أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس موسى الكعبي - رواية “هبّ الله”- سرد المأساة وإعادة تشكّل الهوية المفقودة















المزيد.....

رواية “هبّ الله”- سرد المأساة وإعادة تشكّل الهوية المفقودة


عباس موسى الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 00:20
المحور: الادب والفن
    


تُعد رواية "هبّ الله" للكاتب العراقي علي قاسم نصًا سرديًا مكثفًا يعيد إنتاج التجربة الوجودية للفرد العراقي المقهور والمهدور، عبر مسار روائي يتقاطع فيه الذاتي مع الجمعي، والواقعي مع الرمزي. الرواية التي تندرج ضمن النمط الواقعي – الاجتماعي – النفسي لا تكتفي برصد مأساة شخصية، بل تتجاوزها لتكون تمثيلاً سيميائيًا للانهيار القيمي والاجتماعي في عراق ما بعد الحروب، حيث تتقاطع بنية السرد مع بنية الوطن المتشظي ذاته. ومن هنا، بوسعنا قراءة الرواية من عدة زوايا:
أولاً: البنية السردية ومفهوم التمثيل الرمزي
يقدّم الروائي بطله وليد بوصفه ذاتًا مكسورة، وُلدت خارج إطار الاعتراف الاجتماعي، لتجسد صورة الإنسان المرفوض في مجتمعه الشرقي منذ لحظة ولادته. إن كون وليد «ابنًا غير شرعي» لا يُعدّ تفصيلاً عرضيًا، بل هو محرّك دلالي أساسي يشكّل نواة التوتر السردي، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ "الهوية المنقوصة". فالوصمة الأولى تتحول إلى بنية سردية عميقة تُعيد إنتاج الإقصاء والتهميش الاجتماعي في كل مرحلة من مراحل حياته.
يُستثمر هذا المنطلق في بناء ما يمكن تسميته بـالرمزية الوجودية، إذ يتحول وليد من كائن هامشي إلى مرآة للمجتمع بأسره. إن محاولاته للانتماء، وتجاربه في الحب، والاغتراب، والمغفرة، ليست سوى محاولات لإعادة بناء الذات ضمن عالم فقد معاييره الأخلاقية. وهنا تتجلى الرواية بوصفها محاولة للبحث عن الذات في مواجهة الخراب، وهو من أبرز سمات السرد العراقي بعد 2003.
ثانياً: سيمياء العنوان ودلالاته الروحية
العنوان "هبّ الله" يحمل شحنة لاهوتية وإنسانية مزدوجة. فهو من جهة يستدعي معنى العطاء الإلهي والتعويض، ومن جهة أخرى يرمز إلى البحث عن الخلاص والغفران. العنوان نفسه يصلح بوصفه عتبة نصية تضيء بنية الرواية الداخلية، إذ يعكس مسار التحول من الحرمان إلى المنح، ومن اللعنة إلى المصالحة.
وليد الذي حُرم من الأمومة يجد في الغريبتان صوفيا وماري تجليات رمزية لـ "العطاء الإلهي" أو "الاحتضان البديل"، أو الأمومة الغائبة قسرا. فالسرد هنا لا يقدّم واقعة قدرية بقدر ما يقدّم تحوّلاً أنطولوجيًا في وعي الشخصية، من الضياع إلى الفهم، ومن العار إلى الغفران.
ثالثاً: البنية النفسية واللاشعور السردي
تتحرك الرواية في فضاء التحليل النفسي الأدبي، حيث تتجلى آثار الصدمة المبكرة في تشكيل الشخصية. علاقة وليد بـ "أم الود" تمثل نموذجًا لما يمكن تسميته بـالانتهاك الأمومي، وهو نوع من الخرق الرمزي للبنية العاطفية والجنسانية للطفل. هذا الحدث الفاصل لا يُقدَّم بوصفه مشهدًا واقعيًا فقط، بل بوصفه نقطة ارتكاز في اللاشعور السردي؛ إذ يظل أثره ممتدًا في كل خيارات وليد لاحقًا: في علاقاته، وهجرته، وفي رغبته المستمرة بالعثور على الحنان والقبول.
الكاتب هنا يوظف الذاكرة كآلية سردية علاجية (narrative therapy)، إذ يتحول السرد نفسه إلى وسيلة تطهير، يحاول عبرها البطل إعادة كتابة ماضيه بما يتيح له التعايش مع ذاته الممزقة.
رابعاً: الزمن السردي وتفكيك الخطية الزمنية
يتبنى النص تقنية التقطيع الزمني، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر في شكل استرجاعات واستباقات (analepses & prolepses)، مما يمنح السرد بعدًا ما بعد الحداثوي. فالأحداث لا تُروى وفق تسلسل خطي، بل عبر تفكيك الذاكرة وإعادة تركيبها، وهي آلية تنسجم مع حالة التشظي النفسي للبطل.
إن هذا التوازي بين البنية الزمنية والبنية الشعورية يضفي على الرواية عمقًا جماليًا؛ فزمن الحكاية لا يُقاس بالساعات أو السنين، بل بتواتر الألم والتحولات الوجدانية. وهنا يتجلّى وعي الكاتب بتقنيات السرد النفسي الداخلي (Interior Monologue) الذي يربط القارئ مباشرة بمكابدات الشخصية.
خامساً: الفضاء السردي بين الوطن والمنفى
تتوزع الرواية على ثنائية مكانية حادة: العراق/المنفى. فالوطن يُقدَّم بوصفه فضاءً للعار والقمع والعنف، بينما المنفى يتحول إلى فضاء للتطهّر المؤقت. غير أن هذا التطهر لا يكتمل؛ فحتى في براغ، حيث يجد وليد الحب والعائلة، يظل الحنين إلى بغداد طاغيًا، كأن الوطن قد تحول إلى جرح لا يندمل.
سادساً: البعد الاجتماعي والتمثيل الجندري
على المستوى الاجتماعي، تكشف الرواية عن نظام أبوي قاسٍ يكرّس الذكورية المهيمنة ويقمع الهويات الهشة. مكي الأعرج وأم الود ليسا مجرد شخصيتين سلبيتين، بل رمزين للانحراف الأخلاقي البنيوي الذي أصاب الأسرة العراقية في ظل الفوضى الاجتماعية والسياسية.
الرواية بذلك لا تسرد مأساة وليد فحسب، بل تؤرّخ لانكسار منظومة القيم في المجتمع. فعلاقة وليد بأم الود تكشف عن تحوّل الأنثى من ضحية إلى جلاد، وهو انقلاب رمزي في مفهوم الجندر، يجعل الرواية أقرب إلى قراءة في السلطة المقلوبة حيث تُمارس الأنثى القهر على الذكر في لحظة انحلال القيم وطغيان الغريزة.
سابعاً: اللغة والإنشاء الفني
لغة علي قاسم في «هبّ الله» تقوم على اقتصاد لغوي واعٍ. فهي بعيدة عن الزخرفة البلاغية، لكنها مشبعة بطاقة وجدانية. إن البساطة هنا ليست ضعفًا بل استراتيجية جمالية تُقرب النص من القارئ وتمنحه صدقه العاطفي.
أما على المستوى البِنيوي، فإن الكاتب يوازن بين اللغة الوصفية التي ترصد الواقع واللغة التأملية التي تحفر في باطن الذات، فيخلق بذلك تعددًا صوتيًا (polyphony) يثري النص ويمنحه ديناميكية سردية واضحة.
ثامناً: الدلالات الختامية والغفران كخلاص سردي
ينتهي السرد عند لحظة المواجهة الكبرى: حين يعود وليد إلى بغداد ويستعيد صدى عبارة «اغفر لي». هذه العبارة، التي تكررت كطيف لغوي عبر الرواية، تمثل مركز التوتر الدلالي للنص كله. فالغفران هنا لا يُقدَّم كفعل أخلاقي بل كآلية بقاء، كضرورة وجودية تمكّن الذات من الاستمرار.
وهكذا، تتخذ الرواية بعدًا ما بعد ديني – إنساني، إذ يتحول الغفران من علاقة بين مذنب وضحية إلى فعل إنقاذ ذاتي، ومن حدث شخصي إلى خطاب كوني عن إمكانية النجاة في عالم متصدع.
خاتمة: نحو قراءة في “الهوية الملتبسة”
في نهاية المطاف، يمكن القول إن رواية "هبّ الله" تُعيد إنتاج دراما الهوية في الأدب العراقي المعاصر، حيث يولد الإنسان محاطًا بالمحرمات، ويسعى طوال حياته إلى نيل اعتراف لا يأتي.
لقد استطاع علي قاسم أن يوظف البنية الواقعية في خدمة الأسئلة الوجودية، وأن يمزج بين السرد النفسي والرمز الاجتماعي ليخلق نصًا مفتوحًا على التأويل. إن رواية "هبّ الله" ليست حكاية وليد وحده، بل سيرة جيلٍ منسيّ، جيل ضائع، عاش في الهامش، وظل يبحث عن معنى للحب، والغفران، والانتماء في وطنٍ لا يعترف بأبنائه، ولا يحتضنهم سوى في المقابر.



