أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - الخروج من مصر














المزيد.....

الخروج من مصر


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 01:28
المحور: الادب والفن
    


إن قراءة نص الخروج من مصر للمفكر المصري الأمريكي إيهاب حسن لا تتيح لنا مجرد استعراض لسيرة ذاتية، بل تكشف عن استعارة كونية لمفهوم المغادرة ذاته. فكل عملية خروج ليست مجرد انتقال مكاني، بل تمثل خيانة مزدوجة: خيانة للمكان الذي غادرناه، وخيانة للذات التي كانت محددة ضمن سياق هذا المكان. بهذا المعنى، تصبح العودة مستحيلة، إذ تتطلب العودة أن نكون الشخص ذاته الذي غادر، في حين أنّ هذا الشخص لم يعد موجودًا إلا كإطار ماضٍ لا يمكن استرجاعه إلا نصيًا أو تأويليًا.
يمثل النص بعدًا ميتافيزيقيًا يهمس بأننا لم نعد مرحبًا بنا، ليس بسبب تغيّر المكان ذاته، بل بسبب فقدان القدرة على رؤيته بالبصيرة نفسها التي كانت متاحة لنا سابقًا. كل زاوية مألوفة، كل شارع، كل رائحة، لا تُعيدنا إلى الماضي بقدر ما تُعيدنا إلى الذات التي غادرناها إلى الأبد. بهذا المعنى، تصبح العودة ليس رحلة جسدية فحسب، بل استحالة زمنية ونفسية. فمصر التي غادرناها لم تعد موجودة، وأيضًا نحن لم نعد موجودين فيها بالذات التي غادرناها.
المفارقة الأساسية تكمن في أن الأمان الذي توفره الأماكن الجديدة لا ينبع من تقليد القديم، بل من الفراغ الذي تسمح الذاكرة بأن يُملأ، ومن القدرة على أن نكون مجهولين ضمن هذا المكان، ومن الإمكانية التي تمنحها التجربة لتحويل أي مكان، مهما كان غريبًا، إلى بديل عن اللاشيء. كل مغادرة تخلق مساحة داخلية مجهولة وعالمًا خارجيًا لا يمكن السيطرة عليه، يتشكل من بدائل عن اللاشيء ومن ذاكرة تسعى إلى بناء معنى جديد لكل زاوية، لكل ركن، ولكل طريق لم تُسلك بعد.
من هذا المنظور، يمكن القول إن المغادرة ليست هروبًا ولا عودة مفقودة، بل لحظة ولادة مستمرة، حيث يصبح كل مكان جديد نصًا مكتوبًا علينا، تتحول فيه الأشياء العادية إلى مرايا تذكّرنا بأننا كنا هناك، ولكننا لم نعد هناك بعد. وعليه، فإن كل عودة محتملة ليست إلا إعادة صياغة للذاكرة بما يجعلها شيئًا جديدًا يختلف عن ما غادرناه.
يكشف النص عن أن الأمان الذي نبحث عنه لا يكمن في العودة إلى الأصل، بل في الجرأة على أن نكون مجهولين في أماكن لم نخلق فيها، والسماح لكل فراغ بأن يتحول إلى نص، ولكل نص بأن يتحول إلى مغادرة جديدة، بما يعيد إنتاج المعنى في كل تجربة ومساحة جديدة.
يمكن تفسير الخروج من مصر، على أنه نقد ضمني لفكرة الثبات والاستقرار في المكان والهوية. فالنص يطرح أن المكان ليس كيانا مستقرا بذاته، بل هو شبكة من العلاقات الدلالية التي تتشكل عبر التجربة والذاكرة والتأويل. كل زاوية وكل شارع وكل رائحة تصبح علامة نصية، تشير إلى الذات التي غادرتها وإلى الفراغ الذي أتيح للذاكرة أن تملأه. هذا الفراغ ليس مجرد غياب، بل هو مساحة إنتاج للمعنى الجديد، حيث يمكن للمغادر أن يعيد تشكيل الذات والعالم من خلال التجربة المستمرة للانفصال والتحوّل.
