخلًا هامًا لتحليل أنماط التفكير. إلا أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى تعامل دويري مع هذه الأنماط باعتبارها نتاجًا بنيويًا لواقع طبقي وسياسي؟ الواقع أن هذه الأنماط بدت في تحليله عوامل ثقافية مستقلة نسبيًا، دون إظهار كافٍ لارتباطها الوثيق بالمصالح الطبقية والاقتصادية. وهو ما يستدعي هنا مقولة ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية": "إن الأفكار الحاكمة في كل عصر هي أفكار الطبقة الحاكمة." والتي تؤكد أن الطبقة المسيطرة تُنتج وتعيد إنتاج الأفكار لضمان استمرار هيمنتها." فكيف لنا أن نتحدث عن "عقل محاصر" دون أن نسأل: من حاصره؟ من بنى السجن؟ ومن يحرسه؟ . الطبقة الحاكمة لا تحكم فقط بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل أيضًا عبر إعادة إنتاج أيديولوجيتها داخل العقول، عبر التعليم، الدين، الإعلام، والثقافة. هذه ليست مجرد "سلطات" محايدة، بل أدوات ترسخ الهيمنة الطبقية. وهي التي تصنع "النظارات" التي نرى بها العالم. ولهذا عندما نتحدث عن أنماط التفكير المحاصرة، فإن السؤال الماركسي الأول هو: من المستفيد من هذا الحصار؟ فالعقل لا يُحاصر نفسه، ولا يصنع قيوده من العدم. وكما قال غرامشي: "الهيمنة الثقافية أخطر من الاحتلال العسكري، لأنها تجعل المحتل يقتنع بأن قيوده هي حريته." ولهذا المشكلة ليست في العقل، بل في الواقع الذي يشكل هذا العقل .وكما قال فرانز فانون في "معذبو الأرض": "إن عقل المستعمَر لا يتحرر بالعلاج النفسي، بل بالقضاء على الاستعمار نفسه." ***خمس إشكاليات جوهرية: نحو مراجعة نقدية ⬅️الإشكالية الأولى: من الطفولة إلى الإنتاج - الجذور المادية للسلطة الأبوية. يركّز الكاتب على الطفولة والعائلة والنقلات النفسية، لكنه يغفل أن السلطة الأبوية والرضوخ المجتمعي ليست أنماطًا نفسية فقط، بل ممارسات تنبع من شكل الملكية ونمط الإنتاج كما تقول الماركسية . وقد كتب إنجلز في أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة: "إن الشكل الأبوي في المجتمع ليس إلا انعكاسًا لملكية خاصة تنشئ خضوعًا ممتدًا من العائلة إلى الدولة". فمثلًا، فتاة فلسطينية تعيش في قرية ريفية قد تحرم من التعليم الجامعي بسبب الفقر وسيطرة السلطة الأبوية، ليست المشكلة هنا في نفسيتها فقط بل في طبيعة الملكية والإنتاج التي تُبقي العائلة معتمدة كليًا على القرارات الاقتصادية للأب. مروان دويري يكتب: "أنماط التفكير؛ هي قوالب تفكير جاهزة، تكون، عادةً، غير واعية، وأصحابها لا يدركون أنها عامل مقرِر في حياتهم"، وهو توصيف دقيق من الزاوية النفسية.، لكنه لا يربط تلك "القوالب" بجذرها الطبقي، فمثلا في المخيمات الفلسطينية، ليست الطفولة وحدها ما يشكّل العجز، بل انعدام السيطرة على أدوات الحياة والعمل، أي التبعية المطلقة للمعونات والسوق الاستعماري. ************ ⬅️الإشكالية الثانية: التعميم الثقافي وتجاهل الديالكتيك الطبقي . يقدّم الكتاب "الثقافة العربية" ككُتلة واحدة تحمل أنماطًا سلبية مشتركة، لكنه لا يميز بين أفكار الطبقة الحاكمة وأفكار الجماهير. وبما أن الوعي المهيمن في أي المجتمع هو بالضرورة انعكاس لأفكار النخب المسيطرة اقتصاديًا وسياسيًا، لا يعقل أن نساوي بين ذهنية تاجر كبير في رام الله وذهنية عامل من طول كرم معاشه بالكاد يكفيه لسد رمقه ؟ أو بين وعي أمراء النفط في الخليج ووعي مزارع سوداني يعيش في كوخ بلا كهرباء؟ ما يسميه الكاتب بـ"أنماط التفكير القدري" هو في حقيقته نتيجة لإعادة إنتاج السيطرة عبر الدين والتعليم والإعلام الموجَّه، وليس فقط ترسّبات نفسية.كل هذه المقارنات تُظهر أن الطبقة ليست خلفية للتفكير، بل شرطه الموضوعي ******** ⬅️الإشكالية الثالثة: الوهم الليبرالي في "تحرير العقل" "يدعو دويري إلى تجاوز الهيمنة السيكولوجية والاجتماعية التي تُكبّل العقل وتحدد رؤيته للعالم، ويُشدد على ضرورة الوعي بهذه القيود إذ يكتب: "مشروع التحرير يجب أن يبدأ بتحرير العقل من قيوده وقوالبه وأقفاصه، أما دون ذلك فلن يكون أي تحرير." من زاوية ماركسية، أرى أن التحرير الذهني والنفسي الذي يشير إليه دويري لا يمكن أن يتحقق دون أن يقترن عمليًا بتحرير مادي وطبقي واقتصادي من سيطرة الشركات الإعلامية الكبرى وقوى الرأسمالية والاستعمار المتنفذة في المكان الذي يعيش فيه." وكما قال لينين: "لا يمكن أن يكون هناك حرية حقيقية في ظل سيطرة رأس المال، فحريتك تظل شكلية ما دامت وسائل الإنتاج في يد القلة". الشاب الذي يُمنع من السفر أو من التعبير عن رأيه بحرية خوفًا من الاعتقال أو المضايقات، لن يستطيع أن "يتحرر ذهنيًا" ما دام واقع حياته اليومي مقيّدًا بخوف حقيقي ملموس. فهل تحرير "العقل المحاصر" ممكن في ظل سلطات أمنية تمنع تنظيم المظاهرات والاحتجاجات أو تشكيل نقابات وأحزاب؟ في ظل بنك يتحكم بأحلام الشاب ومستقبله قبل زواجه؟ في ظل مخابرات تمنع قراءة رواية أو كتاب؟ في ظل العنف والقتل لمجرد ابداء رأي أو موقف سيارة ؟ إن العقل لا يتحرر إلا إذا تحرر العقل من قيد الخوف من الجوع ، والامان الشخصي وإذا تحررت الأرض من سطوة الاحتلال. والتجارب تثبت أن الأمان الإقتصادي والأمن الشخصي عاملين مهمين للإبداع والتحرر الذهني. ********* ⬅️الإشكالية الرابعة: الجدل الذي لا يعتبر الصراع الطبقي اساسا. يشيد البروفسور مروان بالمنهج الديالكتيكي، معتبرًا أن "الجدل بين الأطروحات المتناقضة هو المحرك نحو التغيير". وهذا موقف صحيح من المفكر، لكن هل يمكن الوصول إلى الإجابة الأصح إذا تم تفريغ الجدل من الصراع الطبقي الفعلي؟. فالجدل، كما قال إنجلز: "ليس مجرد سرد للنقائض، بل هو العلم الذي يشرح الانتقال من كم إلى كيف، ومن النفي إلى نفي النفي". بدون ربط التناقضات بالنضال العملي والتحول في البنى الاجتماعية، يتحول "الحوار" إلى عصف فكري ، لا يهدد أحدًا، وقد لا يغير شيئًا. فهل يكفي استبدال "نظاراتنا النفسية"(كما يقول دويري)؟.. إن معركة الفلسطيني ليست فقط في تغيير أنماط تفكيره، بل في كسر منظومة القمع الطبقي والوطني التي تصوغ وعيه وتجعل التغيير مستحيلًا بدون انهاء الاحتلال أولا. ******* ⬅️الإشكالية الخامسة: كأقلية فلسطينية - مأزق الهوية . هنا، لا بد لي أن أتكلم من التجربة الشخصية: كفلسطيني أحمل الجنسية الإسرائيلية، أعيش بلسانين ومزاجين، لكن بهوية واحدة, أحيانا "مضطربة". الدولة التي تحمل إسمي في بطاقتها، تُقصيني من تاريخها وتخنق روايتي وسرديتي ، وتقدّم لي "الانتماء المدني" بدل الاعتراف السياسي، وتقول لي: "كن مواطنًا بلا ذاكرة" فهل مشكلتي نمط تفكير؟ أم أنها نتيجة تناقض بنيوي وجودي، حيث يُطلب مني أن أُنتج في اقتصاد السوق الإسرائيلي، وأُحجب في الإعلام العبري، وأُراقب في التعليم، وأُختزل إلى "الوسط العربي" وفي أحسن الحالات "أقلية عربية" في وطن كنت فيه قبل أن يكون لها شعار واستقلال و"قانون قومية"؟ هذا التشظي ليس عقدة طفولة، بل هو جزء من سياسات تعسفية ممنهجة تستهدف وعي الفلسطيني في اسرائيل، وتحاول عزله عن عمقه العربي والفلسطيني. عندما يتقدم شاب فلسطيني لوظيفة في شركة إسرائيلية ويضطر لتغيير اسمه العربي إلى اسم عبري أو أجنبي ( وهذه ظاهرة موجودة للاسف )لكي يزيد من فرص قبوله في العمل، فهل هذه مشكلة نفسية أم مشكلة بنيوية في الهوية المفروضة من نظام عنصري؟ الهوية في ظل الاستعمار ليست مسألة وجدانية، بل مسألة بقاء، ولو عاش ماركس في كفركنا أو الطيبة، لقال لنا إن الصراع على الهوية ليس بين موروث وحداثة، بل بين وجود وطني وأداة محو. ***خلاصة ماركسية فلسطينية: أنا لا أنكر أهمية نقد وتشريح الأنماط الذهنية بل أؤيدها لكن، "يشير دويري إلى أن أنماط التفكير تعمل كآلية إدراكية مغلقة تحدد كيفية تعامل الإنسان مع واقعه ويعبر عنها مجازيًا بالنظارات قائلًا: "أنماط التفكير هي كأنها نظارات يرتديها الإنسان... وإذا لم يخلعها، يبقى سجين رؤيته الخاصة." وبهذا يؤكد أن إدراك المرء لانغلاقه الفكري خطوة حاسمة للخروج من الرؤية الأحادية الضيقة للعالم، ومن أجل الانعتاق من الوهم بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة. لكنني كشيوعي أضيف: لا يكفي أن نطلب من الناس أن يخلعوا نظاراتهم، بل علينا أن نسأل ونُسائل: من الذي صنع هذه النظارات؟ ومن الذي يُجبرنا على ارتدائها؟ إنها ليست مجرد أدوات ذهنية، بل أدوات سلطة. مثلًا، المعلم الفلسطيني الذي يعمل في مدرسة تمولها منظمات أجنبية ويُمنع من تدريس التاريخ الفلسطيني الحقيقي، ليس بحاجة إلى "تغيير نظاراته" فقط، بل إلى تغيير النظام التعليمي والسياسي الذي يجبره على تقديم معلومات مغلوطة أو منقوصة. من المدرسة إلى المسجد، من التلفزيون إلى شاشة الكمبيوتر، من غوغل إلى الذكاء الاصطناعي، تُشكّل هذه الأنماط لتُبقي عقل الفرد مستسلِمًا، لا محاصرا و"مقيدا" فحسب. ***حقائق ونماذج من الواقع الفلسطيني . &في انتفاضة النقب 2022، خرج البدو دفاعًا عن الأرض رغم تهميشهم الشديد، لا لأنهم "تجاوزوا العقل الجمعي"، بل لأنهم دخلوا في صراع مادي مباشر مع السلطة المسيطرة. &من يُعتقل في إسرائيل بسبب منشور فيسبوك لا يستطيع معالجة نمط "الانغلاق"، بل إلى دعم جماهيري ضد آلة أمنية تسحقه وتخنقه. &في مخيمات اللجوء، من يولد في دائرة وكالة الغوث للاجئين لا يحتاج إلى تغيير "صورة الذات"، بل إلى كسر جدار الاستعمار والكولونيالية والغطرسة الغربية. &في غزة، الطفل الذي يرى بيته يُقصف، لا يحتاج إلى تعديل أنماط التفكير، بل إلى ثورة تحررية على الاحتلال والاستعمار والاستغلال والتبعية. في النهاية ، أود أن أختم بشكري الكبير للبروفسور مروان على مجهوده الكبير في تقديم هذا المنتج الفكري المثري لمكتبتنا الوطنية والفكرية، والذي آمل أن يساهم في تحرير "العقل العربي المحاصر" وما كتبته ليس نقدا، بل محاولة لتوسيع الحوار الثقافي في فترة نجد أنفسنا ننشغل بالأمور الحالية والآنية لكثرة الألم والحزن والغضب الذي يعترينا، وأؤكد أن "العقل المحاصر" عمل فكري شجاع يستحق القراءة والتأمل والدراسة المعمقة، ويمثّل خطوة ضرورية لفتح نقاش عميق حول سبل تحررنا الذهني والوطني. على ان يكون مشروع التحرر شاملا: تحرر العقل من الأوهام، تحرر الإنسان من الاستغلال، تحرر الأرض من الاحتلال. وهذه الحلقات الثلاث مترابطة ترابطاً جدلياً لا يقبل الفصل. ***كلمة أخيرة. العقل لا يتحرر بالتحليل النفسي وحده، بل عبر تغيير الواقع المادي. الفكر لا يتحرر إلا عندما تتغير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تنتجه. والحرية الحقيقية لا تأتي من تغيير "نظارات التفكير"، بل من تغيير البنية الطبقية التي تصنع هذه النظارات، لكن، وإن اختلفنا في أولوية التفسير الطبقي أو النفسي، فإننا نلتقي – وبكل احترام – مع البروفسور مروان دويري في هدفه الكبير: تحرير الإنسان العربي من العقل المقيد، والمجتمع المكبّل، والسلطة المتحالفة مع الجهل.
#سمير_خطيب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية
-
طائِرُ الفِينِيق الأَسِير... نَسْلُ الأَبَدِيَّة
-
أيّوبُ القرنِ الواحدِ والعشرين
-
لحن الحياة- قصة قصيرة
-
قناع الليبرالية وذراع الصهيونية: بين دم الحقيقة , خجل الخطاب
...
-
فَاطِمَةُ وَالْمِفْتَاحُ الْخَالِدُ
-
التراجع الاستراتيجي
-
يوم الارض
-
دورةُ الأسى ما بين غزَّة ومكَّة
-
أيمن عودة يريد تغيير الواقع لا أن يحلله ويحتج عليه فقط| سمير
...
-
75 عاما على قيام اسرائيل ...أزمة سياسية أم ازمة هوية وجودية
...
-
التاريخ الزائف: ملاحظات حول كتاب -الحزب الشيوعي الإسرائيلي و
...
-
في الذكرى ال- 104 لإنطلاقة ثورة أكتوبر الإشتراكية
-
لوحة بانورامية
-
لماذا أنا شيوعي؟
-
إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي
...
-
في الطريق إلى قرار التقسيم!!
-
أردوغان وماكرون.. تصدير مشاكل داخلية بواسطة استغلال الدين
-
نعم ل -المراجعة- ... ونعم ل -التراجع-
-
جدارية السنديانة الشيوعية
المزيد.....
-
قصة السر المدفون بين ترامب وإبستين... هل تنفجر -قنبلة ماسك-؟
...
-
ما الذي يربط ترامب وماسك رغم الخلاف؟
-
الجيش الإسرائيلي يؤكد أن العقوبات ضد الحريديم غير كافية ويعت
...
-
ترامب: أوكرانيا منحت روسيا مبررا واضحا لقصفها بشدة
-
ترامب: الصين وافقت على استئناف توريد المعادن النادرة إلى الو
...
-
-هذا زفاف وليس غرفة نوم-.. عروسان يثيران الجدل بمشهد جريء في
...
-
ترامب: إذا لزم الأمر.. سنفرض عقوبات جديدة على روسيا وعقوبات
...
-
المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: 110 شهداء و583 إصابة و9 مفقو
...
-
أبرز صحافي في إسرائيل: تتبع أكاذيب نتنياهو مهمة شاقة تتطلب
...
-
قتلى وجرحى فى اشتباكات بين المليشيات فى ليبيا وإلغاء صلاة ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|