أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حجازي البرديني - دراسة نقدية: جدلية الرؤيا واللغة في شعر إبراهيم نصرالله في ضوء المناهج النفسية واللغوية والجمالية.















المزيد.....


دراسة نقدية: جدلية الرؤيا واللغة في شعر إبراهيم نصرالله في ضوء المناهج النفسية واللغوية والجمالية.


محمد حجازي البرديني

الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 10:08
المحور: الادب والفن
    


الناقد: محمد حجازي البرديني.

المقدّمة.
يُعدّ الشاعر إبراهيم نصرالله واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية الفلسطينية التي تمكّنت من تحويل الذاكرة الجمعية إلى طاقة لغوية مقاومة، تجمع بين البعد الإنساني والجمالي والوطني. فهو شاعر يتكئ على تجربة معيشة في المنفى والمخيم، لكنه يصوغها بلغةٍ متجددة تتجاوز الرثاء إلى تأسيس رؤية جمالية متفاعلة مع التاريخ والمجتمع (نصرالله، 2012).

تقوم هذه الدراسة على منهج تكاملي تحليلي يجمع بين المقاربات النفسية والاجتماعية واللغوية والجمالية.

تكمن مشكلة الدراسة في تحديد موقع اللغة والرؤيا في شعر نصرالله بوصفهما أداتين للوجود والمقاومة. فاللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل هي فضاء للهوية، والرؤيا ليست موضوعًا شعريًا بل وعيٌ بالذات والوجود.

تكمن أهمية الدراسة النقدية في كونها تسعى إلى توظيف مناهج النقد العربي الكلاسيكي والحديث في تحليل تجربة شاعر معاصر، بما يؤسس لجسر بين التراث والحداثة.
وتحليل البنية اللغوية والدلالية في شعر نصرالله، ودراسة تجليات النفس الشاعرة، وتفسير البعد التاريخي والعقلي للقصيدة، والكشف عن الجمال الإيماني في اللغة الشعرية، وتحليل البعد النفسي والاجتماعي للقصيدة.

تعتمد الدراسة على المنهج التكاملي الذي يجمع بين التحليل اللغوي البنيوي، والتحليل النفسي والاجتماعي، والمنهج التاريخي، والبلاغة الجمالية.

الفصل الأول:
أولًا: اللغة ككائن حيّ في شعر إبراهيم نصرالله.
يرى ابن جني أن اللغة "أصواتٌ يعبر بها كل قومٍ عن أغراضهم" (ابن جني، 1952، ج1، ص87)، أي أن اللفظ ليس مجرد حامل للمعنى، بل هو كائن دلالي حيّ يرتبط بالوجدان والتاريخ والبيئة.
ومن هنا يمكن القول إن إبراهيم نصرالله قد جسّد هذه الرؤية القديمة في سياق معاصر؛ فاللغة في شعره تتحرك كما تتحرك الذاكرة، تتنفس، وتئنّ، وتغنّي، وتتمرّد.
في قصيدته من ديوان المديح الأخير للوحش يقول:
«نمضي إلى الموت كي نحيا قليلاً،
وفي الحلم نحيا طويلاً طويلاً.» (نصرالله، 2012، ص. 19)
نلاحظ في هذا المقطع أن الشاعر يستخدم الألفاظ الممدودة (نمضي، نحيا، طويلاً) لتوليد إيقاعٍ يعبّر عن الامتداد الزمني للمعاناة، في انسجامٍ تام مع فكرة ابن جني حول الملاءمة الصوتية، إذ إن "المدّ في الحروف دليل على طول المعنى" (ابن جني، 1952، ج2، ص. 131).
إنه يخلق موسيقى داخلية ليست زخرفًا بل تعبيرًا عن وعيٍ جمعيٍّ يتنفس من خلال اللغة. فاللغة عند نصرالله لا تُستعمل لتزيين المعنى بل لتأسيس علاقة عضوية بين الصوت والفكرة؛ فحين يمدّ الشاعر نغمة الكلمة، كأنه يمدّ خيط الذاكرة.
وهكذا تصبح اللغة كائنًا حيًّا، يحمل في أصواته الوجع الجمعي ويحوّله إلى جمالٍ مقاوم.

