محمد حجازي البرديني
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 10:32
المحور:
الادب والفن
شعر الهايكو العربي: قراءة نقدية تحليلية في نص (غيمة ماطرة) للشاعرة فاطمة الفلاحي.
بقلم: محمد حجازي البرديني.
التمهيد.
تتناول هذه القراءة النقدية النص الشعري القصير «غيمة ماطرة» للشاعرة العراقية فاطمة الفلاحي، في إطار دراسة نقدية تحليلية تطبيقية تتناول شعر الهايكو العربي الحديث من حيث البنية، الرمز، والوظيفة الجمالية.
حيث يُمثّل نص الفلاحي نموذجًا جماليًا لتطويع روح الهايكو الياباني في سياق عربي وجداني وفلسفي، يعكس علاقة الذات بالطبيعة والعالم الداخلي.
تستند الورقة النقدية إلى مقاربة منهجية متعددة المناهج — البنيوية، السيميائية، التفكيكية، الجمالية، والرمزية — للكشف عن شبكة العلامات الدلالية في النص، وعن كيفية تحوّل الصورة الشعرية إلى بنية رمزية تتجاوز المعنى المباشر إلى المعنى الكامن.
المقدمة
قال العقاد (1942) إن الشعر “صوت النّفْسِ حين تمتزج بالكون”، وهذه المقولة تصلح مدخلًا إلى فهم شعر الهايكو العربي في طبيعته المختزلة الموحية.
فالشاعرة فاطمة الفلاحي في نصها «غيمة ماطرة» تستثمر فلسفة الهايكو الياباني — القائم على لحظة التأمل والدهشة — ولكنها تصوغها بروح عربية ذات حسٍّ وجداني عميق.
ولئن كان باشو في اليابان قد جعل الطبيعة مرآة للوعي الجمالي، فإن الفلاحي جعلتها مرآةً للذات الأنثوية المتأملة في الكون، لتجعل من المطر والغيم والرعد رموزًا كونية للبعث والانكشاف والصفاء.
ومن هنا تأتي أهمية هذا الدراسة في تحليل النص من خلال تكامل المناهج النقدية الحديثة.
أولاً: مفهوم الهايكو ونشأته وخصائصه الفنية.
1. نشأة الهايكو في اليابان.
يُعَدّ الهايكو (俳句) أحد أعرق الفنون الشعرية في اليابان، نشأ في القرن السابع عشر على يد الشاعر ماتسو باشو، متطورًا من شعر الرينغا الجماعي إلى شكل مستقلٍّ يتميز بالإيجاز والدقة في الملاحظة.
ويقوم الهايكو على ثلاث أسطر صوتية (5-7-5)، تمثل لحظة الوعي الخاطف أو ما يسميه اليابانيون ساتوري — أي انبثاق الإدراك في لحظة واحدة (Oshima, 1997).
2. خصائص الهايكو
- الإيجاز والتكثيف دون إخلال بالمعنى.
- تصوير الطبيعة ككائن حيٍّ ناطق.
- وحدة الزمان والمكان والحدث.
- المفارقة بين السكون والحركة.
- الإيحاء بدلاً من التصريح، والرمز بدلاً من الشرح.
لحظة الكشف الجمالي المفاجئ (moment of enlightenment).
3. الهايكو في الأدب العربي.
دخل الهايكو إلى الثقافة العربية في بدايات القرن الحادي والعشرين عبر الترجمات الأدبية، ثم تبلور كجنس شعري عربي بتجارب مثل فاضل العزاوي ومحمد الخضيري وفاطمة الفلاحي و ... إلخ.
وقد لاحظ الخضيري (2020) أن الهايكو العربي لم يعد استنساخًا للنموذج الياباني، بل صار "تجسيدًا للعلاقة بين الوعي البيئي والوجداني في لغة شعرية مقتصدة".
أما العزاوي (2014) فعدَّه “شكلًا شعريًا يعبّر عن دهشة الكائن العربي في مواجهة التفاصيل اليومية”.
وهكذا أصبح الهايكو العربي فضاءً جماليًا يحتضن التأمل والرمز، ويعيد رسم العلاقة بين الإنسان والطبيعة واللغة.
ثانيًا : التحليل البنيوي والسيميائي للنص.
1. بنية اللغة والتشكيل النصي.
في نص «غيمة ماطرة»، تكتب الفلاحي:
غيمة ماطرة~
مرت بين أقواس قزح،
فتوحات رعد!
يتمظهر هنا نظام بنيوي ثلاثي: (فاعل – مسار – انفجار).
الغيمة = الفاعل الكوني.
القزح = المسار البصري للعبور.
الرعد = الانفجار التحولي.
وفق المنهج البنيوي، تتكوَّن دلالة النص من العلاقات التماثلية والتضادية بين عناصره: الهدوء/الانفجار، الضوء/الصوت، الغياب/الظهور.
اللغة هنا تؤسس لنظام من التحوّل الصوتي والدلالي، يعكس ما يسميه بارت “المعنى المنتج داخل البنية”.
2. السيمياء والدلالة الرمزية.
يتعامل المنهج السيميائي مع اللغة بوصفها نظام إشارات (Morris, 1938).
في نص الفلاحي، تتحول المفردات إلى رموز:
الغيمة: رمز للخصب والحنين والاحتمال.
المطر: رمز للتطهر والبعث.
الرعد: رمز للوعي الوجودي والانكشاف.
تقوم العلامة الشعرية هنا على ما يسميه بيرس بـ “التمثيل المؤول” (interpretant)، إذ يتجاوز الدال مدلوله الحسي إلى تأويل فلسفي للوجود.
