|
رواية : كوميديا الفردوس السومري..رواية تاريخية
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 22:50
المحور:
الادب والفن
مقدمة :
في البدء، لم تكن الحضارات سوى تراكمات بشرية، تتناقل المعرفة كما تتناقل النار من يد إلى يد، لا تنطفئ بل تتوهج كلما عبرت من أمة إلى أخرى. من سومر إلى أثينا، ومن بغداد إلى قرطبة، ومن فارس إلى جنوى، كانت الفكرة تُصاغ وتُعاد صياغتها، تُشرح وتُفسر، تُنقح وتُترجم، حتى ظن الغرب أنه مبتكرها لا وارثها.
هذه الرواية ليست عن دانتي وحده، ولا عن المعري وحده، بل عن ذلك الخيط الخفي الذي يربط رسالة الغفران بـ الكوميديا الإلهية، وعن الفردوس الذي لم يُكتشف في فلورنسا، بل في نصوص عربية وفارسية وسومرية وبابلية سبقت دانتي بقرون، وسهرت على الجنة والجحيم قبل أن يخط قلمه أول سطر في "إنفيرنو".
في كوميديا الفردوس السومري، نعيد رسم خريطة الفكر. نكشف أن النهضة الأوروبية لم تكن انفجارًا ذاتيًا، بل كانت ارتدادًا لصدى حضارات الشرق. جنوى، البندقية، فلورنسا، لم تكن سوى بوابات عبور للمعرفة القادمة من بغداد، نيسابور، ودمشق ، وقرطبة . الشروحات العربية والفارسية للنصوص الإغريقية لم تكن هامشًا، بل كانت المتن الحقيقي الذي قامت عليه النهضة العقلية الأوروبية.
دانتي، في رحلته إلى الجحيم، لم يكن أول من تخيل العالم الآخر. المعري سبقه في رسالة الغفران، حيث حاور الشعراء في الجنة والنار، وناقش مصائرهم بلغة فلسفية ساخرة، عميقة، ومتفردة. لم يكن دانتي إلا وارثًا لهذا الخيال، وإن غلفه بلغة لاتينية وأسلوب مسرحي.
كولومبوس، حين أبحر نحو العالم الجديد، لم يكن يقود مغامرة أوروبية خالصة. كانت خرائطه عربية، ومفاهيمه عن الجغرافيا مستمدة من علماء المسلمين. حتى الحروف التي كتب بها الأوروبيون تاريخهم، كانت في أصلها عربية، متفرعة من خطوط الكوفة والبصرة، قبل أن تُعاد تشكيلها في مدارس الرهبان.
الخوارزمي، حين اخترع الصفر، لم يكن يعلم أنه يضع حجر الأساس لللغة التي ستقوم عليها الآلة، الحاسوب، والإنترنت. لكن الغرب، في سعيه لتبرير استعمار الشعوب، اخترع مركزية أوروبية تقوم على أسس عنصرية، تنكر هذا التراكم، وتدّعي التفرد.
في هذه الرواية، نعيد الاعتبار للتاريخ الحقيقي. نكشف أن الفردوس لم يكن في الغرب، بل في الشرق الذي علّم الغرب كيف يحلم. كوميديا الفردوس السومري ليست مجرد سرد، بل هي تفكيك، إعادة بناء، ومواجهة مع سردية مزيفة طالما تجاهلت جذور النهضة، وأصّلت لهيمنة ثقافية لا تستند إلى أساس تاريخي.
……….
الفصل الأول: أمواج الشرق في موانئ الغرب
في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، حيث كانت أمواج البحر المتوسط تتلاطم بقوة ضد صخور الموانئ الإيطالية، كانت مدينة جنوى تنبض بحياة تجارية لا تهدأ. كانت الشمس تشرق على أبراجها الحجرية الشاهقة، وأعلامها الحمراء ترفرف فوق السفن الخشبية الضخمة التي تحمل أسماء قديمة مثل "النجمة الشرقية" أو "رياح دمشق". جنوى، هذه الجوهرة الليغورية، لم تكن مجرد ميناء؛ بل كانت بوابة أوروبا نحو العالم الجديد، جسرًا معلقًا بين الشرق الغني والغرب الجائع للمعرفة. في عام 1310، وتحديدًا في صباح صافٍ من أيام الربيع، وقف أنطونيو دي جنوفا على رصيف الميناء الرئيسي، يراقب عودة إحدى السفن من رحلتها الطويلة إلى صقلية. كان أنطونيو شابًا في الثلاثين من عمره، ذا لحية خفيفة سوداء وعيون حادة كسيف داماسقي، يرتدي رداءً من الصوف الأندلسي المطرز بخيوط ذهبية. كان تاجرًا من عائلة قديمة في المدينة، تعود جذورها إلى أيام الصليبيين، لكنه لم يكن يفخر بتلك الذكريات العنيفة؛ بل كان يرى في التجارة السلامة الحقيقية، والمعرفة الثراء الأبدي.
الرياح الباردة من الشمال كانت تحمل رائحة الملح والتوابل، رائحة تجمع بين أسرار بغداد وقرطبة ودمشق. جنوى، مع أخواتها البندقية وبيزا، كانت قد بنت إمبراطوريتها البحرية على أكتاف الحضارة العربية. لم تكن هذه المدن الإيطالية مجرد مراكز تجارية؛ بل كانت أساس الحضارة الأوروبية الناشئة، مستمدة قوتها من الحصارات العربية التي لم تكن دائمًا للحرب، بل لنقل المعرفة والسلع. في دمشق، عاصمة الخلافة الأموية ثم العباسية، كانت الأسواق تموج بالعلماء والتجار، يتبادلون الخرائط والكتب والأدوية. وبغداد، مدينة السلام، كانت بيت الحكمة فيها يجمع مترجمين من كل الأمم، يحولون النصوص اليونانية إلى العربية، مضيفين إليها شروحات أعمق وأدق من الأصل نفسه. أما قرطبة، جوهرة الأندلس، فكانت تحتضن مكتبات تضم مئات الآلاف من المجلدات، حيث كان ابن رشد وابن سينا يفسرون أرسطو بطريقة تجعل الفيلسوف اليوناني يبدو كطفل أمام حكمتهم.
أنطونيو، الذي كان قد قضى أشهرًا في صقلية، عاد محملًا بصناديق مليئة بالتوابل والحرير، لكنه كان يحمل في قلبه شيئًا أثقل: كتابًا متهالكًا، نسخة مترجمة جزئيًا من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. كان قد اشتراها من تاجر عربي في ميناء باليرمو، رجل يدعى أحمد بن يوسف، قادمًا من قرطبة. في تلك الليلة الباردة في صقلية، جلس الاثنان تحت ضوء مصباح زيتي يتمايل مع الريح، يتحدثان بلغة مزيج من اللاتينية والعربية. "المدن الإيطالية مثل جنوى بنيت على أكتاف العرب"، قال أحمد بن يوسف، وهو يفتح الكتاب بلطف، كأنه يلمس كنزًا مقدسًا. "حصاراتنا في دمشق وبغداد لم تكن للحرب فحسب، بل لنقل المعرفة. خرائطنا رسمها الإدريسي وابن حوقل، ووصلت إلى كولومبوس بعد قرون، لتكتشف بها العالم الجديد. وحبرنا، الذي صنعناه من عفص البلوط والزاج، أصبح أساس كتبكم ومخطوطاتكم. أما الرياضيات، فالصفر الخوارزمي هو أساس كل حساب، بل أساس الإنترنت الذي ستشهدونه يومًا ما، حيث يعتمد على الثنائي: صفر وواحد."
أنطونيو استمع بصمت، عيناه مثبتتان على الصفحات البالية. كان يعرف دانتي، الشاعر المنفي من فلورنسا، الذي ينقل في "الكوميديا الإلهية" رؤى للعالم الآخر مستوحاة من مصادر شرقية. الشبه بين الاثنين كان واضحًا: في "رسالة الغفران"، يقود ابن القارح رحلة خيالية إلى الجنة والجحيم، يلتقي الشعراء والأدباء، يسخر من الآخرة بنقد لاذع. أما دانتي، فيبدأ رحلته في غابة الضلال، يرافق فرجيل إلى الجحيم ثم المطهر، ثم بياتريس إلى الفردوس. السخرية من التعصب، النقد الأدبي، الهيكل الثلاثي: الجحيم، المطهر، الجنة مقابل النار، الغفران، الفردوس. "هل الشبه مجرد صدفة؟" سأل أنطونيو، صوته يرتجف قليلاً. ابتسم أحمد: "ليس صدفة. الشروحات العربية لأرسطو، التي قدمها ابن رشد وابن سينا، أهم من النصوص اليونانية الأصلية. أعادت تفسيرها لتناسب العقل البشري، ووصلت إلى أوروبا عبر صقلية والأندلس. والخرائط العربية، التي رسمها الإدريسي لروجر الثاني، أساس كل اكتشاف بحري. أما الحبر، فبدونه لا كتب، لا مخطوطات. والرياضيات، صفر الخوارزمي، أساس الجبر والحسابات التجارية. حتى في الطب، كتب علي بن عيسى عن جراحة الساد، ووصلت إلى أوروبا كأساس لطب العيون."
في تلك الليلة، تحت سماء صقلية النجلاء، شعر أنطونيو باهتزاز في روحه. كان يتذكر كيف كانت جنوى، في أوج قوتها، تمتلك مستعمرات في القرم وإسطنبول، وتتاجر مع العثمانيين والمماليك. برج غلطة في إسطنبول، الذي بناه تجار جنوى، يشهد على ذلك النفوذ. كانت السفن الجنوية تحمل الحرير من دمشق، والتوابل من بغداد، والأدوية من قرطبة. لكن أعمق ما حملوه كان العلم: الشروحات الفلسفية التي غيرت تفكير توما الأكويني، والرياضيات التي بنت الاقتصاد الأوروبي. أنطونيو أمسك بالكتاب، يقلب صفحاته بلطف. في "رسالة الغفران"، يصف المعري رحلة ابن القارح بعد موته، ينهض من القبر، يصعد إلى السماء، يزور الجنة حيث يلتقي الشعراء مثل المتنبي وابن الرومي، يناقشون اللغة والشعر، ثم ينزل إلى النار ليرى العذابات الساخرة. السخرية اللاّذعة، الاستطراد اللغوي، الاقتباسات من القرآن والحديث، كلها تجعلها أول قصة خيالية عربية، كما قال طه حسين.
أما "الكوميديا الإلهية"، التي كتبها دانتي بين 1307 و1321، فهي ملحمة شعرية مكونة من 100 نشيد، ثلاثة أجزاء: الجحيم (Inferno)، المطهر (Purgatorio)، الفردوس (Paradiso). يبدأ دانتي رحلته في منتصف عمره، ضالًا في غابة، يواجه الفهد والأسد والذئبة – رموز الخداع والعدو والشهوة. يأتيه فرجيل، رمز العقل، يرشده إلى الجحيم، حيث تسع دوائر من العذاب، يلتقي الملوك والشعراء والباباوات الخونة. ثم المطهر، جبل في الأوقيانوس الجنوبي، حيث يتطهر النفوس. أخيرًا، الفردوس، تسع كرات سماوية تدور حول الأرض، يلتقي بياتريس، رمز الإيمان، ويصل إلى الوردة السماوية، تاج الله. الهيكل الثلاثي مستوحى من الثالوث المقدس، لكن التفاصيل – الرحلة، الدليل، العذابات المصنفة حسب الخطايا – تشبه تمامًا رحلة ابن القارح.