ثانيًا: الذات الشاعرة وجدلية الوعي بالوجود.
يرى العقاد أن الشعر هو “صورة من صور النفس الإنسانية” (العقاد، 1935، ص. 27)، وأنه لا يمكن فهم القصيدة إلا من خلال استبطان دوافعها النفسية.
في شعر نصرالله، النفس ليست هادئة ولا مكتفية، بل هي نفسٌ متوترة مأزومة، تبحث عن خلاصٍ في اللغة، وعن وطنٍ في الذاكرة.
في قصيدته "مرايا الملائكة" يقول:
«كأنني أستعيد وطني في الكلام،
وفي الصمت أنفي الملام.» (نصرالله، 2010، ص. 42)
في هذا المقطع، تتجسد ثنائية الذات واللغة كما وصفها العقاد. فالشاعر لا يعبّر عن نفسه فقط، بل يصنع ذاته بالكلمة. إنّ "الكلام" عنده فعلُ ولادةٍ رمزيةٍ للوطن المفقود، في حين أن "الصمت" هو نفيٌ وجوديّ للخذلان.
يستحيل هنا فصل التجربة الفردية عن التجربة الجمعية؛ فالنفس التي تعبّر عن ألمها، تعبّر في الوقت نفسه عن المأساة الجماعية الفلسطينية.
ويرى العقاد أن الفنّ العظيم هو الذي "يعبر عن النفس في لحظة انفعالٍ إنسانيٍّ صادق" (العقاد، 1935، ص. 49)، ونصرالله يحقق ذلك من خلال دمج الذاتي بالوطني، بحيث تصبح المعاناة الخاصة مرآة للجرح الجمعي.

ثالثًا: التاريخ والعقل في تشكيل الرؤيا الشعرية.
إن طه حسين في منهجه العقلاني التاريخي يرى أن الأدب لا ينفصل عن بيئته وسياقه (طه حسين، 1926، ص. 103).
في شعر نصرالله، التاريخ ليس مجرد خلفية سردية بل هو بنية دلالية فاعلة تشكّل القصيدة وتوجّه لغتها.
في ديوانه الملهاة الفلسطينية يقول:
«يا وطني المصلوب على حائط القرن،
ما زال دمك يعلّمنا الفجر.» (نصرالله، 2012، ص. 44)
فالقصيدة هنا تتعامل مع الحدث التاريخي (النكبة والنزوح) بلغة رمزية كثيفة، فـ"الصلب" استعارة عن الاضطهاد، و"الفجر" استعارة عن الأمل والتحرر.
يُعيد الشاعر إنتاج التاريخ من خلال رموزه، مستبدلًا السرد الواقعي بالرمز الشعري الذي يعيد تشكيل الوعي.
وبهذا يطبق الشاعر، دون قصدٍ واعٍ ربما، مبدأ طه حسين في “تاريخية الأدب”؛ فالقصيدة تُقرأ كوثيقة روحية للحياة الفلسطينية (طه حسين، 1926، ص. 145).

رابعًا: الجمال الإيماني في لغة نصرالله.
يرى مصطفى صادق الرافعي أن البلاغة الحقة هي التي "ترتقي بالنفس إلى مقام الجمال الإلهي" (الرافعي، 1934، ص. 41).
ولذلك فإن القراءة الرافعيّة لشعر نصرالله تكشف عن حضورٍ روحانيٍّ خفيٍّ في لغته، على الرغم من مأساويتها.
في قصيدة "القدس" يقول:
«يا قدسُ، يا وجعَ الأرواحِ في زمنٍ بلا روح.» (نصرالله، 2010، ص. 67)
هذه الجملة القصيرة تحمل كثافةً بلاغية عالية. التكرار الندائي "يا" يعطي طابعًا تعبّديًا للنص، والمفارقة بين "الروح" و"زمن بلا روح" تخلق صورة بيانية تُذكّر بأساليب الرافعي في "تحت راية القرآن".
إنها بلاغة تجمع بين الوجدان الديني والوعي الواقعي، حيث تتحد اللغة والجمال في خدمة المبدأ الروحي والوطني معًا (الرافعي، 1934، ص. 58).

