|
|
السلاح والإنسان
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 16:15
المحور:
قضايا ثقافية
السلاح والإنسان هل يستطيع جيش مدرّب ومدجّج بالسلاح أن يوقف تقدّم حجافل من الرعاع مسلّحين بالعصي والسيوف؟ مدخل: سؤال يتجاوز الحساب العسكري قد يبدو السؤال للوهلة الأولى بسيطًا: جيش محترف يملك أحدث الأسلحة والتقنيات، في مواجهة حشود بدائية تحمل عصيًا وسيوفًا. الجواب المنطقي المباشر، وفق المنطق العسكري البحت، هو نعم، الجيش قادر على سحق هذه الحشود خلال دقائق. ولكن لو أمعنّا النظر قليلًا، ندرك أن المسألة ليست مجرد معادلة عسكرية باردة، بل معادلة إنسانية ونفسية وتاريخية. فالقوة المادية مهما بلغت لا تكفي وحدها لإيقاف طوفان بشري تحركه عقيدة أو غضب أو اليأس. السؤال هنا ليس عن تفوق السلاح على السيف، بل عن حدود القوة الصلبة أمام القوة المعنوية. وهو سؤال طالما تكرر عبر التاريخ: لماذا هزمت جماعات بدائية إمبراطوريات عظيمة؟ ولماذا انتصرت جموع من الفقراء والمحرومين على جيوش مدربة تملك أحدث ما وصلت إليه تقنيات عصرها؟ إن هذا السؤال يعيدنا إلى جوهر الحرب: ليست فقط معركة أجساد، بل صراع على القيم، على الإرادة، وعلى المعنى. الجيش مهما كان متفوقًا، يواجه تحديًا مضاعفًا إذا وجد نفسه أمام خصم يرى في المعركة مسألة وجودية لا يمكن المساومة عليها. أولاً: القوة ليست في الحديد وحده الجيش النظامي يُبنى على التدريب والانضباط والتسليح، ويُمثل قوة رهيبة على الورق. لكنه غالبًا ما ينهار حين يغيب عن جنوده الإيمان بالقضية أو شعورهم بالعدالة. بالمقابل، الحشود البدائية قد تفتقر للتدريب والأسلحة الفتاكة، لكنها تمتلك شيئًا أخطر: الاندفاع الوجودي، أي الشعور بأن المعركة مسألة حياة أو موت، وأن الانسحاب ليس خيارًا. الجنود النظاميون قد يقاتلون من أجل راتب أو أوامر قيادية، بينما "الرعاع" يقاتلون من أجل كرامتهم أو مستقبل أبنائهم أو بقائهم. وحين يصبح الموت محتمًا على أي حال، يصبح القتال بلا خوف، وبلا حسابات. ثانيًا: دروس من التاريخ 1. سقوط الإمبراطوريات العظمى الإمبراطورية الرومانية، رغم قوتها العسكرية الهائلة، لم تنهار أمام جيوش محترفة بقدر ما انهارت أمام قبائل "بربرية" أقل تجهيزًا، لكنها امتلكت الحماسة والإصرار، في حين غرق الرومان في الترف والفساد وفقدوا روح القتال. المغول في بداياتهم لم يملِكوا سوى خيول وأقواس، لكنهم اكتسحوا إمبراطوريات تملك جيوشًا ضخمة لأنها امتلكت العقيدة القتالية والوحدة الحديدية خلف قائد ملهم. 2. حركات التحرر الوطني في الجزائر، انتفض شعب أعزل نسبيًا ضد جيش فرنسي مدجج بالسلاح، وصمدت الثورة سنوات طويلة رغم المجازر، حتى اضطرت فرنسا للانسحاب. في فيتنام، لم تستطع الولايات المتحدة، رغم تفوقها الجوي والبحري، أن تُخضع شعبًا يقاتل من أجل استقلاله، وانتهت الحرب بانسحاب القوات الأمريكية مهزومة معنويًا وسياسيًا. 3. الانتفاضات الشعبية حتى في عصرنا الحديث، نرى أن الحشود التي تنزل إلى الشارع بالعصي والحجارة قد تُرغم جيوشًا مدربة على التراجع، ليس عسكريًا، بل سياسيًا. فالجيش في النهاية يتلقى أوامر من حكومات تخشى الغضب الشعبي، وحين يصبح قمع الحشود مكلفًا