محمد حجازي البرديني
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 22:40
المحور:
الادب والفن
الناقد: محمد حجازي البرديني - الأردن.
تتناول هذه القراءة النقدية قصيدة "مشاهدات" للشاعرة العراقية كواكب الساعدي (2018)، بوصفها نصاً شعرياً يجسّد الوعي الجمعي العراقي في مواجهة الوجع والخذلان السياسي والاجتماعي. تستند الدراسة إلى مقاربة نقدية متعددة المناهج (سيميائية، بنيوية، تفكيكية، أسلوبية، تأويلية) بهدف الكشف عن البنية العميقة للنص من حيث الدلالة والرمز والأسطورة والتشكيل اللغوي.
تكشف القراءة النقدية أنّ الساعدي توظّف الرمز الأسطوري (كلكامش، خادمة المعبد، النوشو) بوصفه استعارة للخلود الإنساني والمقاومة الأنثوية، وتعيد تأويل الوجع الجمعي عبر لغةٍ شعريةٍ كثيفةٍ تحوّل الألم إلى طاقة إبداعية.
خلصت الدراسة إلى أنّ قصيدة "مشاهدات" تمثل نموذجاً لتجليات الشعر النسوي المقاوم في العراق، حيث تتقاطع الرؤية الأنثوية مع البنية الدلالية للثورة والاحتجاج، وتتحول القصيدة إلى وثيقة إنسانية تسائل التاريخ والسياسة والوجود.
المقدّمة.
يُعدّ الشعر العراقي الحديث مرآةً دقيقة لتحولات الوعي الجمعي، إذ تماهت فيه التجربة الجمالية مع المأساة الإنسانية، وتجلّى في أفقه التاريخي صوتُ المقاومة بوصفه تعبيرًا عن الوجع العميق ورفض الانكسار. في هذا السياق تبرز تجربة الشاعرة كواكب الساعدي بوصفها صوتًا أنثويًا مقاومًا، ينحت لغته من الألم ويصوغ رؤيته من رماد المدن المتعبة. قصيدتها «مشاهدات» (2018) ليست نصًّا عابرًا في مدوّنة الشعر النسوي العراقي، بل هي وثيقة احتجاج إنساني وبيان شعري ضد العطش والخذلان والسلطة الغافلة.
تقوم هذه الدراسة على تحليل النص من منظورٍ سيميائي–بنيوي–تفكيكي، بهدف الكشف عن البنى العميقة التي تحكم دلالاته، واستنطاق رموزه وأسطوراته، وتتبع اشتغال اللغة بوصفها كائنًا يتجاوز المبنى إلى المعنى، ويعبّر عن وعي جمعي وأنثوي في آن واحد.
وهنا نتساءل كيف استطاعت كواكب الساعدي أنّ تجسّد من خلال قصيدتها «مشاهدات» رؤيةً احتجاجيةً أنثويةً على الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، عبر بنى سيميائية وأساليب رمزية وأسطورية ولغوية متشابكة؟
الفصل الأول : البنية الدلالية في قصيدة «مشاهدات» ثنائية الوجع والاحتجاج.
1. مدخل دلالي.
تتأسس قصيدة «مشاهدات» (الساعدي، 2018) على رؤية وجودية وإنسانية، تجعل من الوجع منطلقًا والاحتجاج غايةً. منذ الجملة الافتتاحية الجارحة:
«الانتظار خطيئة، والتفرج شراكة في الجريمة، ولا بد من عمل ليس غدًا ولكن الآن.»
نجد الشاعرة تعلن بيانها الشعري والسياسي بصرامة واعية، إذ تجعل من اللغة منبرًا للفعل لا للتفرّج، ومن الشعر صرخة احتجاج ضد الصمت. هذا الاستهلال يحمل دلالتين مركزيتين:
الأولى: وعي بالخطيئة الجماعية المتمثلة في السكون والانتظار.
الثانية: دعوة للفعل الآنيّ الذي لا يؤجل خلاص الإنسان.
بهذا المعنى، تنتمي القصيدة إلى شعر الموقف والاحتجاج، لكنها تذهب أبعد من الخطاب السياسي المباشر إلى خطاب رمزي–جمالي، يزاوج بين الأسطورة والواقع، والذات والجماعة، والحلم والخذلان.
2. الوجع الجمعي والوعي بالمأساة.
يقول النص:
«ليس بعيدًا عن الشطِّ في المدينة التي باركها الله
كأن بها نسبًا من الأنبياء
بحرفها وحنّائها والشعراء
يتساقط رطبها جنيًّا بشجرة الخلق الأول.»
