أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - مدغشقر - مظاهرات حاشدة، وثراء فاحش وفساد وفقر مُدْقَع















المزيد.....


مدغشقر - مظاهرات حاشدة، وثراء فاحش وفساد وفقر مُدْقَع


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 12:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقديم
كانت الأحزاب الكبرى والنقابات تنظم الإحتجاجات ضد الحكومات أو نظام الحكم برمّته، قبل أن تظهر "الثورات الملوّنة" التي أشرفت على تنظيمها وتمويلها الإستخبارات الأمريكية والمنظمات التابعة لها أو المتعاونة معها مثل الوقف القومي للديمقراطية ( NED ) أو فريدوم هاوس أو المجتمع المفتوح ( Open Society ) في أوروبا الشرقية، وبعد حوالي عقدَيْن، انطلقت مظاهرات تلقائية في عدد من البلدان، من بينها تونس ومصر، سُرعان ما تم الإلتفاف عليها، فأدّت إلى تغيير الحكومات وبعض التغييرات، مثل إجراء انتخابات دَوْرِيّة، مع الإبقاء على جوهر النظام السياسي، وارتفاع حجم الدّيُون الخارجية والفقر والبطالة وتدَهْوُر الخدمات...
إثر العدوان الصهيوني الأخير الذي لا يزال مستمرًّا، انطلقت مظاهرات الشباب في الجامعات والشوارع الأمريكية والأوروبية، استنكارًا للإبادة والتّجويع والتّهجير، ولا تزال المظاهرات الحاشدة في شوارع عواصم الدّول الدّاعمة للكيان الصهيوني، في برلين ( حوالي مائة ألف متظاهر للمرة الثانية خلال أقل من شهر) وفي لندن وروما وغيرها...
في بلدان أخرى، نظم الشباب الذي يُسمّي نفسه جيل زد ( Generation Zed ) مظاهرات حاشدة لعدة أيام، أطاحت بحكومة نيبال، ولا تزال المظاهرات متواصلة في المغرب ومدغشقر، حيث تغيرت الحكومة ولم يتغير نظام الحكم، وتتميز هذه المظاهرات بمشاركة كثيفة من قِبَل الشباب دون سن الخامسة والعشرين، وبمطالب توفير الوظائف والرعاية الصحية والتعليم، دون تصميم مسبق من الأحزاب الكبرى والنقابات...
تدرس الفقرات الموالية الوضع في مدغشقر، حيث استمرت المظاهرات رغم القمع والحَظْر ومنع التّجول، من الخامس والعشرين إلى الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2025، تاريخ تحرير هذه الفقرات التي تُعتبر محاولة لتتبع "ظاهرة شباب جيل زد" وشعاراتها وحدودها...