مع الفجر، عاد أنطونيو إلى جنوى على متن سفينته، يفكر في كيف وصلت هذه المعرفة. كانت الحروب الصليبية، رغم عنفها، جسرًا للتبادل. في صقلية، تحت الحكم الإسلامي ثم النورماني، ترجمت الكتب من العربية إلى اللاتينية. في طليطلة، في الأندلس، كان "مدرسة الترجمة" تنقل شروحات ابن رشد لأرسطو، التي كانت أعمق من الأصل، إذ أضافت المسلمون التجارب والمنطق. أنطونيو تذكر كيف كان الخوارزمي (780-850) يُدعى "أبو الجبر"، كتابه "الجبر والمقابلة" وصل إلى فيبوناتشي، الذي نقل الأرقام العربية إلى أوروبا في 1202، مما غير الحسابات التجارية في جنوى. الصفر، هذا الرمز البسيط، أصبح أساس الرياضيات الحديثة، بل أساس لغة الإنترنت، حيث 0 و1 يبنيان العالم الرقمي.
وصلت السفينة إلى الميناء، والعمال ينزلون الصناديق. كانت جنوى مزدحمة: تجار يصرخون بلغات مختلفة، بحارة يحملون براميل الزيت من قرطبة، علماء يناقشون في الأسواق. أنطونيو توجه إلى بيته القديم في حي المدينة القديمة، حيث الشوارع الضيقة تشبه تلك في دمشق. في غرفة مكتبه، أضاء شمعة وفتح الخريطة العربية التي اشتراها من أحمد: رسمها الإدريسي في 1154 لروجر الثاني، تُظهر العالم بدقة مذهلة، من الصين إلى المغرب، مع خطوط الطول والعرض مستمدة من الرياضيات العربية. "هذه الخرائط التي سيستخدمها كولومبوس"، همس أنطونيو، متذكرًا كيف وصلت إلى جنوى عبر التجارة مع قرطبة. بدونها، لا اكتشافات بحرية، لا امبراطورية إسبانية.
لكن الشبه الأدبي كان يلازمه. في "الغفران"، يسخر المعري من الأدباء في الجنة، يناقشون النحو والشعر، كما يناقش دانتي الشعراء في الجحيم. في الاثنين، الرحلة رمز للسعي إلى الخالق، مع سخرية من التعصب. المعري، الأعمى منذ الرابعة، كتبها في محبسه، ردًا على ابن القارح، الذي طلب الشهرة. دانتي، المنفي، كتبها في غربه، ساخرًا من خصومه السياسيين. أنطونيو قرأ مقطعًا: ابن القارح يلتقي آدم، يتحدث عن اللغة الأولى، العربية في الجنة. في "الكوميديا"، يلتقي دانتي آدم في السماء الثامنة، يناقشان اللغة الأصلية. التطابق مذهل.
في اليوم التالي، زار أنطونيو السوق الكبير، حيث يجتمع التجار من كل الأجناس. هناك، التقى بصديقه لوكا، عالم رياضيات درس في بولونيا. "الصفر الخوارزمي ليس رقمًا"، قال لوكا، يرسم على لوح: 0، 1، 2. "هو أساس الجبر، الذي بنى اقتصاد جنوى. بدون الخوارزمي، لا حسابات دقيقة للسفن، لا تجارة مع بغداد." أنطونيو أومأ: "والحبر العربي؟" "صُنع من عفص البلوط، وصل عبر الأندلس، سمح بكتبنا." ثم تحدثا عن الطب: "علي بن عيسى كتب تذكرة الكحالين ، ترجمت إلى اللاتينية، أساس طب العيون في أوروبا. وابن الهيثم في المناظر شرح البصريات، أساس النظارات."
لوكا أضاف: "الحروف الأوروبية اليوم مشتقة جزئيًا من العربية، عبر الأندلس. والثنائي في الإنترنت – 0 و1 – يعود إلى الصفر." أنطونيو أظهر الكتاب: "انظر إلى الشبه: المعري يسخر من الآخرة، دانتي يسخر من التعصب. الرحلة، الدليل، النقد." لوكا هز رأسه: "التأثير واضح، عبر الترجمات. المعري أسبق بقرون."
مع غروب الشمس، مشى أنطونيو في شوارع جنوى، يرى آثار الشرق في كل زاوية: القوس الإسلامي في الكنائس، التوابل في الطعام، العلم في المحادثات. كانت جنوى، في أوجها، تمتلك أسطولًا ينافس البندقية، مستعمرات في القرم، تجارة مع العثمانيين. لكن الثراء الحقيقي كان في المعرفة: الشروحات العربية لأفلاطون أثرت في دانتي، الخرائط بنت الجسور، الحبر كتب التاريخ، الرياضيات بنت المستقبل، الطب أنقذ الأرواح.
في تلك الليلة، جلس أنطونيو يكتب مذكراته: "جنوى ليست ميناء، بل جسر. الشرق أعطى الغرب نوره، والشبه بين المعري ودانتي دليل على ذلك التبادل." ومع الفجر، بدأت رحلته الحقيقية، بحثًا عن الروابط التي تربط بين أمواج الشرق وموانئ الغرب.
الفصل الثاني: أصداء المعري في فلورنسا
انتقل أنطونيو دي جنوفا من ميناء جنوى إلى فلورنسا في أواخر الربيع عام 1310، حيث كانت المدينة تنبض بحياة تجارية وثقافية تجعلها قلب إيطاليا النابض. كانت فلورنسا، عاصمة توسكانا، مزيجًا من الأبراج الحجرية الشاهقة والشوارع الضيقة المعبدة بالحصى، حيث يتردد صوت الباعة في الأسواق ويختلط رائحة التوابل العربية بروائح الخبز الطازج والجلود المعالجة. كانت المدينة قد أصبحت مركزًا للتجارة الواسعة، مفصلًا رئيسيًا على خطوط النشاط المالي الأوروبي، وأكثر المدن الأوروبية ازدهارًا وثراءً في تلك الحقبة التاريخية، كما صنفتها دائرة المعارف البريطانية في مرتبة الأولى في العالم طبقًا لاعتبارات اقتصادية وثقافية وسياسية. اعتمدت فلورنسا اللغة الإيطالية لغة المدينة الرسمية والشعبية في القرن الرابع عشر، وارتبطت أسماء الكثير من مشاهير الأدباء والشعراء بالمدينة في عصرها الذهبي، وهو ما دفع الكثير لتبني الحديث باللهجة الفلورنسية وفضلت على بقية اللهجات المحلية واختيرت وسيلة للتعبير الأدبي.
وصل أنطونيو إلى فلورنسا عبر طريق البر الوعر، محملًا بصناديقه من التوابل والحرير من صقلية، لكنه كان يحمل في حقيبته الجلدية نسخة من "رسالة الغفران"، تلك الرسالة الخيالية لأبي العلاء المعري التي وصف فيها رحلة إلى العالم الآخر مليئة بالسخرية والنقد الأدبي. كانت المدينة، في ذلك الوقت، تشهد بدايات عصر النهضة المبكرة، حيث تراكمت ثروات هائلة بين الطبقة الوسطى والعليا من التجار والمصرفيين، ومع تراكم الثروة غالبًا ما تأتي الرغبة في استخدامها للاستمتاع بمتع الحياة، كما يُقال. كانت عائلة ميديتشي، التي حكمت فلورنسا في القرن الخامس عشر، قد أسست مكتبة غنية تضم العديد من الكتب العربية، وفي القرن الثالث عشر، بدأ أبناء العائلات الأرستقراطية الفلورنسية يتوجهون للدراسة في القاهرة، فشكلوا النخبة الثقافية الفلورنسية. ومنذ القرن الثاني عشر، كانت العلاقات الفلورنسية-العربية مميزة، حيث كانت فلورنسا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي كانت على علاقة ودية بالخلافة العباسية، بل وصلت حد التحالف.
استقر أنطونيو في حانة صغيرة مليئة بروائح التوابل العربية، تقع في حي سان لورنزو، حيث كانت الجدران مزخرفة بصور لتجار يحملون صناديق من دمشق وبغداد. كانت الحانة ملتقى للتجار والعلماء، وفي تلك الليلة الباردة، جلس أنطونيو بجانب لوكا، عالم رياضيات يدرس في جامعة بولونيا، الذي كان قد التقاه سابقًا في جنوى. لوكا كان رجلًا في الأربعين، ذا لحية رمادية كثيفة وعيون لامعة كأنها تعكس أرقامًا حسابية، يرتدي رداءً أسود مطرزًا برموز رياضية عربية. "الصفر الخوارزمي ليس مجرد رقم"، قال لوكا فجأة، وهو يرسم على لوح خشبي أمامه: 0، 1، 2... "هو أساس كل شيء. بدون الصفر، لا جبر، لا حسابات تجارية دقيقة، ولا حتى الإنترنت الذي سنراه يومًا ما، حيث يعتمد على الثنائي: 0 و1."
أنطونيو رفع كأسه من النبيذ، متذكرًا كيف أدخل الخوارزمي الأرقام العربية إلى العالم الإسلامي في كتابه "حساب الجمل"، ثم انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس. كان الخوارزمي، الذي عاش في القرن التاسع الميلادي في بغداد، قد طور طريقة لأداء العمليات الحسابية باستخدام الأرقام الهندية، والتي نقلها ليوناردو فيبوناتشي إلى أوروبا في كتابه "ليبر أباسي" عام 1202، مما غير الحسابات التجارية في فلورنسا وجنوى. "والحبر العربي؟" سأل أنطونيو، وهو يمسح يديه في منديل من الحرير الأندلسي. "صُنع من عفص البلوط والزاج، وصل إلى ورشنا في جنوى، مما سمح بكتبنا وخرائطنا"، رد لوكا بسرعة، وهو يشير إلى كوب من الحبر الأسود الذي كان يستخدمه للكتابة. كان هذا الحبر، الذي طوره العرب في بغداد وقرطبة، أساس الكتابة في أوروبا، حيث سمح بتدوين المخطوطات الطبية والرياضية التي غيرت مجرى التاريخ.
لكن أنطونيو كان يبحث عن الشبه الأدبي، ذلك الذي يربط بين "رسالة الغفران" و"الكوميديا الإلهية". أخرج الكتاب من حقيبته، وفتحه أمام لوكا، الذي قرأ مقطعًا بصوت منخفض: ابن القارح يزور الجنة والنار، يلتقي الشعراء، يسخر من الآخرة. "انظر إلى دانتي: الجحيم، المطهر، الفردوس. الرحلة، الدليل، السخرية من التعصب. المعري كتبها في 1033، ودانتي في 1307. هل اقتبس؟" لوكا هز كتفيه، لكنه أومأ برأسه موافقًا: "التأثير الإسلامي واضح، عبر صقلية والأندلس. الشروحات العربية لأرسطو غيرت فلسفة أوروبا، وكذلك الروايات الخيالية." كان لوكا على حق؛ فقد كانت صقلية، تحت الحكم الإسلامي ثم النورماني، مركزًا رائعًا للتبادل الثقافي، وأحد أهم مراكز الترجمة التي أثرت في أوروبا تأثيرًا بالغًا. حكم العرب صقلية أكثر من قرنين ونصف، من 828 إلى 1091م، ونقلت هذه الجزيرة المعرفة العربية إلى إيطاليا، بما في ذلك فلورنسا.
في تلك اللحظة، شعر أنطونيو أن القصة أكبر: فلورنسا ليست مجرد مدينة تجارية، بل جسر بين الشرق والغرب، حيث يلتقي المعري بدانتي في ظلال الغفران الإلهي. تذكر كيف كانت فلورنسا، في أوج قوتها، تمتلك مستعمرات تجارية في القرم وإسطنبول، وتتاجر مع العثمانيين والمماليك. برج غلطة في إسطنبول، الذي بناه تجار فلورنسا، يشهد على ذلك النفوذ. كانت السفن الفلورنسية تحمل الحرير من دمشق، والتوابل من بغداد، والأدوية من قرطبة. لكن أعمق ما حملوه كان العلم: الشروحات الفلسفية التي غيرت تفكير توما الأكويني، والرياضيات التي بنت الاقتصاد الأوروبي. أنطونيو تذكر كيف كان الخوارزمي (780-850) يُدعى "أبو الجبر"، كتابه "الجبر والمقابلة" وصل إلى فيبوناتشي، الذي نقل الأرقام العربية إلى أوروبا في 1202، مما غير الحسابات التجارية في فلورنسا. الصفر، هذا الرمز البسيط، أصبح أساس الرياضيات الحديثة، بل أساس لغة الإنترنت، حيث 0 و1 يبنيان العالم الرقمي.
