|
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 19:24
المحور:
الادب والفن
تتخذ مجموعة "هاجس الزوال" للشاعر جابر السوداني، الصادرة عن دار السرد، لعام 2025 موقعها بوصفها تجربة شعرية تنبض بمرارة الوعي، وحمولة الذات المتعبة، وتطلعات الإنسان المحاصر بشتى أشكال الفقد، والخذلان، والاغتراب. المجموعة تحتوي على خمسين نصًا، تشكل بنية متكاملة لها، إلا أن القارئ لا يعثر على تنوع شكلي أو لغوي متكلف بقدر ما يواجه مشهدًا واحدًا متغير الظلال، متكرر الوجع، تمتزج فيه نبرة الاعتراف بتأمل فلسفي خافت، وتبرز فيه اللغة لا كبطلة، بل كأداة مقاومة، كأن القصائد كُتبت على حافة الانطفاء، أو في لحظة هدوء موشكة على الانهيار. منذ النص الأول، "اليأس"، يرسم الشاعر معالم عالمه الشعري: وحدة طاغية، صورة مترنحة تشبه سكرانًا تائهًا في قلب الإعصار، ذات تبحث في العتمة عن مرآة لا لتتزين، بل لتتحقق من وجودها. هنا، الكائن لا يملك حتى وجهه، ولا يستطيع أن يراه. وفي هذا التوهان المبكر، تتأسس بقية النصوص التي تمضي تباعًا، كأنها دفاتر اعتراف لذات أنهكها الزمن، أو دفاتر مقاومة صامتة لزمن فقد منطقه. تمضي النصوص بعد ذلك في تثبيت محورين أساسيين: الغربة بوصفها نمط حياة، والمرأة بوصفها استثناءً جمالياً أو وجودياً في عالم قبيح ومهدوم. في "حورية دائمة"، لا يكتب الشاعر عن المرأة كموضوع رومانسي تقليدي، بل بوصفها تجلٍ دائم للحنين، رمزًا للثبات في مقابل كل شيء يتغير ويتآكل. تتجلى صورة المرأة كزهرة "جورية ندية التويج"، وهو توصيف ذو دلالة مزدوجة، إذ هو من جهة استحضار لجمال الطبيعة، ومن جهة أخرى تلميح إلى الهشاشة التي تصاحب كل ما هو نديّ، وكل ما هو جميل بطبيعته. ولا ينفصل حضور المرأة عن حضور الشاعر ذاته، الذي "لم يزل كما هو، يطوف بها"، كأن العلاقة بين العاشق والمعشوق لا تحددها شروط الواقع، بل طقوس وجدانية أبدية، كأنها طواف لا يكتمل، ولكنه يبرر ذاته في الدوران ذاته. وفي انزياح واضح من الخاص إلى العام، يتجه الشاعر إلى بؤرة مجتمعية في نص "عيد المرأة"، حيث يعكس مشهدًا نسويًا مأساويًا لا يحتمل الزينة، ولا الأمل، بل يفيض بأسى متراكم. إن تصويره للثكالى، المتلفعات بالسواد، المتعبات على الدوام، يعكس نظرة ناقدة لنظام ثقافي واجتماعي لا يمنح المرأة حتى "فرحة العيد"، في إشارة واضحة إلى تهميش الفرح لدى من يحملن أعباء الفقد والحرب والتهميش. لا تأتي هذه الصورة من باب الشكوى، بل من باب التوثيق الشعري لوجع يتكرر بصمت، ويتحوّل مع الوقت إلى جزء من النسيج النفسي لجيل كامل. يتكرر سؤال الإرادة والحتمية في نص "غواية لا تنتهي"، حيث يعلن الشاعر أنه لا يتمسك بمن يختار الرحيل، ولكنه يعود ليعترف بأن الدروب تقوده عنوةً إلى تلك التي تركته. هذه المفارقة بين القول والفعل، بين الموقف الداخلي والمسار الخارجي، تعكس أزمة أعمق في بنية الوجود: أننا لا نملك سوى الظن أننا نختار. كل شيء، في النهاية، مسيّر بدروب لا نرسمها، بل نسير فيها كأنها قد كُتبت علينا قبل أن نولد. وهذا البعد القدري يظهر في عدة نصوص أخرى، ويعطي المجموعة ملمحًا وجوديًا محبطًا، لكنه شديد الصدق. في "قنوط"، تظهر الذات في أوضح صور تآكلها. يقول: "روحي على روحي تنوح، وحكايتي وجع ممض"، وهي جملة تلخص التوحد الكامل بين الداخل والخارج، بين السارد والمسرد، إذ لا مسافة تفصل بين المعاناة ومن يرويها. الغرباء لا يسمعون، والحياة لا تكافئ، والشاعر لا ينتظر خلاصًا، بل يسرد الهزيمة لا بوصفها حدثًا، بل بوصفها مصيرًا. هذه القصيدة، في بساطتها، تحمل طبقات من الألم، وترسم ملامح ذات بلغت مرحلة ما بعد الرجاء، حيث كل شيء تحوّل إلى صدى بلا أثر. يعود الشاعر لاحقًا في نص "الحقيقة" ليخوض في تأمل كوني، حيث "الوميض القادم من أغوار المجرات السحيقة" يوحي له بأن الظلام ليس سوى هباء. في هذا المقطع، ترتفع القصيدة من المستوى الذاتي إلى بعد فلسفي، يحاول فيه