محمد حجازي البرديني
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 00:09
المحور:
الادب والفن
العمل التطوعي الإنساني في الرواية العربية.
دراسة نقدية: نفسية–اجتماعية–ثقافية.
بقلم: محمد حجازي البرديني.
المقدمة:
يُعدّ العمل التطوعي الإنساني في أي مجتمع من أبرز مظاهر التضامن الأخلاقي والاجتماعي، فهو فعل يتجاوز الفرد إلى الجماعة، ويُعبّر عن الالتزام بالإنسانية في أزهى صورها. وفي الرواية العربية، يُمثّل هذا الفعل محورًا مهمًا يتقاطع فيه الواقع المعيش مع البُعد النفسي والثقافي، ليكشف عن طبقات متعددة من معنى الإنسانية.
تتناول الرواية العربية العمل التطوعي ليس بوصفه مجرد فعل خارجي، بل كحركة داخلية للنفس، وجسر بين الفرد والمجتمع، وممارسة رمزية للضمير الجمعي. فهي ترصد الفقر والهامش والنزوح واللجوء، وتبرز دور الأفراد والجماعات في تقديم المساعدة الإنسانية، وتحوّل هذا الفعل من سلوك عابر إلى بنية وجودية وأخلاقية تُعيد تشكيل الوعي الجمعي.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه التمثيلات الروائية باستخدام المنهج النفسي–الاجتماعي–الثقافي، وبيان كيف تتداخل الدوافع النفسية مع السياق الاجتماعي والثقافي، وكيف يمكن للرواية العربية أن تكون وثيقة توثق واقع الفعل الإنساني وتحمله على مستوى رمزي ومعرفي.
مشكلة الدراسة:
تتمثل مشكلة الدراسة في التساؤل التالي:
كيف تمثّلت فكرة العمل التطوعي الإنساني في الرواية العربية، وما هي الدلالات النفسية والاجتماعية والثقافية لهذا التمثيل في سياقات الفقر، التهميش، النزوح، واللجوء؟
أهداف الدراسة:
تحليل تمثيلات العمل التطوعي في الرواية العربية.
الكشف عن البعد النفسي للمتطوع في النصوص الروائية.
دراسة الأبعاد الاجتماعية للفعل التطوعي وتأثيرها على العلاقات الإنسانية داخل الرواية.
تحديد الرموز الثقافية التي تحمل معاني الفعل التطوعي.
مقارنة تمثيلات الرواية بالواقع الميداني للأعمال التطوعية الإنسانية في العالم العربي.
فرضيات الدراسة:
العمل التطوعي في الرواية العربية ليس مجرد فعل اجتماعي بل رمز للضمير الجمعي والأخلاق الإنسانية.
المتطوع في النص الروائي يمثل نقطة تلاقٍ بين الفعل الأخلاقي والوجود الإنساني.
الرواية العربية سبقت الواقع الميداني في الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية للعمل التطوعي.
منهج الدراسة:
تعتمد الدراسة المنهج النفسي–الاجتماعي–الثقافي، الذي يجمع بين:
التحليل النفسي: فحص الدوافع الداخلية للشخصيات وكيف ينعكس شعورها بالذنب، التعاطف، والمسؤولية.
التحليل الاجتماعي: دراسة تأثير العمل التطوعي على الجماعة والعلاقات الاجتماعية داخل الرواية.
التحليل الثقافي: استكشاف الرموز، القيم، والمفاهيم المرتبطة بالعمل التطوعي.
تم تطبيق المنهج على ثلاث روايات بارزة:
إلياس خوري – "باب الشمس" (بيروت: دار الآداب، 1998).
غسان كنفاني – "رجال في الشمس" (بيروت: دار الطليعة، 1963).
حنا مينة – "الشرف" (بيروت: دار الآداب، 2007).
كما تم الرجوع إلى تقارير ميدانية:
United Nations Volunteers (UNV). State of the World’s Volunteerism Report 2022. Bonn: UNV, 2021.