خامسًا: التحليل النفسي والاجتماعي في شعر نصرالله.
يذهب محمد مندور إلى أن العمل الأدبي لا يُفهم إلا بفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع (مندور، 1944، ص. 65).
وفي شعر نصرالله، تتجلّى هذه العلاقة في صورٍ تمزج الخاص بالجمعي: العيد بالمأتم، والميلاد بالموت.
في إحدى قصائده يقول:
«في العيد نحمل موتانا كما نحمل الهدايا.» (نصرالله، 2012، ص. 57)
هنا تتحول القصيدة إلى مرآةٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ للمجتمع الفلسطيني الذي يعيش تداخل الفرح بالحزن.
يشرح مندور أن الشاعر "يترجم صراع الجماعة من خلال رموزه الذاتية" (مندور، 1944، ص. 82)، وهو ما يتحقق بدقةٍ في هذا المقطع؛ فالصورة التي تمزج الموت بالعيد تكشف عن تشوهٍ في الوعي الجمعي بفعل الحروب والمآسي.
يصبح الشعر إذًا شكلًا من أشكال العلاج الجمعي، أو كما يسميه مندور “التحليل النفسي للوجدان الاجتماعي”.

ونستنتج أنّ؛
- تشكّل اللغة عند نصرالله كيان حيّ، له صوته وذاكرته.
- تتأسس الذات الشاعرة على معادلة الوعي بالمنفى والبحث عن الخلاص عبر اللغة.
- يتحول التاريخ في شعره إلى بنيةٍ رمزيةٍ تشكل الوعي الجمعي.
- يحضر الجمال بوصفه فعلاً روحياً وإيمانيًا.
- تتجلى العلاقة العضوية بين الفرد والمجتمع في بنية النص.
فلذلك؛ إن شعر نصرالله يجمع بين الواقعية والرمزية، بين الصوت والمعنى، بين الجمال والوجع، ليصوغ هوية شعرية جديدة تزاوج بين التراث والتجريب المعاصر.