من العوامل المخْفِيّة لاحتجاجات أيلول 2025
كانت مدغشقر تضم 5,1 ملايين نسمة سنة استقلالها عن فرنسا ( استقلال شكلي) سنة 1960، وتم تقدير إجمالي عدد السكان بنحو 32 مليون نسمة سنة 2024، ويعيش نحو 75% من السكان تحت خط الفقر ( سنة 2023)، ولا يتجاوز معدل الأمل في الحياة عند الولادة 57 سنة، وهي واحدة من أفْقَر بلدان العالم، وفق بيانات البنك العالمي، وانطلقت مظاهرات أيلول/سبتمبر 2025 بسبب انقطاع المياه والكهرباء، ومع ذلك يحتكر بعض الأثرياء ( من بينهم الرئيس أندريه راجولينا) ثروات كبيرة، وفقا لمجلة فوربس (تشرين الأول/اكتوبر 2024) التي ذكرت إن ثلاثة من رجال الأعمال المدغشقريين من بين أغنى أغنياء أفريقيا الناطقة بالفرنسية تتراوح ثرواتهم بين 1,5 و 2,5 مليار دولارا، وسبق أن جرت الإنتخابات الرئاسية سنة 2018 ( وكذلك انتخابات 2023) بين رجال وشبكات الأعمال، ولعب المال دورًا حاسمًا في بلد يعاني من الفقر...
تنافس 36 مرشحًا خلال الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية يوم السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2018 في ظل عدم تحسن حياة سكان مدغشقر اليومية رغم تغير الرؤساء والحكومات، ومنذ سنة 2009، أصبحت الإنتخابات مبارزة بين رجال الأعمال ( في مجالات الإشهار والإتصالات والإعلام والعقارات...)، وتم انتخاب رجل الأعمال أندريه راجولينا سنة 2023 ( الرئيس المنتهية ولايته ) المتورط في عدة فضائح، إحداها تتعلق بجنسيته الفرنسية، مما عرضه لانتقادات شديدة، وقد تعرضت مظاهرات المعارضة شبه اليومية لقمع شديد، وتم تأجيل الانتخابات لمدة أسبوع، ورغم سجلّه الكارثي أُعيد انتخابه سنة 2023، بفضل الحملة الإعلانية الضخمة والرّشوة والكذب.
كان أندريه راجولينا معروفًا فقط بنشاطه كمنظم حفلات رفيعة المستوى في العاصمة، قبل أن يكتسح مجال الدّعاية والإعلانات وانطلق في الساحة السياسية في مدغشقر سنة 2007، بترشحه وبانتخابه عمدة لمدينة أنتاناناريفو، متقدمًا بفارق كبير على مرشح الحزب الرئاسي، وخلال سنة 2008، استخدم مهارته في مجال الدّعاية واللإتصالات ( التّواصل) ومحطته الإذاعية والتلفزيونية "فيفا"، ليبرز كزعيم للمعارضة ضد الرئيس مارك رافالومانا، وتحدّى أنصارُهُ النّظام عَلَنًا، منذ نهاية سنة 2008، في الشوارع إلى أن أطاحوا بالرئيس المنتخب ( الثري مثل راجولينا) بدعم ضمني من الجيش، ونظّم "الرئيس غير المنتخب" راجولينا "التلاعب" ونهب الموارد الطبيعية وبيع نصف الأراضي الصالحة للزراعة للشركات العابرة للقارات، فضلا عن اعتقال منافسيه، وأدّت فضائحه إلى عزله من قِبَل "المجتمع الدّولي" ومنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية للعام 2013، ولكنه دعم حزب وزير ماليته السابق، هيري راجاوناريمامبيانينا، الذي فاز بالإنتخابات، لكن سرعان ما اختلف الرجلان ( لأسباب "تجارية" وليست مبدئية) وأعلن أندريه راجولينا سنة 2016 عن نيته هزيمة تلميذه السابق في الانتخابات، وكانت حملته الإنتخابية شبيهة بالإستعراضات الضخمة للإنتخابات الأمريكية التي تهدف حَشْدَ الجمهور، وحيث يَسُود الشّكل على المضمون، ولما تم انتخابه باع الموارد الطبيعية للبلاد، بما فيها خشب الورد، واستغل صلاحياته بل وسَّعَها وكانت النتيجة: ارتفاع موارده المالية وأصبحت ثروته طائلة في زمن قياسي، ونسي وَعْده حين ادّعى خلال حملة 2018 إنه سيكون " رئيسًا لعامة الشعب، وسأحمي الفقراء وسنوفر مياه الشرب ونربط المُدُن ونُزود معظم أنحاء مدغشقر بالكهرباء، وننجز مشاريع خالقة لآلاف الوظائف خلال السنوات الخمس المقبلة"، وبعد خمس سنوات، انطلقت المسيرات السلمية للشعب الملغاشي خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2023، لتذكيره بالوُعُود التي لم تتحقق، بل ساء الوَضْع وتراجع مستوى عيش السكان، وتعرضت المسيرات السّلمية إلى القمع الشديد، كما تم قمع المعارضة التي طالبت " بعودة سيادة القانون"، وتم اعتقال جان جاك راتسيتيسون، الخبير الاقتصادي والمرشح الرئاسي، وبشكل عام تميزت الفترة الرئاسية 2018-2023 بإنشاء مطار وطرقات للوصول إلى الأحياء الراقية، وبناء ملعب غولف ونادي الفروسية، فيما يعيش 75% من المواطنين تحت خط الفقر، ويشتكي معظم المواطنين من رداءة منظومَتَيْ الصحة والتعليم.
دعم الرئيس الفرنسي ( إيمانويل ماكرون) المُرشّح، ثم الرئيس الملغاشي أندريه راجولينا (الذي يحمل كذلك الجنسية الفرنسية ) ويشارك الجيش الملغاشي في مناورات عسكرية فرنسية وتعززت العلاقات بين الجيْشَيْن منذ سنة 2018، مع زيارات كبار الضباط الفرنسيين إلى المواقع السياحية في جزيرة مدغشقر رغم الإشاعات بشأن التعاون العسكري مع الروس خلال الأزمة الأوكرانية...
أصدرت المؤسسة الألمانية "فريدريش إيبرت" تقريرًا ( أيلول/سبتمبر 2023) عن الفجوة بين أغلبية أفراد وفئات الشعب والرئيس وحاشيته ( أو طَبَقَتُهُ) ووصفت سجلّ الرئيس أندريه راجولينا ب"الكارثي"، بسبب المحسوبية والفساد والصفقات التجارية الفاسدة، وبسبب المجاعة في جنوب البلاد، وغياب أي برنامج للتنمية، في بلدٍ غنيٍّ بالموارد الطبيعية التي لا يستفيد منها الشعب، وقدّرت دراسة سابقة أجْرتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية سنة 2016، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، تكلفة الحملات الإنتخابية في مدغشقر، وفاقت "قيمة الصّوت الواحد" نظيره في فرنسا وفي الولايات المتحدة مما حول الإنتخابات إلى منافسة بين أصحاب الميزانيات الأكبر، وضمت انتخابات 2023 ثلاثة من كبار الأثرياء الذي زادت ثرواتهم عند توليهم مسؤوليات الرئاسة: الرئيس الحالي واثنين من أسلافه، مما يزيد من حدّة المنافسة للسيطرة على الدّولة وعلى موارد البلاد، وصنفت مجلة فوربس سنة 2018 وكذلك سنة 2025 أندريه راجولينا وأسلافه مارك رافالومانانا و هيري راجاوناريامبيانينا من ضمن أكبر عشر ثروات في مدغشقر...

