أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السماء المفتوحة














المزيد.....

السماء المفتوحة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 10:54
المحور: الادب والفن
    


بين الوهم والحقيقة

ما أخطر أن يتحول الخطأ البشري، في لحظة عابرة، إلى قدرٍ معلّق بين الموت والحياة. فالقرارات التي تُتخذ في ثوانٍ قد لا تُمحى آثارها بقرون. والحرب، حين تفتح أبوابها، لا تميز بين عدوٍّ وصديق، بل تبتلع كل من يقترب من حافتها.

في زنزانة ضيقة، جلس النقيب غسان على كرسي حديدي بارد. المصباح الأصفر يتأرجح بخيط رفيع، يلقي ظلالاً متراقصة فوق الجدار. صرير الباب في الممر يجرح الصمت، وخطوات الحرس تتردد كأنها طبول موت تقترب ببطء.
أغمض عينيه، فانهالت الصور: شاشة الرادار، زر الإطلاق، لهب السماء، صرخة الطيار وهو يهوي من علياء الحرب. فتح عينيه فجأة، ضرب الجدار بقبضته:
ــ "أنا مظلوم… لا بد أن يسمعني أحد!"
وقبل ساعات، كان في غرفة العمليات. الشاشة الخضراء ارتجفت، نقطة وحيدة تتقدم بسرعة.
ــ "هدف دخل أجواءنا."
جاءه صوت القيادة، جافّاً صارماً:
ــ "ارمِ."
لم يتردد. ضغط الزر. اندفع الصاروخ، اخترق السماء، ثم انفجرت الطائرة. رأى الطيار يقذف بكرسيه، والنار تبتلع جناحيها.
لكن المشهد انقلب إلى كابوس. الطيار صرخ بين أذرع الجنود الذين أسرعوا نحوه:
ــ "أنا عراقي! بالكوة وصلت حدود بلدي… وأنتم تسقطونني؟!"

اقتيد إلى النقيب غسان، فإذا هو مقدم طيار، يتنفس بغضب وذهول. قال بعصبية وهو يلتقط جرعة ماء:
ــ "كنت في مهمة داخل العمق الإيراني. جناحي انضرب… عدت مسرعاً أبحث عن أي مطار عراقي قريب . الإيرانيون ما أسقطوني، أنتم أسقطتموني!"

لكن المجلس التحقيقي لم يسمع. تحت ضوء أبيض قاسٍ، وجوه جامدة وزوايا باردة. القرار جاء سريعاً من قبل القيادة العليا :
ــ "الإعدام."
ترددت الكلمة في أذني غسان كرصاصة. حاول أن يصرخ:
ــ "كنت أنفذ الأوامر!"
لكن صوته ارتدّ في الفراغ، كأنه لم يُسمع.

عاد إلى زنزانته مثقلاً. كل شيء يهمس بالموت: وقع الأقدام، صرير الأبواب، ظل المصباح. تخيل الحبل يتأرجح فوق رأسه، وجسده يتدلى بلا وداع. صور أسرته مزّقت قلبه: زوجته تغالب دموعها، طفله يركض خلفه. همس داخلي يطارده:
ــ "ستموت بريئاً… وستُذكر كخائن."
لكنه تماسك. حين دخل سجانه، رفع رأسه وقال بثبات:
ــ "أريد مقابلة القائد العام للقوات المسلحة… أنا مظلوم."

في قاعة شبه مظلمة، جلس رجل بملامح غامضة خلف طاولة خشبية. الضوء مسلط على الأوراق، فيما بقي وجهه نصف غارق في الظلال.
وقف غسان أمامه، قلبه يخفق كطبول الحرب، وصوته ثابت رغم الارتجاف الداخلي:
ــ "هذه البرقية تؤكد أن الأسلحة كانت غير مقيدة… وهذه التسجيلات تثبت أنني كنت على اتصال مباشر بقيادتي. أمروني بالإطلاق. لم أخالف الأوامر قط."
ظل القائد العام يقلب الأوراق ببطء. صمت طويل ثقل على صدر غسان. ثم ارتفع الصوت، عميقاً، حاسماً، لكنه بدا له قادماً من مكان بعيد:
ــ "إعدامك ملغى… لكن مسؤوليك سيُحاسبون."

خرج غسان من القاعة إلى ممر طويل. الهواء كان خانقاً، والظلال تتراقص على الجدران. خطاه ثقيلة، وكل صدى في المكان يذكره بالزنزانة. تساءل في نفسه وهو يقترب من الباب الأخير:
ــ "هل خرجت حقاً حياً… أم أنني ما زلت في زنزانتي، أختلق هذا الحلم لأهرب من الحبل الذي يتأرجح فوق رأسي؟"
وفي لحظة صمت، سمع صرير باب حديدي يُفتح. ارتجف قلبه. لم يعرف… أهو باب الخلاص؟ أم باب النهاية؟

في الحروب، لا يعيش الإنسان حياته، بل يعيش تأجيل موته. والعدالة، حين تأتي متأخرة، قد تنقذ الجسد، لكنها تترك الروح معلّقة بين الحقيقة والوهم. فما يُروى كبطولة قد يكون في داخله مجرد حلم يتشبث به مظلوم، وهو ينتظر أن ينطفئ المصباح المتأرجح في زنزانته.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غروب في المقبرة
- مذكّرات قائد فرقة عسكرية / ١
- أنابيب ضائعة
- دم الشهيد بين المكاتب
- تأملات راحل
- الجامعة وجرح لا يندمل
- بين البندقية والباسون
- ذكريات لا تُنسى / ٣
- ذكريات لا تنسى / ١
- ذكريات لا تُنسى / ٢
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب


المزيد.....




- جون طلب من جاره خفض صوت الموسيقى – فتعرّض لتهديد بالقتل بسكي ...
- أخطاء ترجمة غيّرت العالم: من النووي إلى -أعضاء بولندا الحساس ...
- -جيهان-.. رواية جديدة للكاتب عزام توفيق أبو السعود
- ترامب ونتنياهو.. مسرحية السلام أم هندسة الانتصار في غزة؟
- روبرت ريدفورد وهوليوود.. بَين سِحر الأداء وصِدق الرِسالة
- تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار
- عزف الموسيقى في سن متأخرة يعزز صحة الدماغ
- درويش والشعر العربي ما بعد الرحيل
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السماء المفتوحة