أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - خفافيش النهار














المزيد.....

خفافيش النهار


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 15:07
المحور: الادب والفن
    


المدن القديمة هي أرواحٌ في أجساد العابرين، أولئك الذين يتخطون الهزيمة بمشاعرَ ملتبسة. فليست الحجارة والأحياء وحدها من يجرفها المدّ وينهزم، بل أهلها أيضًا، بمختلف أنسابهم وأعراقهم، وأرواحهم التي تتشبث بالبقاء.

الخفافيش لا تعود كطائر منسيّ، بل أفواجًا من رُزَم الذاكرة، محشوّةً بالخيبات والوعود المعطلة. كرقصاتٍ طقوسية لهواةٍ من زنوج إفريقيين، توارثوا الدفوف والطبول والمزامير، يائسين من صبر الأرض وضراوة الجوع، ومن ظمأ الكائنات الحية والبشر الكاظمين غيظهم.

فلنترقب، فمن هنا يبدأ الحكم، ومن هنا يُطلَق الصَّارخ.

إنها مدينة تكشف عن ماضيها العاري، رحل أهلها، ومع السنين أصبحت ديارها أطلالاً تصحو على أصوات تشبه الأحلام، وطرقاتٍ لا تنتمي لذاتها، محوّرة في شكلها الغريب المنسيّ. لندرك جيدًا: الدمار ليس عودة تلك الخفافيش السوداء من الخارج فحسب، بل هي صور تعيد إليها ماضيها الغارق في نهرٍ ماؤه أسود، لا ينتمي إلى زمنٍ ولا مكان.

تستلقى المدينة نائمة، وهواؤها كثيفٌ بنُذُرٍ دارةٍ بالمطر، تغطُّ في نومٍ مع الندى المتغلغل في جوف الأحياء. إنها أزقةٌ وحاراتٌ معتمة، وبيوتٌ تتنفس بفراغٍ بارد، وبصوتٍ مخنوقٍ خافت. أبوابها المتآكلة، مع جدرانها، تخور في مستنقع آسنٍ يرتجف عند أول نقرة.

نقرةٌ صارخة، غريبة، لا توحي بأنها من بشر… إنها عيون الخفافيش وأجنحتها التي تهزُّ الجدران، وتضرب الأبواب والخشب، متواطئة مع ذاتها، متناغمة مع الدمار والخراب.

كل ما في المدينة يتقارب ويكاد يذوب، ولا يتنفس بحرية معتادة. الخفافيش تأتي أسرابًا متتالية، تظلِّل المدينة وتخنق السماء، تحجب النور والغيوم والرياح والمطر، تحجب الجدران وتغلق الشبابيك والأبواب والمنافذ. يغمر السطوحَ البريئةَ غمامٌ أسود، ويخلف بعده ضبابٌ وغبارٌ يمتد ويلتصق بالأجساد والرؤوس النافقة. أصوات المسافات والخطوات تتكسر مع استثقال السير والطريق.

كأن السماء سكنت، والأرض فقدت عمقها ووجودها الأزلي، وفقدت ذاكرتها.

ما لم يكن في الحسبان: خوف الأبنية من سطوة الخفافيش. تتسلق المآذنَ والأبراجَ والجُورَ الدفينةَ والشقوقَ والجدرانَ، تركع تحت سطوة الألغاء. أحجارها تتساقط كدمعٍ بلا جسد، أو كدمعةٍ ساخنة. والطيور تهرب شاردة إلى فضاءات مجهولة، تتشبث بالبقاء وتأخذ من الحياة سراجًا بلا نور. الحدائق والبساتين تتآكل ويصفر لونها، تتحول إلى صحراء راهبة، تفقد عناوينها وتتشظى في الهواء المستلب.

وفي جذور الأشجار، ينبت ظلٌ ثقيل، مداده أجنحة الخفافيش وبرازها الأسود.

وجوه مكفهرة تتراكم عند أبواب الظل الفارغ، المتصل بالفراغ. ما يلفت النظر: خوف الأمهات اللاتي يخفين خوفهن في المحاجر والقلوب الخاوية، والأطفال ببراءتهم يرسمون دوائر بأيديهم الصغيرة، كأنهم يستحثون الأرض ويخاطبون السماء، يطلبون كسرة ضوءٍ بطعم الخبز الطري. الرجال يتوزعون في الأزقة، حاملين على ظهورهم سِمات البقاء والانتظار.

أسراب الخفافيش لم تكن استباحةً وغزوًا فقط، بل هي وجه آخر مفتوح، فيه من الاحتمالات ما يملأ الكتب والروايات التي أعاد سردها الأجداد والجدات حين يحلُّ النوم وقت الفواجع.

الوجه الآخر يعكس للمدينة تاريخًا، لحظة الهروب في ظل الخفافيش السوداء، لحظة عطشٍ مغروسٍ بالإثم، وجوعٍ يتوارث من زمن إلى زمن، ووجوه لا تعرف غير الغياب والحضور.

أسراب الخفافيش لم تنته، مستمرة، لن تتوقف، تُسبغ السماء بلونها الرمادي الأسود. أجنحتها تَنْطِع بعبارة دائرة سَطْوٍ، تحدث صوتًا كالرمال المهزومة من شراسة اللون الأسود. الجلبة التي تثيرها تشبه دعاء راهبٍ ظَلَّ الطريق، وصلاته التي تعلن للبشرية: "الوَجْدُ ضياع، والخلودُ هراء، واللون الأسود قد لا يتكرر."

نامت المدينة على أحجار صامتة. الخفافيش ينحاز كأنه منهزمٌ لم يأتِ. بيد أن آثاره تبقى تدنّس المدينة والأزقة والشوارع، تاركةً متاعها الأسود على الجدران والسطوح والمنازل، يبقى معلقًا في الهواء أيضًا.

غير أن المدينة تستعيد إرثها، وتخطو، وتعود، تسقط مرة أخرى، ومن جديد، وتلد الكرة. كأن النهاية لم تكن سوى بداية، وعهد جديد، لوجودٍ باقٍ لا ينتهي.



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناجاة في السواد
- أسطورة الصوت المقطوع
- ذات مساء – مدينة الطائر
- موسم الذباب
- يا زُهْدي
- صيحات ومآسي الأرض
- عزف منفرد
- ما وراء الوجود
- مسطبة البقاء
- وردة وربابة بيضاء
- حزين
- تَرَاتِيلُ الفَجْرِ وَاللَّيْل
- المهدِ واللَّحْد
- إهْدَاء
- نُبُوءَات فِي نَارِ المَعَارِك
- غزّيون إنجاب
- الصف اللامنتهي
- محطات ساكنة
- رحلة الظامئ إلى القبر المهجور
- **.جدارمهملة .**


المزيد.....




- شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
- موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- أبحث عن الشعر: مروان ياسين الدليمي وصوت الشعر في ذروته
- ما قصة السوار الفرعوني الذي اختفى إلى الأبد من المتحف المصري ...
- الوزير الفلسطيني أحمد عساف: حريصون على نقل الرواية الفلسطيني ...
- فيلم -ذا روزز- كوميديا سوداء تكشف ثنائية الحب والكراهية


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - خفافيش النهار