الشاعر أن يخلق يقينًا ضمن اللا يقين، أو أن يستأنس بفكرة أن كل ما نخشاه – كالموت، والعدم، والظلام – قد يكون بلا قيمة، مجرد وهم مضخّم لا أكثر. إنها محاولة لإعادة التوازن للذات، عبر استدعاء المجهول، ولكن المجهول هنا لا يُخيف بقدر ما يعزّي، لا يهدد بل يفسّر. ثم تأتي قصيدة "ناقوس الأفاعي" كواحدة من النصوص التي تترجم الحياة إلى طقس دائري من الانتظار والمقاومة الصامتة، حيث يقول: "كنت أجتر انسحاقي دون جدوى، كنت أمضغ صبر أيامي وأمضي". هنا يتخذ الصبر شكلًا مرًّا لا يُنتج إلا الاعتياد، والعبور لا يحمل خلاصًا بل استمرارًا لرحلة لا هدف لها. ليست القصيدة احتجاجًا، بل تقريرٌ شعري عن مأزق الإنسان الذي لا يعرف كيف يخرج من دوامته، لأنه لا يملك اتجاهًا آخر. هذه الاستمرارية الموجعة، والمرهقة، لا تُروى بأسى مفتعل، بل تُطرح ببساطة قاتلة، كأن ما يُتعب الشاعر ليس الألم ذاته، بل تكراره الفارغ من المعنى. وتأتي أخيرًا قصيدة "الجيل الأخير"، بوصفها محنة وجودية لجيل مشرد، هو "ابن الفجائع"، الذي تم دهسه تحت "أقدام الطفولة الحافية". هذا النص لا يكتفي بالوصف، بل يعلن انتماءً شعريًا إلى جيل كامل لم يُمنح فرصة الطفولة ولا براءة البدايات. المفردات هنا كثيفة بالرمزية: الطفولة تمشي حافية، والأقدام تُداس، والأمل يبدو ضئيلاً، كأن الشاعر يتحدث لا عن فئة من الناس، بل عن شعور عام باللا جدوى. الجيل الأخير، بهذا المعنى، ليس فئة عمرية، بل حالة وجودية، تعاني من تأخر المعنى، ومن عطب التاريخ. إن "هاجس الزوال" ليست مجرد مجموعة شعرية، بل مسيرة عبر الألم، عبر خيبات صغيرة وكبيرة، عبر علاقات مكسورة، ووطن ضائع، وذات ما تزال تنبض فقط لأن الشعر يسمح لها بذلك. الكتابة هنا ليست من باب الترف، بل هي دفاع أخير ضد الانهيار، وهي محاولات لا تنتهي لإيجاد سبب للبقاء في عالم لم يعد فيه اليقين ممكنًا.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
-
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
-
دلالة الزمن في السرد
-
المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
-
المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
-
النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
-
المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
-
نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد
...
-
تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
-
المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
-
جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
-
المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
-
المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
-
القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
-
المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
-
أوجاع غير قابلة للغفراف
-
الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
-
هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
-
المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
المزيد.....
-
تحديات جديدة أمام الرواية الإعلامية حول غزة
-
وفاة الفنان السعودي حمد المزيني عن عمر 80 عامًا
-
حروب مصر وإسرائيل في مرآة السينما.. بطولة هنا وصدمة هناك
-
-لا موسيقى للإبادة الجماعية-.. أكثر من 400 فنانا يعلنون مقاط
...
-
الأوبرا في ثوب جديد.. -متروبوليتان- تفتتح موسمها بعمل عن الأ
...
-
الصّخب والعنف.. كيف عالج وليم فوكنر قضية الصراع الإنساني؟
-
تايلور سويفت تعود لدور السينما بالتزامن مع إصدار ألبومها الج
...
-
تجمع سوداني بجامعة جورجتاون قطر: الفن والثقافة في مواجهة مأس
...
-
سوار ذهبي أثري يباع ويُصهر في ورشة بالقاهرة
-
جان بيير فيليو متجنياً على الكرد والعلويين والدروز
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|