في هذا المقطع تتجلّى البصرة رمزًا للقداسة والأصل والنبوّة، فهي مدينة الخصب والماء والأنبياء. غير أن هذا المعنى المقدّس ينقلب بعد أسطر إلى مشهد عطشٍ وموت:
«تُعاد بها الآن ملحمة العطش...
من يغصّ بالملح ولا قطرة ماء.»
إن هذا الانقلاب الدلالي يؤسس لثنائية الخصب/العطش التي تشكّل محور النص. فالبصرة، التي كانت رمزًا للفيض والبركة، أصبحت مسرحًا للجفاف والخذلان. وهنا تعمل الشاعرة على تحويل الصورة الجغرافية إلى صورة وجودية، حيث الماء رمز للحياة والكرامة، وغيابه علامة للخذلان الإنساني والسياسي (عبد الجبار، 2019، ص. 82).
يبلغ الوجع ذروته حين تقول:
«ينتفضون، يُجلدون بالسياط، وبالرصاص الحي يُغتال
من يغصّ بالملح ولا قطرة ماء.»
تتكرّر الأفعال (ينتفضون – يُجلدون – يُغتال) في بنية تراكمية متوترة تُحاكي إيقاع الألم الجمعي، وتؤسس لتصعيد شعوري ولغوي يعكس مأساة الإنسان العراقي الذي يواجه عطشه بالدم.
3. الاحتجاج: من الفرد إلى الجماعة.
يتحوّل النص من توصيف المأساة إلى إعلان الثورة، في صيغة نداءٍ جماعيّ يذكّر بنبرة الملاحم والبيانات الثورية:
«أيها البصريون
تقبل الله قرابينكم وموتكم المعلن
على حافات الأرصفة مضرجين بحناء أعراسكم.»
هذا المقطع ينهض على مفارقة مأساوية بين الموت والعُرس، إذ تتحول الحناء – رمز الحياة والفرح – إلى دم الشهداء. هنا يتجلّى ما يسميه بارت "دلالات التوتر بين المستويين الدلاليين" (بارت، 1977، ص. 113): الدلالة الأولى (الفرح)، والدلالة الثانية (الفاجعة).
بهذا التناص الداخلي، تصنع الساعدي جمالية الاحتجاج، حيث لا تكون الثورة صراخًا، بل تجليًا شعريًا متقنًا للألم.
ثمّ ترفع الصوت من المحلي إلى الإنساني، فتقول:
«فهل سيدوَّن سفر آخر للتاريخ من هناك؟»
إنها تسائل التاريخ ذاته، وتعيد صياغته من هامش المقهورين، لتعلن أن الكتابة فعل مقاومة، وأن التاريخ لا يُدوّن فقط بأقلام المنتصرين، بل بدماء الشهداء على الأرصفة (الخفاجي، 2020، ص. 163).
4. ثنائية الأمل واليأس: الفعل المؤجَّل.
في القسم الثاني من القصيدة، يتحوّل الخطاب من الجماعة إلى الذات الشاعرة، في لحظة تأملٍ تتجاوز السياسي إلى الفلسفي:
«كان ما بيننا أشبه بمنعطف
وغلالات بيض غطت الأديم
لكنه سألني عن الدنيا وأحوالها...»
هنا تتراجع حدة الصراخ، ويبدأ التأمل في معنى الحياة والخلود. تذكر الشاعرة كلكامش، خادمة المعبد، وصاحب أصل الأنواع، واللغة الأنثوية (النوشو). إنها تنتقل من احتجاج سياسي إلى احتجاج معرفي وأنثوي على عبث الوجود، مؤكدة أن رحلة الإنسان في طلب الخلود لم تنتهِ:
«ما زال كلكامش ما فتئ يبحث عن سر الخلود وإكسير الحياة.»
تستحضر الساعدي رموز التاريخ والأسطورة لتكشف عن ثبات السؤال الإنساني رغم تغيّر الزمان. هذه الاستراتيجية الرمزية تجعل النص جسرًا بين الوجع الفردي والهمّ الكوني، وتمنحه بعدًا فلسفيًا يتجاوز حدود المكان.
5. دلالة العنوان «مشاهدات».
العنوان نفسه «مشاهدات» يحمل دلالة بصرية وشهادية في آن، فهو يحيل إلى فعل الرؤية والمراقبة والتوثيق. الشاعرة هنا شاهدة على العصر، لا متفرجة عليه.
يؤدي العنوان وظيفة سيميائية مضاعفة:
من جهة أولى، يشير إلى عين الشاعرة التي ترى وتحلّل.
ومن جهة ثانية، إلى مشهدية الواقع الذي يفرض نفسه نصًا ووجعًا.
