|
هل صحيح أن ليس في الإسلام كهنوت؟
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 00:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نعم، صحيح. ليس في الإسلام كهنوت. لكن في الإسلام، بدل الكهنوت، هناك أئمة وعلماء وفقهاء وشيوخ. وقد يكون لهؤلاء الأواخر دوراً معادلاً، صغر أو كبر، لدور الكهنوت في المسيحية. دعونا نرى كيف.
الكهنوت في المسيحية الغربية (خلاف الشرقية)
اشتغال الرجل بالخدمة الدينية غير كاف وحده لكي يصنع منه رجل دين. لكن حين تُضاف سلطة الإلزام، معنوية كانت أو مادية، إلى الوعظ الديني نُصبح حينئذٍ أمام كهنوت مكتمل الأركان. رجل الدين هو الشخص الذي يكسب رزقه وعيشه من الوعظ الديني، من دون سلطة إلزام على جمهوره للعمل بما يعظهم به. الكهنوت أيضاً هو رجل دين لكن من نوع مختلف جوهرياً؛ هو يملك سلطة إلزام على جمهوره للعمل بما يعظهم به. هذه السلطة تضع حداً فاصلاً بينه وبين رجل الدين الاختياري. في الأمور الدينية، وعظ رجل الدين هو مجرد رأي أو اجتهاد يأخذ به من يشاء ويختلف معه من يشاء. بينما وعظ الكهنوت، بالنظر إلى السلطة من وراءه، لا يقل أبداً عن كونه تعبيراً عن صحيح الدين وفروضه الأساسية، بحيث يخرج من الملة ويصبح مهرطقاً أو مرتداً يستحق الحرق أو إقامة الحد عليه كل من يخالف فتواه.
لا سلطة من دون تنظيم. الكهنوت المسيحي تنظيم هرمي عملاق على قمته يجلس البابا في روما. من هذا البابا، عبر شرايين التنظيم، يستمد ويمارس الكهنوت المسيحي سلطاتهم على جماعاتهم المؤمنة على اتساعها وتنوعها.
لكن الناس لا تحيا بالدين فقط. هناك مقومات أساسية أخرى للحياة والعمران ربما تفوق الدين في الأهمية، ويعجز هذا الأخير عن توفيرها. الناس لا تحيا بالمواعظ والعبادات فقط لكنها قبل ذلك وبالتوازي معه تحتاج إلى الأمن الذي يضمن لهم السلامة وفرص الوصول إلى الطعام والشراب والمأوى. قبل الكهنوت، تحتاج الأمة إلى جيوش. وكانت هذه الأخيرة حرفة شخص آخر غير البابا ومنافساً شرساً له- الإمبراطور.
لا يتشكل التنظيم أياً ما كان من دون توفر شرطين مسبقين أساسيين: 1- هامش معقول من الاستقلال الذاتي عن ما سواه من التنظيمات الأخرى؛ و2- قدرة معقولة من الاكتفاء الذاتي تحفظه من الاعتماد إلى حد التبعية على تنظيمات أخرى من أجل بقائه. بالتوازي مع التنظيم السياسي الإمبراطوري، قد ساهم توفر هذين الشرطين للكنيسة الغربية في تشكل تنظيم روحاني موازي بقيادة البابا. في ذلك الزمان، كانت أوروبا الغربية أشبه بجسد واحد لكن برأسين اثنين منفصلين وبزاويتي نظر متعاكسين ما بين السماء والأرض؛ مركب بريسين. والحال كذلك، كان حتماً ولابد من صيغة ما للتعايش وإلا غرقت المركب بسكانها. لم يكن الأمر سهلاً ولا سلساً بالمرة. من وقت لآخر، بسبب تعارض المصالح الدنيوية والروحانية على حد سواء، كان الكيل يطفح والعداء يُسفر مفضوحاً بين البابا من جهة والإمبراطور في المقابل. من رحم هذا الشد والجذب المستمرين بين الرأسين الدنيوية والدينية، عثر كثيرون على فرص سانحة للمجاهرة بآرائهم المختلفة والمنشقة وتطويرها وممارستها في مأمن من الملاحقة والاضطهاد عبر مساحات عديدة من القارة الأوروبية. صاحب الرأي الديني المخالف والمنشق عن البابا قد يجد الحماية لدى الإمبراطور أو أحد الأمراء. والعكس صحيح، صاحب الرأي السياسي المخالف والمنشق عن الإمبراطور أو أحد الأمراء قد يجد الحماية لدى البابا. في أتون هذا الصراع العسير حملت أوروبا بنطفة التعايش مع ثم القبول بالرأي والرأي الآخر (الكافر)، السلطة والسلطة الأخرى (المتمردة)، التي ستلد لاحقاً طفل الحداثة العلمانية، التي بدورها ستقطع دابر الرأسين معاً- الإمبراطور والبابا- وتعيد توحيد السلطة فوق الجسد الأوروبي إلى مواطنيه عبر مواثيق حريات وحقوق الإنسان الأساسية وآليات الحكم الديمقراطي.
