أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حجازي البرديني - دراسة نقدية: جماليات الصورة واللغة في ديوان «الرسم بالكلمات» للشاعر نزار قباني















المزيد.....


دراسة نقدية: جماليات الصورة واللغة في ديوان «الرسم بالكلمات» للشاعر نزار قباني


محمد حجازي البرديني

الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 09:46
المحور: الادب والفن
    


دراسة نقدية: جماليات الصورة واللغة في ديوان «الرسم بالكلمات» للشاعر نزار قباني.
إعداد: محمد حجازي البرديني.

المقدمة.
يُعدّ نزار قباني (1923–1998) أحد أبرز شعراء الحداثة العربية الذين أعادوا للشعر العربي صوته الإنساني المرهف، وأطلقوا اللغة من قيودها الكلاسيكية إلى فضاءٍ حُرٍّ نابضٍ بالعاطفة والجمال. وديوان «الرسم بالكلمات» (1970) يمثّل مرحلة النضج الفني والفكري في تجربة قباني، حيث امتزجت الذات بالعالم، والحب بالاحتجاج، والجسد بالمعنى، في لغةٍ شعريةٍ تتجاوز الحُسن اللفظي إلى بنيةٍ دلاليةٍ عميقة (قباني، 1970).
حين يعبر الشّاعر ‎نزار قبّاني من بوّابة ديوانه «الرّسمُ بالكلمات»، فإنه لا يدخل حديقة العشق وحده، بل ينفتح على فضاء الذات، واللغة، والجسد، والتاريخ، والموت. هنا “الرّسم” لا يُعني فقط العشق والغزل، بل فعل الكتابة ذاته، فعل الإبداع، فعل النجاة. فقد بدا أن الديوان يدعو إلى أن تصبح الكلمات أدوات بقاء، بل ملاذاً أخيراً حين يُسدُّ الطريق في العالم الخارجيّ. لهذا، تتطلّب قراءته قراءة مركّبة: بنائيّة لرصد البُنى الداخليّة، سيميائيّة لفتح العلامات والدّلالات، تفكيكيّة لكشف الشروخ والانزياحات. وفي الوقت نفسه، تُستلهم رؤى النقّاد العرب الذين علّمونا أن النصّ ليس محض صوت جميل، إنما هو سياق، هو ثقافة، هو سيرة وتحوّل.

الفصل الأول:
أولاً: البنية اللغوية والأسلوبية.
يستند قباني في هذا الديوان إلى ما يمكن تسميته بـ"بلاغة الانفعال"، إذ تُبنى الجمل على إيقاعٍ عاطفيٍّ يتجاوز الوزن العروضي إلى الموسيقى الداخلية التي تولدها المفردات. يقول في قصيدته «قالت لي السمراء»:
«إني خُلقْتُ لكي أكونَ جميلةً...
ولكي أُحبَّ... وأشتهي وأُحبَّا».
في هذا المقطع، تتجلى ملامح الأسلوب النَّزاري في تكرار الأفعال المضارعة ذات النغمة الانسيابية، وهو ما يسميه جابر عصفور (1992) "الأسلوب الانفعالي" الذي يشي بتوتر الذات بين الرغبة والتحقق (عصفور، قراءة في التراث النقدي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص. 211).
كما أن الانزياح اللغوي عند نزار قباني يعبّر عن التمرد الجمالي؛ فهو لا يكتفي بالتصوير، بل يرسم المفردة رسماً كما لو كانت لوناً على قماشٍ شعري. وهذه السمة هي ما أشار إليها أدونيس (1974) حين وصف شعر قباني بأنه «تحرير للغة من الحرفية إلى التشكيل الرمزي» (أدونيس، الثابت والمتحوّل، بيروت: دار العودة، ص. 145).

