أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم














المزيد.....

حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 12:02
المحور: قضايا ثقافية
    


في تلك الليلة التي كانت تشبه وجع الأنبياء في منفاهم الأخير، كنتُ أجلس بين ركام الأثاث المستعمل، أتنفس تعب الأيام وأشمّ رائحة الحديد الصدئ المختلطة بالذكريات. لم يكن المحل سوى مقبرة صغيرة للأشياء المنسية، وكان كلّ كرسيٍّ مكسورٍ يحكي عن إنسانٍ فقد جلسته في الحياة، وكلّ مرآةٍ مشروخةٍ تذكّرني بوجوهنا حين انقسمنا على أنفسنا. كنت أعمل هناك عاملاً بسيطاً، أُعيد ترتيب ما كسره غيري، وأنا المكسور منذ زمن. أعمل من الصباح حتى منتصف الليل، أبيع ما تبقى من الأمل، وأشتري بالصبر لقمةً تُسكِت جوع الكرامة. في الليل كانت الأنوار تتراقص مثل أرواحٍ محبوسة في زجاجٍ معتم، وكنت أشعر أن كل شيء حولي ينطق، حتى تلك المبرّدة القديمة على الرصيف كانت تتنهد مثل عجوزٍ تنتظر أبناءها الذين ذهبوا للحرب ولم يعودوا.
كان صاحب المحل رجلاً كردياً طيباً يناديني: “أستاذ حامد”. كانت كلمة “أستاذ” تسقط في أذني كقطرة مطرٍ في صحراء روحي، لكنها لا تغيّر شيئاً من الحقيقة، فالأستاذ الذي يكتب عن الوجع أصبح جزءاً من ديكور الألم، تماماً كالمصباح الذي يضيء لغيره ويذوب من حرارته. في تلك الليلة الموحشة، غاب أحمد، زميلي في العذاب، ورفيقي في الشقاء، أحمد الذي يحمل الحديد كما لو أنه يحمل جثث أحلامه. كان رجلاً لا يبتسم إلا حين يتذكّر أمه المريضة بالقلب، تلك التي تسكن غرفة صغيرة بين جدرانٍ تبكي معها كل مساء.أحمد فقد كل شيء، حتى الهواء صار عليه ديناً. أخويه قُتلا أمام عينيه لأنهما وُلدا من طينٍ لا يعجِب الميليشيا. قُتلا بدمٍ بارد، ثم أُلصقت على الجدار ورقة تقول “شهداء الوطن”. ضحك أحمد وقال لي يومها: “أي وطنٍ هذا الذي يقتل أبناءه ثم يُقبّل صورهم؟” كان أحمد يجرّ ألمه مثل عربةٍ بلا عجلات، ومع ذلك ينهض كل صباحٍ إلى العمل، يُحمّل كتفيه بالحديد وينسى أن قلبه هو الأثقل. كنت أنظر إليه فأقول: هذا ليس إنساناً، هذا أيقونة الصبر تمشي على قدمين.حين طلب مني صاحب المحل أن أُحرّك المبردة المخالفة لتعليمات البلدية، نظرت حولي فلم أجد أحداً. قال لي مبتسماً بنصف فمٍ: “أنت لا تصلح للأحمال، تصلح للكتابة فقط.” ابتسمتُ بمرارةٍ وقلت: “أنا أحد أبطال الشوارع، أولمبيّ الألم في دولةٍ نسيت أبناءها.” ضحك، ولم يعلم أن الضحك في بلادنا طريقةٌ لبكاءٍ متأخر. مددتُ يدي إلى الحديد، رفعتُ المبردة بكل ما تبقى من رمقٍ في ذراعي، وحين وصلتُ إلى مؤخرة السيارة، غفلتُ لحظة، فانحشرت يدي بين قطعتين من الحديد، فسمعتُ صوتاً يشبه صرخة الأرض حين تُغتصب. شعرت أن القلم الذي يسكن أصابعي منذ الطفولة يُسحب منها كما تُنتزع الروح من الجسد، فصرخت بلا صوت، وبكيت بلا دموع، لأن البكاء صار ترفاً لا يملكه الفقراء.سقطت المبردة، وتجمّع الدم على الأرض كحبرٍ يكتب آخر سطرٍ في قصيدتي. ركض صاحب المحل نحوي، وجهه شاحبٌ كقلب طفلٍ فقد أمه، وقال لي: “يا أستاذ حامد، لا تقاوم، أصابعك أهم من أي مبردة.” لكن أصابعي كانت تصرخ في داخلي: “لقد انتهى زمن الكتابة يا حامد، ذهب موضع القلم الذي كنت تعشقه.” ابتسمتُ بوجعٍ يشبه سخرية الموت وقلت لها: “ستكتبين، ولو بالدم.” قالت وهي تبكي: “أنا خُلقتُ للفكر، لا للانكسار.” قلت: “اكتبي إذن، اكتبي عن الذين يبيعون الخبز ولا يجدون من يشتري كرامتهم، اكتبي عن وطنٍ جعل المثقف متسولاً، والشاعر مجنوناً، والصادق منفيّاً. اكتبي عن أولئك الذين عاشوا أطهاراً وماتوا بلا قبورٍ لأنهم لم ينحنوا.”