خلفية تاريخية
تمثلت الأزمة السياسية التي اندلعت في مدغشقر يوم 26 كانون الثاني/يناير 2009 في سلسلة من الاحتجاجات والمواجهات السياسية التي هزت مدغشقر واستمرت إلى كانون الأول/ديسمبر 2023، بين حركة المعارضة السياسية بقيادة عمدة أنتاناناريفو، أندريه راجولينا ( الرئيس الحالي)، والرئيس مارك رافالومانانا الذي تم انتخابه ديمقراطيا، وكان الهدف المُعلن: الإطاحة بالرئيس رافالومانانا الذي عَيّن بعد خمسة أيام من الإحتجاجات مجلسًا عسكريا ثم غادر البلاد إلى جنوب إفريقيا، واغتنم رئيس بلدية العاصمة أندريه راجولينا الفرصة ليستولي على السلطة وليُعْلِنَ نفسه رئيسا للسلطة الإنتقالية العليا يوم 21 آذار/مارس 2009، لكن إعلانه اعتُبِرَ غير دستوري، وتوقف الدعم المالي والاستثمارات الأجنبية، وعاشت البلاد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها، وتم تعيين مجموعة التنمية لإفريقيا الإستوائية والإتحاد الإفريقي للإشراف على المرحلة الإنتقالية بهدف إجراء انتخابات رئاسية، لكن الفصائل السياسية الرئيسية الأربعة في مدغشقر بزعامة راجولينا ورافالومانانا وألبرت زافي وديدييه راتسيراكا لم تتوصل إلى اتفاق إلى أن تم تعيين عمر بريزيكي رئيسا للوزراء يوم 28 تشرين الأول/اكتوبر 2011، وتمت الموافقة على دستور جديد يوم 11 كانون الأول/ديسمبر 2011، وتم الإتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بين الثامن من أيار/مايو والثالث من تموز/يوليو 2013.
حصلت مجزرة في عاصمة مدغشقر ضد المتظاهرين يوم السابع من شباط 2009 خلفت عشرات الضحايا، ولم يتم تحديد المسؤوليات بشأن مرتكبي هذه المجزرة، لكنها أدّت إلى الإطاحة بالرئيس المنتخب "مارك رافالومانانا"، ويتم أحياء ذكراها سنويا من قِبَل المتظاهرين سواء كانوا من أنصار السلطة أو المعارضة، لكن تم احتواؤها من قِبَل مؤيّدي الرئيس أندريه راجولينا الذي كان يقود "ثورة برتقالية" بدعم أمريكي، وبعد شهر من سقوط الرئيس مارك رافالومانانا ورحيله إلى المنفى تم انتخاب هيري راجاوناريمامبيانينا بنهاية فترة النظام الانتقالي...
كان رئيس الوزراء كريستيان نتساي الذراع الأيمن لأندري راجولينا، رئيسًا للحكومة منذ الرابع من حزيران/يونيو 2018، كما شغل منصب رئيس الحكومة بين التاسع من أيلول/سبتمبر والسابع والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 2023، خلال حملة الانتخابات الرئاسية، واضطر الرئيس، المرشح للانتخابات، إلى تسليم مقاليد السلطة إلى كريستيان نتساي.
منطقيًا، ورغم الاضطرابات السياسية، بدا الثنائي ثابتًا، إلا أن مظاهرات أيلول/سبتمبر 2025 أطاحت برئيس الوزراء الذي ضحّى به الرئيس (ربما مؤقتا ) رغم الخدمات الجليلة التي قدّمها له، في حين دعت حركة الجيل Z في مدغشقر إلى مظاهرة جديدة يوم الثلاثاء 30 أيلول/سبتمبر، رغم من إقالة الحكومة بأكملها، قبل يوم واحد.
تولى أندري راجولينا، عمدة أنتاناناريفو السابق، البالغ من العمر 51 عامًا حاليا، السلطة لأول مرة بين عامي 2009 و2014 بانقلاب عسكري أعقب احتجاجات. ثم انتُخب عام 2018، وأُعيد انتخابه عام 2023 في انتخابات شهدت منافسة شديدة.
هذه بعجالة خلفية الإنتفاضات العديدة التي عرفتها مدغشقر خلال السنوات ال 15 الأخيرة...