ثانياً: المنهج البنيوي في تحليل النص.
البنية في شعر قباني تقوم على علاقة جدلية بين الدال والمدلول. في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»، تتكرر بنية النداء واللوم، ما يجعل النص شبكة من العلاقات الصوتية والدلالية التي تحيل إلى مفهوم "البنية النصية المفتوحة" عند رولان بارت (Barthes, 1977).
فمثلاً، قوله:
«إذا خسرنا الحربَ، لا غرابةْ...
لأننا ندخُلها بكلِّ ما يملك الشرقيُّ من مواهبِ الخطابةْ».
هذه البنية المتكررة تمثل ما يسميه البنيويون بـ"التوازي التركيبي" الذي يُنشئ معنى جديداً من التكرار ذاته (بارت، Image-Music-Text، لندن: Fontana Press، ص. 67).

ثالثاً: المنهج السيميائي والرمزي.
الرمز في ديوان «الرسم بالكلمات» ليس مجرد استعارة، بل نظام دلالي متكامل. فـ"المرأة" عند نزار ليست جسداً فحسب، بل "أرض الوطن" و"حلم الحرية" و"القصيدة ذاتها". ومن هنا يتجلى المنهج السيميائي في قراءة العلامات الشعرية التي تشكّل فضاء النص.
يقول قباني في «الرسم بالكلمات»:
«أحبكِ... والبقية تأتي».
هنا تتحول الجملة البسيطة إلى علامة مفتوحة الدلالة، إذ إن "البقية" تحيل إلى اللانهائي، إلى الامتداد الزمني للحب، وهو ما يجعل النص قابلاً للقراءة التأويلية المتعددة وفق رؤية أمبرتو إيكو (Eco, 1979) حول "القارئ المتعاون" (إيكو، The Role of the Reader، Bloomington: Indiana University Press، ص. 51).

رابعاً: المنهج التفكيكي (قراءة ما بعد البنيوية).
لو نظرنا إلى قصيدته «بلقيس»، نجد أن النص يقوم على تفكيك مفهوم الفقد ذاته؛ إذ لا يقدّم الشاعر رثاءً تقليدياً، بل يعلن موت اللغة أمام الفاجعة:
«بلقيسُ... يا وجعي... ويا وجعَ القصيدة حين تلمسها الأناملُ».
وفق رؤية جاك دريدا (Derrida, 1976)، اللغة هنا لا تُحيل إلى حضورٍ، بل إلى غيابٍ متكرر. إن "الوجع" ليس وصفاً بل هو نصٌّ ثانٍ داخل النص، أي أن المعنى يُؤجَّل باستمرار (دريدا، Of Grammatology، بالتون: Johns Hopkins University Press، ص. 112).

خامساً: المناهج النقدية العربية في قراءة قباني.
- طه حسين يرى أن الشعر الحق هو الذي يُعبّر عن الذات الصادقة، وفي شعر قباني نجد «صدق التجربة العاطفية ووضوحها» (حسين، حديث الأربعاء، القاهرة: دار المعارف، 1944، ج2، ص. 95).
- العقاد كان ليقول إن قباني يمثل "الفردية المتمردة" التي جعلت من الحب فلسفة إنسانية (العقاد، شعراء مصر وبيانهم، القاهرة: دار المعارف، 1955، ص. 203).
- مندور يرى أن «اللغة عند نزار قباني انفعالية لا تقبل الجمود» (مندور، النقد المنهجي عند العرب، القاهرة: دار نهضة مصر، 1965، ص. 176).
- الرافعي لو قرأ نزاراً، لقال: "قد جعل الكلمة جارية في دمه". فأسلوب نزار يجمع بين العاطفة والسمو، بين الخطر في المعنى والظفر في البيان.
- شوقي ضيف يشير إلى أن الحداثة عند قباني ليست انقطاعاً عن التراث، بل هي «امتدادٌ مجددٌ في ثوبٍ جديد» (ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، القاهرة: دار المعارف، 1980، ص. 264).
- جابر عصفور يصف قباني بأنه «شاعر المفارقة بين المعنى والوجدان» (عصفور، مفهوم الشعر، القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1991، ص. 119).
- أدونيس يرى أن قباني «كتب بلغةٍ تُلغي الحدود بين الجسد والنص» (أدونيس، مقدمة للشعر العربي، بيروت: دار العودة، 1985، ص. 188).
ويمكن القول إن ديوان «الرسم بالكلمات» ليس مجرد تجربة عاطفية، بل بناءٌ فكريٌّ جماليٌّ متكامل. إنه عملٌ يرسم بالكلمة كما يرسم الفنان بالريشة، ويُعيد للغة العربية وهجها الحيّ.
تُظهر قراءته وفق المناهج النقدية المتعددة ثراءه البنيوي والدلالي والرمزي، وتكشف عن شاعرٍ جعل من الكلمة مرآةً للروح وصرخةً للجمال والحرية.

