أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسن مدبولى - ذكرى الإحتفال الذى أغرق مصر،،














المزيد.....

ذكرى الإحتفال الذى أغرق مصر،،


حسن مدبولى

الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 08:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمرّ هذا الشهر الذكرى السادسة والخمسون بعد المائة لحفل افتتاح قناة السويس الشهير. ففي نوفمبر من عام 1869 عاشت مصر واحدًا من أكثر الأحداث بهرجة في القرن التاسع عشر، حين افتتح الخديوي إسماعيل القناة في احتفالٍ عالميٍّ خيالي. لم يكن ذلك الحدث مجرد تدشينٍ لممرٍّ مائي يربط بين بحرين، بل كان إعلانًا مأمولًا عن “مصر الأوروبية” التي أراد إسماعيل أن يقدّمها للعالم، ولو على حساب خزانة الدولة وعرق الفلاحين.
كان الخديوي يحلم بأن يجعل من ذلك الافتتاح رسالة إلى أوروبا بأن مصر أصبحت دولة أوروبية، لكنه دفع الثمن فادحًا: ديونًا متراكمة، وتدخّلًا أجنبيًا، وضياعًا للسيادة.

افتُتحت القناة رسميًا بعد عشر سنوات من العمل المضني، سقط خلالها الآلاف من العمال والفلاحين صرعى الحفر البدائي والأمراض التي تفشّت بينهم. وقد اقتيد كثيرون قسرًا لإتمام المشروع في نظام السُخرة القاسي.
وجّه إسماعيل دعواته إلى ملوك وأباطرة أوروبا: الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث، والإمبراطور النمساوي فرانتس جوزيف، وولي عهد بروسيا، وأمراء من إنجلترا وإيطاليا وروسيا. وكان المشهد أسطوريًا بكل المقاييس: مواكب فخمة، أقواس نصر، شوارع مزدانة بالحرير والمصابيح الغازية، وألعاب نارية تضيء سماء القناة. أنشأ إسماعيل مدينة الإسماعيلية خصيصًا لتكون مركز الاحتفال، وبنى قصرًا فخمًا مؤقتًا لأوجيني بتكلفة خرافية، واستقبل ضيوفه في قصر عابدين الذي لم يكن قد اكتمل بناؤه بعد.
كانت الولائم تُقام كل ليلة بأطباق أعدّها الطاهي الفرنسي الشهير إسكوفييه، وجُلبت اللحوم والأسماك والنبيذ من باريس خصيصًا للمناسبة. أما دار الأوبرا الخديوية فقد شُيّدت لتتويج الاحتفال، وطلب إسماعيل من "فيردي" تأليف أوبرا “عايدة” لافتتاحها.

تقدّر بعض المصادر أن تكاليف تلك الاحتفالات وحدها بلغت ما بين مليون ونصف إلى مليوني جنيه إسترليني — مبلغ خرافي بمعايير ذلك الزمن، يعادل مئات الملايين من الدولارات اليوم.
والمفارقة أنّه بينما كانت القصور الملكية تُضاء بالغاز احتفالًا بالضيوف، كانت قرى مصر تغرق في الظلام والفقر. وبينما كانت الإمبراطورة أوجيني تتجوّل في عربتها المذهّبة على ضفاف القناة، كان آلاف الفلاحين المصريين المجهولين الذين حفروا الأرض بأيديهم العارية قد دُفنوا تحتها جوعًا ومرضًا.

كان المجتمع منقسمًا بحدة بين قلةٍ من الأعيان والموظفين الأجانب، وغالبيةٍ كادحةٍ مسحوقةٍ من الفلاحين تمثّل أكثر من تسعين في المئة من الشعب، لا يعرفون القراءة والكتابة ولا وجود فعليًا للرعاية الصحية بينهم. الأوبئة كالكوليرا والملاريا كانت تحصد الآلاف كل عام، وهكذا كانت مصر تُظهر وجهًا أوروبيًا في العاصمة، ووجهًا أفريقيًا معدمًا في أقاليمها المتداعية.