وهكذا يغدو النص حقل علاماتٍ مفتوحًا يشتبك فيه النظر بالفعل، والرؤية بالكتابة، ليؤكد ما ذهب إليه لوتمن (Lotman) في أن «النص ليس وصفًا للعالم، بل نظامٌ دلاليٌّ يخلق عالمًا خاصًا» (Lotman, 1990, p. 87).
6. الخلاصة الدلالية.
تقوم البنية الدلالية في قصيدة «مشاهدات» على ثلاث حركات مركزية:
- الوجع الجمعي: من خلال تصوير المأساة العراقية في رمزية العطش والقهر.
- الاحتجاج الجماعي: عبر نداءات الثورة وصوت الجماعة الرافضة للخذلان.
- التأمل الفلسفي–الأنثوي: الذي يربط الموت بالخلود، والأنثى بالمعرفة، والرمز بالتاريخ.
ومن خلال هذه الحركات، تتجلّى القصيدة بوصفها خطابًا شعريًا مقاومًا يعبّر عن الذات العراقية والأنثى المقهورة والإنسان الباحث عن معنى في عالمٍ مثقلٍ بالوجع.
الفصل الثاني: البنية الأسلوبية في قصيدة «مشاهدات»
الإيقاع، الصورة، والانزياح.
1. مدخل أسلوبي.
تتسم قصيدة «مشاهدات» بثراء لغوي وتنوّع أسلوبي يشي بوعي الشاعرة بقدرة اللغة على التشكّل والتجاوز. فالساعدي لا تكتب بلغة الحزن، بل بلغة الصبر المتمرّد، حيث تتحول المفردات إلى أدوات مقاومة جمالية.
يؤكد جاكبسون (Jakobson, 1960) أن وظيفة الشعر تكمن في التركيز على الرسالة ذاتها، أي على اللغة بوصفها موضوعًا للفن. والساعدي تجسّد هذا المفهوم حين تجعل من اللغة بطلاً شعريًا، تتحرك داخله الدلالات في نسقٍ إيقاعي وصوري متصاعد.
2. الإيقاع الداخلي والخارجي.
رغم أن النص يُكتب على شكل شعر حرّ (تفعيلة)، إلا أن الإيقاع فيه لا ينبع من الوزن وحده، بل من تكرار الفعل والحركة الصوتية. نقرأ مثلًا:
«ينتفضون، يُجلدون بالسياط،
وبالرصاص الحي يُغتال...»
يتكرّر الإيقاع الصوتي في الفعلين (ينتفضون / يُجلدون / يُغتال)، محدثًا تصعيدًا نغميًا يتوازى مع تصعيد المأساة. الإيقاع هنا ليس موسيقيًا بقدر ما هو دراميّ، يعبّر عن صرخة جماعية تتردّد في فضاء القصيدة.
وتتّخذ الجمل القصيرة المتقطعة دورًا إيقاعيًا بديلاً عن الوزن المنتظم، لتولّد ما يسميه نورتروب فراي بـ«الإيقاع النفسي للغضب الجمعي» (Frye, 1957, p. 72).
كما يتجلّى الإيقاع الداخلي من خلال التكرار الصوتي للحروف المهموسة (السين، الشين) في قولها:
«مشاعلنا في الظلام دماء الشهداء»
حيث يُحدث تكرار الأصوات الهمسية تموّجًا صوتيًا يذكّر بانطفاء النور في ليلٍ غاضب.
3. الصورة الشعرية: من المشهد الواقعي إلى الرمز الكوني.
تتشكّل الصورة في قصيدة «مشاهدات» عبر تداخل المشهدي والرمزي، فالنص يبدأ بمشاهد واقعية (العطش، النار، الشهداء)، ثم يرتقي إلى صور رمزية (كلكامش، النوشو، خادمة المعبد).
يقول النص:
«تُعاد بها الآن ملحمة العطش،
وفِتية يرتقون للسماء،
تُغتال نعوشهم بوضح النهار.»
هنا تتداخل الصورة البصرية (النعوش، وضح النهار) بالصورة الأسطورية (الارتقاء إلى السماء)، لتتحول المأساة اليومية إلى ملحمة شعرية حديثة.
كما تقوم الصورة على التناصّ الدلالي بين الحياة والموت، إذ تقول:
«مضرجين بحنّاء أعراسكم»
في هذه الصورة استبدالٌ دلاليّ بين لون الحناء (رمز الفرح) ولون الدم (رمز الفاجعة)، وهي تقنية تضادٍّ استعاريّ تمنح الصورة بعدًا مأساويًا.