الفصل الثاني: البنية الإيقاعية والموسيقية في شعر نزار قباني.
إذا كانت الكلمة عند نزار قباني ريشة، فإن الإيقاع هو اللون الذي يمنح اللوحة الشعرية حياتها. فـ الرسم بالكلمات عنوانٌ لا يشير إلى الصورة وحدها، بل إلى الموسيقى التي تختبئ بين السطور، وتتحرك في أنفاس الألفاظ كأنها نَفَسُ القصيدة.
أولًا: الموسيقى الخارجية (الوزن والقافية).
لقد ظل نزار قباني وفيًّا للأوزان الخليلية في كثير من قصائده، لكنه كان يُعيد صياغتها بطريقته الخاصة. فهو لا يلتزم البحر التزامًا جامدًا، بل يُحيله إلى ما يشبه "اللحن الحر" الذي يحافظ على التوازن دون أن يتقيد بالصرامة.
يقول في قصيدته «إلى تلميذة»:
"قولي أحبك كي تزيد وسامتي
فبغير حبك لا أكون جميلًا"
يتضح هنا أن البحر الكامل يُعاد ترتيبه إيقاعيًا ليخدم الموسيقى الداخلية، لا العكس. فالتفعيلة ليست غاية، بل وسيلة لتأطير العاطفة. وهذه الخاصية هي ما أشار إليه شوقي ضيف (1980) حين قال إن قباني «جعل الوزن مطيةً لا قيدًا، وأدخل القصيدة العربية في فضاء التنغيم الحر» (ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص. 272).
كما أن القافية في شعره ليست نهاية صوتية مغلقة، بل تفتح الأذن على نغمة ممتدة، كما في قوله من قصيدة الرسم بالكلمات:
"أحبك... كيف تردين قلبي؟
وكيف تموتين في لحظةٍ؟"
نلاحظ أن القافية هنا لا تؤدي دورًا شكليًا، بل تؤسس حالةً من التكرار الموسيقي العاطفي، تُحدث ما يسميه عبد القاهر الجرجاني (1952) بـ«التناسب الإيقاعي الذي يخلق الانسجام بين اللفظ والمعنى» (الجرجاني، دلائل الإعجاز، القاهرة: دار المعارف، ص. 190).

ثانيًا: الموسيقى الداخلية (الإيقاع الدلالي).
الموسيقى الداخلية عند نزار قباني هي ما يجعل النص يُغنَّى قبل أن يُقرأ. إنها موسيقى تولد من تكرار الكلمات ومن التنغيم الصوتي للأفعال والحروف.
يقول في قصيدة بلقيس:
"يا بلقيسُ... يا وجهَ الأرضِ، يا وجهَ الوطنْ
يا نكهةَ خبزِ الياسمينْ..."
نجد هنا أن تكرار المنادى “يا” يخلق إيقاعًا مأساويًا يشبه صوت النواح، فيما تتكرر مفردات “الوطن”، “الخبز”، “الياسمين” لتجعل الحزن ذا طابع وطني وشعوري في آنٍ واحد.
وقد لاحظ جابر عصفور (1991) أن هذا النوع من التكرار "يؤسس لنظامٍ موسيقي قائمٍ على التوازي الإيقاعي داخل الصورة" (عصفور، مفهوم الشعر، ص. 143).
كما يستخدم نزار الأصوات اللينة (الميم، النون، السين، الشين) لخلق ما يسميه جاك دريدا (1976) بـ«موسيقى الدال» — أي أن الصوت يحمل المعنى قبل أن يُنطَق (دريدا، Of Grammatology، ص. 119).
وفي قوله:
"سافرتُ فيكِ... ولم أزلْ
أبحثُ عن وطنٍ يليقُ بقلبي"،
يتحوّل التناوب بين الفتح والكسر والضم إلى موجةٍ صوتيةٍ تعبّر عن اضطراب الشاعر وحنينه، وهو ما يثبت أن الموسيقى ليست خارجية فقط، بل كامنة في بنية النص اللغوية ذاتها.

