عباس موسى الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 20:12
المحور:
الادب والفن
في عام 1937، أُصيب جورج أورويل برصاصة قناص أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. فقد اخترقت الرصاصة عنقه ومرّت على بُعد ملليمترات من شريانه. سقط أرضًا يختنق بدمه، مقتنعًا بأن نهايته قد حانت - لا مجدًا يسعى إليه، ولا وطنًا يموت لأجله، بل من أجل الحقيقة.
تلك اللحظة غيّرت مسار حياته إلى الأبد. كان قد جاء إلى إسبانيا ليقاتل الفاشية، لكنه وجد نفسه غارقًا في الخيانة، والرقابة، والدعاية - من كلا الطرفين. فقد رأى رجالًا يكذبون باسم العدالة، وجرائد تلوِّن الحقائق حتى غاب وجه الحقيقة والصدق تمامًا.
وحين تعافى، حمل الندبة في عنقه إلى آخر أيامه، كتذكرة رقيقة على هشاشة الجسد الإنساني، وعلى هشاشة النزاهة البشرية أيضًا. ذلك الجرح ظل ينزف مع كل كلمة كتبها بعد ذلك.
في رواية "مزرعة الحيوان" كشف كيف تتعفن الثورات حتى تتحول إلى طغيان.
وفي رواية "1984" حذر العالم من أن الحقيقة نفسها يمكن أن تُمحى، ويُعاد كتابتها، وتُستبدل بأصوات السلطة.
لكن عبقرية أورويل لم تولد من نظريات أو أيديولوجيات سياسية، بل من الفقر والألم. فقد كان يعمل في غسل أرضيات مطابخ باريس، ويعيش بين عمّال مناجم الفحم في شمال إنكلترا ليعرف بؤس الطبقة العاملة، ويهيم في أزقة لندن جائعًا، مجهولًا، يراقب كيف تعامل المجتمعات افرادها وتبعدهم ومن ثم تُسقطهم من ذاكرتها.
كان يؤمن أن الكتابة ليست مهنة، بل فعلٌ أخلاقيّ. فقد قال مرة: "في زمن الخداع، يعتبر قول الحقيقة فعلٌ ثوري جبار."
وعندما كتب رواية "1984"، كان يحتضر بمرض السل، يسعل دمًا، ويكتب طيلة الليل دون ان ينام في جزيرة باردة بإسكتلندا. توسل إليه أصدقاؤه أن يستريح، لكنه رفض، قائلا إن أمامه حقيقة أخيرة عليه أن يقولها قبل أن يخفت صوته إلى الأبد.
وحين خبا صوته للأبد، ترك خلفه روايات هي بمثابة مرآة ما زالت حتى اليوم تعكس عالمنا بشكل واضحٍ وموجع. فجورج أورويل لم يكتب عن القمع فحسب، بل عاشه بنفسه، ونجا منه.
ومن خلال الندبة المرسومة على عنقه، وكلماته التي تطلق شررا، جعلنا عاجزين عن أن نقول: لم يسبق لاحد ان حذرنا من قبل!!.
#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