مع الفجر، خرج أنطونيو إلى شوارع فلورنسا، حيث كانت الأبراج تلامس السماء الزرقاء، والنهر آرنو يتدفق بهدوء تحت الجسور الحجرية. كانت المدينة قد شهدت صراعات داخلية في القرن الثالث عشر بين الغيبلينيين أنصار الإمبراطورية والغويليفيين أنصار البابوية، لكن الرخاء الاقتصادي أعاد التوازن. في ساحة الدومو، وقف أمام الكاتدرائية الضخمة، التي كانت تبنى في ذلك الوقت، وتذكر كيف أثرت العمارة العربية في تصميمها، مع قوسها الإسلامي المنحني. كانت فلورنسا قد اعتمدت على الترجمات من العربية في طليطلة، حيث ترجمت شروحات ابن رشد لأرسطو، التي كانت أعمق من الأصل، إلى اللاتينية، ووصلت إلى فلورنسا عبر صقلية. هناك، في عهد روجر الثاني، اختار الأمير النورماني قادة عربًا مثل عبد الرحمن النصراني لمناصب عالية، وكانت الترجمات تنتشر كالنار في الهشيم.
في ذلك اليوم، توجه أنطونيو إلى مكتبة سان ماركو، التي كانت تحتوي على مخطوطات عربية مترجمة، حيث التقى بغريب آخر: ماريو، طبيب عيون يدرس في بولونيا. كان ماريو رجلًا نحيفًا، ذا شعر أشقر قصير، يرتدي نظارات بدائية مصنوعة من الكريستال، ابتكار مستوحى من ابن الهيثم. "الطب العربي في العيون غير حياتنا"، قال ماريو، وهو يفتح كتاب "تذكرة الكحالين" لعلي بن عيسى. "كتابه ترجم إلى اللاتينية، يصف جراحة الساد بدقة لم نعرفها. وابن الهيثم في المناظر شرح البصريات، أساس نظاراتنا اليوم." أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف كانت قرطبة مركزًا للطب، حيث الشروحات العربية لجالينوس أعادت الطب إلى أوروبا. كان الرازي وابن سينا قد ألفوا موسوعات طبية، مثل "الحاوي" للرازي و"القانون" لابن سينا، ترجمت إلى اللاتينية وأصبحت مرجعًا في الجامعات الأوروبية لقرون.
لكن الشبه الأدبي ظل يلازمه. قرأ أنطونيو عن كيف تأثر دانتي بقصة المعراج الإسلامية، وكيف يشبه ابن القارح في "الغفران" دانتي في رحلته. "السخرية اللاّذعة، النقد الأدبي، الرحلة إلى الآخرة... كلها روابط"، قال أنطونيو لماريو. "جنوى وفلورنسا استفادتا من الحصارات العربية، ليس بالسيف، بل بالعلم." كان ماريو يعرف القصة؛ فقد كانت الحروب الصليبية جسرًا للتبادل، حيث نقل الفرسان العائدون روايات عن الطب العربي والرياضيات. في صقلية، ترجمت أعمال الرازي وابن سينا، وانتقلت إلى فلورنسا عبر التجارة. كان الطب العربي رائدًا في العصور الوسطى، بينما كان الطب الأوروبي غارقًا في الخرافات والتعاليم الجامدة للكنيسة الكاثوليكية، أدى ظهور الإسلام إلى نمو واكتشافات مثيرة للإعجاب في الطب، كما يقول الباحثون.
مع غروب الشمس، مشى أنطونيو في شوارع فلورنسا، يرى آثار الشرق في كل زاوية: القوس الإسلامي في الكنائس، التوابل في الطعام، العلم في المحادثات. كانت فلورنسا، في أوجها، تمتلك أسطولًا ينافس البندقية، مستعمرات في القرم، تجارة مع العثمانيين. لكن الثراء الحقيقي كان في المعرفة: الشروحات العربية لأفلاطون أثرت في دانتي، الخرائط بنت الجسور، الحبر كتب التاريخ، الرياضيات بنت المستقبل، الطب أنقذ الأرواح. في تلك الليلة، جلس أنطونيو يكتب مذكراته: "فلورنسا ليست مدينة، بل صدى للشرق. المعري يهمس لدانتي في كل صفحة، والخوارزمي يحسب خطوات النهضة."
في اليوم التالي، زار أنطونيو ساحة الجمهورية، حيث كانت المقاهي الكبيرة تجمع الشعراء والتجار، وهناك سمع لوكا يتحدث عن الشبه مرة أخرى. "في الغفران ، يلتقي ابن القارح بآدم ويتحدث عن اللغة الأولى، العربية في الجنة. في الكوميديا ، يلتقي دانتي آدم في السماء الثامنة، يناقشان اللغة الأصلية. التطابق مذهل." أنطونيو ابتسم، متذكرًا آراء الباحثين مثل عمر فروخ، الذي يقول إن "رسالة الغفران تنتزع من دانتي فضل السبق إلى موضوعه"، ولويس عوض الذي يرجح أن دانتي قرأ ترجمة لاتينية ضائعة للرسالة. كان المستشرق ميغيل أسين بلاثيوس قد أعلن في كتابه "الإسلام والكوميديا الإلهية" أن للكوميديا جذورًا إسلامية واضحة، مستندًا إلى قصة المعراج وقصص أخرى، وأن الشبه بين الاثنين أوضح ما يمكن أن يُنسب إلى محض الصدفة.
أما لوكا، فقد أضاف: "الحروف الأوروبية اليوم مشتقة جزئيًا من العربية، عبر الأندلس. والثنائي في الإنترنت – 0 و1 – يعود إلى الصفر الخوارزمي." كان الخوارزمي قد طور الأرقام الهندية في بغداد، وانتقلت إلى أوروبا عبر فيبوناتشي، الذي درس في بجايا بالأندلس. في فلورنسا، أصبحت هذه الأرقام أساس البنوك والتجارة، حيث كانت عائلة ميديتشي تستخدم الجبر لحساب الفوائد والصفقات. أنطونيو تذكر كيف كان الخوارزمي يُدعى "أبو الجبر"، وكتابه "المختصر في حساب الجبر والمقابلة" ترجم إلى اللاتينية ودرس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر.
مع اقتراب المساء، توجه الاثنان إلى حي أولترارنو، حيث كانت الشوارع مليئة بورش الحرفيين، وهناك التقوا بماريو مرة أخرى، الذي كان يتحدث عن الطب. "علي بن عيسى كتب تذكرة الكحالين ، ترجمت إلى اللاتينية، أساس طب العيون في أوروبا. وابن الهيثم في المناظر شرح البصريات، أساس النظارات." كان الطب العربي قد غير أوروبا؛ فقد ترجم ستيفن البيزي كتيبًا عربيًا عن النظرية الطبية عام 1127، وأصبح "القانون" لابن سينا مرجعًا في الجامعات. في فلورنسا، كانت عائلة ميديتشي تحترف الطب، ولورينزو دي ميديتشي كان رجل حنكة سياسية وعقل متميز في عالم الثقافة.
لكن أنطونيو لم يستطع التخلص من الشبه الأدبي. في حانة أخرى، قرأ لوكا مقطعًا من "الكوميديا": دانتي في الغابة المظلمة، يواجه الفهد والأسد، ثم يأتيه فرجيل. "كابن القارح الذي ينهض من القبر، يلتقي الشعراء في الجنة." كان الشبه في البناء واضحًا: الرحلة إلى العالم الآخر، الدليل، الأقسام الثلاثية. كما في "الغفران"، يسخر المعري من الأدباء في الجنة، يناقشون النحو، كما يناقش دانتي الشعراء في الجحيم. كان المعري قد كتبها ردًا على ابن القارح، ساخرًا من الزندقة، ودانتي كتبها في نفيه، ساخرًا من خصومه.
في الأيام التالية، تجول أنطونيو في فلورنسا، يزور قصر فيكيو الشهير الذي صممه أرنولفو دي كامبيو، ويتحدث مع تجار عن الخرائط العربية للإدريسي، التي رسمها لروجر الثاني في صقلية، ووصلت إلى فلورنسا عبر التجارة. كانت هذه الخرائط، مبنية على رياضيات الخوارزمي، أساس الاكتشافات البحرية. في مكتبة القصر، قرأ عن آراء شوقي ضيف: "لم يصنع أبو العلاء للعرب كوميديا إلهية فحسب بل أثر بها أيضًا تأثيرًا عميقًا في الآداب العالمية." كان محمد غنيمي هلال يقول: "ولا شك أن رسالة الكوميديا تشبه رسالة الغفران في نوع الرحلة وأقسامها وكثير من مواقفها."
مع مرور الأسابيع، أصبح أنطونيو جزءًا من دائرة لوكا وماريو، يناقشان كيف بنت فلورنسا حضارتها على الاستفادة من الحصارات العربية. كانت الترجمات في طليطلة نقلت شروحات ابن سينا لجالينوس، وأصبحت أساس الطب في مونبلييه. في فلورنسا، كانت عائلة ميديتشي تمول الترجمات، وكانت المكتبة الغنية تضم كتبًا عربية. كان الشبه بين الكتابين دليلًا على التبادل: المعري يسخر من التعصب، دانتي يسخر من الباباوات. في لقاء مع آدم عن اللغة، في النزهة مع الحوريات مقابل ماتيلدا، كلها تطابقات.
في نهاية إقامته، وقف أنطونيو أمام نهر آرنو، ينظر إلى الجسر الذي يربط بين الضفتين، رمزًا للجسر بين الشرق والغرب. "فلورنسا صدى للمعري"، همس لنفسه، وهو يغادر المدينة، محملًا بمعرفة جديدة، جاهزًا للعودة إلى جنوى حيث تنتظره المزيد من الأسرار. كانت أصداء المعري في فلورنسا ليست مجرد كلمات، بل نبض الحضارة التي بنت أوروبا على أكتاف العرب.
الفصل الثالث: خرائط الخوارزمي وأسرار البصر
عاد أنطونيو دي جنوفا إلى جنوى في أواخر الصيف عام 1310، حيث كانت المدينة تغفو تحت شمس حارقة تذكر بالرمال الساخنة في صحراء قرطبة، والبحر المتوسط يلمع كسيف فضي يقطع الأفق. كانت جنوى، هذه المدينة الليغورية الشرسة، قد تعافت من صراعاتها الداخلية بين الغويليفيين والغيبلينيين، وأصبحت مركزًا للتجارة العابرة للقارات، حيث تتدفق السفن من صقلية والبندقية محملة بالتوابل والحرير والأسرار العلمية التي غيرت وجه أوروبا. أنطونيو، الذي كان قد قضى أسابيع في فلورنسا يناقش مع لوكا وماريو أسرار الرياضيات والطب العربي، شعر بأن رحلته لم تنتهِ؛ بل إنها بدأت للتو، فهو يحمل في حقيبته الجلدية نسخة من "رسالة الغفران"، وخريطة الإدريسي المتهالكة، ومخطوطة عن جراحة الساد لعلي بن عيسى، كلها رموز للجسر الذي بنته الحضارة العربية بين الشرق والغرب. في جنوى، حيث كانت الأبراج الحجرية تطل على الميناء كحراس أوفياء، قرر أنطونيو أن يغوص أعمق في أسرار البصر، تلك العيون التي رأت العالم أولاً، وخرائط الخوارزمي التي حددت مساراته.