ونتيجةً لتلك السياسة الاقتصادية السفيهة، ارتفع الدين الخارجي خلال سنوات قليلة من ثلاثة ملايين جنيه إسترليني عند تولي إسماعيل الحكم، إلى أكثر من مئة مليون. ومع تفاقم العجز اضطر إسماعيل إلى بيع أسهم مصر في شركة قناة السويس لبريطانيا عام 1875، ثم فُرضت الرقابة الثنائية الفرنسية – الإنجليزية على مالية البلاد عام 1876، حتى انتهى الأمر بعزله عام 1879 بأمر من السلطان العثماني وضغط من الدولتين.
وهكذا تحوّلت “النهضة الأوروبية” التي حلم بها إسماعيل إلى فخٍّ أوروبي التفَّ حول عنق البلاد.

وليس الغرض من استعادة تلك الحقبة أن نمارس انتقاءً في إدانة التاريخ، فالمظالم لم تتوقف عند إسماعيل وحده، بل تكرّرت بأشكالٍ مختلفة في العصور اللاحقة. فمدن القناة نفسها دفعت ثمنًا فادحًا في الحروب الحديثة، وهُجّر أهلها مرتين، وتحمّل الجنود المصريون في صحراء سيناء ما يفوق الوصف من المعاناة والتضليل. كما استُبيحت ثروات البلاد وقراراتها في مراحل لاحقة من حكمٍ فاسدٍ أو تبعيةٍ عمياء. لكنّ الإشارة إلى تلك الفصول لا تُلغي مسؤولية البدايات؛ فالتاريخ سلسلة متصلة، وما نالته مصر من كوارث لاحقًا كان امتدادًا طبيعيًا لانحرافاتٍ بدأت حين قُدِّم المظهر على الجوهر، والوجاهة على الوعي، والولاء للخارج على كرامة الداخل.

إن افتتاح قناة السويس لم يكن لحظة مجدٍ خالص، رغم عظمة المناسبة، بل كان مرآةً لمفارقةٍ مؤلمة: احتفالٌ من ذهبٍ فوق أرضٍ من الطين والدم. وفي الوقت الذي صفق فيه الملوك والأجانب للألعاب النارية، كانت مصر تندب أبناءها البسطاء الذين ابتلعتهم الرمال.
لكن من رحم ذلك الظلم والديون وُلد الوعي والغضب الشعبي الذي انفجر لاحقًا في الثورة العرابية عام 1882، حين أدرك المصريون أن بلادهم تُدار لصالح غيرهم، وأن صخب الاحتفال لم يكن إلا مقدمةً لخرابٍ طويل.



#حسن_مدبولى (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من التاريخ المصرى ،،
- التاريخ والاستثناء
- روسيا والصين، قطبان بلا روح
- التطرف بمحافظة المنيا ،،
- كرامة المصريين فى الخليج !!
- المجالس العرفية !!
- مع من نتعاطف فى السودان!؟
- الخلل فى التعاطف الطائفى !!
- مش قوى كده!
- ساركوزى ونتانياهو،والإسطورة المصرية !؟
- رأس الذئب الطائر !!
- العقد الماضى، قراءة شديدة الحياد،والتحسب،،
- ذكرى الإطاحة بالقذافى !!
- يومكم قادم لامحالة ،،
- عقيدة القتل والارهاب !!
- رسالة أحمد حسن الزيات
- مصر تكتب الوصية ،،
- عماد الدين أديب ،وأفرايم الزيات
- عمران خان، وباكستان ،،،
- العدالة الإنتقائية من الدوحة إلى أبوظبي


المزيد.....




- انتقد الكارتلات فقتلوه.. عمدة يفارق الحياة رميًا بالرصاص في ...
- ضاحي خلفان يُعلق على فيديو المشادّة بين رجل أمن ومعتمر في ال ...
- سكان نيويورك يدلون بأصواتهم لانتخاب رئيس بلديتهم والديمقراطي ...
- هل الوصول إلى هدف -صافي صفر- لا يزال ممكنا؟
- البنتاغون يخطط لخيارات مختلفة في نيجيريا عقب تهديدات ترامب
- سكان نيويورك ينتخبون رئيس بلديتهم وممداني الأوفر حظا
- تهديد إسرائيلي جديد لحزب الله: لن يكون هناك مكان محصن
- العراق.. تجدد الجدل بشأن سلاح الفصائل
- السعودية.. جدل على فيديو مشادّة بين رجل أمن ومعتمر في الحرم ...
- لماذا تزداد الأرض ظلمة وما علاقة ذلك بالتغير المناخي؟


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسن مدبولى - ذكرى الإحتفال الذى أغرق مصر،،