ثالثًا: المنهج الأسلوبي في دراسة الإيقاع.
من منظور المنهج الأسلوبي، فإن نزار قباني يخلق موسيقاه الخاصة من خلال ما يُعرف بـ«الانزياح الصوتي»، أي أنه يغيّر ترتيب الكلمات ونبرها لخدمة النغمة الشعورية.
ففي قصيدته «مدرسة الحب» يقول:
"علّمتِني حبَّكِ
أن أحزنْ..."
الوقف المفاجئ على الفعل "أحزن" يخلق ما يسميه رومان ياكوبسون (1960) بـ"الانقطاع الإيقاعي"، وهو ضربٌ من الموسيقى المعنوية التي تترجم المشاعر إلى صمتٍ دلالي (Jakobson, Closing Statement: Linguistics and Poetics, Cambridge: MIT Press, p. 356).
وهنا تتجلّى براعة قباني في تحويل الفراغات الصامتة بين الكلمات إلى جزء من إيقاع القصيدة، تمامًا كما يفعل رسام الضوء في ظلال لوحته.

رابعًا: المقاربة البنيوية والسيميائية للإيقاع.
من منظور المنهج البنيوي والسيميائي، فإن الإيقاع عند نزار قباني ليس عنصرًا صوتيًا فحسب، بل علامة دلالية تُسهم في بناء المعنى.
ففي قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، يتحول الإيقاع المتوتر والمتكرر إلى رمزٍ للسخرية السياسية، إذ تأتي الأفعال بصيغةٍ جماعيةٍ تدل على الفوضى والخذلان:
"إذا خسرنا الحرب، لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقيّ من مواهب الخطابة"
هنا الإيقاع المتقطع، والوقف عند كل سطر، يعكس انقطاع المعنى ذاته؛ فالإيقاع يُصبح «علامة سيميائية» على التشتت القومي، وفق نظرية أمبرتو إيكو (1979) حول العلامة المتعددة الدلالة (إيكو، The Role of the Reader، ص. 68).

خامسًا: رؤية النقاد العرب للموسيقى في شعر قباني.
- طه حسين (1944) يرى أن قباني «جعل موسيقى الشعر أداةً للفكر، لا للزخرف» (حديث الأربعاء، ج2، ص. 103).
- العقاد (1955) يصفه بأنه «شاعر الأذن والقلب معًا» (ص. 218).
- مندور (1965) يرى أن الإيقاع عنده «جزء من الدلالة وليس ترفًا صوتيًا» (ص. 192).
- الرافعي (1929) يقول في أسلوبه الرفيع: "في شعره أنغامٌ تُرى ولا تُسمع، كأنها أنينُ الحروف إذا عشقتْ" (حديث القمر، ص. 83).
- أدونيس (1985) يؤكد أن الموسيقى في شعر قباني «هي البنية الأعمق للقصيدة» (ص. 176).

سادسًا: خلاصة الإيقاع والمعنى.
إن البنية الإيقاعية في ديوان «الرسم بالكلمات» ليست إطارًا زخرفيًا، بل هي نظامٌ فكريٌّ وعاطفيٌّ متكامل.
فالإيقاع عند نزار قباني يحمل دلالات الحب والفقد، الوطن والحرية، وهو في حقيقته "اللغة الثانية" التي تُترجم ما لا تستطيع اللغة العادية أن تنطق به.
ومن ثم، فإن نزار قباني لم يكن شاعرًا يكتب الموسيقى، بل كان موسيقيًا يكتب الشعر.