وصل أنطونيو إلى بيته القديم في حي المدينة القديمة، حيث الشوارع الضيقة تشبه متاهات دمشق، مليئة بروائح التوابل والحبر الطازج. كان المنزل، المبني من الحجر الرمادي مع نوافذ خشبية منحوتة بأسلوب أندلسي، يطل على الميناء مباشرة، فكان يسمع صوت الأمواج تتلاطم كل ليلة، تذكره بأن جنوى بنيت على أكتاف الحصارات العربية في بغداد وقرطبة، حيث لم تكن الحروب دائمًا بالسيوف، بل بالكتب والخرائط والأدوات الجراحية الدقيقة. في غرفة مكتبه، أضاء أنطونيو مصباح زيتي مصنوعًا من النحاس العربي، وفتح الخريطة العربية التي اشتراها من أحمد بن يوسف في صقلية: رسمها محمد الإدريسي في 1154 لروجر الثاني، ملك صقلية النورماني، وهي تُظهر العالم بدقة مذهلة، من الصين إلى المغرب، مع خطوط الطول والعرض مستمدة من الرياضيات العربية. كانت الخريطة دائرية، مع الجنوب في الأعلى والشمال في الأسفل، رمزًا لكروية الأرض التي أثبتها الإدريسي بتجارب علمية، في وقت كانت الكنيسة الأوروبية تعدم من يقول بذلك. "هذه الخرائط التي سيستخدمها كولومبوس بعد قرون"، همس أنطونيو لنفسه، متذكرًا كيف وصلت إلى جنوى عبر التجارة مع قرطبة، وكيف كانت مبنية على رياضيات الخوارزمي، الذي طور الصفر والجبر في بغداد، مما سمح بحسابات دقيقة للمسافات البحرية.
لكن أنطونيو كان يفكر أيضًا في أسرار البصر، تلك العيون التي تسمح برؤية هذه الخرائط. في اليوم التالي، توجه إلى ورشة الحبر في حي المدينة، حيث كان الصانعون يعدون الحبر من عفص البلوط والزاج، تقنية عربية وصلت عبر الأندلس، وسمحت بتدوين هذه المخطوطات الطبية والجغرافية. هناك، التقى بصديقه الطبيب ماريو، الذي عاد من بولونيا حيث درس كتب الموصلي وابن الهيثم. كان ماريو رجلًا في الخمسين، ذا لحية بيضاء وعيون حادة خلف نظارات بدائية مصنوعة من الكريستال، ابتكار مستوحى من "المناظر" لابن الهيثم. "الطب العربي في العيون غير حياتنا"، قال ماريو، وهو يفتح كتاب "تذكرة الكحالين" لعلي بن عيسى الكحال، الذي عاش في القرن الثاني عشر في بغداد، ووصف فيه جراحة الساد بدقة لم يعرفها الأوروبيون. كان علي بن عيسى، الذي درس في بغداد تحت رعاية الخليفة العباسي، قد جمع بين النظرية والممارسة، مستخدمًا أدوات جراحية دقيقة مثل المشرط الرفيع والإبر الذهبية، ووصف عملية سحب الماء الأزرق من العين، التي أصبحت أساس الجراحة الأوروبية بعد ترجمتها إلى اللاتينية في طليطلة. "كتابه ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وأصبح مرجعًا في جامعة ساليرنو، حيث درس غي دي تشولياك، الذي اقتبس منه 62 مرة في الجراحة الكبرى "، أضاف ماريو، مشيرًا إلى كيف كان الكحالون، أطباء العيون العرب، يحتلون مكانة شرفية في الدولة العباسية، وكيف جمعوا بين العلوم النظرية والتطبيق العملي، صناعة الأدوات الدقيقة كالمجاهر البدائية.
أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف كانت قرطبة مركزًا للطب، حيث الشروحات العربية لجالينوس أعادت الطب إلى أوروبا، وكيف كان الرازي وابن سينا قد ألفوا موسوعات طبية مثل "الحاوي" و"القانون"، ترجمت إلى اللاتينية وأصبحت مرجعًا في الجامعات الأوروبية لقرون. لكن الشبه الأدبي ظل يلازمه، ففي "رسالة الغفران"، يصف المعري رحلة ابن القارح إلى الجنة والنار، مليئة بالسخرية والنقد الأدبي، تشبه رحلة دانتي في "الكوميديا الإلهية"، حيث يلتقي الشعراء في الجحيم والفردوس. "السخرية اللاّذعة، النقد الأدبي، الرحلة إلى الآخرة... كلها روابط"، قال أنطونيو لماريو، وهو يقلب صفحات الكتاب. كان المعري، الأعمى منذ الرابعة، قد كتبها في محبسه، مستوحى من قصص الإسراء والمعراج والأساطير العربية عن الجن والغيلان، بينما دانتي، المنفي، استوحى من الترجمات اللاتينية للمعراج وقصص المعاد الإسلامية، كما أثبت المستشرق ميغيل أسين بلاثيوس في كتابه "الإسلام والكوميديا الإلهية". الشبه في البناء واضح: الرحلة الخيالية، الدليل (ابن القارح/فرجيل)، الأقسام (الجنة/النار مقابل الجحيم/المطهر/الفردوس)، والسخرية من التعصب، كما في لقاء آدم باللغة الأولى في كلا الكتابين، أو النزهة مع الحوريات مقابل ماتيلدا في الفردوس.
في تلك الليلة، تحت ضوء القمر الذي ينعكس على الموج، جلس أنطونيو مع ماريو في فناء المنزل، يتحدثان عن كيف بنت جنوى حضارتها على الاستفادة من الحصارات العربية. كانت الترجمات في طليطلة نقلت شروحات ابن سينا لجالينوس، وأصبحت أساس الطب في مونبلييه، بينما في بغداد، كان الكحالون يعالجون آلافًا بأدوات دقيقة، مستخدمين الكحل والزئبق لعلاج الالتهابات، كما وصف صلاح الدين الكحال في "نور العيون". "بدون ابن الهيثم، لا نظرية البصريات، لا نظارات، لا فهم للرؤية"، قال ماريو، مشيرًا إلى كيف أثبت ابن الهيثم خطأ الإغريق بتجارب معملية، ووصف تكون الصورة عبر إسقاط أشعة الضوء، وترجم كتابه "المناظر" إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر، وظل مرجعًا حتى القرن السابع عشر. أنطونيو أضاف: "والخرائط؟ الإدريسي رسمها لروجر، مستخدمًا رياضيات الخوارزمي، ووصلت إلى كولومبوس، الذي استخدمها في رحلته 1492، مكتشفًا أمريكا بناءً على خطوط الطول والعرض العربية."
مع الفجر، توجه الاثنان إلى الميناء، حيث كانت سفينة قادمة من صقلية تحمل صناديق من الكتب العربية. هناك، التقوا بلوكا، الذي عاد من فلورنسا، يحمل مخطوطة عن الصفر. "الصفر الخوارزمي ليس رقمًا، بل أساس الجبر الذي بنى اقتصاد جنوى"، قال لوكا، يرسم على الرمال: 0، 1، 2. كان الخوارزمي قد طوره في بغداد، وانتقل إلى فيبوناتشي في بجايا، ثم إلى أوروبا، مما غير الحسابات التجارية. "والحروف الأوروبية مشتقة جزئيًا من العربية عبر الأندلس، والثنائي في الإنترنت – 0 و1 – يعود إليه"، أضاف. أنطونيو ربط: "كما في الغفران ، يرى المعري العالم بعيون الشك، ودانتي يرى الآخرة بعيون الإيمان، لكن الشبه في الرؤية واضح: الرحلة رمز للبحث عن الحقيقة."
في الأيام التالية، تجول أنطونيو في أسواق جنوى، يرى آثار الشرق: القوس الإسلامي في الكنائس، التوابل في الطعام، العلم في المحادثات. كانت جنوى تمتلك أسطولًا ينافس البندقية، مستعمرات في القرم، تجارة مع العثمانيين. لكن الثراء كان في المعرفة: الشروحات العربية لأفلاطون أثرت في دانتي، الخرائط بنت الجسور، الحبر كتب التاريخ، الرياضيات بنت المستقبل، الطب أنقذ الأرواح. في ورشة طبيب عيون، شاهد أنطونيو عملية جراحية باستخدام مشرط عربي، مستوحى من الزهراوي، الذي وصف 100 أداة جراحية في "التصريف". "الكحالون كانوا يعالجون الساد بالإبرة الذهبية، ووصلت إلى أوروبا عبر صقلية"، قال الطبيب.
مع غروب الشمس، وقف أنطونيو أمام البحر، يفكر في الشبه: في "الغفران"، يسخر المعري من الأدباء في الجنة، يناقشون النحو، كما دانتي في الجحيم. كان المعري قد استلهم من قصص الجن والغيلان في "الحيوان" للجاحظ، ومن كليلة ودمنة، بينما دانتي من الترجمات اللاتينية للمعراج، كما أثبت بلاثيوس. الشبه في الحوادث: لقاء آدم، النزهة في الحدائق. "الشرق أعطى الغرب عيونه وخرائطه"، همس أنطونيو، وهو يغلق الكتاب، جاهزًا للفصل التالي من رحلته، حيث تكمن أسرار السخرية في الآخرة.
في تلك الليلة، تحت سماء جنوى النجلاء، جلس أنطونيو مع لوكا وماريو حول مائدة مليئة بالفواكه من قرطبة، يناقشون كيف كان الإدريسي قد جمع معلومات من رحالة أرسلهم روجر إلى آسيا وأفريقيا، ورسم خريطة دائرية تُظهر كروية الأرض، مستخدمًا خطوط الطول والعرض من الرياضيات العربية، ووصلت إلى كريستوفر كولومبوس في القرن الخامس عشر، الذي اعتمد عليها في رحلته إلى الهند، واكتشف أمريكا بدلًا من ذلك. "بدون الإدريسي، لا اكتشافات"، قال لوكا، مشيرًا إلى كيف كانت الخريطة مرجعًا في عصر النهضة، وكيف أثبتت الإدريسي كروية الأرض بتشبيهها ببيضة، صفارها الأرض محاطًا بالبياض كالماء. أما ماريو، فقد أضاف عن ابن الهيثم: "في المناظر ، شرح تشريح العين، أثبت أن الرؤية تأتي من الضوء الخارجي، لا من أشعة داخلية كالإغريق، وترجمت إلى اللاتينية، أساس البصريات الأوروبية."
أنطونيو، الذي كان يقرأ مقطعًا من "الغفران"، قال: "انظر إلى الشبه: ابن القارح يلتقي الشعراء في الجنة، يناقشون اللغة، كدانتي مع فرجيل في الجحيم. المعري سخر من التعصب، دانتي سخر من الباباوات. كلاهما رحلة للخلاص، مستوحاة من المعراج." كان لوكا يتذكر آراء محمد غنيمي هلال: "تأثر دانتي في الكوميديا بمصادر عربية، والشبه في الرحلة وأقسامها." وماريو أضاف عن الطب: "كما أنقذ علي بن عيسى آلافًا من العمى، أنقذت الغفران روح دانتي من التعصب، عبر السخرية."
في الأسابيع التالية، أصبح أنطونيو جزءًا من دائرة العلماء في جنوى، يزورون المكتبات والورش، يناقشون كيف كانت بغداد بيت الحكمة يجمع مترجمين يحولون اليونانية إلى العربية، مضيفين شروحات أعمق، ثم ترجمت إلى اللاتينية في طليطلة، تغيرت أوروبا. كان الزهراوي في "التصريف" وصف 200 أداة جراحية، بما فيها للعيون، وترجمت في 1127، أساس الجراحة الأوروبية. "الكحالون كانوا يعالجون الجدري بالكحل، ووصلت إلى ساليرنو"، قال ماريو. أنطونيو ربط بالأدب: "كما في الكوميديا ، يرى دانتي العذابات المصنفة حسب الخطايا، كالمعري في النار، حيث يعذبون حسب أخطائهم الأدبية."
مع مرور الشهور، أدرك أنطونيو أن جنوى ليست ميناء، بل عيون الغرب التي رأت العالم بعيون الشرق. الخرائط حددت الطرق، الرياضيات حسبت المسافات، الطب أنقذ الرؤية، والأدب أنار الروح. في نهاية الفصل، وقف أمام سفينة تقلع إلى بيزا، جاهزًا لاستكشاف المزيد، حيث تكمن أسرار الحبر والرياضيات في الفصل التالي. كانت أمواج الشرق لا تزال تتدفق في موانئ الغرب، تحمل معها أسرار البصر والخرائط، رابطة بين المعري ودانتي في رحلة لا تنتهي.
الفصل الرابع: سخرية الآخرة
في أواخر عام 1310، بعد أسابيع من العودة إلى جنوى، وجد أنطونيو دي جنوفا نفسه يتجول في شوارع المدينة تحت غيوم الخريف الثقيلة، التي تذكره بغيوم بغداد الداكنة التي وصفها الشعراء العرب في قصائدهم عن الآخرة. كانت جنوى، هذه المدينة البحرية الشرسة، تغفو تحت رياح الشمال الباردة، لكن أنطونيو كان يشعر بحرارة داخلية، كأن نار السخرية التي أشعلها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران قد انتقلت إليه عبر الصفحات المتهالكة. بعد أن قضى أيامه في ورش الحبر ومكتبات الطب، حيث تعلم أسرار جراحة الساد ودقة الخرائط، أصبح يتوق إلى شيء أعمق: فهم السخرية التي تربط بين رحلة المعري إلى الجنة والنار ورحلة دانتي إلى الجحيم والفردوس. كان يعلم أن هذه السخرية ليست مجرد كلمات، بل سلاح ضد التعصب، وأن جنوى، التي بنت إمبراطوريتها على التبادل مع دمشق وبغداد وقرطبة، كانت جسرًا مثاليًا لتلك الأصداء. في تلك الليلة، وهو يجلس في غرفة مكتبه المضاءة بمصباح زيتي عربي، أغلق عينيه وتخيل رحلة خيالية، حيث يلتقي المعري بدانتي في عالم الآخرة، يتبادلان سهام السخرية اللاّذعة، بينما يتردد صدى الخوارزمي في حسابات الجنة والنار.
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما غرق أنطونيو في حلمه، أو ربما كان يقظًا جزئيًا، فالكتاب المفتوح أمامه، "رسالة الغفران"، كان ينبعث من صفحاته رائحة الحبر العربي القديم، كأنها تدعوه إلى رحلة. في الحلم، وجد نفسه يقف أمام بوابة ضخمة من الضباب، تشبه بوابة الجحيم في وصف دانتي، لكنها مزخرفة بآيات قرآنية محفورة بلغة عربية كوفية. "دَعِ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ"، كتب المعري في شعره، وكانت هذه الكلمات تتردد في الهواء كصدى. فجأة، ظهر أمامه رجل أعمى، ذو لحية بيضاء طويلة، يرتدي رداءً من الصوف الخشن، يمسك بعصا من التمر المجفف. كان أبو العلاء المعري، الشاعر السوري الذي ولد في معرة النعمان عام 973، وفقد بصره في الرابعة بسبب الجدري، لكنه اكتسب بصرًا داخليًا أعمق من أي عالم بصري. "مرحبًا بك في عالم الغفران، أيها التاجر الجنوي"، قال المعري بصوت هادئ لكنه حاد كسيف، "هل جئت لتتاجر بالآخرة، أم لتسخر منها كما أفعل أنا؟"
أنطونيو، مذهولًا، أومأ برأسه، وفي لحظة، وجدا نفسيهما يسيران في طريق ضبابي يتفرع إلى جنتين ونارين متداخلتين، كأن الحلم يمزج بين "الغفران" و"الكوميديا الإلهية". "رحلتي إلى الغفران كانت لأسخر من الجنة والنار"، قال المعري، وهو يشير بعصاه إلى منظر بعيد حيث يجتمع شعراء الجاهلية في قصر من الياقوت، يناقشون النحو والشعر بينما حوريات يقدمن لهم الخمر المحرم في الدنيا. "ابن القارح، ذلك الراوي الماكر من حلب، أرسل إليّ رسالة يشكو فيها أمره، يسأل عن الزندقة والملحدين، فيرددت عليه برسالة قصصية تجري في يوم القيامة، ثم الجنة، ثم النار. في الجنة، يلتقي الشعراء مثل الشنفرى وابن الرومي، يبررون أشعارهم عن الخمر والحب، ويغفر الله لهم بسبب جمال كلامهم. أما في النار، فيعذبون حسب أخطائهم الأدبية، كمن أخطأ في الإعراب فيعاقب بالسجع الأبدي." ضحك المعري ضحكة خافتة، مليئة بالسخرية، "هذا النقد الأدبي هو سلاحي ضد التعصب، فالدين يغفر للشعر، لكن الشعر يسخر من الدين."
بينما كانا يسيران، ظهر شبح آخر، شاب ذو عيون حادة، يرتدي رداءً أحمر يشبه رداء المنفيين في فلورنسا. كان دانتي أليغييري، الشاعر الإيطالي الذي ولد عام 1265 في فلورنسا، ونفي عام 1302 بسبب صراعاته السياسية مع الغيبلينيين. "أيها الأعمى الحكيم"، قال دانتي للمعري بلهجة توسكانية، "رحلتي في الجحيم والمطهر والفردوس كانت لأسخر من التعصب، مستوحى من معراجكم. في الجحيم، تسع دوائر من العذاب، يعذبون حسب خطاياهم: الشهوانيون في الدوائر الأولى، والخونة في الأسفل، حيث يجمد لوسيفر في الجليد. فرجيل يرشدني، رمز العقل، ثم بياتريس، رمز الإيمان، إلى الوردة السماوية." توقف دانتي، ينظر إلى أنطونيو، "لكن السخرية مشتركة: في كلا العملين، الرحلة إلى الآخرة لنقد المجتمع، والشعراء في الجنة يناقشون فنّهم، كما في لقائي بفيرجيل وهوميروس في الليمبو."
الثلاثة التقوا في ساحة خيالية، حيث كانت الجدران مزخرفة بآيات قرآنية ونشيدات من "الكوميديا"، وجلسوا حول مائدة من الضوء، يتبادلون الحديث عن الشبه. "الشبه في البناء واضح"، قال المعري، "في رسالتي، ينهض ابن القارح من القبر، يصعد إلى السماء، يزور الجنة حيث يلتقي الشعراء الجاهليين، يسألهم عن أشعارهم، ثم ينزل إلى النار ليرى الغيلان والجن تعذبون الآثمين. السخرية في أن الشعراء يغفر لهم بسبب إبداعهم، رغم كفرهم، وهذا يعكس سعة رحمة الله، أوسع من فقهاء العصر." دانتي أومأ، "وفي كوميدياي، أبدأ في غابة الضلال، أواجه الفهد والأسد والذئبة، رموز الشهوة والغضب والطمع، ثم يأتيني فرجيل، يرشدني إلى الجحيم حيث تسع دوائر، كل واحدة لخطيئة: الغيرة في الأولى، العنف في السابعة، الخيانة في التاسعة. السخرية في وضع الباباوات والملوك في العذاب الأسفل، وأعجبك، أيها المعري، أنني وضعت محمدًا في الدوائر الثامنة، بين المثيرين للفتنة، لأني رأيته هرطوقيًا مسيحيًا، لكنني أعجبت بشعرائكم وابن رشد وابن سينا في الليمبو، بين الفلاسفة الفاضلين."
أنطونيو، الذي كان يستمع كمشاهد في مسرحية، تدخل: "لكن الشبه أعمق، فكلا العملين يسخران من التعصب. في الغفران ، تسخر من ابن القارح الذي يدخل الجنة على ظهر جارية فاطمية، ينافق سادن الجنة بقصيدة مديح، وهذا يعكس حياته الدنيوية بالتملق للحكام. في الكوميديا ، تسخر من خصومك السياسيين، تضع البونيفاس الثامن في الشق الثالث عشر من الجحيم، يغرق في الزفت لخيانته." المعري ضحك: "نعم، السخرية جسر بين الواقع والمفترض، بين المكاني الموحل والزمني المصعد. في رسالتي، أستعرض الأساطير العربية عن الجن والغيلان، من الحيوان للجاحظ، والقرآن، وقصص كليلة ودمنة، لأسخر من الوعاظ الذين يروون أقاصيصهم. طه حسين قال إنها أول قصة خيالية عند العرب، لكنها مليئة بالاستطراد اللغوي، السجع، والاقتباسات، لأعميّة الأفكار ودفع السأم." دانتي أضاف: "وفي شعري، السخرية مبطنة أو ظاهرة، خاصة مع الباباوات في الدرك الأسفل، والحكام الطغاة. أسميتها كوميديا للسخرية من السخافة التعصبية في العصور الوسطى."
في الحلم، انتقل الثلاثة إلى الجنة الخيالية، حيث كانت الأنهار تجري باللبن والعسل، والحوريات ترقص حول قصور الياقوت، كما وصف المعري في رسالته، مستوحى من سورة الرحمن: "كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ". هناك، التقوا بشعراء الجاهلية: الشنفرى يبرر قصيدته "لامية العرب" عن الغرام، وابن الرومي يدافع عن هجائه، ويغفر الله لهم بسبب بلاغتهم. "هذا السخرية"، قال المعري، "فالشعر يغفر الكفر، والإبداع يفتح أبواب الجنة." دانتي رد: "وفي فردوسي، ألتقي ببياتريس في غابة الأرض، ثم في الكرات السماوية، حيث الطوباويون في الوردة السماوية، تاج الله. لكن السخرية في أن العشاق في الجحيم يعذبون، رغم أن حبي لبياتريس دفعني للرحلة." أنطونيو سأل: "وهل الشبه صدفة، أم تأثير؟" المعري أجاب: "التأثير عبر الترجمات، فالمعراج الإسلامي وصل إلى أوروبا عبر صقلية، و الغفران ربما ترجمت جزئيًا، كما قال لويس عوض، أوضح من الصدفة."
انتقل الحلم إلى النار، حيث كانت الدوائر تتداخل: في الدوائر الدنيا، كما وصف دانتي، يغرق الخونة في الجليد، وفي النار العربية، يعذب الغيلان الآثمين بصورهم المتلوّنة، كما في أساطير الجاحظ. هناك، رأى أنطونيو محمدًا في الدوائر الثامنة، يُشق جسده كل يوم، رمزًا للفتنة في عيون دانتي، لكن المعري سخر: "في رسالتي، لا أذكر الأنبياء، بل أركز على الشعراء، لأسخر من الفقهاء الذين يضيقون رحمة الله." دانتي اعترف: "أنا أعجبت بابن رشد وابن سينا في الليمبو، الفلاسفة الفاضلين، رغم كفرهم، لأن إسهامهم في الفلسفة أعمق من النصوص اليونانية." كان هذا الاعتراف يعكس الشبه في السعة: المعري يغفر للكفار الشعراء، دانتي يحترم الفلاسفة المسلمين، رغم وضع محمد في النار.