تعمل هذه المفارقة على إنتاج ما يسميه باشلار بـ«الخيال المأساوي» الذي يوحّد بين الجمال والرعب في صورة واحدة (Bachelard, 1964, p. 41).
4. الانزياح اللغوي (Deviation).
الانزياح عند الساعدي ليس ترفًا أسلوبيًا، بل هو وسيلة مقاومة لغوية. فهي تُخرِج اللغة من سياقها المألوف لتقول ما لا يُقال.
نقرأ مثلًا:
«الصبر في الأرض ضمادة المعذبين.»
الانزياح هنا يتجلى في المجاز التركيبي الذي يجعل من الصبر كائنًا حسّيًا يُضمّد الجراح. فاللغة تُجسّد المعاني المجردة، وتمنحها جسدًا فاعلًا في العالم.
وفي قولها:
«تُعاد بها الآن ملحمة العطش»
تنتقل الشاعرة من اللغة الخبرية إلى لغة الميثولوجيا، إذ تحوّل الواقع السياسي إلى «ملحمة»، أي إلى نصٍّ أسطوريٍّ موازٍ للتاريخ.
هذا التحويل اللغوي يعبّر عن الوعي الأسلوبي المقاوم، حيث تصبح اللغة وسيلة لإعادة بناء العالم (أحمد، 2022، ص. 134).
5. التوازي التركيبي والبنية التكرارية.
يتجلى التوازي التركيبي (syntactic parallelism) في بنية القصيدة على نحوٍ واضح، مثل قولها:
«ينتفضون، يُجلدون، يُغتالون...»
وهو توازٍ ثلاثيّ يمنح النص قوة إيقاعية ودلالية، إذ يعكس دورة العذاب المستمرة.
كذلك نجد التكرار الدلالي في جمل مثل:
«الانتظار خطيئة، التفرج شراكة في الجريمة.»
وهو تكرار منطقي يُشيّد بنية خطابية قريبة من الحكمة، لكنّها مغلّفة بحرارة الانفعال.
وفقًا لـهاليداي (Halliday, 2004) فإن التوازي والتكرار يمثلان أدوات تماسك نصي (textual cohesion) تُسهم في بناء المعنى من داخل البنية اللغوية ذاتها (Halliday, 2004, p. 91).
6. المفارقة الأسلوبية بين اللغة البسيطة والدلالة المركّبة.
لغة الساعدي تبدو للوهلة الأولى بسيطة مألوفة، لكنها تحمل طبقات دلالية مركّبة. فهي تكتب بلسان الشعب، لكنّها تُفكّر بلغة المثقف.
مثال ذلك قولها:
«لم نعد قطيع أغنام يقودنا الطغاة.»
تبدو العبارة تقريرية، لكنها تحمل خلفها تراكمًا ثقافيًا وسياسيًا يمتدّ إلى خطاب المقاومة والحرية في الأدب العربي الحديث. إنها جملة مباشرة في ظاهرها، رمزية في جوهرها، تجمع بين البيان الجاحظي في وضوحه، والعمق الرافعي في وجعه البلاغي.
7. الخلاصة الأسلوبية.
من خلال تحليل الإيقاع، الصورة، والانزياح، يمكن القول إن كواكب الساعدي بنت نصّها على أسلوب المقاومة الجمالية الذي يزاوج بين الواقعي والأسطوري، وبين البساطة الشعبية والعمق الرمزي.
فاللغة عندها ليست أداة وصف، بل كائن حيّ يتمرّد ويثور، والصورة ليست تزيينًا بل رؤية وجودية، والإيقاع ليس موسيقى بل صرخة كونية.
إن البنية الأسلوبية في «مشاهدات» تُترجم ما وصفه بول ريكور بـ«الشعر بوصفه فعلًا أخلاقيًا»، إذ يمنح الألمَ معنىً جديدًا من خلال التخييل والتشكيل (Ricoeur, 1981, p. 223).
الفصل الثالث: البنية الرمزية والأسطورية في قصيدة «مشاهدات».
من كلكامش إلى النوشو: الذاكرة الميثولوجية والهوية الأنثوية.
1. تمهيد: الرمز والأسطورة كاستراتيجية جمالية
يُعدّ الرمز أحد أهم المكوّنات الجمالية في الشعر العربي المعاصر، إذ يتيح للشاعر التحايل على الواقع دون السقوط في المباشرة، كما يمنحه حرية التشكيل الدلالي واللغوي.
في قصيدة «مشاهدات»، توظّف كواكب الساعدي الرمز والأسطورة بوصفهما أداتين لرؤية الواقع من منظور كونيّ، فهي لا تصف حدثًا سياسيًا فحسب، بل تحيله إلى ملحمة وجودية تستعيد من خلالها ماضي الإنسان وجراحه الكبرى.