الكهنوت في الإسلام العربي (خلاف غير العربي)
يتباهى الكهنوت المسلم من تحت مسميات مختلفة بعبارة أن "ليس في الإسلام كهنوت". وهذا، برسم حروف الكلمات، قول صحيح تماماً لا شائبة فيه. لكن، من حيث المعنى والمضمون والأثر الحقيقي على حياة الناس، يمكن القول أن "في الإسلام كهنوت" أشد قوة وشراسة وإيذاءً ألف مرة من كهنوت المسيحية الغربية. كيف؟
بسبب منحناه التطوري الخاص، افتقد الإسلام منذ النشأة الأولى شرطي الاستقلال والقدرة على الاكتفاء الذاتي لحفظ وتنمية بقائه بالتوازي مع تنظيمات أخرى وتحديداً السياسي، ليسلك الإسلام طريقاً معاكساً لما قد سلكته المسيحية الغربية. لم ينجح الإسلام في تشكيل تنظيمه الروحاني الخاص بالتوازي مع سواه من التنظيمات الأخرى وخصوصاً السياسي. لذلك، لم يكن في الإسلام لا بابا ولا كهنوت، ليس لأن الإسلام لم يرد تطوير مثل هؤلاء لكن لأنه قد حاول وفشل؛ لم ينجح الإسلام في تشكيل التنظيم القادر على إعالة أي من هؤلاء. والحال كذلك، اكتفى الأئمة والفقهاء المسلمون بملازمة الخليفة (الإمبراطور) كظله، كحيوانات طفيلية لا أمل لها في النجاة من دون عائلها. وقد تمخض عن ذلك ميلاد كيان ديني طُفيلي تحت مسمى ’الدين الرسمي‘ الذي لا يزال مُعمراً معنا إلى اليوم.
بسبب هذا المصير الواحد غير المنفك بين السياسي والديني، الدنيوي والروحاني، لم يشهد الإسلام كدين حراكاً يُذكر إلا بالتوازي والتزامن مع الحراك على المستوى السياسي. عاش الفقه الإسلام أزهى عصوره خلال الفترات نفسها التي قد شهدت أشرس الصراعات السياسية بين الخلفاء (الحكام) المسلمين المتعاقبين، من الراشدين إلى الأمويين وانتهاءً بالعباسيين. لكن بمجرد أن انطفأت نيران الصراعات السياسية، انطفأت معها أيضاً جذوة الحيوية الفقهية، ليجثم الاستعمار والجمود والتخلف بكل ثقله وظلمته على الدارين الإسلاميتين السياسية والدينية معاً دفعة واحدة وفي الوقت نفسه.
رغم التداخل والتضارب المتوقع في الاختصاص بين الحيزين الدنيوي والروحاني، الإمبراطوري والباباوي، على خلفية كونهما يمثلان رأسين شبه متكافئين في القوة لنفس الجسد الأوروبي الواحد، إلا أن القول الفصل والأخير في المسائل الدينية كان غالباً يصب في كفة البابا. كان باستطاعة الكهنوت المسيحيين، مثلما يفعل نظرائهم المسلمين، ملاحقة واستتابة واضطهاد كل من يخرج عن الخط الديني المرسوم بحبر دكاترة الكنيسة، إلى حد الإدانة بتهم الهرطقة والكفر والإفساد في الأرض والخروج من الملة بما يستوجب إقامة حد الحرق حياً في أفرانها المستعرة دائماً. لكن، قبل ذلك، كانت هناك عقبة شاهقة بحق تعين على الكهنوت تخطيها حتى يصلوا إلى مبتغاهم. صحيح أن الكهنوت يمثلون قوة بفضل تنظيمهم الهرمي بقيادة البابا، غير أن قوتهم تلك وسلطتهم على أفئدة العباد تبقى روحانية لا تملك جيشاً يجسدها وتتكئ عليه. لذلك، حتى يبلغ مبتغاه وتقع اللعنة فعلاً على صاحبها، كان يتعين على البابا استمالة قوة الإمبراطور إلى صفه. أحياناً كان البابا يُفلح في مسعاه، لكنه كثيراً ما كان يفشل بسبب كثرة النزاعات وتضارب الاختصاصات والمصالح بينه وبين ألد منافسيه وأعدائه- الإمبراطور.
