|
|
نظرة دينية لكن بالمقلوب
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 15:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وقف الرجل في النهار وقال: انظروا، هذه هي الشمس تشرق من هنا وتغرب من هناك؛ ثم في المساء أضاف: أترون، الأرض ثابتة وتدور حولها النجوم والكواكب والشُهب وسائر الأجسام السماوية. من موقفه هذا، استنتج صاحبنا أن الأرض هي مركز الكون. ومن هذا المنظور البشري، كان هو يقف بالضبط في مركز الأرض، وهكذا يحتل مركز الكون. في امتداد لهذا التصور البشري، لم يتطلب الأمر قفزة ميتافيزيقية كبرى من العقل البشري حتى يسوق الواحدة تلو الأخرى من البراهين التي تقطع الشك باليقين على كون الإنسان وأرضه يشغلان بؤرة اهتمام وعناية وتدبير قوة أو قوى عظمى أياً ما كانت قد خلقت الكون وفي قلبه الإنسان بهكذا صورة إعجازية.
حتى عظماء الفلاسفة في ذلك الزمان قد خدعتهم هذه النظرة البشرية الطابع للكون. على هذا الأساس، رتبوا العناصر الكونية من الأثقل وزناً وكثافة إلى الأخف، بحيث كلما زاد وزن الشيء واقترب من الأرض ساء جوهره واحتل مرتبة دنيا على سلم الخلق، لكن كلما خف وزنه واتجه نحو السماء بعيداً عن الأرض حسن جوهره واحتل مرتبة سامية على سلم الخلق. كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع في كيان واحد بين مساوئ العالم الأرضي ومحاسن السماوي في آن، حيث لديه جسم أرضي ثقيل بالتوازي مع روح سماوية خفيفة.
من السماء تأتي نورانية تُضيء له السبيل وتبعث الطمأنينة والأمل في نفسه المعذبة؛ وفي الأرض مأكله ومشربه ومأواه ومسرته حقاً، لكن فيها أيضاً الموت يتربص به دائماً. كأن الإنسان، في حياته على الأرض، يأكل ويحيا ويمرح من وعلى تراب رفات أحبته الماضيين. تعلم الإنسان هذه الحقيقة منذ الأزل: أن في الأرض جنته الحقيقية، لكن فيها أيضاً مقبرته؛ وإذا كان يريد جنة أزلية بلا موت، إذن الأرض لا تكفيه. عندها، أشاح الإنسان اهتمامه بعيداً عن الأرض التي تحت قدميه وركزه بعيداً إلى الأعلى في عنان السماء، ملتمساً من سكانها أن يضمنوا له بأي ثمن أمنية الخلود. وكان دائماً وأبداً مطيعاً وراضياً ومستعداً، حتى لو كان الثمن أن يضحي لهم برقبة فلذة كبده.
مثل سائر البشر، يحتاج رجال الدين إلى لقمة العيش. وحتى يحصلوا على هذه الأخيرة، كان لابد أن يتعلموا صنعة تغنيهم مثل الآخرين. يعرف الحداد كيف يستخرج ركائز الحديد ثم يصهرها ويشكلها إلى أدوات وأسلحة نافعة. كذلك رجال الدين، الكهنوت، يعرفون كيف يستخرجون مادتهم الخام من أعماق النفس البشرية، وكيف يصهرونها ويدمجونها وينظمونها في نظريات نافعة لهم وللبشر في نهاية المطاف، ويكسبون مكانتهم في مقابل ذلك. كذلك يفعل الفلاسفة الشيء نفسه، مقابل مكاسب أيضاً. رغم ذلك يبقى هناك اختلاف جوهري بين الفلاسفة من جهة والكهنوت في المقابل. ستجد الفلاسفة دائماً وأبداً يبحثون عن الحقيقة، الحقيقة وحدها ولا شيء سوى الحقيقة، أو ما يحسبونه الحقيقة حتى لو كانت نتائج بحوثهم غير سارة ومؤذية وجارحة لكبرياء وخيلاء البشر وضارة بمصالحهم. بينما يفضل الكهنوت دائماً وأبداً تصدر موكب المعتقدات الرائجة والسائدة، يهذبونها ويرشدونها ويخضعونها حقاً إلى ما فيه مصالح العباد، لكنهم أبداً لا يكترثون بالتحري في أصولها، إذا كانت فعلاً حقيقية أم مجرد هوى وانحياز بشري محض.
لأنه في الأساس منشغل بتوظيف المعتقدات الرائجة والاستثمار فيها أكثر من انشغاله بالتحري في صدقيتها، تولى الدين أمر تنظيم هذه المعتقدات الرائجة لكن الخاطئة أعلاه في فقه، لاهوت، محكم ومكتمل الأركان وعهد حفظه وتنقيحه ومراقبة تنفيذه وتقويم ومحاربة كل من يحيد عنه إلى مؤسساته الخاصة- مثل البابا والكنيسة في المسيحية، والأئمة والمشايخ والعلماء والأزهر ودور الإفتاء في الإسلام. في المقابل وبالتزامن، كانت الفلسفة مهتمة بالحقيقة أكثر من اهتمامها بالاستثمار، وتمكنت بمرور الزمن من مراكمة الحقائق العلمية المؤكدة بأدلة الملاحظة والتجربة والمنفعة البشرية العظيمة الواحدة تلو الأخرى حتى بلغت الحد الذي عجز عنده حراس الدين عن صد وقمع هذه الانحرافات والهرطقات ووأدها في مهدها مثلما دأبوا يفعلون طيلة قرون عديدة سابقة.