الفصل الثاني: التحليل التطبيقي التفصيلي لتجربة إبراهيم نصرالله الشعرية.
أولًا: ديوان مرايا الملائكة — الشعر ككشفٍ عن الوجدان الجمعي
1. اللغة بين الصفاء والجرح.
يبدأ نصرالله هذا الديوان من إيقاعٍ لغويٍّ يعتمد على المراوحة بين الصمت والصوت، إذ يقول:
«كأنّ الملائكةَ حين مرّت،
تركت في قلبي نافذةً للريح.» (نصرالله، 2010، ص. 11)
يُلاحظ أنّ البناء الصوتي في هذا المقطع يقوم على تكرار الأصوات المهموسة (الك، الف، الث)، مما يخلق إيقاعًا داخليًا شبيهًا بالهمس الروحي.
وهنا يتحقق ما تحدّث عنه ابن جني في الخصائص من أنّ "اللغة تصدر عن الطبيعة النفسية للمتكلم، فتأخذ نبرتها من شعوره" (ابن جني، 1952، ج1، ص. 114).
فاللفظ هنا ليس حياديًا؛ بل يُعبّر عن حالٍ وجدانيٍّ صوفيٍّ مشوبٍ بالحزن.
اللغة في مرايا الملائكة تُصبح أداة كشفٍ روحيٍّ، إذ يتحوّل الصدى إلى علامةٍ على حضور الغياب، أي أنّ "الريح" ليست طبيعة مادية، بل رمزٌ للروح الهائمة في المنفى.
هذا الاستخدام العميق للرمز الصوتي هو أحد تجليات "المناسبة بين الصوت والمعنى" التي عدّها ابن جني جوهر الشعر (ابن جني، 1952، ج2، ص. 89).
2. النفس المأزومة بين التمرّد والإيمان.
يقول العقاد في الديوان: “الشاعر الحقّ لا يصف الأشياء، بل يصف نفسه حين يراها” (العقاد، 1935، ص. 72).
وهذا ما يتحقق في قول نصرالله:
«يا ربّ، كم يشبهني هذا الغياب،
وكم تبتعد السماء كلّما اقتربتُ منك!» (نصرالله، 2010، ص. 23)
في هذه الأسطر تتجلّى نفسٌ تتردّد بين الإيمان والشكّ، بين الرغبة في الخلاص والخوف من الفقد.
الذات هنا ليست متصالحة، بل قلقة تبحث عن يقينٍ في اللايقين، مما يجعل القصيدة صورة حيّة للنفس في لحظة انفعالها كما يرى العقاد (1935، ص. 81).
الشاعر لا يخاطب الله باليقين، بل بالقلق؛ وهذا القلق هو ما يمنح الشعر صدقه النفسي.
3. البنية الرمزية للتاريخ والهوية.
يقول نصرالله:
«كانوا هناك،
ونحن هناك أيضًا،
لكنّ الأسماء تغيّرت فقط.» (نصرالله، 2010، ص. 37)
يقدّم الشاعر في هذا المقطع مفهومًا تاريخيًا دائريًا للوجود الفلسطيني؛ فالحدث يتكرّر لكنّ الأسماء تتبدّل.
هنا نجد تجسيدًا واضحًا لمبدأ طه حسين في "تاريخية الأدب"، أي أنّ الأدب يُعيد إنتاج الذاكرة الجماعية بلغةٍ رمزية (طه حسين، 1926، ص. 136).
فالتاريخ في شعر نصرالله ليس خلفية زمنية بل هو وعي متجدّد بالهوية، إذ يستعيد الماضي ليكشف استمرار المأساة.
4. البلاغة الإيمانية.
في قصيدة "تراتيل الرماد" يقول الشاعر:
«يا ربّ، خذنا من الرماد إلى المعنى،
وعلّمنا كيف نكتب بالدم نورًا.» (نصرالله، 2010، ص. 48)
تظهر هنا النزعة الروحية التي تحدّث عنها الرافعي، إذ يرى أن البلاغة الحقّة “هي ترجمان الروح حين تلتقي السماء بالأرض” (الرافعي، 1934، ص. 52).
فالفعل "اكتب بالدم نورًا" يحمل صورة بلاغية ميتافيزيقية توحّد المأساة بالقداسة.
إنّها بلاغة الإيمان المتألّم، حيث يصبح الألم وسيلة للخلق، لا نقيضًا له.
5. التحليل النفسي والاجتماعي.
تظهر البنية النفسية الجمعية في قول نصرالله:
«كلّما ولد طفلٌ في المخيم،
ماتَ وطنٌ في الذاكرة.» (نصرالله، 2010، ص. 56)
هذه الصورة تلخّص العلاقة التبادلية بين الولادة والموت، الفرد والجماعة.
يقول محمد مندور إن الشاعر "يكشف من خلال رموزه الذاتية عن التناقض الاجتماعي العميق" (مندور، 1944، ص. 91)،
وهذا ما يتحقق هنا تمامًا؛ فكل ولادة جديدة تُذكّر الفلسطيني بفقدٍ قديم، وكأن الذاكرة لا تحتمل الحياة إلا بمعادلٍ من الموت.
إنها قصيدة نفس جماعية أكثر من كونها تجربة فردية.