إنّ الشاعرة — كما ترى إليزابيث دريسكول (Driscoll, 2016) — تمارس ما يُعرف بـ«الكتابة عبر الأسطورة» (mythopoetic writing)، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في ضوء رموز حضارية وجمالية تمتدّ من الذاكرة الجمعية إلى الميثولوجيا العالمية.
2. رمزية كلكامش: الخلود بوصفه احتجاجًا.
يبرز في القصيدة الرمز الميثولوجي الأقدم في الأدب الإنساني، كلكامش، بطل الملحمة السومرية، الذي ظلّ يبحث عن سرّ الخلود. تقول الساعدي:
«وأن كلكامش ما فتأ
يبحث عن سرّ الخلود وإكسير الحياة.»
هنا يتحول كلكامش إلى رمز إنساني شامل، يُعيد طرح السؤال الأزلي: كيف يخلّد الإنسان أثره؟
لكنّ الساعدي تُعيد تأويله من منظور واقعي؛ فالخلود لا يتحقق بالأسطورة، بل بالفعل الثوري والشهادة، كما توحي مقاطعها الأولى عن الشهداء الذين “يرتقون إلى السماء”.
إنها بذلك تُجري تفكيكًا سيميائيًا لرمز كلكامش؛ فبدل أن يكون رمزًا أنانيًا يبحث عن خلوده الشخصي، يتحول في شعرها إلى رمز جماعي للخلود الجمعي، أي خلود الشعب في تاريخه ودمائه.
وهذا ما يسمّيه رولان بارت (Barthes, 1972) بـ«تفكيك الأسطورة من الداخل»، حين يُعاد توجيه دلالتها لتخدم خطابًا مضادًا للسلطة.
3. خادمة المعبد وشامات الغواية: الأنثى في تمثلاتها المزدوجة
تقول الساعدي:
«كم استقتلت خادمة المعبد
شامات لغوايته
لكنه استعصم وأبى.»
إنّ هذا المقطع يُقدّم صورةً أنثوية مزدوجة تجمع بين الإغراء المقدّس والوعي الأخلاقي، وهي صورة نادرة في الشعر السياسي.
فالأنثى هنا ليست جسدًا أو رمزًا شهوانيًا، بل قوة اختبار روحي، تُذكّر بتجربة الأنبياء والقديسين الذين واجهوا غواية العالم ليبقوا على صراط المقاومة.
تُعيد الساعدي بذلك إنتاج ما وصفه جوزيف كامبل (Campbell, 1949) في كتابه البطل بألف وجه، من أن الأنثى في الأسطورة تمثّل “البوابة إلى التحوّل الروحي”.
ومن هذا المنظور، تصبح خادمة المعبد تجسيدًا للوعي الإنساني في صراعه بين اللذة والمبدأ، بين الغواية والخلود.
4. النوشو: اللغة الأنثوية ككناية عن المقاومة.
تقول الشاعرة:
«ونساء النوشو يتبادلن الأسرار برسائلهن المشفّرة.»
يُعدّ هذا الرمز من أعمق ما ورد في القصيدة؛ فـ«النوشو» لغة سرّية كانت النساء في الصين يكتبن بها بمعزل عن الرجال، تعبيرًا عن الاستقلال الثقافي والوجداني للمرأة.
وباستدعاء هذا الرمز، تخلق الساعدي تماثلًا ميتا-لغويًا بين لغة النساء الصينية القديمة ولغة الشاعرة العراقية الحديثة، فكلتاهما لغة مقموعة ومخفية، لكنها تنبض بالحياة.
من منظور التحليل التفكيكي، يمكن القول إن الشاعرة تُقوّض النظام الأبوي اللغوي عبر هذا الرمز؛ إذ تمنح المرأة لغة بديلة تكتب بها تاريخها من الهامش، لا من المركز.
وهو ما ينسجم مع ما طرحته إلين سيكسو (Cixous, 1976) في مفهومها عن «الكتابة الأنثوية» (écriture féminine) بوصفها فعلاً تحرّريًا يكسر بنى الخطاب الذكوري ويؤسس بلاغة أنثوية للمقاومة.
5. من الأسطورة إلى الواقع: الملحمة البصرية المعاصرة.
حين تقول الساعدي:
«أيها البصريون، تقبل الله قرابينكم،
وموتكم المعلن على حافات الأرصفة...»
تربط بين الملحمة القديمة (كلكامش) والملحمة الحديثة (الشهيد البصري)، فتقيم جسرًا أسطوريًا بين الذاكرة والتاريخ.