احتجاجات أيلول/سبتمبر 2025
أُطْلق على هذه الإحتجاجات اسم "حركة ليو ديليستيغ"، وبدأت يوم 25 أيلول/سبتمبر 2025، في العاصمة أنتاناناريفو، بسبب انقطاع المياه والكهرباء والغاز، واستُهدف المتظاهرون منازل بعض الشخصيات السياسية، ولا تزال الاحتجاجات والاشتباكات وأعمال النهب مستمرة في العاصمة أنتاناناريفو والعديد من المدن - حتى تاريخ تحرير هذه الورقة يوم 30 أيلول/سبتمبر 2025 - رغم فُرض حظر التجول في عدة مدن، وحَظْر أي تجمعات...
بدأت الإنتفاضة باحتشاد آلاف المتظاهرين منذ الخميس 25 سبتمبر/أيلول احتجاجًا على سياسات الحكومة، وإهمال الأساسيات الضرورية، وأدّى القمع إلى قَتْل ما لا يقل عن اثنين وعشرين شخصًا وجُرح أكثر من مئة، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان،بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 2025، وإلى جانب الإستياء من انقطاع الماء والكهرباء، قادت حركة "الجيل زد" عددًا من المظاهرات التي أسفرت عن حرائق بعض رموز السلطة ونهب محلات تجارية وأصبح الرئيس أندريه راجولينا يواجه تحديًا شخصيًا، لأن المتظاهرين يُطالبون برحيله لأنه "لا يفكر إلا في مصالحه الشخصية أو مصالح عائلته ".وفق بعض اللافتات التي رفعها الشباب المتظاهرون، وحاول الرئيس التّنصّل من المسؤولية، بإقالة الحكومة رافضا استقالته شخصيا، فيما أدانت الأمم المتحدة هذا القمع، ودعت السلطات إلى وقف جميع أشكال العنف، وعبّر المتظاهرون عن غضبهم من خلال الشعارات المسموعة والمكتوبة، ومن بينها: نحن فقراء، غاضبون وغير سعداء، وتجدّدت المظاهرات كل يوم رغم القمع وحظر الجولان، وحتى بعد إقالة وزير الطاقة يوم 27 أيلول ثم إقالة الحكومة يوم 29 أيلول/سبتمبر 2025 وتجمع المتظاهرون في أنتاناناريفو ( عاصمة مدغشقر) يوم الثلاثاء 30 أيلول/سبتمبر 2025 للمطالبة برحيل أندريه راجولينا، وللتنديد بارتفاع البطالة وبالفساد مع لافتات تحمل شعارات مثل "نحن فقراء وغاضبون وغير سعداء " ، و"مدغشقر لنا"، و "أصواتنا تتألق أكثر إشراقا من الضوء الذي ترفضون منحه لنا " وكان معظمهم يرتدون ملابس سوداء ويغطون وجوههم، وبعضهم يرتدي قبعات القش المُلَوّنة التي أصبحت رمزًا للتحدي، ومنعت قوات الأمن، المنتشرة بأعداد كبيرة، المتظاهرين من التوجه إلى وسط مدينة أنتاناناريفو العاصمة، مستخدمةً الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريقهم، وطوقت قوة أمنية كبيرة مركز المدينة بالكامل منذ الساعة الخامسة والنصف من صباح الخميس 25 أيلول/سبتمبر 2025، وطُوّق كل زقاق في عاصمة مدغشقر، وكل شارع يؤدي إلى ساحة أمبوهيجاتوفو، بطوق أمني مشدد، واستحال على المتظاهرين الوصول إلى مكان التجمع، فتفرّقوا في مجموعات صغيرة تضم حوالي مائة شخص، ورفعوا لافتات ولوحات كُتب عليها " نحن نطالب بحقوقنا ونريد الضوء لا الظلام ولا نمارس العنف بل نريد المطالبة سِلْميًّا بحقوقنا..."، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن احد المتظاهرين قوله " نحن مُسالمون لكن يتم إطلاق النار علينا من قِبَل رجال ملثمين من وحدة الدرك التابعة لجهاز الأمن العام (GSIS) بسيارات دفع رباعي بيضاء اللون"، ونقلت الوكالة عن امرأة تجاوزت السّتِّين من العمر: " لم أتظاهر منذ سنة 2009 وقررتُ النزول إلى الشارع مجددًا لأن الوضع أصبح لا يُطاق، بسبب الطريقة التعسفية لإدارة شؤون الناس والفساد وانعدام الشفافية، وهذا لم يعد مقبولًا " "... أما الحرائق فاستهدفت محلات سياسيين مُقرّبين من الرئيس أندريه راجولينا، والذين أدلوا بتصريحات استفزازية ضد المتظاهرين من بينهم وزيرة سابقة وسيناتور مُعيّن ( غير منتخب) وشخصيات حكومية أخرى، وتمت محاصرة مطار إيفاتو الدولي، مما اضطر الرئيس إلى تحويل الطائرة التي كانت تقله من نيويورك، حيث حضر أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى جزيرة لاريونيون ( مُستعمَرَة فرنسية) وأعلنت الحكومة حظر التّجول الليلي بداية من يوم الخميس 25 أيلول/سبتمبر 2025، بعدما عجزت الشرطة عن وَقْف المظاهرات، رغم استخدام الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، وأغلق المتظاهرون الطرقات بالإطارات المشتعلة والحجارة، وأعلنت وسائل إعلام الحكومة عن حوادث نهب بعد ظهر الخميس 25/09/2025 وإحراق منازل ثلاثة سياسيين من المُقرّبين إلى الرئيس راجولينا ، لتبرير إعلان "منع التّجوّل الليلي الصارم من الساعة السابعة مساء إلى الخامسة صباحًا حتى عودة الهدوء" وفق قائد الشرطة...
أشار بعض المتظاهرين إلى نمط الحياة الباذخ لأبناء القادة السياسيين الذين يتباهون بثرواتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي حياة يومية بعيدة كل البعد عن تلك التي يعيشها 30 مليونًا من أصل 32 مليونًا من سكان مدغشقر، ونشرت بعض وسائل الإعلام الأجنبية أخبارًا عن مُغادرة بعض الأشخاص المقربين من الحكومة البلاد سرا خلال الأيام الأخيرة، واتهم مجلس الشيوخ ( 18 عضو مُعيّنين من قِبَل الرئيس) المتظاهرين بالقيام بمحاولة انقلاب، وهو اتهام يفتقر إلى المصداقية لأن هذا النظام نشأ عن انقلاب سنة 2009، وفي الواقع فإن مشاكل المياه والكهرباء هي واجهة النضال من أجل احترام الحريات الأساسية وكرامة المواطنين الفقراء الذين يُشاهدون مظاهر البذخ للأقلية الثرية، ومن ضمنها أعضاء الحكومة والبرلمان والمُقربين من الرئيس الثّرِي جدا...