ثانيًا: ديوان المديح الأخير للوحش — الشعر كاستعارة للتمرد والوعي.
1. رمزية الوحش والذات المزدوجة.
يقول نصرالله:
«أنا الوحش الذي أحبّ السلام،
وأبكي حين أرى الدم يسيل من شجرةٍ صغيرة.» (نصرالله، 2012، ص. 14)
الوحش هنا قناع رمزي للإنسان الفلسطيني، الذي يُتَّهم بالعنف لكنه يحمل في جوهره براءة الضحية.
وفقًا للعقاد، “الشاعر العظيم هو من يعبّر عن تناقضاته بلا خوف” (العقاد، 1935، ص. 132).
فالوحش ليس تجسيدًا للشر، بل رمزٌ للإنسان المغترب الذي أُجبر على القتال ليحمي نفسه.
بهذا المعنى، يتحوّل الرمز إلى وسيلة لتعرية الواقع السياسي والإنساني معًا.
2. الصوت الشعري وتمثيل الغريزة.
يقول ابن جني: “إنّ في اللفظ ما يُنبيء عن المعنى بالطبع” (1952، ج2، ص. 103).
نلاحظ في قول نصرالله:
«أزأرُ كي أوقظ فيهم إنسانهم النائم.» (نصرالله، 2012، ص. 20)
الفعل “أزأر” يعبّر صوتيًا عن القوة الغريزية والتمرد، لكن المضمون الروحي يعبّر عن الدفاع الإنساني.
يصف مندور هذه الحالة بأنها “تحويل الغريزة الفردية إلى قيمة اجتماعية” (مندور، 1944، ص. 77).
إذ يُعيد نصرالله توجيه الغريزة نحو الغاية الأخلاقية، مما يجعل القصيدة نوعًا من التحليل النفسي الجماعي للمنفى والمقاومة.
3. جدلية الإنسان والقدر.
في ختام الديوان يقول:
«نمشي على الماء، نغرق في الضوء،
نكتب أسماءنا على الرماد ولا نندم.» (نصرالله، 2012، ص. 71)
تذكّرنا هذه الصورة الجدلية بقول طه حسين إن الأدب العظيم هو “حوار الإنسان مع قدره” (طه حسين، 1926، ص. 152).
الرموز هنا (الماء، الضوء، الرماد) تعمل بوصفها عناصر وجودية تُمثّل الصراع بين الحياة والفناء.
أمّا من منظور الرافعي، فالجمال في هذا النص “يولد من التحام الألم باليقين” (الرافعي، 1934، ص. 65)، وهو ما يتحقق في هذا المقطع الذي يحوّل المأساة إلى طهارة لغوية.

ثالثًا: الملهاة الفلسطينية — الشعر كتاريخٍ ميتافيزيقي.
يُقدّم نصرالله في هذه السلسلة الشعرية السردية تجربة فريدة، إذ تتحوّل القصيدة إلى وثيقة سردية تمزج الملحمة بالتاريخ.
يقول:
«ولم نعد نعرف،
أكنّا نكتب التاريخ أم كان هو يكتبنا.» (نصرالله، 2012، ص. 92)
يعبّر هذا المقطع عن وعيٍ فلسفيٍّ عميقٍ بالكتابة والتاريخ.
يؤكّد طه حسين على أن “الكتابة هي الوعي بالزمن” (طه حسين، 1926، ص. 161)،
وهنا نرى كيف تتحوّل القصيدة إلى عملية وعي جمعيٍّ بالهوية.
وفي الوقت نفسه، يرى العقاد أن الشاعر المبدع “يخلق العالم كما لو كان الله في نفسه” (العقاد، 1935، ص. 147)،
ونصرالله يخلق عالمه الشعري بوصفه إعادة خلقٍ رمزيةٍ لفلسطين.
فمن خلال تحليل الدواوين الثلاثة، يمكن القول إن تجربة إبراهيم نصرالله تقوم على نظام لغويٍّ ووجدانيٍّ معقّد، يتقاطع فيه الصوت بالمعنى، والرمز بالحقيقة، والذات بالجماعة.
لقد استطاع نصرالله أن يطوّر قصيدة فلسطينية جديدة تنتمي إلى الجمال الإنساني أكثر مما تنتمي إلى البكاء السياسي،
محققًا بذلك ما أراده العقاد وطه حسين والرافعي ومندور من أن يكون الأدب مرآة الإنسان في بحثه عن الحرية والمعنى.