على المدى الطويل، يُضطر الجيش إلى الانكفاء. ثالثًا: القوة المادية مقابل القوة المعنوية القوة المادية: السلاح، التدريب، التكنولوجيا. القوة المعنوية: الإيمان، الغضب، الإصرار، شعور بالعدالة أو وجود. حين تتقابل هاتان القوتان، غالبًا ما تكون الغلبة لمن يمتلك الإيمان والدوافع العميقة، وليس فقط من يمتلك الأسلحة. جيش مدرب يواجه جيشًا آخر متكافئًا تجهيزًا قد يحسم المعركة لصالح الأفضل تجهيزًا، لكن جيش يواجه حشودًا مؤمنة بقضية وجودية غالبًا ما يخسر، حتى لو بقيت دباباته سليمة. رابعًا: الحرب غير المتكافئة العالم العسكري المعاصر يُسمّي هذه الظاهرة الحرب غير المتكافئة: هي الحرب التي يخوضها طرف ضعيف ميدانيًا لكنه قوي معنويًا، ضد طرف متفوق عسكريًا لكنه ضعيف الإرادة أو المصداقية. في العراق وأفغانستان، واجهت الولايات المتحدة تنظيمات لا تملك طائرات ولا دبابات، لكنها امتلكت استعدادًا للتضحية، وانتهى الأمر بانسحاب الجيوش الأجنبية رغم مليارات الدولارات التي أُنفقت. في غزة، تتكرر الظاهرة: قصف جوي وصواريخ دقيقة مقابل مقاومة محلية بأسلحة أقل تطورًا لكنها مستندة إلى قضية وجودية، ما يجعل كل تفوق تقني محدودًا أمام العزم الشعبي. خامسًا: النفسية الجماعية و"الطوفان البشري" الحشود البشرية تتحرك كموج البحر، كلما سقط جزء منها، تدفق غيره مكانه. الجيش المنظم يُربك حين يواجه عدواً لا ينسحب، لا يتفاوض، ولا يخاف. كثير من المعارك التاريخية انتهت ليس بسبب التفوق الميداني للطرف الأقل تجهيزًا، بل بسبب تحطيم معنويات الطرف المتفوق نفسيًا. هنا تكمن المعادلة الحقيقية: الجيش يربح حين يستطيع تحطيم إرادة الخصم. أما حين تظل الإرادة ثابتة ومستعدة للموت، فالجيش قد يخسر، حتى لو بقيت دباباته أو مدرعاته سليمة. سادسًا: العبرة من السؤال السؤال عن الجيش المدجج بالسلاح مقابل حشود من الرعاع بالعصي والسيوف يكشف أن مفهوم القوة نسبي. القوة ليست فقط في الحديد أو الذخيرة، بل في المعنى والدافع. السلاح بلا معنى يصبح عبئًا، والحشود بلا سلاح قد تتحول إلى طوفان لا يُوقف. سابعًا: دروس يمكن استخلاصها 1. الإرادة أقوى من العتاد: الجيوش تحتاج إلى قضية عادلة كي تستمر. 2. الشرعية أساس القوة: جيش بلا شرعية أخلاقية أو سياسية سرعان ما يتصدع. 3. الحشود قوة لا يُستهان بها: حتى في عصر الطائرات المسيرة والصواريخ الذكية، يبقى الإنسان في النهاية هو الحاسم. 4. المعركة ليست أجسادًا فقط: إن لم تُكسر الروح، فإن الجسد المقاتل مهما كان متفوقًا قد لا يحقق الانتصار النهائي. ثامناً: تطبيقات معاصرة الثورات الشعبية الحديثة، مثل الانتفاضات في الشرق الأوسط 2011، أظهرت أن الحشود تستطيع إجبار الحكومات على التراجع أو الإصلاح، حتى لو كانت الحكومة تمتلك قوة عسكرية هائلة. الحروب المدنية التي شهدتها إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تظهر أن التفوق العسكري وحده لا يضمن الانتصار، وأن القوة المعنوية للخصم أو الدعم الشعبي قد يعادل أو يفوق القوة المادية. تاسعًا: القوة في التاريخ – أمثلة مضيئة الثورة الفرنسية: لم تكن جيوش الثورة مجهزة بالكامل، لكنها انتصرت ضد النبلاء والجيوش الملكية بسبب الإيمان