رئيس ثري ومُتغطْرس
اتّهم الرئيس أندريه راجولينا، في خطاب دام سبع دقائق، مساء 26 أيلول/سبتمبر 2025، المتظاهرين بأنهم "مرتزقة حصلوا على أموال من قِبَل قادة المعارضة، لنهب وإثارة الاضطرابات في العاصمة، وللتحريض على الكراهية والعنف على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف زعزعة استقرار البلاد لاستقرار" واعتبر المظاهرات "محاولة انقلاب "، لكنه أعلن إقالة وزير الطاقة يوم 26/09/2025، قبل إعلان إقالة الحكومة بالكامل يوم الإثنين 29 أيلول/سبتمبر 2025، في خطاب دام 18 دقيقة، لكن عاد المتظاهرون إلى الشوارع يوم الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2025، للتنديد بالوضع السياسي والإقتصادي، لأن الرئيس وحكومته وبرلمانه لم يُلبُّوا مطالب المتظاهرين، ولم يعتذر الرئيس عن القمع، بل وَعَد بمساعدة المؤسسات التي تضررت من الإحتجاجات، وأصبح المتظاهرون تحت راية جيل زد ( G Z ) يطالبون باستقالة الرئيس، مرددين هتافات "راجولينا، ارحل" في ظل ارتفاع حجم ونسبة الفقر والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن القمع الشّديد، وبذلك تجاوزت المطالب انقطاع المياه والكهرباء والغاز، للمطالبة باحترام الحريات الأساسية وتوفير الوظائف وإصلاح منظومة التعليم والصحة والبنية التحتية، ومحاكمة أعضاء ورئيس مجلس الشيوخ وبعض رجال الأعمال من ذوي النفوذ الكبير النفوذ، وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين يوم الإثنين 29/09/2025، كما أُلقي القبض على العديد من المتظاهرين، من بينهم عضو في البرلمان من حزب صغير، ونددت المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالقمع و"الرّد العنيف على الإحتجاجات واستخدام الذّخيرة الحيّة من قِبل قوات الأمن" وفق المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك...