الفصل الثالث: جماليات الصوت والمعنى في شعر إبراهيم نصرالله.
تتجلّى في شعر إبراهيم نصرالله طاقة لغوية باهرة لا تنبع من التزيين البلاغي، بل من العلاقة العضوية بين الصوت والمعنى، وهي علاقةٌ كان ابن جني قد أسّس لوعيها في كتابه الخصائص، حين قال إنّ “الأصوات هي مَجازاتٌ عن المعاني، ودوالّ عليها بالطبع لا بالاصطلاح” (ابن جني، 1952، ج1، ص. 92).
كما نجد عند الرافعي في تحت راية القرآن أن البلاغة ليست في الزخرف، بل في “حياة اللفظ من روح قائله، إذا أشرق عليه من جمال النفس ضوءٌ فصار به حيًّا” (الرافعي، 1934، ص. 55).
انطلاقًا من هذين المبدأين، يحاول هذا الفصل قراءة شعر نصرالله ككائنٍ لغويٍّ حيٍّ تتحوّل فيه الأصوات إلى رموز، والمعاني إلى طاقاتٍ وجدانية، ضمن ما يمكن تسميته بـ جماليات الصوت والمعنى.
أولًا: الإيقاع كطاقة دلالية.
في قصيدته من المديح الأخير للوحش يقول نصرالله:
«نمشي على الماءِ، نغرقُ في الضوءِ،
ونكتُب أسماءنا على الرماد.» (نصرالله، 2012، ص. 70)
نلاحظ هنا أن تكرار الصوامت المجهورة (الميم، النون، اللام) يمنح النص إيقاعًا داخليًا متماوجًا يشبه حركة الماء التي تتحدث عنها القصيدة نفسها.
وفقًا لمنهج ابن جني، فإن "الجرس الصوتي للألفاظ يوافق المعاني على وجهٍ من المناسبة الخفية" (1952، ج2، ص. 103)،
وهذا ما يتحقق بوضوح في هذا المقطع؛ إذ تتحد الموسيقى الداخلية بالرمز الوجودي للماء والنور والرماد، فتصبح الصوتية تجسيدًا للمعنى لا زينةً له.
من جهةٍ أخرى، يمزج الشاعر بين الحروف المهموسة والمجهورة لخلق جدلية حسية بين الحياة والفناء: فالماء رمزٌ للحياة، والرماد رمزٌ للفناء، والضوء هو برزخٌ بينهما.
بهذا الإيقاع، يتجسّد الصراع الوجودي في النغمة ذاتها، فتتحول القصيدة إلى تجربة سمعية ووجدانية في آنٍ واحد.

ثانيًا: الانزياح الدلالي كجمال لغوي.
يقول نصرالله في مرايا الملائكة:
«في الحلمِ نسافرُ أكثر،
ونعودُ بأقلّ من أنفسِنا.» (نصرالله، 2010، ص. 33)
هذا التعبير يقوم على ما يسميه البلاغيون الانزياح الدلالي، أي نقل الكلمة من معناها المألوف إلى فضاءٍ رمزيٍّ جديد.
العبارة “نعود بأقل من أنفسنا” تُفكّك الثنائية التقليدية بين "السفر" و"العودة"،
فبدل أن تكون العودة اكتمالًا، تصبح نقصانًا — وهذا قلبٌ بلاغيٌّ عميق يشير إلى الاغتراب النفسي الناتج عن المنفى.
يقول الرافعي: “إنّ البيان هو المعنى حين يثور على ظاهره فيخلق لنفسه شكلاً جديدًا” (الرافعي، 1934، ص. 71).
ولذلك فإن هذا الانزياح ليس خيالًا لغويًا فقط، بل هو فعل مقاومةٍ رمزيةٍ ضدّ الثبات، أي ضدّ المعنى المستقر، تمامًا كما يقاوم الشاعر المنفى بالكتابة.

ثالثًا: الصورة الصوتية ورمزية الحرف
في قصيدة "ترتيلة الرماد"، يقول نصرالله:
«أَصحو على الأنينِ كأنَّ الحروفَ
تُصلّي على جراحِها بصوتي.» (نصرالله، 2010، ص. 46)
هنا نجد تجسيدًا لما سمّاه ابن جني بـ“المعنى الصوتي”، أي أن “الحرف نفسه يدلّ على صورةٍ من الانفعال” (1952، ج2، ص. 132).
إنّ تواتر صوت الهمزة (أ) مع حروف المدّ (آ، أو، إي) يخلق موسيقى حزينة تقترب من التراتيل الدينية، وهو ما يجعل الصوت حاملًا لشحنةٍ وجدانيةٍ مستقلّة.
كما أنّ الجمع بين “الحروف” و“الصلاة” يُضفي على اللغة قداسة رمزية، إذ تتحول الكلمة إلى كائنٍ يُصلّي.
يقول الرافعي في موضعٍ مشابه: “إنّ الكلمة الصادقة تسجد قبل أن تُقال، لأنها خرجت من روحٍ ساجدةٍ للجمال” (1934، ص. 77).
وهكذا تُصبح اللغة في شعر نصرالله ليست وسيلة للتعبير، بل كائنًا روحيًا يتعبّد بالمعنى.