هكذا، في أحسن الأحوال، كان الكهنوت المسيحي لا يمثلون سوى وجه واحد للسلطة (السلطة الروحانية) بينما يجسد الإمبراطور الوجه الآخر (السلطة الدنيوية). والحال كذلك، كلما أراد الكهنوت محاربة معارضيهم الدينيين كانوا يضطرون إلى دفع الثمن الذي يقنعون به رموز السلطة الدنيوية بالاصطفاف معهم في حربهم ضد المهرطقين. كلمات اللعنات الدينية وحدها لا تكفي لحمل الكفرة ورميهم في المحارق أحياء.
إذا كان الكهنوت المسيحيون يمثلون تنظيماً مستقلاً ومكتفياً بذاته لدرجة أكسبتهم قوة روحانية هائلة على العامة، وجد الأئمة والفقهاء المسلمون أنفسهم دون تنظيم ومن ثم دون قوة روحانية تُذكر على عامة المسلمين. رغم ذلك، مارس الكهنوت المسلمون نفوذاً وتأثيراً أكبر بكثير على هؤلاء العوام. كيف؟
لغياب الجسد التنظيمي المستقل الذي يحيا ويتطور فيه الفقه الديني الإسلامي، اضطر هذا الأخير إلى اختراق تنظيماً آخر أكثر قوة من أجل البقاء ولو بصورة طفيلية. لم يجد الفقهاء المسلمون أمامهم أقوى من الخلفاء والأمراء والحكام والملوك والسلاطين المسلمين على تنوعهم واختلافهم للتطفل والاقتتات على نفوذهم وقوتهم.
كان لانسحاب الفقهاء المسلمون من المواجهة واختيارهم الاختباء تحت جلد الحكام المسلمين تبعات وخيمة على مستقبل العالم الإسلامي، كلفه ضياع نحو ألف سنة من عمره هباء. طُمست كل الحدود الفاصلة بين الحيزين الدنيوي والديني، واختلط الاثنان معاً في مَسخ لا هو إله خالص في السماء ولا هو إنس خالص كبقية البشر في الأرض. أصبح بمقدور الحكام الفصل والقطع النهائي في أعقد المسائل الدينية، وبمقدر رجال الدين اعتبار أتفه المسائل الدنيوية فرائض دينية أساسية مخالفتها من الكبائر. هكذا، أصبح كل حاكم مسلم يحمل مُفتيه الخاص مع مسبحته وقرآنه بجيبه الأيمن، وكل رجل دين مسلم يُخبئ تحت عباءته سيف الحاكم. النتيجة، تقلصت إلى حد الضياع آفاق وفرص الاختلاف والانشقاق والتجديد على الصعيدين السياسي والديني معاً وبضربة واحدة.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تُنجب المسلمة من هندوسي؟
-
دعوة التوحيد
-
بين الوطنية واللصوصية- أزمة دولة ناصر
-
لماذا فشلت الجمهوريات الثورية ونجحت الممالك الرجعية؟
-
خيبة الأمل في 23 يوليو
-
المصريون بين طرحةً ناصر وحجاب المُرشد
-
شكوى إلى الله ضد إسرائيل
-
في الدولة جنة الإنسان على الأرض، أو هكذا ينبغي
-
ما هي حقيقة الدولة؟
-
هل كانت 30 يونيو ثورة؟
-
هل كانت 25 يناير ثورة؟
-
الثورة بين الحقيقة والمجاز
-
هل كانت 23 يوليو ثورة؟
-
هل مصر دولة ديمقراطية؟
-
الساداتيىة وتهافت الأنظمة الثورية
-
الله حائر بين اليهود والفرس
-
عن طبيعة الجسم السياسي
-
هل الثورة اختيار حقاً؟
-
هل ينتج الاستبداد تنمية مستدامة؟ (1)
-
الضمير بين الوعي والدين (3)
المزيد.....
-
القمة العربية الإسلامية تدعو إلى مراجعة العلاقات مع إسرائيل
...
-
ملاحظات إيران على بيان القمة الإسلامية العربية بشأن العدوان
...
-
قمة الدوحة العربية الإسلامية تدعو لإعادة النظر في العلاقات م
...
-
قمة عربية إسلامية تفتح الباب لدول لمراجعة العلاقة مع إسرائيل
...
-
البرلمان العربي يرحب بمخرجات القمة العربية الإسلامية: عكست و
...
-
متكي:-إسرائيل-تسعى لإبتلاع المنطقة وعدوانها على قطر إنذار لل
...
-
تضامن عربي ودعوة لتحرك المجتمع الدولي.. ماذا جاء في البيان ا
...
-
السفير حسام زكي: القمة العربية الإسلامية رسالة تضامن واسعة م
...
-
ولي العهد السعودي يشيد بنتائج القمة العربية الإسلامية الطارئ
...
-
الشيخ تميم بالقمة العربية-الإسلامية: سنبذل ما بوسعنا للرد عل
...
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|