التحليل التطبيقي المفصل:
1. إلياس خوري – "باب الشمس"
أ. السياق الروائي.
رواية "باب الشمس" تصور حياة الفلسطينيين في المخيمات، حيث يشكل الفقر والنزوح واقعًا يوميًا يفرضه التاريخ والسياسة. العمل التطوعي يظهر كاستجابة إنسانية للتهميش، وكحركة أخلاقية داخلية تساوي بين الفرد والمجتمع.
ب. البعد النفسي.
المتطوع في النص يُظهر دوافع مركّبة: شعور بالذنب الجماعي بسبب النكبة، رغبة في استعادة الكرامة الإنسانية، والبحث عن معنى للحياة في وسط الخراب. الرواية تقول إن العمل التطوعي هو محاولة "لإطعام الذاكرة كي لا تموت مرتين" (خوري، 211)، أي أن العطاء مرتبط بالهوية والذاكرة الجماعية.
ج. البعد الاجتماعي.
العمل التطوعي هنا لا يقتصر على فرد منفرد، بل يتم داخل شبكة من العلاقات الجماعية: العائلات، الأصدقاء، والجيران. هذه الشبكات تؤكد على التضامن الاجتماعي، وتحافظ على نسق الحياة رغم الظروف القاسية.
د. البعد الثقافي.
يستعمل خوري الرموز المرتبطة بالمأساة والحنين: الخيمة، المخيم، الوجوه المتعبة، كل هذا يرمز إلى "البيت المشترك" الذي يحتاج إلى عناية مستمرة من المتطوعين، ويحول العمل الإنساني إلى واجب ثقافي وجمالي.
2. غسان كنفاني – "رجال في الشمس"
أ. السياق الروائي.
كنفاني يروي مأساة العمال الفلسطينيين المهاجرين، حيث الفقر والبحث عن الكرامة يضعهما في مواجهة صارمة مع الظلم الاجتماعي والاقتصادي. الرواية تعكس فراغ المؤسسات وتوضح أثر غياب التنظيم الاجتماعي.
ب. البعد النفسي.
الفعل التطوعي هنا يختفي تقريبًا، ويبرز أثر غياب المتطوع على الأفراد. الأبطال يعانون من العزلة والإحباط، ويظهر كيف أن غياب الدعم الاجتماعي والتكافل يضاعف مأساة الفرد.
ج. البعد الاجتماعي.
كنفاني يرصد خللاً جماعيًا: المجتمع غائب، المؤسسات ضعيفة، والعلاقات الاجتماعية مهترئة. الرواية تُظهر أن المتطوع، أو غيابه، يؤثر مباشرة على حياة الناس ومصائرهم.
د. البعد الثقافي.
الرمزية واضحة: الصهريج الذي يموت فيه الأبطال يرمز إلى صمت المجتمع وعجزه عن ممارسة التضامن، أي غياب الفعل التطوعي يصبح مأساة ثقافية أيضًا.
3. حنا مينة – "الشرف"
أ. السياق الروائي.
مينة يصف الحياة اليومية في الحي الشعبي، حيث العمل التطوعي يظهر في أبسط صوره: مشاركة الطعام، المساعدة في الشؤون اليومية، التضامن مع المحتاجين. الفعل الإنساني هنا شعبي وعفوي.
ب. البعد النفسي.
الدافع هو التعاطف، المحبة، والشعور بالمسؤولية الجماعية. المتطوعون ليسوا أبطالًا خارقين، بل أشخاص يعيشون الإنسانية في كل فعل صغير.
ج. البعد الاجتماعي.
العمل التطوعي يعزز الروابط الاجتماعية، ويعيد بناء الثقة بين الأفراد داخل الحي، ويشكل شبكة دعم غير رسمية، تقلل من آثار الفقر والتهميش.
د. البعد الثقافي.