الفصل الثالث: التحليل الجمالي والفلسفي في شعر نزار قباني بين الجسد والروح.
إنّ نزار قباني ليس مجرّد شاعر للحب، بل هو في جوهره فيلسوف الجمال الإنساني، يربط بين الجسد بوصفه مظهراً للوجود، والروح بوصفها جوهرًا للحياة.
في ديوانه «الرسم بالكلمات» تتجلّى هذه الثنائية بوضوح، إذ لا يفصل قباني بين المحسوس والمعقول، بل يمزجهما ليخلق ما يشبه الفكر الغنائي الذي يجمع بين المتعة العقلية والنشوة الحسية في آنٍ واحد.
أولًا: الجمال بوصفه فلسفة الوجود.
يرى نزار أن الجمال ليس زينة، بل طريقة في الفهم. فالحب عنده هو «فلسفة الجمال العملي»، كما في قوله:
"أحبكِ حتى ترتفع السماء قليلاً"
هنا يتحوّل الفعل “أحبك” إلى طاقة كونية، ترفع السماء ذاتها. وهذا ما يوازي ما قاله شوبنهاور (1819) عن أن الجمال "تحرر مؤقت من إرادة الحياة" (Schopenhauer, The World as Will and Representation, p. 217).
لكن قباني يذهب أبعد، فيجعل من الحب إرادة للحياة ذاتها، لا نفيًا لها.
وقد علّق جابر عصفور (1997) على هذه النزعة قائلاً إن «قباني جعل من الجمال فعل مقاومة ضد القبح الاجتماعي والسياسي» (عصفور، زمن الرواية، ص. 211).
فهو لا ينظر إلى الجمال كترفٍ شعري، بل كوسيلة لمواجهة القبح والاستبداد.

ثانيًا: الجسد في فلسفة نزار قباني.
الجسد عند نزار قباني ليس موضوعًا شهوانيًا بل رمزًا كونيًا. إنه نصٌّ دلاليٌّ متعدد الطبقات، يحمل علامات الهوية والحرية، كما يقول في قصيدة أحبك جداً:
"أحبك جداً...
وأعرف أني أعيش بمنفى
وأنت بمنفى..."
فالجسد هنا ليس جسدًا فرديًا، بل وطنٌ مفقود، والاغتراب الجسدي استعارة عن الاغتراب السياسي والاجتماعي.
وقد رأى أدونيس (1985) أن قباني «حوّل الجسد إلى كتابة رمزية تحرّر اللغة من الحظر الأخلاقي والديني» (زمن الشعر, ص. 242).
من منظور المنهج السيميائي، الجسد علامة مفتوحة تتعدد دلالاتها.
إنه «دالٌّ» (Signifier) يتجاوز «المدلول» (Signified) في المعنى المباشر، ليصير فضاءً للتأويل كما يقول رولان بارت (1973) في نظريته عن "لذة النص" (Le plaisir du texte, p. 78).
وهكذا يصبح الجسد في شعر نزار مجالًا للحرية، لا للمحظور.

ثالثًا: الروح كمعادل للجمال.
في مقابل الجسد، تظهر الروح عند نزار قباني كصوتٍ داخليٍّ للجمال.
يقول في قصيدة الرسم بالكلمات:
"في عينيكِ...
تتلاقى البحارُ والأنهارُ والسماءْ
وأنا... لا أملك سوى مجدافي"
هذه الصورة تُجسّد فكرة أن الجمال الروحي عنده لا ينفصل عن الإحساس، بل يولد منه.
إنّ الروح ليست مفارقة للجسد، بل هي تجليه الأسمى.
وهذا ما يشير إليه طه حسين (1944) حين قال: «إن الجمال في الشعر لا يكون إلا إذا التقت فيه العاطفة بالفكر» (حديث الأربعاء، ص. 119).

رابعًا: المنهج التفكيكي والجدلية الجمالية.
إذا قرأنا شعر نزار قباني وفق المنهج التفكيكي (دريدا، 1967)، نلاحظ أنه يقوّض الثنائيات التقليدية: الجسد/الروح، الرجل/المرأة، المقدّس/الدنيوي.
فهو لا يرى المرأة موضوعًا، بل ذاتًا فاعلةً تُعيد صياغة المعنى.
يقول في قصيدة هوامش على دفتر النكسة:
"أيتها المرأةُ الخارجةُ من رحم الأرضْ
يا أجملَ من ثورةِ الأرضْ..."
إنه يضع الأنثى في موضع الرمز الكوني، فتتحول إلى دالٍّ على الحرية والنهضة.
وهنا يعمل نزار على «تفكيك سلطة الذكورة»، في سابقةٍ فكريةٍ نادرةٍ في الشعر العربي الحديث.
وهذا ما ذهب إليه عبد العزيز حمودة (1998) عندما قال إن قباني «مارس تفكيك المركز الذكوري للخطاب العربي من داخل اللغة ذاتها» (حمودة، المرايا المحدبة، ص. 309).