إنها لا تستدعي الأسطورة لتجميل الواقع، بل لتكشف تكرار المأساة الإنسانية عبر العصور.
يلاحظ عبد الله الغذامي (1997) أنّ الشعر العربي الحديث يستخدم الرمز الأسطوري لا بوصفه ترفًا ثقافيًا، بل بوصفه «وسيلةً لتكثيف التجربة التاريخية في صورةٍ كونية» (ص. 112).
وهذا بالضبط ما تفعله الساعدي حين تحوّل معاناة العراق إلى أسطورة جديدة للإنسانية كلّها.
6. التحليل السيميائي للبنية الرمزية.
يُظهر التحليل السيميائي للقصيدة أن الرموز تتفاعل في ثلاث دوائر دلالية:
الدائرة الأولى:
الرمز المركزي ... كلكامش.
الوظيفة الدلالية ... البحث عن الخلود.
البعد التأويلي ... تحوّل من خلود فردي إلى خلود جمعي.
الدائرة الثانية:
الرمز المركزي ... خادمة المعبد.
الوظيفة الدلالية ... الغواية المقدسة.
البعد التأويلي ... امتحان أخلاقي ووعي روحي.
الدائرة الثالثة:
الرمز المركزي ... النوشو.
الوظيفة الدلالية ... لغة المقاومة الأنثوية.
البعد التأويلي ... استعادة الصوت الأنثوي في مواجهة القمع.
بهذا، تتحول القصيدة إلى نظام رمزي مفتوح، كما يصفه يوري لوتمان (Lotman, 1990)، حيث تُصبح العلامة الشعرية كائنًا متحوّلاً يعيد تشكيل المعنى باستمرار.
7. القراءة البنيوية للرمز.
من وجهة النظر البنيوية، فإن هذه الرموز تتفاعل ضمن ثنائيات ضدية تشكّل العمود الفقري للنص، منها:
الحياة ... الموت
الذكر ... الأنثى
الخلود ... الفناء
اللغة ... الصمت
المركز ... الهامش
ووفقًا لـ كلود ليفي-شتراوس (Lévi-Strauss, 1958)، فإن البنية الأسطورية تُبنى على هذه التناقضات، حيث لا يسعى النص إلى حلّها، بل إلى تمثيلها جماليًا، وهو ما تحققه الساعدي بامتياز في تداخلها بين الرمز الأنثوي والأسطورة الذكورية.
8. الخلاصة الرمزية.
يمكن القول إنّ كواكب الساعدي في «مشاهدات» أعادت إنتاج الأسطورة بصوتٍ أنثويّ مقاوم.
فكلكامش لم يعد رمزًا لبطولة الرجل، بل صار رمزًا لبحث الإنسان عن كرامته.
وخادمة المعبد لم تعد أداة غواية، بل كناية عن امتحان الوعي.
أما النوشو، فتمثّل ولادة اللغة الأنثوية المتمرّدة في وجه القمع.
تتشابك هذه الرموز لتصنع ما يمكن تسميته بـ«الملحمة الأنثوية للمقاومة»، حيث تمتزج الأسطورة بالواقع، والأنثى بالتاريخ، واللغة بالدم.
الفصل الرابع: الخاتمة والنتائج والتوصيات النقدية.
أولاً: الخاتمة العامة.
لقد كشفت القراءة النقدية التحليلية لقصيدة «مشاهدات» عن وعي شعريٍّ حادّ وموقفٍ إنسانيٍّ وأخلاقيٍّ عميق من الواقع العربي والعراقي على وجه الخصوص. فالساعدي تكتب من قلب الجرح الجمعي، لكنها لا تسقط في خطاب المرثية أو الشكوى، بل ترتقي بالمعاناة إلى مستوى الملحمة الشعرية الحديثة، حيث يتوحد الصوت الفردي مع الصوت الجمعي، ويتحوّل النص من تجربة شخصية إلى بيان شعريٍّ كونيّ ضد القهر والاستلاب.
لقد استطاعت الشاعرة، من خلال أدواتها الجمالية المتعددة، أن تمزج بين الرمز والأسطورة، الإيقاع واللغة، والأنوثة والبطولة في توليفة شعرية متقنة. فالنصّ يمثّل تداخلاً بين الأزمنة والأساليب، إذ يجمع بين:
الواقعية الاجتماعية في تصوير مأساة الإنسان العراقي؛
الرمزية الميثولوجية في استدعاء كلكامش وخادمة المعبد؛
الكتابة الأنثوية التفكيكية في استحضار لغة النوشو وتحرير الوعي النسوي؛ البنية السيميائية والبنيوية التي نظمت العلامات والرموز ضمن شبكة من الثنائيات الجدلية؛ الانزياح الأسلوبي والإيقاعي الذي جعل اللغة تخرج من تقاليدها المألوفة إلى أفق التجاوز والإبداع.