خاتمة:
يحمّل المحتجون حكومة الرئيس أندريه راجولينا مسؤولية انقطاعات الكهرباء والماء والغاز، والفشل في تحسين الأوضاع المعيشية لنحو تسعين بالمائة من المواطنين الذين كتب بعضهم "نشعر وكأننا نتَسَوَّلُ ونَتَوَسّلُ من أجل حقوقنا... " أو "لا يستفيد من المال العام إلا أقلية"، وأصبح المتظاهرون يُطالبون ب"لقاء مع السّلطة السياسية في الأماكن العامة والمفتوحة، بحضور جميع المتظاهرين وليس في المكاتب الإدارية..."، وأعلن رئيس أساقفة تواماسينا، الكاردينال ديزيريه تساراهازانا: "يحق للمواطنين، في ظل نظام ديمقراطي التعبير عن أنفسهم سلميًا، ويقتصر دور أجهزة إنفاذ القانون في الإشراف على المظاهرات لمنع التجاوزات والنهب، وليس مهاجمة المتظاهرين (...) إن الغالبية العظمى من سكان مدغشقر يعانون منذ زمن طويل، ولا يجدون من ينصت إلى مطالبهم (...) من المُخْزي في بلد فقير كبلدنا، أن نرى أناسًا أثرياء للغاية، وعامة الناس لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم، ولا يجدون ما يكفي من الطعام ( أخشى) أن يصبح الفساد أسلوب حياة، وأمرًا شائعًا... نحن بحاجة ماسة إلى حوار واضح، وإرادة سياسية لخدمة البلاد حقًا، ولا يجب الخلط بين السياسة والأعمال" في إشارة إلى الرئيس وهو رجل أعمال، وكذلك معظم المرشحين للرئاسة والبرلمان، منذ 2009
شهدت مدغشقر انتفاضات عديدة منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960، وأهمها الإحتجاجات الجماهيرية سنة 2009 التي أجبرت الرئيس السابق مارك رافالومانانا على الاستقالة وسمحت للسيد راجولينا بتولي السلطة، وتمثل الاحتجاجات الحالية التحدي الأكبر الذي يواجهه الرئيس أندريه راجولينا منذ إعادة انتخابه للمرة الثالثة سنة 2023، خصوصًا بعد تجدّد الإحتجاجات رغم إقالة الحكومة، فقد أصبح المتظاهرون ( وحتى رجال الكنيسة) يُحمّلونه المسؤولية مباشرةً، وللتذكير فقد وصل الرئيس إلى السلطة لأول مرة سنة 2009 عقب انتفاضة شعبية حولها بتواطؤ من الجيش إلى انقلاب، وتولى أندريه راجولينا، عمدة العاصمة أنتاناناريفو السابق، البالغ من العمر حاليا 51 عامًا، السلطة لأول مرة بين سنتَيْ 2009 و2014 بفضل انتفاضة شعبية، ووافق تحت ضغط دولي على التنحي مؤقتًا، ثم انتُخب سنة 2018 وأُعيد انتخابه سنة 2023 ضد منافسين أثرياء مثله، في بلد يُعدّ من أفقر دول العالم رغم موارده الطبيعية الاستثنائية، بفعل تفشي الفساد واستحواذ الأثرياء، مثل الرئيس على الثروات، والتفريط في الأرض والموارد لصالح الشركات العابرة للقارات...
متابعة برقيات رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية ووكالة بلومبرغ وإذاعة فرنسا الدّولية وشبكة بي بي سي ومواقع بعض الصحف من 25 إلى 30 أيلول/سبتمبر 2025