مع استمرار الحوار، تذكر أنطونيو آراء الباحثين: شوقي ضيف قال إن "المعري صنع كوميديا إلهية للعرب وأثر في الآداب العالمية"، ومحمد غنيمي هلال أكد الشبه في الرحلة والأقسام. بلاثيوس في "الإسلام والكوميديا الإلهية" أثبت التأثير عبر ترجمات المعراج عام 1264، قبل ولادة دانتي بسنة، وانتشرت في إيطاليا. لوكا فروخ قال إن "الغفران تنتزع من دانتي السبق"، وعمر فروخ رأى اقترابًا من لزوميات المعري. حتى لويس عوض رجح قراءة دانتي لترجمة لاتينية ضائعة. في الحلم، سأل أنطونيو: "فالسخرية مشتركة، لكن الاختلاف في الأسلوب: نثرك الاستطرادي، شعره الموجز." المعري رد: "نثري مليء بالسجع والاقتباسات، لأعميّة الأفكار، وأخفي السخرية تحت التعقيد اللغوي، زعيم التّصنّع في عصري." دانتي أضاف: "شعري فيّاض بالحياة، باللون والصوت، والرموز من الأحياء والحيوانات، لا المجردات."
في الجنة مرة أخرى، التقوا بحمدونة، الفقيرة الحلبية التي زهدت في الدنيا، فأصبحت حورية بيضاء، تقول: "كنتُ أقبح نساء حلب، أكلتُ من مغزلي، فصيرني الله إلى ما ترى." هذا التعويض الساخر، كما قالت عائشة عبد الرحمن، يعكس محنة المعري في فقدان بصره. دانتي قارنها بماتيلدا في غابة الفردوس الأرضي، التي تلقاه باسمة عاتبة، وتصحبه في نزهة. "الشبه في النزهة مع الحوريات"، قال أنطونيو. ثم انتقل إلى مدن الجن، حيث يسمع أنطونيو أشعار الجن الغريبة، بلغة لا تُفهم إلا بالسخرية. "هذا العجيب والغريب"، قال المعري، مستشهدًا بتودوروف، "قوانين طبيعة جديدة في الآخرة."
مع اقتراب الفجر، بدأ الحلم يتلاشى، لكن الحوار استمر: "الشبه في الراوي"، قال دانتي، "في كوميدياي، أنا الراوي والبطل، أندغم في الأحداث. في غفرانك، الراوي منفصل ظاهريًا، لكنه عليم بالمكنونات." المعري أجاب: "نعم، أنا أتوسّط بين القارئ والكون، لكن السخرية خفية، لا تكاد تبلغه الظنون." أنطونيو أضاف: "والغرض: نقد أدبي ولغوي عندك، فلسفي وسياسي عند دانتي." المعري ابتسم: "نعم، أنا أقاوم ضيق الفقهاء، أوسّع الرحمة للكل، حتى غير المؤمنين." دانتي وافق: "وأنا أمزج الأسطورة بالتاريخ، ألغي الزمن والمكان."
استيقظ أنطونيو مع شروق الشمس، الكتاب لا يزال مفتوحًا، لكنه شعر أن السخرية قد غيرت روحه. في جنوى، حيث كانت السفن تحمل التوابل من قرطبة، أدرك أن الآخرة ليست نهاية، بل سخرية أبدية تربط الشرق بالغرب. كان الفصل قد انتهى، لكن الرحلة مستمرة، نحو حبر الشرق في الفصل التالي. كانت سخرية الآخرة، في أحلام أنطونيو، دليلًا على أن الحضارة الأوروبية بنيت على سخرية عربية، من المعري إلى دانتي، في عالم لا ينتهي.
الفصل الخامس: حبر الشرق ورياضيات الغرب
في أوائل شتاء عام 1311، حين كانت رياح الشمال الشرقية تهب على موانئ جنوى بقسوة تجعل الأمواج تتصادم كسيوف داماسقية، وجد أنطونيو دي جنوفا نفسه يقف أمام ورشة الحبر في قلب الحي التجاري، حيث كانت الجدران الحجرية العتيقة تشهد على قرون من التبادل بين الشرق والغرب. كانت الورشة، المبنية على أنقاض مستودع روماني قديم، مليئة بروائح الحبر الطازج، ذلك السائل الأسود الذي ينبعث منه عبق عفص البلوط الممزوج بالزاج، المكونات التي جلبها التجار العرب من قرطبة وبغداد، وجعلت منه أساس الكتابة في أوروبا العصور الوسطى. أنطونيو، الذي كان قد عاد من أحلامه الساخرة في الفصل السابق، حيث التقى بالمعري ودانتي في عالم الآخرة، شعر أن الرحلة الحقيقية تبدأ الآن، في هذا المكان الذي يجسد الجسر المادي بين حضارتين: حبر الشرق الذي كتب به المعري رسالة الغفران، ورياضيات الغرب التي بنتها أوروبا على أساس الخوارزمي، لتصبح لغة الإنترنت في المستقبل البعيد. كان يعلم أن جنوى، هذه المدينة التي بنت إمبراطوريتها البحرية على الحصارات العربية في دمشق والأندلس، لم تكن مجرد ميناء؛ بل كانت مصنعًا للمعرفة، حيث يتحول الحبر إلى كلمات، والأرقام إلى حسابات، والشبه بين الكتابين إلى دليل على تبادل حضاري عميق.
دخل أنطونيو الورشة، حيث كان الصانع الرئيسي، رجل يدعى جيوفاني، يقف أمام موقد من الطوب، يحرك فيه قدرًا نحاسيًا يغلي فيه خليط الحبر. كان جيوفاني، إيطاليًا من أصول أندلسية، قد تعلم الصناعة من أبيه الذي هاجر من غرناطة بعد سقوطها في يد الملك فرديناند عام 1492، لكنه اليوم يروي القصة القديمة لأحفاد أولئك التجار العرب الذين جلبوا السر إلى جنوى في القرن الثاني عشر. "الحبر العربي ليس مجرد سائل أسود"، قال جيوفاني بصوت أجش، وهو يسكب الخليط في قارورة زجاجية، "إنه دم الحضارة. في بغداد، طوره الرازي وابن سينا لكتاباتهم الطبية، مزيجًا من عفص البلوط والحديد والصمغ العربي، يجف بسرعة ولا يبهت. وصل إلى أوروبا عبر صقلية، حيث ترجم جيراردو الكريموني كتب الرازي في طليطلة عام 1085، مستخدمًا هذا الحبر ليحفظ الشروحات التي غيرت الفلسفة الغربية." أنطونيو أمسك بالقارورة، يشعر بثقلها، كأنها تحمل وزن قرون من الترجمات التي نقلت الرياضيات العربية إلى اللاتينية، ومنها كتاب الخوارزمي "الجبر والمقابلة"، الذي أصبح أساس الرياضيات الأوروبية.
في تلك اللحظة، تذكر أنطونيو كيف كانت الترجمات في بيت الحكمة ببغداد، في عهد المأمون عام 813، قد جمع العلماء من كل الأمم ليحولوا اليونانية إلى العربية، مضيفين شروحات أعمق، ثم في طليطلة بعد 1085، حيث ترجم ستيفن البيزي كتابًا عربيًا عن النظرية الطبية عام 1127، مستخدمًا الحبر العربي ليحفظ تقسيم المواد الكيميائية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية، كما في كتب الرازي. كان هذا الحبر، الذي طوره العرب من مواد طبيعية مثل الزاج والعفص، قد سمح بكتابة المخطوطات التي غيرت أوروبا؛ فبدونه، لا شروحات ابن رشد لأرسطو، لا كتب ابن سينا في الطب، ولا حتى مخطوطات دانتي التي كتبها بقلم مغموس في حبر مستورد من قرطبة. "بدون هذا الحبر"، أضاف جيوفاني، وهو يمسح يديه في منديل ملطخ بالأسود، "لا ترجمات في صقلية، حيث رعى روجر الثاني ثقافة نورمانية عربية، وجمع علماء مسلمين في بلاطه ليترجموا أعمال أبي كامل شجاع في الجبر، أو كتاب الوصايا بالجبر والمقابلة الذي أثر في رياضيات فيبوناتشي."
أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف كانت الحروب الصليبية، رغم عنفها، قد فتحت أبواب التبادل؛ ففي صقلية، بعد استعادة النورمان للجزيرة عام 1091، تولد ثقافة هجينة، حيث ترجمت أعمال الرازي وابن سينا إلى اللاتينية باستخدام الحبر العربي، وانتقلت إلى جنوى عبر التجارة. كان الحبر، كما وصفه الإميل درمنجم في دراساته، "دم الحضارة الإسلامية الذي سال في عروق أوروبا"، ففي طليطلة، ترجم جيراردو الكريموني كتب الشفاء لابن سينا، وكتاب حركة الكواكب للبطروجي، وكلها محفوظة بحبر يجف بسرعة ويحافظ على الحبر لقرون. وفي جنوى، أصبح هذا الحبر أساس ورش الكتابة، حيث يُصنع اليوم من نفس المكونات، مزيجًا من الحديد الخام والعفص، ينتج أسودًا لامعًا يشبه ليلاً بغداديًا.
مع غروب الشمس، غادر أنطونيو الورشة محملًا بقارورة حبر، وتوجه إلى مكتبة القديس لورينزو، حيث كانت المخطوطات تتراكم كجبال من الورق، معظمها مكتوب بحبر عربي مستورد. هناك، التقى بلوكا، عالم الرياضيات الذي درس في بولونيا، وماريو الطبيب، وجلس الثلاثة حول طاولة خشبية منحوتة بأنماط أندلسية. "الحبر سمح بكتابة هذه المخطوطات"، قال أنطونيو، وهو يغمس قلمه في القارورة، "لكن الرياضيات هي الروح. الخوارزمي، في بغداد عام 820، أدخل الصفر في حساب الجمل ، وطور الجبر في الجبر والمقابلة ، مما غير الحسابات التجارية في جنوى." لوكا أومأ بحماس، يرسم على لوح: 0، 1، 2... "الصفر ليس رقمًا، بل أساس الثنائي. بدون الخوارزمي، لا فيبوناتشي في 1202، الذي نقل الأرقام الهندية العربية إلى أوروبا في ليبر أباسي ، ولا حسابات دقيقة للسفن في ميناء جنوى. واليوم، الإنترنت مبني على 0 و1، لغة الثنائي التي تعود إلى صفر الخوارزمي، أساس الخوارزميات في الحواسيب."
كان لوكا على حق؛ فالخوارزمي، الذي عاش في القرن التاسع في بغداد، طور نظام الأرقام الهندية العربية، وأصبحت كلمة "algorithm" مشتقة من اسمه "Algoritmi" في الترجمات اللاتينية. في "المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، حل المعادلات الخطية والتربيعية، مستخدمًا الصفر كرمز للعدم، مما سمح بحسابات معقدة للميراث والتجارة، وانتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس، حيث درس فيبوناتشي في بجايا، ثم طبقت في بنوك فلورنسا وجنوى. "والإنترنت؟" أضاف لوكا، "خوارزمياته مبنية على الجبر، حيث 0 و1 يمثلان البتات، أساس البايتات والشبكات. بدون الصفر، لا جبر، لا حسابات رقمية، ولا حتى محركات البحث التي تربطنا بالمعرفة اليوم." ماريو أضاف عن الطب: "والحبر سمح بكتابة القانون لابن سينا، الذي ترجم ودرس في ساليرنو، أساس الطب الأوروبي."
لكن أنطونيو كان يربط كل ذلك بالشبه الأدبي، ففي "رسالة الغفران"، نثر المعري الاستطرادي، مليء بالسجع والاقتباسات، يعكس تعقيد اللغة العربية، كالحبر الذي يسيل بسلاسة لكنه يحتاج إلى يد ماهرة. "الشبه في الأسلوب"، قال أنطونيو، مقتبسًا من الكتاب، "المعري يستطرِد متشعبًا، يخلط المسائل اللغوية بالقصص، ليستر السخرية تحت التعقيد، زعيم التّصنّع في عصره." لوكا رد: "ودانتي في شعره الموجز، كل بيت 11 مقطعًا، ثلاثيات مترابطة، كالرياضيات الدقيقة، يمزج الاستعارة بالحوار، والرموز من الأحياء والطبيعة." كان الشبه في البناء واضحًا: الرحلة الخيالية بدون خوارق إلا الفكرة الأساسية، الجنة ثم النار عند المعري، الجحيم ثم المطهر ثم الفردوس عند دانتي، مترابطة كمعادلات الجبر.