الأرض ليست ثابتة تطوف حولها النجوم، ولا هي مركز الكون؛ الشمس لا تشرق ولا تغرب، كل ما في الأمر خدعة بصرية بسبب دوران الأرض حول الشمس. لا يوجد للأرض سماء، بل فضاء شاسع تسبح فيه كحبة رمل في الصحراء الكبرى. الانسان ليس مركز الكون ولا مركز اهتمام وعناية من خالقه. الأديان، ومعها السلطة، لا تتنزل من فوق، من السماء، كما دأب البشر يعتقدون خطئاً. البشر ليسوا مجرد دمى أرضية دنيا وسلبية مصائرها معلقة بأيدي قوى سماوية عليا وحاكمة. في الحقيقة، البشر أنفسهم هم الذين قد صنعوا الأديان وهم حفظتها، لولاهم ما كانت الأديان وما بقيت، لكنهم خطئاً نسبوا الفضل إلى قوى عليا. كيف يكون النبي نبي من دون مؤمنين بدعوته؟ وكيف يكون رجل الدين داعية وواعظاً من دون مريدين وأنصار من حوله؟ هكذا، إذن، قد خلق البشر أنفسهم، من معتقداتهم الرائجة أنفسهم، أديانهم بكل أربابها وكتبها وأنبيائها ورسلها وقديسيها ومشايخها. هكذا يصبح الإنسان ليس ذلك العبد السلبي الذي ظلت الأديان ترسخه فيه، بل الإنسان المبادر والإيجابي والخلاق والقادر حتى على اختلاق آلهة من نسج خياله وصنع يديه والركوع والسجود تحت أقدامها التماساً لرضاها.
كانت النتيجة انقلاب كامل في وجهة مرجعية السلطة الدينية. بدل من أن تستمد السلطة الدينية شرعيتها من فوق، من السماء وسكانها، تعين عليها أن توفق أوضاعها وتتكيف مع الحقائق والاكتشافات العلمية الجديدة وتستمد مرجعيتها وسلطتها من تحت، من الأرض وسكانها، ومنهم وحدهم فقط. هذا يعني أنه أصبح باستطاعة أي تجمع طوعي وسلمي من المؤمنين أن ينشئوا ويمارسوا أي دين أو مذهب ديني جديد، أو ما يسمى بلفظ الحداثة: الحرية الدينية، حرية الاعتقاد، حرية الضمير، حرية التعبير، حرية التجمع والائتلاف السلمي...الخ.
المفارقة أن الأديان لم تضعف حين جُردت من السلطة القمعية وتحررت. بدل الدين المتسلط الواحد، ولدت أديان حرة كثيرة. وبفضل هذه التعددية والحرية الدينية، حققت الأديان- في ثوبها الحداثي الجديد- ذرى لم تبلغها قط على مدار تاريخها الاستبدادي القديم في التسامح مع الاختلاف وسمو الضمير الإنساني الكوني مقابلة بالضمير العرقي والعنصري المتزمت والمتعصب القديم.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل صحيح أن المسلمين يقدسون محمداً أكثر من تقديسهم لله؟
-
هل صحيح أن القرآن كلام الله؟
-
هل صحيح أن ليس في الإسلام كهنوت؟
-
هل تُنجب المسلمة من هندوسي؟
-
دعوة التوحيد
-
بين الوطنية واللصوصية- أزمة دولة ناصر
-
لماذا فشلت الجمهوريات الثورية ونجحت الممالك الرجعية؟
-
خيبة الأمل في 23 يوليو
-
المصريون بين طرحةً ناصر وحجاب المُرشد
-
شكوى إلى الله ضد إسرائيل
-
في الدولة جنة الإنسان على الأرض، أو هكذا ينبغي
-
ما هي حقيقة الدولة؟
-
هل كانت 30 يونيو ثورة؟
-
هل كانت 25 يناير ثورة؟
-
الثورة بين الحقيقة والمجاز
-
هل كانت 23 يوليو ثورة؟
-
هل مصر دولة ديمقراطية؟
-
الساداتيىة وتهافت الأنظمة الثورية
-
الله حائر بين اليهود والفرس
-
عن طبيعة الجسم السياسي
المزيد.....
-
الاحتلال ينصب بوابتين حديديتين جديدتين غرب سلفيت
-
الجهاد الاسلامي: مشروع أميركا يؤسس لاحتلال مُقنّن بغطاء أممي
...
-
الهيئة الإسلامية المسيحية: محاكمة الشيخ صبري استهداف خطير لم
...
-
الهيئة الإسلامية المسيحية: محاكمة الشيخ صبري استهداف خطير لم
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال
...
-
بمناسبة اليوبيل المقدس بالفاتيكان.. عرض نسخة مزخرفة نادرة من
...
-
الإمارات تدين الاقتحامات والانتهاكات الإسرائيلية في المسجد ا
...
-
فيديو.. بن غفير يتحدث عن تطبيق -قانون المساجد-
-
الإمارات تدين الاقتحامات الإسرائيلية لباحات المسجد الأقصى
-
قصة القلعة الحمراء التي يجري فيها نهر -الجنة-
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|