صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 15:33
المحور:
الادب والفن
مقامة الطروس :
لفت انتباهي عنوان كتاب د . رشيد الخيون (( طروس أخر من التراث )) , وكلمة ((الطِّرْسُ )) تعني الصحيفة أو الكتاب الذي مُحيت كتابته ثم أُعيدت الكتابة عليه , وقد تأتي بمعنى (( فعل الكتابة )) , أو (( فعل المحو )) حسب السياق , وجمعها (( طروس )) , أو (( أطراس )) , والفعل من المادة هو (( طَرَسَ )) بمعنى كتب أو محا , و(( طَرَّسَ )) بمعنى شدد المحو أو إعادة الكتابة. وتُستخدم الطروس عادة من الرقوق (جلود الحيوانات) نظرًا لقدرتها على تحمل الكشط والغسل , مما يسمح بإعادة استخدامها مرات عديدة , ومخطوطات صنعاء هي مثال شهير على الطروس , حيث توجد مخطوطات قرآنية مكتوبة فوق نصوص أقدم , وكان الصحابة يفضلون الكتابة على البردي , أما الأمويون ففضلوا الرق لأنه يسمح بالكشط وإعادة الكتابة , بينما أمر هارون الرشيد بتحرير الوثائق الرسمية على الورق لأنه لا يقبل التزوير أو المحو.
تُظهر الطروس التاريخية عمليات إعادة كتابة النصوص فوق بعضها البعض , مما يعكس قيمة المواد التي تحتويها , وفي الحديث : كان النَخَعِيُّ يأْتي عبيدة في المسائل فيقول عبيدةُ : طَرِّسْها يا أَبا اِبراهيم أَي امْحُها , يعني الصحيفة , يُقال: طَرَّسْتُ الصحيفة إِذا أَنعمت محوها , وطَرَسَ الكتابَ : سَوَّده , وعن ابن الأَعرابي : المُتَطَرِّسُ والمُتَنَطِّسُ المُتَنَوِّقُ المختار , وقال المَرَّارُ الفَقْعَسي يصف جارية : (( بيضاءُ مُطْعَمَةُ المَلاحةِ , مِثْلُها لَهْوُ الجَليسِ ونِيقةُ المُتَطَرِّسِ )) , وقد وردت هذه الكلمة في أشعار يزيد بن معاوية : (( مَتى تَنْسُجِيها مِنْ غَزْلِها يَتَكَشَّفُ *** كَأَطْراسِ صُحُفٍ في مَناطِقِها تَخالِفُ)) , في هذا البيت , تشبه الصحائف (الأطراس) بالصفحات التي بها اختلاف, كما وردت أيضاً في قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي : (( فَكَأَنَّهَا إِذَا تَنَاطَرَتِ المُسْتَحِيلَةُ *** سِهَامٌ يَتَلُّقُهَا صُدُورُ أُطْرَاسِ)) , وهو هنا يصف هنا الطروس بأنها تجمع الصفحات المتناثرة التي تحمل السهام , و قول الشاعر لبيد بن ربيعة : (( وَالْأَيْمُ تَتْرُكُهَا كَأَنَّ بِهَا *** أَثَرَ الْأَسَفِّ وَبَعْضُ مَا طَرَسَا)) , يشير إلى أن الأيام تترك آثاراً على القلوب , كأنها طروس غُطيت ببعض الأثر الممتع. كلمة "طرس" تُعدّ من المفردات الشائعة في الأدب العربي القديم، وتدل على استخدام الصحف والكتب في العصور الأولى.
نعود لرشيد خيون , حيث يتعمق كتابه (( طروس من تراث الإسلام )) في الأرشيف التاريخي الغني والمتعدد الأوجه للحضارة الإسلامية , ويفحص بهذا العمل العميق بدقة مخطوطات ونصوصًا منسية مختلفة , مسلطًا الضوء على السرديات والأفكار والأحداث التي شكلت المشهد الفكري والثقافي للعالم الإسلامي , ويتنقل الخيون , بصرامته العلمية , عبر حقب تاريخية معقدة , مقدمًا فرصة فريدة لاستكشاف تعقيدات الفكرالإسلامي وتطوره , حيث يعتبر الكتاب موردًا حيويًا لفهم الجوهر الحقيقي للتراث الإسلامي , وتحدي الآراء التقليدية وتعزيز تقدير أعمق لمساهمات الأجيال السابقة, ونحن نعلم ان رشيد الخيون هو كاتب علماني يسعى لتأصيل العلمانية في التراث الإسلامي .
يقف مشروع رشيد الخيون البحثي والثقافي مثل جسر يصل بين الماضي والحاضر بكل إشكالياتهما , فهو باحث دؤوب يبني جسورا نقدية متينة بين الماضي والحاضر , مع كشف النقاط المضيئة في التاريخ الإسلامي والبناء عليها , لإنقاذ الحاضر من التصورات القاصرة للتاريخ والتي أقحمت العرب في فهم منقوص لماضيهم بل هو فهم مشوّه , وهذا ما يقاومه الباحث بدقة وإصرار, إيمانا منه بأن معالجة الحاضر لا تأتي إلا من خلال معالجة نظرتنا إلى ماضينا بعقلانية وتوازن , ولذا فهو يواصل الحفر في الحضارة الإسلامية بحثا عن الحقائق , وهولا يقف في بحوثه عند المظاهر المضيئة في الحضارة الإسلامية بل يقدم رؤاه النقدية والكاشفة , بتحقيقه لواحد من أهم مصنفات الحضارة الإسلامية , ويواصل الحفر في المناطق البعيدة من الحضارة الإسلامية وكشف دررها وأخبارها وإعادة طرح أهم القضايا الفكرية والدينية , التي تثبت ثراء الحضارة العربية وحركيتها التي منحتها المجد في أوقات سابقة.