بالحرية والكرامة. حركة المهاتما غاندي: استخدمت العصيان المدني كقوة رمزية ومعنوية، وهزت الإمبراطورية البريطانية رغم تفوقها العسكري. الثورة الجزائرية: الفقراء المسلحون بأسلحة بسيطة استطاعوا إرغام فرنسا على الاستسلام سياسيًا رغم تفوق الجيش الفرنسي تقنيًا. عاشراً: التحليل النهائي إن جيشًا مدرّبًا ومدججًا بالسلاح قد يحقق نصراً تكتيكيًا سريعًا على الحشود، لكنه لا يوقف تقدمهم التاريخي إذا كان الدافع معنويًا عميقًا، وإذا كان التحرك جماعيًا ومستمرًا. الرصاص يسقط الأجساد، لكنه لا يسقط الفكرة. والجيوش الكبرى تنهار حين تظن أن القوة المادية تكفي وحدها. الحادي عشر: خاتمة – المعادلة الحقيقية للقوة الجيش المدرب والمدجج بالسلاح قد يحقق نصراً تكتيكيًا على أرض المعركة، لكنه لا يستطيع إيقاف تقدم الطوفان البشري الذي تحركه روح لا تُقهر. الإرادة، الإيمان بالقضية، شعور الحشود بالعدالة أو الدفاع عن وجودهم، كل هذه العوامل تجعل المعركة أكثر تعقيدًا من مجرد حساب التفوق العسكري. إذن، الجواب على السؤال: بالتأكيد لا يستطيع الجيش، مهما كان تسليحه، أن يوقف تقدّم الطوفان البشري الذي تحركه روح وإرادة متأججة بالقضية التي يؤمن بها. القوة الحقيقية ليست في الحديد أو الذخيرة وحدها، بل في روح المحارب، وفي قضية تحرّكه، وفي الإيمان بأن الحياة والمعنى أغلى من أي سلاح. وهذا ما يذكّرنا أن التاريخ، دومًا، يميل لأولئك الذين يقاتلون من أجل المعنى، وليس فقط من أجل القوة.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سبية
-
وامعتصماه
-
قانون التنظيمات العثماني ودوره في دمج العلويين بالمجتمع السن
...
-
خطاب ضد الطائفية
-
اغتصاب
-
حكايات سورية -6-المليونير الأحمق والفتاة الذكية
-
-القاف-: دفاع عن اللسان والهوية
-
رسالة إلى أولئك الذين اغتصبوا إنسانيتي
-
في متاهة الحب
-
الاستنسابية في المجتمع: المظاهر، التداعيات، وآفاق المعالجة
-
عند ملقاك
-
سيكولوجيا الاغتصاب: دراسة للفاعل والضحية
-
القاف: قوة المعنى في اللغة العربية
-
قِيمٌ وقُدَمٌ: رحلة في قُدرةِ القَلبِ والعقل
-
في ظل غياب المساءلة، سيتفاقم العنف الطائفي في سوريا
-
عقول خالدة
-
هل لدينا وقت للمتعة بعد الآن؟
-
لماذا يجب أن يكون الحب دليلنا في عصر الذكاء الفائق
-
الرفاهية والعلم والروحانية
-
طول العمر وقصره
المزيد.....
-
خيانة بثمن؟.. مؤثرة تُؤمر بدفع 1.75 مليون دولار بعد علاقة غر
...
-
-الوصاية الأميركية على لبنان خطر كبير جدًا-.. حزب الله يتمسّ
...
-
أمطار غزيرة تتسبب في فيضانات شديدة في شمال شرق إيطاليا
-
الأردن: مجلس النواب يصادق على إعادة فرض الخدمة العسكرية الإل
...
-
إعلان النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية في العراق
-
المارشال بيتان ينكأ جراح فرنسا مجددا وفتح تحقيق بتهمة تمجيده
...
-
288 ألف أسرة يبيتون بخيام بالية بغزة وحماس تطلق نداء للعالم
...
-
هل البرتغال أفضل بلا رونالدو؟.. فوز تاريخي يشعل المنصات
-
مطار إسطنبول الأفضل للعائلات في العالم.. ما القصة؟
-
نافذة- أبرز المؤشرات التي تكشف حجم الأزمة الغذائية في اليمن
...
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|