رابعًا: التكرار كإيقاع نفسي.
في قصيدة "على أبواب القيامة" من المديح الأخير للوحش يقول الشاعر:
«سأعودُ، سأعودُ، سأعودُ...
ولو من حطامِ الغيمِ والظلِّ والرمل.» (نصرالله، 2012، ص. 52)
التكرار الثلاثي للفعل “سأعود” يُنتج إيقاعًا نفسيًا تصاعديًا يعبّر عن الإصرار والأمل.
يشرح مندور أن التكرار “وسيلة لتحويل الانفعال إلى نغمةٍ جماعيةٍ تحمل طاقة المقاومة” (مندور، 1944، ص. 99)،
في حين يراها ابن جني علامة على “تعظيم الدلالة بزيادة الصوت” (1952، ج1، ص. 121).
هنا يصبح التكرار شكلًا من أشكال التوكيد الوجودي: إن العودة ليست حدثًا جغرافيًا بل إصرارًا أنطولوجيًا على البقاء،
وبذلك يتحول الإيقاع إلى عقيدة شعورية، ويصبح الصوت نفسه مقاومة.

خامسًا: التفاعل الحسي والروحي في الرمز اللغوي.
يقول نصرالله في الملهاة الفلسطينية:
«كان الليلُ يبتسمُ بدموعِنا،
كأنَّه يعلمُ أنّ النورَ طفلُ الجراح.» (نصرالله، 2012، ص. 94)
في هذا البيت، تتلاقى الحواس: البصر (يبتسم، دموع)، والسمع (الليل ككائن واعٍ)، والوجدان (النور طفل الجراح).
هذا ما يسميه البلاغيون تداخل الحواس (synesthesia)، وهو أسلوبٌ يخلق جمالًا روحيًا يوحّد التجربة الإنسانية.
يقول الرافعي إن "الروح تَسمعُ الألوان وتبصر الأصوات حين يبلغ الجمالُ تمامَه" (1934، ص. 88).
وهكذا يتجاوز نصرالله الحسّ الظاهري إلى التجربة الكونية الشاملة، حيث يصبح الليل كائنًا حيًّا والنور مولودًا للألم.

سادسًا: وحدة الجرس والمعنى – نحو جمال لغوي كوني
في قصيدة "أيتها الأرض" يقول الشاعر:
«أيتها الأرضُ التي تشربينَ دموعَنا،
علّمينا كيفَ لا نغرقُ فيكِ.» (نصرالله، 2010، ص. 71)
التحليل الصوتي يُظهر تكرار الحروف المائعة (اللام، الميم، النون) التي تُحدث ليونة موسيقية تشبه حركة الانصهار، وهو ما يتناسب مع دلالة “الدموع” و“الغرق”.
هذا ما يسميه ابن جني بـ“توافق الأجراس” (1952، ج2، ص. 175) أي أن الألفاظ تشارك في صنع المعنى عبر أصواتها.
أما من وجهة الرافعي، فالجمال في هذا النص هو “جمال الرحمة الممزوجة بالحزن”، لأن اللغة هنا تتضرّع بدل أن تصرخ،
فهي لغة الاستغاثة التي تحوّل الألم إلى صلاةٍ لغويةٍ.

سابعًا: اللغة ككائن متحوّل.
تُظهر دواوين نصرالله أن اللغة ليست أداة بل ذات متحوّلة، تتبدّل مع الموقف النفسي والتاريخي.
في المراحل الأولى من شعره، كانت اللغة مشبعة بالرثاء، بينما في دواوينه اللاحقة أصبحت لغة وعيٍ ورؤيا.
وهذا التحوّل يؤكّد ما قاله محمد مندور: “الشاعر لا يتطوّر في موضوعه بل في لغته، لأنها مرآة تطوّر وعيه” (مندور، 1944، ص. 113).
ومن هنا، تتجسد جمالية نصرالله في أنه لا يكتب اللغة، بل يجعل اللغة تكتب وعيه.