اكتبي يا أصابعي المكسورة عن أحمد، عن أمه التي تصلي للقلب كي لا يتوقف، عن أخويه اليتيمين في القبر، عن البيوت التي تهدمت لأن ساكنيها وُلدوا في الجهة الخاطئة من المذهب، عن العراق الذي صار غريباً بين نخله ومائه، عن البصرة التي تبكي بصمتٍ تحت المطر، عن النخيل الذي قُطعت جذوره ليُزرع مكانه عمود كهرباءٍ يضيء بمال اللصوص. اكتبي عن شعبٍ يصفق لمن يجلده، ويسكت على قتله، ثم يسأل الله النجاة من وجعه. اكتبي عن وطنٍ تُدار وزاراته بالولاء لا بالكفاءة، ويُمنح اللص لقب المناضل، ويُسجن الشريف لأنه لم يصفّق بما فيه الكفاية.كنت أضحك وأنا أبكي، أبكي وأنا أضحك، حتى شعرت أني بين الجنون والوعي كخيطٍ مبلولٍ بالمطر. نظرت إلى المرآة المشروخة في زاوية المحل، رأيت وجهي نصفه يبتسم ونصفه يبكي، كأن القدر رسم مأساتي بعناية. قلت لنفسي: ربما يجب أن نكسر الأصابع كي نكتب بصدق، وربما لا نكتب إلا حين ننزف. وفي تلك اللحظة دخل أحمد، ساقة ملفوفة بضمادٍ أبيض، يبتسم رغم الوجع، اقترب مني وقال: “هل انتهى الألم؟” نظرت إليه وضحكت بمرارةٍ وقلت: “أنتَ ساقك مكسور، وأنا قلمٌ بلا يد.” فابتسم كمن فهم كلّ حكاية الإنسان في جملةٍ واحدة، وضحكنا معاً، ضحكنا حتى البكاء، وبكينا حتى ضحك منّا القدر.خرجنا معاً إلى الشارع، الليل كان يمشي معنا كظلٍّ يتيمٍ يبحث عن جسده. نظرت إلى السماء فلم أرَ نجمةً واحدة، كأنها خجلت منّا. وضعت يدي المضمّدة على صدري وقلت: “أيها القلم، سامحني إن خذلتك. لقد حاولت أن أكون صوتاً لمن لا صوت له، لكن العالم لا يسمع إلا ضجيج الأقوياء.” ومشينا بين أكوام الخردة، وكل قطعةٍ من الحديد كانت تهمس لنا بأسمائنا، كأنها تعرفنا منذ الأزل.في نهاية الطريق، وقف أحمد وقال بصوتٍ يشبه صلاةً حزينة: “ربما خُلِقنا لنحمل الأثقال عن الآخرين.” قلت له: “وربما خُلِقنا لنذكّرهم أن المكسورين وحدهم يكتبون التاريخ.” ابتسم ومضى، وبقيتُ أنظر إلى يدي التي لم تعد تمسك القلم، لكنها ما زالت ترتجف كجناحٍ يريد الطيران. حينها أدركت أن الأصابع ليست للكتابة فقط، بل للبكاء أيضاً، وأن الألم، حين يشتد، يتحول إلى حبرٍ أبديٍّ لا يجف.ومضيتُ في الليل أجرّ ظلي خلفي، والريح تكتب عني ما لم أعد أستطيع كتابته، وأنا أبتسم… أبتسم لأنني عرفت أخيراً أن الوطن، مهما انكسر، سيظل يكتب بنا حتى آخر إصبعٍ تنزف فيه الحياة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية
- الغيرة الشريفة... فلسفة النقاء في زمن الابتذال
- الشرق الأوسط بين إعادة التوازن وتفكيك النفوذ الإيراني


المزيد.....




- -نوّر مولانا-.. تيم حسن يرحب بعودة فارس الحلو للدراما السوري ...
- محمود عباس يصدر إعلانًا دستوريًا يحدد من سيخلفه في منصبه في ...
- الفاشر.. حقيقة فيديو -رسالة قوات الجيش السوداني بعد هجوم الد ...
- مقتل شخص وإصابة ستة آخرين في إطلاق نار خلال احتفال في جامعة ...
- -قوات الدعم السريع- تعلن سيطرتها على الفاشر آخر معقل للجيش ف ...
- هل عادت الأمور إلى مجاريها بين واشنطن وحلفائها الآسيويين؟
- اتفاق مبدئي بين الولايات المتحدة والصين حول المعادن النادرة ...
- هل سيطرة الدعم السريع على مقر القيادة بالفاشر تعني سقوطها عس ...
- خبير عسكري: إسرائيل تحول -الخط الأصفر- إلى خط قتال لإطالة اح ...
- إصابة 12 جنديا إسرائيليا في حادث -عملياتي- على حدود غزة


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم