رحيم فرحان صدام
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 23:23
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
وهو نقد نص الرواية عن طريق إيراد الأدلة، وهذا النقد هو الذى اهتم به الذهبي في كتابه (تاريخ الاسلام) فرد مئات الروايات بنقده غير المتين وغير العلمي ولا الموضوعي .
ومن أمثلة عنايته بنقد المتن تعليقه على خبر سفر النبي مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصة بحيرا الراهب .
وملخص الرواية : أن الراهب تناقش مع أبى طالب والقرشيين في أمره حينما كانوا يتظللون بفيء شجرة ، ثم أقبل النبي وعليه غمامة تظله فلما جلس تحت الشجرة مال عليه في الشجرة ، فلما رآه الراهب وعرف صفته ناشد أبا طالب أن يرد النبي خوفا عليه من الروم فرده أبو طالب ، وبعث أبو بكر معه بلالا الحبشي .
فقال الذهبي : " تَفَرَّدَ بِهِ قُرَادٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ، ثِقَةٌ، احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ؛ وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنْ قُرَادٍ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا؛ وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ؛ وَأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ؛ وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الْغَمَامَةِ يُعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَزَلَ تَحْتَهَا، وَلَمْ نَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الرَّاهِبِ، وَلَا تَذَاكَرَتْه قُرَيْشٌ، وَلَا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، وَلَبَقِيَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِسٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ وَلَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ وَأَتَى خَدِيجَةَ خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمَا ذَهَبَ إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا فَلَوْ أَثَّرَ هَذَا الْخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟ "(1).
علق الدكتور بشار عواد معروف على نقد الذهبي بقوله :"ونرى من هذا النقد أن الذهبي قد حلل الخبر تحليلا علميا من كافة جوانبه : في أحداثه ، وألفاظه ، ودلالاته، واستعمل عقله ، والأدلة التاريخية ليثبت بطلانه، وهو يدل على ملكة عظيمة في النقد وتمكن فيه" (2).
يبدو ان الدكتور بشار فقد عقله كما فقده الذهبي الذي اتهم النبي بأنكار الوحي الذي نزل عليه بِغَارِ حِرَاءٍ ، واتهمه بالخوف على عقله ، ومحاولة الانتحار .
فهل هذا هو التحليل العلمي الذي يدل على الملكة العظيمة في النقد ام ان الدكتور لا يعي ما يقول وهو غير مدرك لمعنى كلامه الذي دل على جهله بمقام النبوة وغياب الحس التاريخي والنقد العقلاني ، والتحليل العلمي عنده تماما كما غاب عند الذهبي قبله.
حديث محاولات الرسول الانتحار في صحيح البخاري!
لقد وردت القصة في صحيح البخاري اذ قال ما نصه :
" « قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ... وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم –فيما بلغنا– حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك»".
إن ورود حديث في (صحيح البخاري) ليس معناه أنه صحيح ؛ لان البخاري متروك الحديث عن علماء الجرح والتعديل(3) ، وهو مدلس(4) لا يقبل حديثه او روايته كونه غير ثقة، و لا بد من النظر في حديثه : هل هو من الأحاديث الموصولة، أم من المعلقة؟ وهل هو من البلاغات، أي: التي يقول فيها الراوي: «بلغنا»؟ وهي صيغة تدل على انقطاع السند وهو ما نجده في هذا الحديث، فقد قال الزهري: «فيما بلغنا»، أي: لم يروه عن ثقة ولا مصدر، بل أشبه بما يعرف في عصرنا، بما شاع، أو ورد على لسان بعضهم، دون أن يكون مشاهدا للحدث، أو شاهدا عليه.
والزُهري راوي القصة هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله ابن شهاب الزُهري القرشي توفي سنة (124هـ / 722م)(5) الشخصية المدينية المعروفة بمساهماتها في رواية الحديث وفي المغازي ؛ ونظراً لمكانته العلمية بين فقهاء عصره فقد إتصل به بعض الخلفاء الأمويين أمثال عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز والوليد بن يزيد وهشام بن عبد الملك ليجيب على تساؤلاتهم عن المغازي(6).
كان الزهري من صنائع بني امية ، حتى قيل بأنه افسد نفسه بصحبة الملوك وحسبنا ان خالد بن عبد الله القسري – احد كبار الولاة – كلفه بكتابة نسبه كما وجدت بعض رسائله في خزائن البلاط الاموي .(7)
ولقد اتيح نتيجة تقربه من الامويين ان يطلع على بعض الوثائق الرسمية ، وان يسجل رواياته على الالواح والصحف ، وتلك ميزة لم تتيسر لغيره نظرا لندرة الورق وارتفاع اسعاره .(8)
ومنهجه في رواية السيرة النبوية مصداق ميوله السياسية ؛ فقد اكتفى بعرض الاحداث الهامة مبرزا دورا محوريا لبني امية في التاريخ ، كما انه اجمل الروايات وعطاها اسنادا جماعيا . واذا كان لذلك من فضل على تطور تقنية تناول الاخبار؛ فلا يخلو من دلالة على عدم تحري الصدق ؛ فالإجمال في العرض والتهرب من اثبات بعض الوقائع من الاساليب التي طالما لجأ اليها الرواة تنصلا من ذكر الحقائق .
يدعم هذا الافتراض تفسيره بعض احداث السيرة تفسيرا علميا نقديا ؛ كأعتبار ما حققه المسلمون من افشال لخطط اعدائهم في غزوة الخندق نتيجة تدابير بشرية على خلاف ما ورد في النصوص القرآنية – لكنه في الوقت عينه عول على القول بالجبرية مبررا وصول الامويين للحكم وسياستهم الغير اسلامية ، هذا فضلا عن خلطه السيرة النبوية بتواريخ الانبياء تحت تأثير الاسرائيليات . وقد عبر نزعة العصبية العربية السائدة في العصر الاموي حين قام بمحاولة انساب العرب وفق منظور شعوبي . وحين تناول صدر الاسام ؛ اقتصر على ذكر الاحداث العامة بينما اسهب في روايته عن خلافة عثمان ، ولا سيما خلافه مع علي ، منحازا لعثمان بطبيعة الحال ، وهو ما تكشف عنه نصوص بعض رواياته التي نجدها عند البلاذري(9) والطبري(10).
ويبدو أن سياسة تشجيع وضع الحديث سار عليها بنو أمية من بعده فقد روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي فقال :" يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال ديني " (11).
وقال ابن ابي الحديد : " روى عبد الرزاق عن معمر قال كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه السلام فسألته عنهما يوماً فقال ما تصنع بهما ، وبحديثهما الله أعلم بهما إني لأتهمهما في بني هاشم "(12). علماً إن هذه الأحاديث غير موجودة في كتب عبد الرزاق كالمصنف والتفسير وهي غير موجودة أيضاً في كتب الحديث .
خلاصة القول ان الزهري من وعاظ السلاطين وكان من المنحرفين عن الامام علي (عليه السلام) ؛ لذلك لا تقبل روايته .(13)
يتضح ان سند الحديث واهيا ولا قيمة له.
والعجيب في الرواية، وهو ما ينسفها من سياقها نفسه، أنها بينت أن كل مرة يذهب لينتحر، يظهر له جبريل (عليه السلام)، ويخبره: «إنك رسول الله حقا». ألم يكن يكفي النبي أن يذكره جبريل مرة واحدة بأنه رسول الله؟ فلماذا يذهب مرات أخرى إذن كما تزعم الرواية؟!
والأعجب أن الرواية تخبرنا أنه ذهب ينتحر لانقطاع الوحي عنه، والذي كان يرده عن الفعل جبريل. ومن سذاجة الرواية أن جبريل نفسه هو الوحي، فإذا لقيه جبريل، فهذا معناه أن الوحي لم ينقطع، فلم يكن الوحي سوى جبريل (عليه السلام). فما الداعي إذن لإعادة المحاولة ما دام جبريل قد ظهر؟! وبذلك ينتهي سبب الانتحار.
الهوامش
(1) الذهبي، شمس الدين: محمد بن أحمد بن عثمان التركماني (ت 748هـ/1357م)، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003 م.(1/ 503).
(2) بشار عواد معروف ، الذهبي ومنهجه في كتابة تاريخ الاسلام، رسالة دكتوراه من جامعة بغداد بإشراف الأستاذ الدكتور جعفر خصباك ساعدت جامعة بغداد على نشره ، مطبعة عيسى الباني الحلبي وشركاه، القاهرة، 1976. ص458.
(3) ينظر: ابن أبي حاتم ، عبد الرحمن بن محمد بن إدريس التميمي الرازي (ت327هـ/938م) ، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى، (بيروت -1271هـ/ 1952 م ). (7/ 191)؛ الخطيب البغدادي : أبو بكر أحمد بن علي، (ت 463هـ/1070م)، تـاريخ بغداد، تحقيق ودراسة: مصطفى عبد القادر، دار الكتب العلمية، (بيروت- 2004).(2/ 354)؛ الغساني، أبو علي الحسين بن محمد الجياني (ت 498هـ / 1105م) ، تقييد المهمل وتمييز المشكل ، المحقق: علي بن محمد العمران، ومحمد عزيز شمس، الناشر: دار عالم الفوائد، الطبعة: الأولى 1421هـ / 2000 م. (1/ 37)؛ ابن عساكر، علي بن الحسن الشافعي، (ت 571هـ/1277م)، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق: علي شيري، دار الفكر ،(بيروت ـ 1995). (52/ 94)؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيق وخرّج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، ، دار الرسالة ، ط9، (بيروت ـ 1993). (12/ 456) ، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، دراسة وتحقيق: الشيخ علي معوض، الشيخ عادل أحمد، شارك في تحقيق : د. عبد الفتاح أبو رسن، دار الكتب العلمية، (بيروت ـ 1995). 1 : 126.
(4) ينظر: ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، (ت 852هـ/1459م)، طبقات المدلسين ، تحقيق الدكتور عاصم بن عبد الله القريوتي ، مكتبة المنار، عمان -1403هـ/1983م. ص 24. (ص: 24).
(5) للمزيد يراجع عنه :-
ابن سعد، محمد بن سعد الزهري مولاهم (ت 230هـ/837م)، الطبقات الكبرى ( القسم المتمم ) ، تحقيق : زياد محمد منصور ، ط2، مكتبة العلوم والحكم ، ( المدينة المنورة - 1408هـ). ص157 ـ 186 ؛ البخاري ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم ، (ت 256هـ/862 م)، التاريخ الكبير، تحقيق: السيد هاشم الندوي ، دار الفكر ( بيروت - بلات). ، جـ1 ، ص22 ؛ العجلي ، أحمد بن عبد الله بن صالح ( ت 261هـ / 874 م )، معرفة الثقات، تحقيق عبد العليم عبد العظيم البستوي ، ط1، مكتبة الدار،( المدينة المنورة- 1985 ). جـ2 ، ص253 .
(6) ابن سعد : الطبقات الكبرى (القسم المتمم) ، جـ162 ؛ ابن خلكان، شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد البرمكي (ت 681هـ/ 1287هـ)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، ط4، (بيروت ـ 2005). جـ4 ، ص177 .
(7) ابن سعد : الطبقات الكبرى، تحقيق : إحسان عباس، دار صادر، (بيروت ـ د.ت). جـ 6 ص:246 ؛ ابن خياط، أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري الليثي البصري، (ت 240هـ/ 854 م)، الطبقات ، تحقيق أكرم ضياء العمر ، دار طيبة ، ط2 ، ( الرياض - 1982 م). م2 ص363.
(8) ابن سعد : الطبقات الكبرى . جـ 6 ، ص:246 ؛ ابن خياط : الطبقات . م2 ص363.
(9) البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر ، (ت 279هـ/ 885 م)، انساب الاشراف ، تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي ، الناشر: دار الفكر ، الطبعة: الأولى،( بيروت- 1417هـ / 1996م). (5/ 9) ، (5/ 11) ، (5/ 12) ، (5/ 146).
(10) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ/ 922م) ، تاريخ الرسل والملوك ، الناشر: دار التراث ، الطبعة: الثانية ، بيروت- 1387هـ ، (4/ 417) ، (4/ 429) ،(4/ 452) ، (4/ 469).
(11) ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656هـ/1263م)، شرح نهج البلاغة، كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، جمعه: الشريف الرضي، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم ، المكتبة العصرية، (بيروت-1959م). ج 4 ، ص37 .
(12) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، ج 4 ، ص37 .
(13) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة .(4/ 102).
#رحيم_فرحان_صدام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