إن «مشاهدات» نصٌّ لا يقف عند حدود الشعر السياسي، بل يتجاوزها ليؤسّس لما يمكن تسميته بـالشعر الملحمي الأنثوي، الذي تستعيد فيه المرأة العربية موقعها بوصفها صانعة للخطاب المقاوم، لا مجرّد شاهدة عليه.
ثانيًا: النتائج التحليلية.
- البنية الدلالية للنص تقوم على ثنائية (العطش/الخلود) بوصفها استعارة وجودية للبحث عن المعنى في عالمٍ قاسٍ ومقموع.
- الرمز الأسطوري (كلكامش، خادمة المعبد، النوشو) استُخدم بوظيفة تفكيكية، إذ أعادت الشاعرة تأويل الأسطورة من مركزها الذكوري إلى فضائها الإنساني والأنثوي.
- اللغة الشعرية في القصيدة تمارس انزياحًا مزدوجًا: لغويًا (في بنية الاستعارة والتوازي) ودلاليًا (في التوتر بين الواقع والرمز).
- الإيقاع الشعري ينبع من التكرار النحوي والدلالي، ومن التوازي في الأفعال والجمل، مما منح النص توترًا نغميًا يعكس حالة الغضب الجمعي.
- الصورة الشعرية تتخذ طابعًا مشهديًا بصريًا، لكنها تتحول تدريجيًا إلى رموز كونية، في ما يشبه البنية السينمائية أو اللوحة الأسطورية.
-الخطاب الأنثوي في القصيدة يعيد الاعتبار لصوت المرأة بوصفها شريكة في إنتاج الوعي الجمعي لا تابعة له.
- المستوى البنيوي والسيميائي يؤكد أن القصيدة شبكة من العلامات المتقابلة، تتحرك ضمن نظام ديناميكي يعبّر عن صراع دائم بين الحياة والموت، والخلود والفناء، والحرية والقهر.
- المنهج النقدي التكاملي (السيميائي–البنيوي–التفكيكي) مكّن من قراءة النص في أبعاده اللغوية والرمزية والتاريخية، مبرزًا خصوصيته في الشعر النسوي العربي المعاصر.
ثالثًا: التوصيات النقدية للورقة النقدية.
- ضرورة توسيع الدراسات النقدية حول الشعر النسوي العراقي المعاصر، خصوصًا ما تكتبه الشاعرات اللواتي يوظفن الأسطورة والرمز في إطار وطني وإنساني.
- تشجيع المقاربات المنهجية التكاملية التي تدمج بين السيميائيات والبنيوية والتفكيك في تحليل النصوص الحديثة، لأنها تتيح قراءة متعددة المستويات للعلامة الشعرية.
- تحقيق دراسات مقارنة بين شعر كواكب الساعدي وشاعرات عربيات مثل فدوى طوقان، نازك الملائكة، وسعاد الصباح، لبيان تطور الخطاب الأنثوي في الشعر العربي.
- إعادة قراءة النصوص الشعرية بوصفها وثائق ثقافية تعبّر عن الوعي الجمعي والتحولات السياسية والاجتماعية، لا مجرّد أعمال جمالية.
- اقتراح مساق جامعي في الجامعات العربية بعنوان “الأسطورة والرمز في شعر المرأة العربية المعاصرة” يتناول نماذج مثل قصيدة «مشاهدات» في ضوء المناهج الحديثة.
فقصيدة «مشاهدات» ليست مجرد نصٍّ شعري، بل بيان إنسانيٌّ وثقافيٌّ مقاوم. إنها تنتمي إلى الشعر الذي يؤمن بفعل الكلمة في مواجهة الخراب، وتعيد للمرأة موقعها بوصفها راوية التاريخ وحافظة الذاكرة. وقد بيّنت هذه الدراسة أنّ كواكب الساعدي استطاعت، عبر لغتها المضيئة وإيقاعها الغاضب ورمزيتها العميقة، أن تكتب ملحمة العطش والخلود معًا، وأن تمنح الشعر العراقي الحديث صوتًا أنثويًا فاعلًا يوازي في قوّته أصوات الرجال في ساحات النضال والكتابة.
المصادرالمراجع (وفق نظام APA 7):
- أحمد، ف. (2022). الرمز والأسطورة في شعر المرأة العربية المعاصرة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- الساعدي، كواكب. (2018). مشاهدات. منشور إلكتروني في الصحافة الثقافية العراقية، 6 أيلول.