المساعدة اليومية الصغيرة تُحوّل إلى رموز للكرامة والشرف، فالفعل التطوعي هنا ممارسة للقيم الأخلاقية والجمالية المحلية، ويُظهر أن الإنسانية ليست مقتصرة على المبادرات الرسمية.
مقارنة بين الروايات:
- رواية الشرف ل"حنا مينه" :
البعد للدافع النفسي - المحبة والتعاطف.
البُعد الاجتماعي- الروابط اليومية والحيوية.
البعد الثقافي- القيم المحلية والأخلاقية.
وظيفة التطوع - تعزيز التضامن.
- رواية رجال في الشمس ل"غسان كنفاني":
البعد للدافع النفسي - العزلة، الإحباط.
البُعد الاجتماعي- غياب المجتمع.
البعد الثقافي-الرمزية التاريخية والذاكرة .
وظيفة التطوع - كشف المأساة.
- رواية باب الشمس ل "إلياس خوري":
البعد للدافع النفسي - الذنب، استعادة الهوية.
البُعد الاجتماعي- شبكة جماعية داعمة.
البعد الثقافي- صمت المجتمع.
وظيفة التطوع - صيانة الهوية والذاكرة.
المقارنة مع الواقع الميداني:
وفق تقرير UNV 2022، يظهر أن العمل التطوعي في العالم العربي يتسم بالتحديات التالية:
نقص التمويل والموارد.
الإرهاق النفسي للمتطوعين.
التفاوت في الدعم بين المجتمعات المحلية.
وتتطابق هذه النتائج جزئيًا مع ما تصوّره الروايات: الفعل التطوعي هشّ، ولكنه ضرورة وجودية لحياة الجماعة.
النتائج:
الرواية العربية تُعيد تعريف العمل التطوعي كفعل وجودي وأخلاقي، وليس مجرد واجب اجتماعي.
تمثيلات الرواية تُظهر أن الفعل التطوعي مرتبط بالذاكرة، الهوية، والقيم الثقافية.
هناك توافق جزئي بين الرواية والواقع الميداني في أبعاد الإرهاق، صعوبة الموارد، والحاجة للتضامن.
الرواية تقدّم قراءة نفسية واجتماعية عميقة للفعل التطوعي، تتجاوز الإحصاءات الميدانية.
التوصيات:
إدماج النصوص الروائية في دراسات العمل الإنساني لفهم البُعد النفسي والثقافي للمتطوعين.
تشجيع الكتّاب العرب على توثيق تجارب العمل التطوعي الميدانية في نصوصهم.
تعزيز التعاون بين الباحثين في الأدب والتنمية الإنسانية لتوظيف الرواية كأداة معرفية.
اعتماد منهج متكامل (نفسي–اجتماعي–ثقافي) في تحليل الأدب الإنساني.
الخاتمة:
العمل التطوعي الإنساني في الرواية العربية ليس مجرد فعل اجتماعي، بل تجربة وجودية تجمع بين الفرد والمجتمع، بين الواقع والرمز. الرواية تُحوّل العطاء اليومي إلى رمزية أخلاقية، وتبرز كيف يمكن للإنسان أن يُعيد بناء الإنسانية في بيئات الفقر والنزوح والتهميش، فتكون الرواية بمثابة وثيقة إنسانية وثقافية وأخلاقية متقدمة على الواقع أحيانًا، وكمرآة له في أحيان أخرى.
قائمة المراجع (MLA):
خوري، إلياس. باب الشمس. بيروت: دار الآداب، 1998.
كنفاني، غسان. رجال في الشمس. بيروت: دار الطليعة، 1963.
مينة، حنا. الشرف. بيروت: دار الآداب، 2007.
United Nations Volunteers. State of the World’s Volunteerism Report 2022: Building Equal and Inclusive Societies. Bonn: UNV, December 2021.
محمد البرديني.
تم استكمال الدراسة بتاريخ الثلاثاء 17 / 6 / 2025 م.
#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