المغادرة هنا تُظهر الانفصال بين الأصل والنُسخة، بين الوجود والتمثل. فالمكان الأصلي والمكان الجديد ليسا متطابقين، والذات التي غادرت ليست الذات التي تعود. هذا الانفصال يجعل من العودة مسألة مستحيلة جوهريًا، ويحوّل عملية المغادرة إلى لحظة كتابة دائمة، حيث يصبح كل فضاء جديد نصًا قابلًا للقراءة والكتابة من جديد. بتعبير آخر، المغادرة ليست حدثًا وحسب، بل عملية تفكيكية مستمرة للذاكرة والمعنى، إذ تكشف كل عودة محتملة عن الاختلاف الأساسي بين الحاضر والماضِي، بين الموجود والمتخيّل.
الأمان الذي توفره الأماكن الجديدة، وفق هذا المنظور، لا يأتي من استعادة الأصل أو التقليد، بل من الجرأة على أن نكون مجهولين، ومن القدرة على تحويل الفراغ إلى نص، ومن إعادة إنتاج المعنى من خلال الانفتاح على اللاشيء. هذه العملية تخلق عالمًا خارج السيطرة، عالمًا تتداخل فيه الذاكرة مع التجربة، حيث تصبح كل زاوية وكل طريق غير مسلك نصًا يمكن تفسيره وتأويله.
يمكن أيضًا اعتبار المغادرة لحظة فلسفية تتحدى الثنائيات التقليدية: الأصل/النسخة، الثبات/التغير، الذات/المكان، العودة/الرحيل. فهي تؤكد أن المعنى لا يتجذر في المكان أو الزمن، بل في فعل الانزلاق الدائم بين الحضور والغياب، بين النص والذات، بين المعرفة والتأويل. من هذا المنظور، تصبح كل مغادرة ليست مجرد حركة مكانية، بل ممارسة فلسفية لإعادة إنتاج المعنى والوجود، حيث يُكتب النص على الذات ويُقرأ من جديد في كل تجربة.
يقدم نص إيهاب حسن قراءة معاصرة لفكرة المغادرة كعملية تفكيكية متواصلة، تكسر الأصولية الزمنية والمكانية، وتعيد إنتاج الذات والمعنى في فضاءات جديدة، فتؤكد أن المغادرة ليست مجرد فعل هروب، بل لحظة ولادة مستمرة، وممارسة معرفية وجودية تتحقق عبر الكتابة والتأويل والانفتاح على الفراغ واللاشيء.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقهى المعقدين
- كَسْرٌ فِي الْكَمَالِ الشَّكْلِيِّ
- غرف المغامرات الأبدية
- ضد غباء المكعبات
- الكتابة إلى فيديل سبيتي
- إلى النهار الماضي lll
- عن الشكل
- إلى النهار الماضي ll
- إلى النهار الماضي
- لقد دخلت الأبدية للتو إلى الحديقة
- مكتبة في مدينتي
- كهانة المطبخ
- مطبخ الكهانة
- أغمض عينيّ: ينهض المعنى
- ينهض المعنى من يغمض عينيّ
- دفاتر الهوامش lll /دفاتر الغسيل
- هوامش ومسودات 2
- هوامش ومسودات 1
- التداخل 11
- تداخل 12


المزيد.....




- إبراهيم قالن.. أكاديمي وفنان يقود الاستخبارات التركية
- صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
- بين شبرا والمطار
- العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
- في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض ...
- ماكي صال يُحيّي ذكرى بن عيسى -رجل الدولة- و-خادم الثقافة بل ...
- الأمير بندر بن سلطان عن بن عيسى: كان خير العضيد ونعم الرفيق ...
- -للقصة بقية- يحقق أول ترشّح لقناة الجزيرة الإخبارية في جوائز ...
- الكاتبة السورية الكردية مها حسن تعيد -آن فرانك- إلى الحياة
- إصفهان، رائعة الفن والثقافة الزاخرة


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - الخروج من مصر