خامسًا: الجمال في ضوء المنهج الأسلوبي.
من منظور الأسلوبية الحديثة، يُلاحظ أن قباني يستخدم تراكيب لغوية شفافة وسلسة، لكنها تُخفي عمقًا فلسفيًا بالغًا.
فهو يبني الجمال بالبساطة، كما في قوله:
"كل شيءٍ عندي مؤقتٌ...
إلا أنتِ."
الاقتصاد اللغوي هنا ليس فقرًا بل كثافة دلالية، كما وصفها ليو سبيتزر (1948) بأنها "شعرية البساطة الممتلئة" (Linguistics and Literary History, p. 61).
ومن خلال هذه البنية اللغوية، تتجسد فلسفة نزار قباني الجمالية في ثلاث خصائص:
- الوضوح الموحِي: لا غموض مفتعل، بل شفافية عميقة.
- التكثيف التعبيري: أقلّ كلمات ممكنة لأعظم دلالة ممكنة.
- الانزياح الرمزي: اللغة تنفتح على التأويل المستمر.

سادسًا: رؤية النقاد العرب للجمال في شعر نزار.
- العقاد (1955) رأى أن نزار «حوّل الغزل من العاطفة الشخصية إلى تجربة إنسانية عامة» (شعراء مصر وبيانهم، ص. 254).
- مندور (1965) وصفه بأنه «شاعر الجمال المتمرد» (النقد المنهجي عند العرب، ص. 178).
- الرافعي (1929) قال عنه بأسلوبه الناري: «إنه شاعرٌ يسكبُ الروح في الجسد، حتى ليكاد الجسدُ يضيء» (حديث القمر، ص. 72).
- جابر عصفور (1991) أكد أن قباني «أعاد للقصيدة العربية طاقتها الحسية والرمزية معًا» (مفهوم الشعر، ص. 201).

سابعًا: خلاصة فلسفة الجمال في "الرسم بالكلمات".
يمكن القول إن شعر نزار قباني في «الرسم بالكلمات» يُقدّم رؤيةً متكاملةً للجمال بوصفه وعيًا بالعالم.
فهو يذيب المسافة بين الحب والوجود، وبين الجسد والفكر، لتصبح القصيدة لحظةَ توحّدٍ بين الإنسان والعالم.
وهكذا، يكون نزار قباني شاعر الجسد بوصفه روحًا، والروح بوصفها جسدًا؛ وفي هذا التمازج تكمن فلسفته الشعرية الكبرى: أن الجمال لا يُرى بالعين، بل يُحسّ بالعقل، ويُفكَّر بالقلب.

قائمة المراجع (APA-7):
المراجع العربية:
- أدونيس. (1974). الثابت والمتحوّل. بيروت: دار العودة.
- أدونيس. (1985). زمن الشعر. بيروت: دار العودة.
- أدونيس. (1985). مقدمة للشعر العربي. بيروت: دار العودة.
- الجرجاني، عبد القاهر. (1952). دلائل الإعجاز. القاهرة: دار المعارف.
- الرافعي، مصطفى صادق. (1929). حديث القمر. القاهرة: مطبعة الهلال.
- العقاد، عباس محمود. (1955). شعراء مصر وبيانهم. القاهرة: دار المعارف.
- عصفور، جابر. (1991). مفهوم الشعر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- عصفور، جابر. (1992). قراءة في التراث النقدي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- عصفور، جابر. (1997). زمن الرواية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- حمودة، عبد العزيز. (1998). المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك. القاهرة: عالم الكتب.
- حسين، طه. (1944). حديث الأربعاء (الجزء الثاني). القاهرة: دار المعارف.
- قباني، نزار. (1970). الرسم بالكلمات. بيروت: منشورات نزار قباني.
- مندور، محمد. (1965). النقد المنهجي عند العرب. القاهرة: دار الفكر العربي.
-؛ضيف، شوقي. (1980). الفن ومذاهبه في الشعر العربي. القاهرة: دار المعارف.

