أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس موسى الكعبي - هشاشة العلاقات البشرية لدى كافكا














المزيد.....

هشاشة العلاقات البشرية لدى كافكا


عباس موسى الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 04:50
المحور: الادب والفن
    


رواية المسخ لفرانز كافكا، التي نُشرت عام 1915، ما تزال واحدةً من أكثر الأعمال الأدبية إيلامًا وإثارةً للتأمل. في هذه الرواية القصيرة، يتوغّل كافكا في أعماق الاغتراب والهوية وتفاهة الوجود الإنساني، من خلال الحكاية الغريبة والمأساوية لغريغور سامسا، ذلك البائع المتجوّل الذي استيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرةٍ عملاقة. ومن خلال هذا التحوّل المروّع، يكشف كافكا هشاشة العلاقات البشرية، وقسوة العالم الذي ينبذ كلَّ من يعجز عن مجاراة معاييره القاسية.
تبدأ القصة فجأة، بلا تمهيد ولا تفسير لهذا التحوّل الغريب، على نحوٍ يُجسّد أسلوب كافكا المميّز في جعل العبث يبدو أمرًا مألوفًا. فمنذ اللحظة الأولى، لا ينشغل غريغور بما حلّ بجسده من مسخٍ، بل بهمّه الأكبر: أنه سيتأخّر عن عمله! هكذا يُظهر كافكا كيف تُكبّل الإنسانَ سلاسلُ الالتزام والخوف من الفقر وضغط العمل المتواصل، في عالمٍ يقيس قيمة الفرد بقدر إنتاجه، وحين يعجز عن العطاء، يُسلب منه اسمه وكرامته ومعناه.
ومع تقدّم السرد، يتبيّن أن الرعب الحقيقي لا يكمن في هيئة غريغور الجديدة، بل في نظرة أسرته إليه. فما يبدأ بالدهشة والرأفة والشفقة، ينقلب شيئًا فشيئًا إلى نفورٍ وعداوة. فأخته التي رعته بحنانٍ في البداية، تبتعد عنه شيئًا فشيئًا حتى تطالب بطرده، مؤكّدة أنه لم يعُد شقيقها. أما الأب فيثور عليه بعنفٍ أعمى، والأم تبقى عاجزةً حائرة، مكسورة القلب. وبهذه المواقف، يعرّي كافكا تآكل الحب تحت وطأة الخوف والعار وضغط المجتمع، كاشفًا كيف يمكن للأسرة ذاتها أن تُصبح سجنًا من البرود العاطفي والعزلة واليأس.
وعلى المستوى الرمزي، تُجسّد رواية "المسخ" صورةً عن اغتراب الإنسان النفسي والاجتماعي داخل الأنظمة الصارمة التي لا ترى فيه سوى أداةٍ لخدمتها. فحين يعجز المرء عن أداء دوره، يُرمى جانبًا، تمامًا كما غريغور. فجسده الذي تحول إلى هيئة حشرة بات تجسيدًا مرئيًا لشعوره بعدم الجدوى والاختفاء عن أنظار الآخرين؛ فكان تحوّله الجسدي تعبيرًا صادقًا عن مسخه الداخلي منذ زمنٍ بعيد.
أما أسلوب كافكا، الواضح والرصين والبارد في نبرته، فيُضاعف من أثر الرعب الكامن في الرواية. فبروده اللغوي يزيد المشهد فظاعة، إذ يترك للأحداث أن تنطق وحدها، ويجعل القارئ يعيش التناقض بين الهدوء الشكلي والفاجعة الوجودية.
وفي النهاية، تبقى الرواية تأملًا عميقًا في عزلة الإنسان وتقلب هويته ولا مبالاة العالم بمعاناته. وبهذا، يجبرنا كافكا على مواجهة حقائق موجعة عن العمل والعائلة والروح البشرية، ليظل نصّه حجر زاوية في أدب الحداثة والوجودية، وصوتًا لا يخبو في وادي الغربة والاغتراب الإنساني.
في عمق هذا العمل الكافكوي، يمكن للقارئ أن يستشعر صدى الأسئلة الوجودية التي هزّت وجدان الإنسان منذ القدم: من أنا؟ وما معنى أن أكون في عالمٍ لا يراني إلا بقدر ما ينتفع مني؟ فـالرواية ليست مجرّد قصة عن رجلٍ تحول إلى حشرة، بل عن روحٍ فقدت صلتها بالرحمة والمعنى.
وهكذا، يلتقي كافكا مع التراث الإنساني العميق عند نقطةٍ واحدة: أن أقسى ما يختبره المرء ليس الموت، بل أن يُنفى من دفء الوجود الحيّ، أن يُحرم من الحنان، من نظرة حبٍّ تُعيد إليه ملامحه البشرية.
في تلك المسافة بين الصمت والعزلة، بين الحشرة والإنسان، يقيم كافكا خيمته الكبرى، ويترك لنا مرايا لا نجرؤ دائمًا على النظر فيها.



#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإيمان عند أنطوني نوريس غروفز في مطلع القرن التاسع عشر
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (8)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (7)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (6)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (5)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (4)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (3)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (2)
- علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة
- ما أشبه اليوم بالبارحة
- وين شايفك؟
- هل سمعت بالروائي خايمي بايلي ليتس
- مع قانون حظر المشروبات الروحية في العراق
- عبد الرزاق قرنح
- هذا ليس إنجازا ياهذا..
- ثورة العشرين- وجهة نظر الطرف الآخر..
- شيزوفرينيا وطن..
- حينما ينهب الماضي، يدفع الجميع الثمن
- الاكتشافات الجديدة في العراق تعيد النظر بتأريخ بلاد ما بين ا ...
- ابك ايها الغريب..


المزيد.....




- فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
- دموع هند رجب تُضيء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46
- توقيع الكتاب تسوّل فاضح!
- فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون
- العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم.. قراءة في كتاب أحمد ا ...
- -رواية الإمام- بين المرجعي والتخييلي وأنسنة الفلسطيني
- المخرج طارق صالح - حبّ مصر الذي تحوّل إلى سينما بثمن باهظ
- -إنّما يُجنى الهدى من صُحبة الخِلّ الأمين-.. الصداقة الافترا ...
- مؤسس -هاغينغ فيس-: نحن في فقاعة النماذج اللغوية لا الذكاء ال ...
- مسرحية -عيشة ومش عيشة-: قراءة أنثروبولوجية في اليومي الاجتما ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس موسى الكعبي - هشاشة العلاقات البشرية لدى كافكا