لا يقف الخيون عند المظاهر المضيئة في الحضارة الإسلامية فقط , بل يقدم رؤاه النقدية والكاشفة , إذ لا يسقط مثلما يفعل الكثير من الباحثين في التمجيد إلى حد التزييف , بل يستكشف مظاهر كثيرة مجهولة , ويعيد إحياءها والبحث فيها لتأسيس خطاب نقدي للواقع العربي اليوم , إذ يعود إلى الماضي لنقد ظواهر أحبطت النهضة العربية مثل التشدد والتطرف والانغلاق ومقاومة التجديد وغيرها , ويؤكد أن الأزمة ليست في التراث بحد ذاته , بل في طريقة التعامل معه وقراءته , لذلك , يسعى إلى استخدام منهج نقدي تحليلي يركز على سياقات النصوص التاريخية وأسباب نزولها , وذلك حتى يُمكن إحياء روح الاجتهاد والعقلانية في الفكر الإسلامي, ما يفتح المجال لفهم منفتح يتناسب مع مصالح الناس في كل زمان ومكان , ويرى أن التجديد في قراءة التراث (( أساس إصلاح الخطاب الديني )) , وتحريره من الأيديولوجيا المتشددة التي أدت إلى العنف والتكفير , وتجاهل أن الدين رحمة وتسامح وليس أداة قمع وسيطرة , ويؤكد على أهمية الحوار الداخلي والحوار مع الآخر, لا سيما في عصر العولمة التي قاربت بين الشعوب وبين الثقافات والحضارات المختلفة .
في طروسه , يرى الخيون مثلا , أن المعتزلة في الفكر الإسلامي مثلوا (( نموذجاً تاريخياً للعقلانية والتنوير )) , لأنهم (( قدموا العقل على ما سواه )) , وجعلوه أولوية في الفكر, وركزوا على تحرير العقل من قيود النصوص الجامدة , ويذهب إلى أن المعتزلة قدمت العديد من المقولات الأكثر تقدماً من الواقع الحالي , ويرى أن فرقة المعتزلة لو تمكنت من الاستمرار لكان تطور العلوم والاختراعات عند العرب أسرع بكثير, ويوضح أن ما ذهب إليه المعتزلة كان محاولة لاستعادة (( روح الاجتهاد )) , و(( حرية المكلف )) التي فُقدت في عصور لاحقة , ويدرس العلاقة بين الدين والسياسة وفق منظور تاريخي نقدي , يعيد النظر في التاريخ الإسلامي وصولاً إلى الحركات الإسلامية المعاصرة , ويرى أن الدولتين الأموية والعباسية استخدمتا الدين كأداة سياسية , وتجاهلا دوره كعقيدة روحية , فالأمويون والعباسيون استخدموا الخطاب الديني بطرق مختلفة لخدمة أغراضهما السياسية , الأمر ذاته الذي تمارسه الحركات الإسلامية المُعاصرة , ويؤكد أنه لا وجود للدولة الدينية في الإسلام , وأن خلط الدين بالسياسة خلق حالة من تقديس الممارسة السياسية عند الإسلاميين , فأصبح أي نقد للممارسات السياسية لهذه التيارات الإسلامية نقداً للدين نفسه , الأمر الذي يقف حائلاً ضد التطور ويبرر العنف.
ويتفق الخيون مع الشيخ الأزهري علي عبدالرازق (1888 - 1966م) , الذي ذهب في كتابه (( الإسلام وأصول الحكم )) إلى أن الخلافة ليست من أصول الدين , وربطها بالدين تسييس للدين , لذلك , يرفض ما تسعى إليه الحركات الإسلامية المُعاصرة من بناء (( دولة إسلامية )) , إذ يرى أن الهدف منها فرض السيطرة وإلغاء العقل ومحاربة المدنية والتفكير العلماني , وختاماً , يشدد المفكر العراقي رشيد الخيون على أهمية العقل , ويطلق عبارته الشهيرة (( لا إمام سوى العقل )) , ويدعو إلى تحريره من سيطرة الأيديولوجيا بأنواعها , ويرى في أن هذا التحرر العقلي أساس أي نهضة حقيقية , إضافة إلى دعوته إلى بناء فكر عربي نقدي معاصر, قادر على مساءلة ذاته والتعامل مع التحديات المُعاصرة بمنهج عقلاني , ويدعو إلى التعايش والحوار مع الآخر, ويشدد على أهمية التسامح الديني خصوصاً في عصر العولمة الذي تتقارب فيه الشعوب وتختلط , ويدعو إلى (( الحداثة المفيدة )) التي تحقق مصالح وأهداف المجتمع العربي.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