أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - تنّور أم زينب














المزيد.....

تنّور أم زينب


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 08:35
المحور: الادب والفن
    


في زقاقٍ صغيرٍ من أزقّة بغداد القديمة، كانت تعيش امرأة خمسينية تُدعى أم زينب. أرملة منذ عشرة أعوام، رحل زوجها وترك لها ثلاثة أطفال: حسن وزينب وفاطمة. في يوم رحيله، لم تصرخ ولم تنهار، فقط جلست قرب الباب طويلًا تحدّق في الفراغ. وفي صباح اليوم التالي، قامت وأشعلت تنّور الطين كما اعتادت. كانت تعرف أن النار حين تنطفئ مرة… يصعب إشعالها من جديد.
كان التنّور يقف في فناء بيتها، مطليًا بالطين والتبن، تفوح منه رائحة الدخان القديم. كانت تستيقظ قبل الفجر، تَعجِن بيديها اللتين حفرت فيهما الحياة خطوطها، ترشّ السمسم، وتدفع الأرغفة إلى جوف النار بحنوّ أمّ تضمّ طفلها. رائحة الخبز كانت تنتشر في الزقاق مثل صلاة مبكرة، توقظ من في البيوت حتى قبل أن يفتحوا أعينهم.

كان الناس يعرفون أنّ من يعطي الخبز بلا ثمن لا يعطي خبزًا فقط، بل يعطي قلبًا.
وكانت أم زينب تحفظ حكايا البيوت: تعرف من فقد أمه ولم يتعافَ، ومن عاد من الغربة وهو يحمل في صدره تعب المدن، ومن يبتسم وهو من الداخل مكسور. كانت تنصت أكثر مما تتكلم، وتجبر الخواطر بقطعة خبز أو جملة رقيقة. وكانت تقول دائمًا:
"الخبز ما ينشوي بالنار وحدها… ينشوي بالنية."
وذات صباح، خرجت الطفلة سارة تبكي. كانت ترتدي دائمًا سوارًا فضيًا صغيرًا، هدية من والدها قبل سفره الطويل. اختفى السوار. بحثوا عنه في كل مكان ولم يجدوه. ثم همس أحدهم:
"يمكن… أم زينب أخذته. هي تعرف كل البيوت… ويمكن محتاجة."
الهمس الشرس لا يحتاج عقلًا ليمشي، فقط لسان واحد.
وتحوّل الهمس إلى نظرات.
لم يقل أحد كلمة اتهام صريحة، لكن نظرة واحدة تكفي لجرحٍ لا يُشفى.

وفي ذلك اليوم، لم تشعل أم زينب التنور.
الحطب موجود.
العجين جاهز.
لكن الكرامة حين تُجرح… تنطفئ معها النار.
الزقاق كلّه شعر أنّ الصباح ناقص، وأن شيئًا في الهواء مكسور.
لم تكن رائحة الخبز موجودة… وكأن الفجر لم يأتِ.

وبعد يومين، وجدت أم سارة السوار بين ألعاب طفلتها.
جاؤوا إلى بيت أم زينب بوجوه منكسرة واعتذار مرتبك لا يجد الكلمات.
لكن أم زينب اكتفت بأن قالت:
"النيا ما تنباع… ولا تنشرا.
والقلب إذا تلوّث، لا يغسّله ماء الدنيا."
ثم أشعلت التنور من جديد.
ارتفعت النار.
ارتفع الدخان.
وارتفع الحياء في عيونهم.

مرت السنوات، كبر حسن ورحل بحثًا عن عمل، وتزوجت زينب وفاطمة، وتغيّر الزقاق.
لكن التنور بقي مثل شاهدٍ على روح لا تُنسى.
حتى جاء يوم اشتد المرض على أم زينب.
وحين ضعفت، جلست زينب قربها تبكي.
رفعت أم زينب يدها بصعوبة، أمسكت كف ابنتها وقالت بصوت خافت، لكنه ثابت كالجمر تحت الرماد:
"لا تطفئين التنور… التنور إذا انطفى، ينطفى البيت."
وحين رحلت، لم يجتمع الزقاق فقط لوداعها…
بل الحيّ كله.
لم يكونوا يودّعون امرأة، بل ذاكرة كانت تمنح الدفء بلا صوت.
وفي صباح اليوم التالي، خرج من بيتها دخانٌ خفيف.
كانت زينب قد أشعلت النار من جديد، كما أوصتها أمها.
وقف الناس عند الباب بصمتٍ يشبه الصلاة.
ولم يقل أحد شيئًا.
فالكلمات أمام النار الصادقة تصبح صغيرة.
ومنذ ذلك اليوم، كلما مرّ أحد قرب ذلك البيت قال:
"هنا كان قلبٌ ينبض بالنار… والرحمة."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكرى لا تُباع
- ألمُ الفقد
- نبضٌ لا يموت
- ضجيجُ العيش وصمتُ الحكمة
- حديقة البيت رقم ١٧
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر
- مقهى على دجلة
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة
- مرثيّة الظلّ البعيد
- عزاء في الأزقة
- وصيّة في باص مزدحم
- رائحة الخبز في بغداد
- ساعة لا تدقّ
- مقعد في قاعة الانتظار
- حُلْمٌ يُحاكَمُ في اليقظة
- كلية واحدة للحب
- مرثيَّةُ الرُّوحِ الغائبة
- الطريق الى المخيم
- رسالة لم تُسلَّم


المزيد.....




- العربية في اختبار الذكاء الاصطناعي.. من الترجمة العلمية إلى ...
- هل أصبح كريستيانو رونالدو نجم أفلام Fast & Furious؟
- سينتيا صاموئيل.. فنانة لبنانية تعلن خسارتها لدورتها الشهرية ...
- لماذا أثار فيلم -الست- عن حياة أم كلثوم كل هذا الجدل؟
- ما وراء الغلاف.. كيف تصنع دور النشر الغربية نجوم الكتابة؟
- مصر تعيد بث مسلسل -أم كلثوم- وسط عاصفة جدل حول فيلم -الست-
- ترحيل الأفغان من إيران.. ماذا تقول الأرقام والرواية الرسمية؟ ...
- الإعلام الغربي وحرب الرواية بغزة: كيف كسرت مشاهد الإبادة الس ...
- أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة الأزهر المصريّة
- يوروفيجن تحت الحصار.. حين تسهم الموسيقى في عزلة إسرائيل


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - تنّور أم زينب