المراجع الأجنبية:
Barthes, R. (1973). Le plaisir du texte. Paris: Éditions du Seuil.
Barthes, R. (1977). Image-Music-Text. London: Fontana Press.
Derrida, J. (1967). Of Grammatology. Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Eco, U. (1979). The Role of the Reader. Bloomington: Indiana University Press.
Jakobson, R. (1960). Closing Statement: Linguistics and Poetics. Cambridge, MA: MIT Press.
Schopenhauer, A. (1819). The World as Will and Representation. London: Dover Publications.

استكملت هذه الدراسة بتاريخ الأحد 26 / 1 / 2025 م.
962776537021



#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية والبعث الحضاري في شعر علي الجارم: قراءة نقدية تحليلية
- دراسة نقدية: جدلية الرؤيا واللغة في شعر إبراهيم نصرالله في ض ...
- دراسة نقدية: لماذا لم يصل الأدب الإبداعي العربي من قصة وشعر ...
- الرواية البحرينية وتحولات الوعي الجمالي: دراسة نقدية منهجية ...
- شعر الهايكو العربي: قراءة نقدية تحليلية في نص (غيمة ماطرة) ل ...
- الشعر العراقي: جماليات الوجع والاحتجاج في شعر كواكب الساعدي: ...
- الرواية والهوية العابرة: تمثيلات العبور (هجرة، لجوء، سفر) وا ...
- المدينةُ كفاعلٍ سردي: منظومة القوّة والحنين في المدينة العرب ...
- الشعر الأردني: دراسة نقدية-تمرد الذات وإيقاع الهامش في شعر م ...
- الشعر الكويتي: دراسة نقدية-الشاعرة منى كريم. الصوت المتمرد ف ...
- صورة العربي في الرواية العالمية والغربية خاصة: دراسة نقدية ت ...
- الشعر الإماراتي: دراسة نقدية بنيوية-تفكيكية لقصيدة -نسب الحر ...
- دور الرواية العربية في إعادة تشكيل الواقع بطريقةٍ إصلاحيةٍ أ ...
- صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت ...
- العمل التطوعي الإنساني في الرواية العربية. دراسة نقدية: نفسي ...
- الأشخاص ذوو الإعاقة يتصدرون مشهد البطولة في الرواية العربية
- عودة ترامب؛ هل سينقذ أم يغرق الإمبريالية العالمية أحادية الق ...
- العرب والنظام العالمي الجديد - الحرب العالمية الثالثة
- يسعى الأردن إلى تقديم نموذج للدولة المدنية - دولة المواطنة ( ...
- الأردن - فلسطين وجهان لعملة واحدة روحا وقلبا وعقلا ودماءً.


المزيد.....




- هل تصدق ان فيلم الرعب يفيد صحتك؟
- العمود الثامن: لجنة الثقافة البرلمانية ونظرية «المادون»
- في الذكرى العشرين للأندلسيات… الصويرة تحلم أن تكون -زرياب ال ...
- أَصْدَاءٌ فِي صَحْرَاءْ
- من أجل قاعة رقص ترامب.. هدم دار السينما التاريخية في البيت ا ...
- شاهد/ذهبية ثالثة لإيران في فنون القتال المختلطة للسيدات
- معرض النيابة العامة الدولي للكتائب بطرابلس يناقش الثقافة كجس ...
- شاهد.. فيلم نادر عن -أبو البرنامج الصاروخي الإيراني-
- تمثال من الخبز طوله متران.. فنان يحوّل ظاهرةً على الإنترنت إ ...
- مسك الختام.. أناقة المشاهير في حفل اختتام مهرجان الجونة السي ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حجازي البرديني - دراسة نقدية: جماليات الصورة واللغة في ديوان «الرسم بالكلمات» للشاعر نزار قباني