في الليالي التالية، تجول أنطونيو في أسواق جنوى، يشتري مخطوطات مكتوبة بحبر عربي، يقرأ فيها عن الترجمات في صقلية، حيث رعى روجر الثاني علماء مسلمين ليترجموا كتاب "خصائص العناصر" لأرسطو المزيف، و"المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم" لأبي معشر. كان الحبر، كما في دراسات إميل درمنجم، "وسيلة نقل الروح الإسلامية إلى أوروبا"، فبدونه، لا مخطوطات ابن رشد، لا شروحات أفلاطون، ولا تأثير في دانتي الذي أعجب بابن سينا في الليمبو. وفي ورشة رياضيات، رسم لوكا معادلة من الخوارزمي: x² + 10x = 39، يحلها خطوة بخطوة، "هذا الجبر بنى الاقتصاد، والصفر أساس الإنترنت، حيث الثنائي يبني الشبكات."
مع مرور الأسابيع، أصبح أنطونيو يرى الروابط: الحبر كتب الشروحات العربية لأرسطو، أعمق من الأصل، وانتقلت إلى أوروبا عبر طليطلة، تغيرت فلسفة توما الأكويني. الرياضيات بنت الجسور، كالإدريسي في خرائطه، مستخدمًا جبر الخوارزمي. والشبه في الكتابين: نثر المعري معرض للسخرية العقلية، شعر دانتي فيّاض بالحياة، كلاهما جسر بين الواقع والمفترض. في نهاية الفصل، وقف أنطونيو أمام البحر، يغمس قلمه في الحبر، يكتب: "حبر الشرق ورياضيات الغرب، أساس الشبه بين المعري ودانتي." كانت جنوى، في عيون أنطونيو، مصنعًا للحضارة، حيث يسيل الحبر كالأرقام، يبني عالمًا جديدًا.
في ذلك الشتاء، زار أنطونيو مكتبة الدوق، حيث كانت مخطوطات الترجمات تتراكم، مكتوبة بحبر عربي، تحمل آثار أصابع مترجمين من صقلية. هناك، قرأ عن كيف نقلت الترجمات في بيت الحكمة أعمال أرسطو إلى العربية، مضيفة شروحات ابن سينا، ثم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، مستخدمة الحبر لتحفظ "القسي المجهولة في الكرة" لابن معاذ، الذي أثر في رياضيات أوروبا. كان جيرولامو كاردانو في القرن السادس عشر يعتمد على مراجع عربية، وفولبرت من شارتر أول من استخدم كلمات عربية في النصوص اللاتينية. "الحبر كان الوسيلة"، قال لوكا، "سمح بكتابة الوصايا بالجبر لأبي كامل، الذي طور أفكار الخوارزمي، ووصلت إلى فيبوناتشي، الذي غير الحسابات في جنوى."
أنطونيو، الذي كان يقرأ مقطعًا من "الغفران"، قال: "والشبه في الأسلوب: المعري يغلب عليه السجع والتفنن اللفظي، يحشد المعرفة في استطراد متشعب، ليستر السخرية." ماريو أضاف: "ودانتي موجز مركز، كلمات مختارة، يستخدم الاستعارة والرمز بفن عظيم، رموزه من الأحياء لا المجردات." كان الاختلاف في الشكل: نثر عربي معقد مقابل شعر إيطالي مترابط، لكن الجوهر واحد: رحلة للنقد، سخرية من التعصب. في ورشة، صنع أنطونيو حبرًا بنفسه، يمزج العفص بالزاج، يشعر بأصابع الرازي في يديه، ثم كتب معادلة خوارزمية، يحلها كما في "الجبر"، متخيلًا كيف أصبحت أساس الخوارزميات في الحواسيب، حيث 0 و1 يبنيان الإنترنت.
مع رياح الشتاء، تجول أنطونيو في الشوارع، يرى آثار الحبر في الكتب، والرياضيات في الحسابات التجارية. كانت جنوى تمتلك أسطولًا يعتمد على جبر الخوارزمي للحسابات، ومكتبات مكتوبة بحبر عربي. الشبه في الحوادث: لقاء آدم باللغة الأولى، النزهة مع الحوريات. "دانتي اقتبس من المعري عبر الترجمات"، قال لوكا، مستشهدًا ببلاثيوس. في نهاية الفصل، أدرك أنطونيو أن الحبر والرياضيات ليست أدوات، بل أرواح: حبر الشرق كتب الغفران، رياضيات الغرب بنت الكوميديا، في تبادل يمتد إلى الإنترنت. جاهزًا لعيون الروح في الفصل التالي، وقف أنطونيو أمام البحر، يرى في الأمواج رموز الجبر، تسيل كالحبر.
الفصل السادس: عيون الروح والجسد
في ربيع عام 1311، حين كانت أزهار اللوز تتفتح في حدائق بيزا الإيطالية تحت شمس إيطاليا الدافئة، غادر أنطونيو دي جنوفا ميناء مدينته البحرية المزدحم، محملًا بقارورة حبر عربي ومخطوطة تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى، متجهًا إلى بيزا، المدينة التي كانت تضم جامعةً شهيرةً تجذب العلماء من كل أنحاء أوروبا. كانت بيزا، هذه الجوهرة التوسكانية، مزيجًا من الأبراج المنحدرة والشوارع المعبدة بالحصى، حيث يتدفق نهر آرنو كشريان حياة يربط بين الشرق والغرب، تمامًا كما ربطت الترجمات العربية بين التراث اليوناني والعقل الأوروبي الناشئ. أنطونيو، الذي كان قد قضى شتاءه في ورش الحبر يتأمل في رياضيات الخوارزمي، شعر أن رحلته الآن تتجه نحو أسرار الرؤية، تلك العيون التي ترى العالم الخارجي والداخلي، كما رأى المعري الآخرة بعيون الشك، ودانتي الجحيم بعيون الإيمان. كان يعلم أن بيزا، مع جامعة بولونيا القريبة، كانت مركزًا لدراسة الطب العربي، حيث وصلت كتب علي بن عيسى وابن الهيثم عبر صقلية والأندلس، تغيرت وجه الجراحة والرؤية في أوروبا، تمامًا كما غيرت الشروحات العربية لأرسطو فلسفة الغرب. في بيزا، حيث كانت الرياح تحمل رائحة التوابل من قرطبة، قرر أنطونيو أن يغوص في عيون الروح والجسد، تلك التي أنقذت آلافًا من الظلام، وربطت بين سخرية المعري وإلهام دانتي.
وصل أنطونيو إلى بيزا عبر طريق البر الوعر، حيث كانت العربات الخشبية تتأرجح على التلال الخضراء، محملًا بصناديق من التوابل والمخطوطات، لكنه كان يحمل في قلبه وزنًا أثقل: مخطوطة "تذكرة الكحالين"، كتاب علي بن عيسى الكحال، الطبيب البغدادي الذي عاش في القرن الخامس الهجري، وأصبح كتابه مرجعًا في طب العيون لقرون. كانت بيزا، في ذلك العصر، مدينة نابضة بالحياة العلمية، حيث أسست جامعة بيزا عام 1343، لكن جذورها الطبية تعود إلى القرن الثاني عشر، عندما وصلت الترجمات العربية إلى ساليرنو القريبة، ومنها إلى بيزا، حيث درس الأطباء كتب الرازي وابن سينا، وخاصة في علم العيون، الذي كان الكحالون العرب رواده. استقر أنطونيو في حانة صغيرة مليئة بروائح الأعشاب الطبية، تقع في حي الجامعة، حيث كانت الجدران مزخرفة بصور لأطباء عرب يعالجون العيون، مستوحاة من مخطوطات الزهراوي. في تلك الليلة الباردة، جلس أنطونيو بجانب طبيب عيون يدعى فرانشيسكو، رجل في الخمسين، ذا لحية رمادية وعيون حادة خلف نظارات بدائية مصنوعة من الكريستال، ابتكار مستوحى من ابن الهيثم. "الطب العربي في العيون غير حياتنا"، قال فرانشيسكو، وهو يفتح مخطوطة "تذكرة الكحالين"، "علي بن عيسى، الذي عاش في بغداد عام 430 هـ، ألف هذا الكتاب الذي يقسم إلى ثلاث مقالات: الأولى تشريح العين والأعصاب، الثانية أمراض الجفن والقرنية والحدقة، والثالثة الأمراض الباطنة مثل الشبكية والعصب البصري. ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، ودرس في ساليرنو وبولونيا، حيث اقتبس غي دي تشولياك منه 62 مرة في الجراحة الكبرى ."
أنطونيو رفع كأسه من النبيذ، متذكرًا كيف كان علي بن عيسى، الملقب بشرف الدين، أول كحال اقترح التنويم والتخدير بالعقاقير في العمليات الجراحية، وهو أمر لم يكن معروفًا عند اليونانيين. كان الكتاب، كما قال ابن أبي أصيبعة، "الذي لا بد لكل من يعاني صناعة الكحل أن يحفظه"، وقد اقتصر الناس عليه دون غيره، لأنه سهل الاطلاع ومغني عن المراجع الكبيرة. "وفي أوروبا، ظل يدرس حتى القرن الثامن عشر"، أضاف فرانشيسكو، "ترجم إلى اللاتينية باسم جيسوهالي ، وأثر في روجر بيكون وفيتيلو، الذين بنوا عليه علم البصريات." كان هذا التأثير واضحًا؛ فقد وصل كتاب علي بن عيسى إلى أوروبا عبر صقلية، حيث ترجم في بلاط روجر الثاني، وانتشر في الجامعات الإيطالية، حيث أصبح أساس جراحة الساد، عملية سحب الماء الأزرق بالإبرة الذهبية، التي أنقذت آلافًا من العمى في العصور الوسطى.
لكن أنطونيو كان يفكر في الروابط الأعمق، ففي "رسالة الغفران"، كان المعري أعمى يرى الآخرة بعيون الشك، يسخر من الجنة والنار، بينما دانتي في "الكوميديا" يرى الجحيم بعيون الإلهام. "كما أنقذ علي بن عيسى الرؤية الجسدية، أنقذت الغفران الرؤية الروحية لدانتي من التعصب"، قال أنطونيو، مقلبًا صفحات الكتاب. كان فرانشيسكو يعرف القصة؛ فقد كانت قرطبة مركزًا للكحالين، حيث درس علي بن عيسى على يد أبي الفرج بن الصلت، وجمع بين النظرية والممارسة، مستخدمًا أدوات دقيقة مثل المشرط الرفيع، ووصف 130 مرضًا للعين، مع علاجات تجريبية. في أوروبا، وصلت هذه المعرفة عبر طليطلة، حيث ترجم جيراردو الكريموني كتب الرازي، وانتقلت إلى بيزا عبر التجارة، تغيرت الجراحة من الخرافات إلى العلم. "والكحالون كانوا يعالجون الجدري بالكحل، ووصلت إلى ساليرنو"، أضاف فرانشيسكو، مشيرًا إلى كيف كان الكحل، مسحوق الملح الحجري، أساس علاج الالتهابات، وكيف طور الزهراوي 200 أداة جراحية، بما فيها للعيون.