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدّعاية إحدى جَبَهات الحرب
- غذاء – ارتفاع الأرباح وانخفاض جودة المُنتجات
- إيطاليا - تضامن مع الشعب الفلسطيني
- متابعات – العدد الثالث والأربعون بعد المائة بتاريخ السابع وا ...
- فرنسا - الضّغْط يُوَلِّدُ الإنفِجار
- خرافة الإعتراف بدُوَيْلَة فلسطينية
- أوكرانيا -نموذج الحرب بالوكالة
- نيبال - الجزء الثاني والأخير - فشل تجربة سُلْطة اليسار
- متابعات – العدد الثاني والأربعون بعد المائة بتاريخ العشرين م ...
- نيبال، خلفيات الإنتفاضة: فجوة طبقية وفساد مُتأصّل
- انبطاح الحُكّام العرب
- أوروبا: الهجرة بين الدّعاية الإنتخابية وواقع الأرقام والبيان ...
- سوريا: الدّوْر الوظيفي للدّين السياسي الإرهابي
- بإيجاز - حَدَثَ ذات 11 أيلول/سبتمبر
- مُتابعات – العدد الواحد والأربعون بعد المائة بتاريخ الثّالث ...
- ارتباط الفساد بالإستغلال والإضطهاد والتّجسّس – عشيرة -ماكْسْ ...
- العربدة الصهيونية من تونس إلى الدّوْحَة
- فرنسا: أزمة سياسية واقتصادية
- المقاطعة كشكل من المقاومة
- فلسطين - فجوة بين الموقف الأوروبي الرسمي والموقف الشعبي


المزيد.....




- بيلا حديد تعود إلى منصّات الأزياء في باريس بعد غياب
- أقرب مسافة بين إعصارين منذ 50 عاما بالمحيط الأطلسي.. شاهد كي ...
- ما مدى تأثير مظاهرات دمشق على العلاقات بين مصر وسوريا؟
- لبنان بين الضغط الخارجي لنزع سلاح حزب الله وتمسّك إيران به
- من البحر إلى الجبال.. مناطق سياحية في العالم العربي تتنافس ل ...
- ألمانيا: مهرجان -أكتوبر فيست- بميونيخ يغلق أبوابه الأربعاء ب ...
- إسرائيل تواصل قصف غزة والغزيون بانتظار رد حماس على خطة ترامب ...
- هل الحكومة المغربية ماتزال قادرة على احتواء أزمة الاحتجاجات ...
- على خطى إثيوبيا.. كينيا تُعيد إحياء مشروع سد نهر تانا
- ملايين الدولارات وسبائك ذهب.. فيتنام تسجن مسؤولين في قضية فس ...


المزيد.....

- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - مدغشقر - مظاهرات حاشدة، وثراء فاحش وفساد وفقر مُدْقَع