- الغذامي، عبدالله. (1997). الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
- بارت، رولان. (1972). الأسطوريات. ترجمة: فواز طرابلسي. بيروت: دار الطليعة.
- باشلار، غاستون. (1964). شاعرية المكان. باريس: منشورات سوي.
- جاكبسون، رومان. (1960). البيان الختامي: علم اللغة والشعرية. في ت. سيبك (محرر)، الأسلوب في اللغة. مطبعة MIT.
- ريكور، بول. (1981). الهرمنيوطيقا والعلوم الإنسانية. كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.
- فراي، نورثروب. (1957). تشريح النقد. برنستون: مطبعة جامعة برنستون.
- كامبل، جوزيف. (1949). البطل بألف وجه. نيويورك: مطبعة برنستون.
- سيكسوس، هيلين. (1976). ضحك الميدوزا. مجلة ساينز، 1(4)، 875–893.
- هاليداي، م. أ. ك. (2004). مدخل إلى النحو الوظيفي (الطبعة الثالثة). لندن: أرنولد.
- ليفي-شتراوس، كلود. (1958). الأنثروبولوجيا البنيوية. باريس: بلون.
- لوتمان، يوري. (1990). كون العقل: نظرية سيميائية في الثقافة. بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا.
Driscoll, E. (2016). Mythopoetic Writing and Feminist Imagination. London: Routledge.
استكملت هذه الدراسة بتاريخ الأربعاء 15 / 10 / 2025 م
[email protected]
9626537021
... نص قصيدة "مشاهدات" للشاعرة كواكب الساعدي من موقع الحوار المتمدن ... .
"مشاهدات"
الانتظار خطيئة، والتفرج شراكة في الجريمة ولا بد من عمل ليس غداً ولكن الآن.
كواكب الساعدي - العراق.
ليس بعيداً عن الشط
في المدينة التي باركها الله
كأن بها نسب من الأنبياء
بحرفها وحنّائها والشعراء
يتساقط رُطبها جنياً
بشجرة الخلق الاول
وغدران من الفضة والعسل
تحت وطأة الزمن تُعاد بها الآن
ملحمة العطش
وفتية يرتقون للسماء
تُغتال نعوشهم بوضح النهار
يتأجج الغضب تشتعل النيران
ينتفضون يُجلدون بالسياط
وبالرصاص الحي يُغتال
من يغصّ بالملح ولا قطرة ماء
ماذا ينتظرون؟؟
وولاة أمرهم النائمون بمركب الأحلام
يعدون عدتهم لاقتسام الغنائم
بينما يستصرخهم شعبهم
بأفئدة مسّها الضر وتأججت غضباً
لم نعد قطيع أغنام يقودنا الطغاة
مشاعلنا في الظلام دماء الشهداء
ثمة هاتف ضج في السماء
رتّلتهُ الملائكة
أيها البصريون
تقبل الله قرابينكم
وموتكم المعلن
على حافات الأرصفة
مضرجين بحنّاء أعراسكم
فهل سيدوَّن سِفرٌ آخر للتاريخ من هناك؟؟
2
كان ما بيننا أشبه بمنعطف
وغُلالات بِيض غطت الأديم
لكني عرفته
سألني عن الدنيا وأحوالها
قلت:
ما زال الأنبياء
يُرَوّجونَ للفضيلة
وأن كلكامش ما فتأ
يبحث عن سر الخلود
وإكسير الحياة
كم استقتلتْ
خادمة المعبد
شامات لغوايته
لكنه استعصم وأبى
وصاحب أصل الأنواع
أعجزهُ لغزُ الحياة
ما زالت قبائل الهنود
تداوي الجروح بالتعاويذ
ونساء النوشو* يتبادلن
الأسرار برسائلهن المشفرّة
سَقطت حضارات
وبيدت ممالك
وآفل ملوكها
وقامت دول
وتُوِج ملوك
حين دخلوا القرى
لم يعمّروها
ورغم كل شيء
الشمس والقمر
لا زالا دائبيْن
يشرق نورهما ساطعاً
في النهار والليل
صحيح
أنهم مثلوا بأحلامنا
وألقوا بأشلائها
بقارعة الطريق
لكن الصبر
في الأرض ضمادة المعذبين
سيجزل المعذبون في الأرض
والشهداء
سيحملون شعلة الخلود
وسيسود الحق ولو بعد أوان
*النوشو: لغة خاصة بالنساء الصينيات، لا يستطيع الرجال حل ألغازها.
#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