تبيّن من خلال هذا الفصل أن جماليات الصوت والمعنى في شعر إبراهيم نصرالله تتأسّس على:
- المطابقة بين البنية الصوتية والدلالة الشعورية.
- الانزياح اللغوي كفعل مقاومة للمعنى الثابت.
- البلاغة الإيمانية التي توحّد الجمال بالألم.
- الإيقاع النفسي كصدى لوجدان الجماعة.
- تداخل الحواس وتفاعل الرموز كعلامة على الوعي الكوني بالشعر.
بهذا يُمكن القول إن نصرالله لم يكتفِ بكونه شاعر المقاومة، بل تجاوز ذلك إلى أن يكون شاعر الجمال المقاوم، الذي جعل من اللغة وطنًا ومن الصوت هويةً.

قائمة المصادر والمراجع (APA):
- ابن جني. (1952). الخصائص (الجزءان 1–2). القاهرة: دار الكتب المصرية.
- العقاد، عباس محمود. (1935). الديوان في الأدب والنقد. القاهرة: دار المعارف.
- الرافعي، مصطفى صادق. (1934). تحت راية القرآن. القاهرة: المطبعة السلفية.
- حسين، طه. (1926). في الشعر الجاهلي. القاهرة: دار المعارف.
- مندور، محمد. (1944). النقد الأدبي. القاهرة: دار نهضة مصر.
- نصرالله، إبراهيم. (2010). مرايا الملائكة. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون.
- نصرالله، إبراهيم. (2012). المديح الأخير للوحش. عمّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- نصرالله، إبراهيم. (2012). الملهاة الفلسطينية (مختارات شعرية). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

استكملت الدراسة بتاريخ الأربعاء 14 / 5 / 2025 م.
962776537021



#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسة نقدية: لماذا لم يصل الأدب الإبداعي العربي من قصة وشعر ...
- الرواية البحرينية وتحولات الوعي الجمالي: دراسة نقدية منهجية ...
- شعر الهايكو العربي: قراءة نقدية تحليلية في نص (غيمة ماطرة) ل ...
- الشعر العراقي: جماليات الوجع والاحتجاج في شعر كواكب الساعدي: ...
- الرواية والهوية العابرة: تمثيلات العبور (هجرة، لجوء، سفر) وا ...
- المدينةُ كفاعلٍ سردي: منظومة القوّة والحنين في المدينة العرب ...
- الشعر الأردني: دراسة نقدية-تمرد الذات وإيقاع الهامش في شعر م ...
- الشعر الكويتي: دراسة نقدية-الشاعرة منى كريم. الصوت المتمرد ف ...
- صورة العربي في الرواية العالمية والغربية خاصة: دراسة نقدية ت ...
- الشعر الإماراتي: دراسة نقدية بنيوية-تفكيكية لقصيدة -نسب الحر ...
- دور الرواية العربية في إعادة تشكيل الواقع بطريقةٍ إصلاحيةٍ أ ...
- صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت ...
- العمل التطوعي الإنساني في الرواية العربية. دراسة نقدية: نفسي ...
- الأشخاص ذوو الإعاقة يتصدرون مشهد البطولة في الرواية العربية
- عودة ترامب؛ هل سينقذ أم يغرق الإمبريالية العالمية أحادية الق ...
- العرب والنظام العالمي الجديد - الحرب العالمية الثالثة
- يسعى الأردن إلى تقديم نموذج للدولة المدنية - دولة المواطنة ( ...
- الأردن - فلسطين وجهان لعملة واحدة روحا وقلبا وعقلا ودماءً.
- جند بيت المقدس في غزة سيدحرون جيش صهيوماسون وسيلحقون به شرّ ...
- اذهب أنت وربك فقاتلا ... غزوة طوفان الأقصى ومعركة الخندق وحر ...


المزيد.....




- كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- لن يخطر على بالك.. شرط غريب لحضور أول عرض لفيلم -بوجونيا-
- اهتمام دولي واقليمي بمهرجان طهران للفيلم القصير
- تفاعل واسع مع فيلم -ويبقى الأمل- في الجونة.. توثيق حقيقي لمع ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حجازي البرديني - دراسة نقدية: جدلية الرؤيا واللغة في شعر إبراهيم نصرالله في ضوء المناهج النفسية واللغوية والجمالية.