#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رصاصة في عنق جورج أورويل
- هشاشة العلاقات البشرية لدى كافكا
- الإيمان عند أنطوني نوريس غروفز في مطلع القرن التاسع عشر
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (8)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (7)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (6)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (5)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (4)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (3)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (2)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة
- ما أشبه اليوم بالبارحة
- وين شايفك؟
- هل سمعت بالروائي خايمي بايلي ليتس
- مع قانون حظر المشروبات الروحية في العراق
- عبد الرزاق قرنح
- هذا ليس إنجازا ياهذا..
- ثورة العشرين- وجهة نظر الطرف الآخر..
- شيزوفرينيا وطن..
- حينما ينهب الماضي، يدفع الجميع الثمن


المزيد.....




- استبدال بوستر مهرجان -القاهرة السينمائي-.. ما علاقة قمة شرم ...
- سماع الأطفال الخدج أصوات أمهاتهم يسهم في تعزيز تطور المسارات ...
- -الريشة السوداء- لمحمد فتح الله.. عن فيليس ويتلي القصيدة الت ...
- العراق يستعيد 185 لوحا أثريا من بريطانيا
- ملتقى السرد العربي في الكويت يناقش تحديات القصة القصيرة
- الخلافات تهدد -شمس الزناتي 2-.. سلامة يلوّح بالقضاء وطاقم ال ...
- لماذا قد لا تشاهدون نسخة حية من فيلم -صائدو شياطين الكيبوب- ...
- محمد المعزوز يوقع روايته -أول النسيان- في أصيلة
- مهرجان كتارا الـ11 يواصل فعالياته بمشاركة نخبة من الروائيين ...
- مهرجان كتارا الـ11 يواصل فعالياته بمشاركة نخبة من الروائيين ...


المزيد.....

- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس موسى الكعبي - رواية “هبّ الله”- سرد المأساة وإعادة تشكّل الهوية المفقودة