الثالثًا: التفكيك والتأويل الجمالي.
تقول الفلاحي:
غيمة ماطرة~
تتساقط لتكشف عري قلبي،
صخب اللقاء!
يستدعي هذا المقطع منهج جاك دريدا (1976) في قراءة النص بوصفه لعبة علامات لا نهائية.
فـ“العُري” هنا ليس ضعفًا بل انكشاف الحقيقة الداخلية.
يتحوّل المطر من عنصر خارجي إلى وسيلة تطهير روحي.
وهذا ما يسميه باشلار (1942) “الخيال المادي”؛ حيث تتحول المادة (الماء) إلى رمزية روحية.
من خلال المفارقة بين التساقط والعري والصخب، تنبثق الدهشة الشعرية، وهي لحظة التنوير الداخلي التي تمثل جوهر الهايكو.
رابعًا: الأسلوبية والجمالية الرمزية.
تقول الفلاحي:
غيمة ماطرة~
يسرح شلال الليل على أكتافي،
طوق غمار!
في ضوء المنهج الأسلوبي عند محمد مندور (1953)، يتضح أن النص يقوم على تراسل الحواس: الرؤية (الليل)، اللمس (الأكتاف)، السمع (الخرير).
يحدث التفاعل بين الأصوات والإيقاعات ليكوّن نغمة داخلية تشبه “الموسيقى الصامتة” كما يسميها العقاد.
وتُبرز الرمزية هنا وحدة الذات والكون، إذ يصبح الليل ماءً، والماء عناقًا كونيًا.
إنها رمزية شفافة تؤسس لوعي جمالي متعالٍ على الزمان والمكان.
خامسًا: البعد الفلسفي والتناص.
في خاتمة النص:
غيمة ماطرة~
قد تنكمش وتصغر مصائبنا،
حكم القصاص!
يتجلى المنظور الفلسفي الأخلاقي في رؤية المطر بوصفه توازنًا كونيًا وعدالة طبيعية.
يشير النص إلى فكرة الجاحظ عن العقل الكوني الذي يحكم الأشياء، وإلى رؤية الرافعي في حديث القمر (1997) حيث “المطر رسالة السماء إلى القلوب المبللة بالحزن”.
كما نجد تناصًّا مع الرؤية الصوفية عند ابن عربي في وحدة الوجود: "الماء أصل الوجود والتجدد".
هنا تنكمش المصائب لأن الوعي بالمطر يُعيد ترتيب الألم في سلم الجمال.
خاتمًا.
خلص الورقة النقدية إلى أن نص «غيمة ماطرة» يمثل تجربة شعرية عربية حداثية مكتملة، تدمج روح الهايكو الياباني بعمق التأمل العربي.
لقد حققت فاطمة الفلاحي عبر لغتها المقتصدة وصورها المكثفة توازنًا بين الإيجاز والامتلاء، وبين الطبيعة والوجدان.
وقد أظهرت المقاربة البنيوية والسيميائية والتفكيكية والأسلوبية أن النص ليس مشهدًا للطبيعة فحسب، بل هو تمثيل فلسفي وجمالي لعلاقة الذات بالعالم.
ومن خلال رمزية الماء والمطر والغيم، يتجلّى البعد الوجودي في شعر الفلاحي، بوصفه رحلة تطهير واستنارة تمزج بين الجمال والعقل، وبين الشعر والفلسفة.
المصادر والمراجع ( APA–7 ):
-العزاوي، فاضل. (2014). الهايكو العربي: تحولات القصيدة القصيرة. بيروت: دار الجمل.
-الخضيري، محمد. (2020). جماليات الهايكو العربي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-الجاحظ، عمرو بن بحر. (1988). البيان والتبيين. القاهرة: دار الفكر العربي.
-الرافعي، مصطفى صادق. (1997). حديث القمر. القاهرة: دار الكتاب العربي.
- مندور، محمد. (1953). النقد المنهجي عند العرب. القاهرة: دار نهضة مصر.
- العقاد، عباس محمود. (1942). الديوان في الأدب والنقد. القاهرة: دار المعارف.
- باشلار، غاستون. (1942). L’Eau et les Rêves: Essai sur l’imagination de la matière. Paris: José Corti.
Derrida, J. (1976). Of Grammatology. Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Oshima, N. (1997). Haiku and the Japanese Aesthetic. Tokyo: Kodansha International.
Bashō, M. (1998). The Narrow Road to the Deep North. Trans. Sam Hamill. Boston: Shambhala Publications.
Peirce, C. S. (1955). Philosophical Writings of Peirce. New York: Dover Publications.
Morris, C. (1938). Foundations of the Theory of Signs. Chicago: University of Chicago Press.
استكملت هذه الدراسة بتاريخ الأحد 19 / 10/ 2025 م.
[email protected]
962776537021
... نص القصيدة - غيمة ماطرة - شعر الهايكو.
هايكو- غيمة ماطرة.
غيمة ماطرة~
مرت بين أقواس قزح،
فتوحات رعد!
—
غيمة ماطرة~
ساقت إلينا أسراب الحنين،
خرير دافئ!
—
غيمة ماطرة~
تزدهي تحت أقدامها الحقول،
مراسم المطر!
—
غيمة ماطرة~
تتساقط لتكشف عري قلبي،
صخب اللقاء!
—
غيمة ماطرة~
يسرح شلال الليل على أكتافي،
طوق غمار!
—
غيمة ماطرة~
قد تنكمش وتصغر مصائبنا،
حكم القصاص!
#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