مع الفجر، خرج الاثنان إلى شوارع بيزا، حيث كانت الأبراج تلامس السماء الزرقاء، والنهر يتدفق بهدوء تحت الجسور الحجرية. كانت بيزا قد شهدت صراعات داخلية، لكن الرخاء العلمي أعاد التوازن، وفي ساحة الدومو، وقف أنطونيو أمام المعجزة الميلانية، الكاتدرائية الضخمة، متذكرًا كيف أثرت العمارة العربية في تصميمها، مع قوسها الإسلامي المنحني. كانت المدينة قد اعتمدت على الترجمات من العربية في طليطلة، حيث ترجمت شروحات ابن الهيثم للبصريات، التي كانت أعمق من الأصل اليوناني، إلى اللاتينية، ووصلت إلى بيزا عبر صقلية. هناك، في عهد روجر الثاني، اختار الأمير النورماني قادة عربًا مثل عبد الرحمن النصراني لمناصب عالية، وكانت الترجمات تنتشر كالنار في الهشيم. في ذلك اليوم، توجه أنطونيو إلى عيادة فرانشيسكو، حيث شاهد عملية جراحية باستخدام مشرط عربي، مستوحى من الزهراوي، الذي وصف 100 أداة جراحية في "التصريف". "الكحالون كانوا يعالجون الساد بالإبرة الذهبية، ووصلت إلى أوروبا عبر صقلية"، قال الطبيب، مشيرًا إلى كيف كان علي بن عيسى أول من وصف التهاب الشريان الصدغي وعلاقته بالشقيقة، وكيف اقترح التخدير بالعقاقير، أمرًا لم يعرفه الإغريق.
لكن الشبه الأدبي ظل يلازمه، ففي "الكوميديا الإلهية"، يرى دانتي العالم بعيون الروح، يصف الجحيم بتفاصيل حية، مستوحى من المعراج الإسلامي، بينما المعري الأعمى يرى الغفران بعيون الشك، يسخر من الشعراء في الجنة. "كيف ربط الطب العربي بين الرؤية الجسدية والروحية؟" سأل أنطونيو. فرانشيسكو أجاب: "ابن الهيثم في المناظر ، الذي كتبه في القاهرة عام 1011، أثبت أن الرؤية تأتي من الضوء الخارجي، لا الأشعة الداخلية كالإغريق، وشرح تشريح العين، أساس النظارات في أوروبا." كان ابن الهيثم، المولود في البصرة عام 965، قد رفض نظرية أرسطو، وأجرى تجارب معملية في الكاميرا المظلمة، أول جهاز بصري، ووصف انكسار الضوء، مما أثر في روجر بيكون وفيتيلو، الذين بنوا عليه علم البصريات الغربي. ترجم "المناظر" إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وظل مرجعًا حتى نيوتن في القرن السابع عشر، الذي اعترف بتأثير ابن الهيثم في "الضوء البدئي".
في الأيام التالية، تجول أنطونيو في بيزا، يزور المكتبات والعيادات، يناقش مع الأطباء كيف كانت قرطبة مركزًا للكحالين، حيث درس علي بن عيسى على يد أبي الفرج، وجمع بين النظرية والممارسة، مستخدمًا الكحل لعلاج الالتهابات، والإبرة الذهبية لجراحة الساد. في أوروبا، وصلت هذه المعرفة عبر الحروب الصليبية، حيث عالج الأطباء العرب الصليبيين، وانتقلت إلى ساليرنو، حيث أصبحت "مدرسة ساليرنو" أول جامعة طبية في أوروبا، تعتمد على كتب الرازي وابن سينا. "والكحل، مسحوق الملح الحجري، أساس علاج الجدري، ووصل إلى بيزا عبر التجارة"، قال فرانشيسكو، مشيرًا إلى كيف كان الزهراوي في "التصريف" وصف 200 أداة جراحية، بما فيها للعيون، وترجمت في 1127، أساس الجراحة الأوروبية. كان الطب العربي رائدًا في العصور الوسطى، بينما كان الطب الغربي غارقًا في الخرافات، وأدى الإسلام إلى تقدم كبير في علم البصريات، كما يقول المؤرخون.
مع غروب الشمس، مشى أنطونيو في شوارع بيزا، يرى آثار الشرق: القوس الإسلامي في الكنائس، الأعشاب في الطعام، العلم في المحادثات. كانت بيزا تمتلك أسطولًا ينافس جنوى، تجارة مع العثمانيين، لكن الثراء كان في المعرفة: شروحات ابن الهيثم للبصريات أثرت في دانتي، الذي رأى السماء بعيون الإلهام، الجراحة أنقذت الرؤية الجسدية. في تلك الليلة، جلس أنطونيو يكتب مذكراته: "بيزا عيون الروح، حيث أنقذ علي بن عيسى الجسد، وابن الهيثم الرؤية." كان الشبه واضحًا: المعري الأعمى يرى بالشك، دانتي بالإيمان، والعيون العربية ترى العالم.
في اليوم التالي، زار أنطونيو عيادة أخرى، حيث شاهد طبيبًا يعالج طفلًا بالكحل، مستوحى من صلاح الدين الكحال في "نور العيون"، كتاب يصف 50 مرضًا للعين، ترجم إلى اللاتينية، وأثر في أوروبا. "الكحالون كانوا يعالجون الشقيقة بالتهاب الشريان"، قال الطبيب، مشيرًا إلى إسهامات علي بن عيسى في وصف الالتهابات. أنطونيو ربط: "كما في الغفران ، يرى المعري الشعراء بعيون النقد، ودانتي الملوك بعيون السخرية." كان ابن الهيثم قد أثبت خطأ الإغريق بتجارب، وصف تكون الصورة بالإسقاط، أساس الكاميرا، وترجمت "المناظر" إلى اللاتينية، أثرت في روجر بيكون، الذي قال: "ابن الهيثم أمير النور." في بيزا، درس فيتيلو كتاب ابن الهيثم، وبنى عليه "البصريات" عام 1270، مما أدى إلى نظارات في القرن الرابع عشر.
مع مرور الأسابيع، أصبح أنطونيو جزءًا من دائرة الأطباء في بيزا، يناقشون كيف كانت بغداد مركزًا للكحالين، حيث درس علي بن عيسى على يد أبي الفرج، وألف كتابه الذي يحتوي 130 مرضًا، مع علاجات تجريبية، ووصل إلى أوروبا عبر الحروب الصليبية، حيث عالج صلاح الدين الصليبيين. في ساليرنو، أصبحت "مدرسة ساليرنو" تعتمد على كتب الرازي، وانتقلت إلى بيزا، حيث أصبحت الجراحة علمًا لا خرافة. "والإبرة الذهبية لجراحة الساد، ابتكار عربي، أنقذت آلافًا"، قال فرانشيسكو. أنطونيو ربط بالأدب: "كما أنقذت الكوميديا روح دانتي، أنقذت المناظر رؤيته."
في نهاية إقامته، وقف أنطونيو أمام نهر آرنو، ينظر إلى الجسر الذي يربط الضفتين، رمزًا للجسر بين الجسد والروح. "بيزا عيون الغرب، مستوحاة من عيون الشرق"، همس، وهو يغادر، محملًا بمعرفة جديدة، جاهزًا لجسر الخرائط في الفصل التالي. كانت عيون الروح والجسد، في أحلام أنطونيو، دليلًا على أن الحضارة بنيت على رؤية عربية، من علي بن عيسى إلى ابن الهيثم، في عالم لا يعمى.
الفصل السابع: جسر الخرائط
عاد أنطونيو دي جنوفا إلى جنوى في صيف عام 1311، حيث كانت الشمس الحارقة تضرب سطح البحر المتوسط كمطرقة على سندان، تحول الأمواج إلى لوحات فضية تتلألأ تحت أشعة الظهيرة، وكانت المدينة الليغورية تنبض بحياة تجارية لا تهدأ، سفنها الخشبية الضخمة تحمل أسماء مثل "رياح قرطبة" أو "نجوم بغداد"، تشهد على الروابط الخفية بين الشرق والغرب. كان أنطونيو، الذي قضى أشهرًا في بيزا يغوص في أسرار عيون الروح والجسد، يشعر بأن رحلته الآن تتجه نحو جسر الخرائط، تلك الخطوط الرفيعة التي رسمها الإدريسي وابن حوقل، مبنية على رياضيات الخوارزمي، ووصلت إلى كولومبوس بعد قرون، مكتشفًا بها العالم الجديد. كان يعلم أن جنوى، هذه المدينة التي بنت إمبراطوريتها على الحصارات العربية في دمشق والأندلس، لم تكن مجرد ميناء؛ بل كانت جسرًا حيًا، حيث تتقاطع الخرائط العربية مع الأرقام التي أصبحت أساس الحروف الأوروبية في الحسابات، وتربط بين سخرية المعري في رسالة الغفران وإلهام دانتي في الكوميديا الإلهية، خاصة في تلك الحوادث المشتركة مثل لقاء آدم باللغة الأولى، والنزهة مع الحوريات. في جنوى، حيث كانت الأبراج الحجرية تطل على الأفق كحراس أوفياء، قرر أنطونيو أن يعبر هذا الجسر، يستكشف كيف بنت الخرائط العربية الطرق، والأرقام أساس التقدم، والشبهات الأدبية دليلًا على تبادل حضاري عميق.
وصل أنطونيو إلى منزله القديم في حي المدينة القديمة، حيث الشوارع الضيقة تشبه متاهات الإدريسي في وصفه لمدن الأندلس، مليئة بروائح التوابل والحبر الطازج، وأضاء مصباحًا زيتيًا مصنوعًا من النحاس العربي، وفتح الخريطة التي اشتراها من أحمد بن يوسف في صقلية: رسمها محمد الإدريسي في عام 1154 لروجر الثاني، ملك صقلية النورماني، وهي تُظهر العالم بدقة مذهلة، من الصين إلى المغرب، مع خطوط الطول والعرض مستمدة من الرياضيات العربية، وكانت الخريطة دائرية، مع الجنوب في الأعلى والشمال في الأسفل، رمزًا لكروية الأرض التي أثبتها الإدريسي بتجارب علمية، في وقت كانت الكنيسة الأوروبية تعدم من يقول بذلك. كان الإدريسي، المولود في سبتة عام 1100، قد درس في قرطبة، وسافر إلى آسيا الصغرى وأوروبا، ثم استقر في صقلية، حيث جمع معلومات من رحالة أرسلهم روجر، ورسم 70 لوحة جغرافية، مجمعة في كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، أو كتاب روجر، ووصفت 83 منطقة إعجازية، مع وصف دقيق للمدن والأنهار والجبال. "هذه الخرائط التي سيستخدمها كولومبوس"، همس أنطونيو لنفسه، متذكرًا كيف اعتمد كولومبوس في رحلته عام 1492 على نسخة من خريطة الإدريسي، التي وصلت إليه عبر البرتغاليين، الذين حصلوا عليها من صقلية، وكانت تحدد مضيق ماجلان وأجزاء من أمريكا الجنوبية بدقة تُقارب الخرائط الحديثة، كما أثبت المؤرخ التركي محمد فؤاد سزكين في كتابه "اكتشاف المسلمين للقارة الأمريكية قبل كريستوفر كولومبوس"، حيث تتبع الخرائط العثمانية والجاوية والبرتغالية، وأكد أن البحارة العرب والمسلمين سبقوا كولومبوس في استكشاف المحيط الأطلنطي.
في اليوم التالي، توجه أنطونيو إلى مكتبة الدوق في جنوى، حيث كانت المخطوطات تتراكم كجبال من الورق، معظمها مكتوب بحبر عربي، وهناك التقى بلوكا، عالم الرياضيات، الذي كان يدرس نسخة من "الجبر والمقابلة" للخوارزمي. "الخرائط مبنية على رياضيات الخوارزمي"، قال بلوكا، يرسم على لوح: خطوط الطول والعرض، "الصفر الخوارزمي سمح بحسابات دقيقة للمسافات، وانتقلت إلى الإدريسي عبر بيت الحكمة في بغداد، حيث جمع الخوارزمي المعرفة الهندية واليونانية، وطور الجبر، مما غير الحسابات التجارية في جنوى." كان بلوكا على حق؛ فالإدريسي اعتمد على أعمال الخوارزمي في حساب الإحداثيات، ووصف العالم بـ7 أقاليم، مع خرائط مقلوبة الجنوب في الأعلى، كما في 6 نسخ محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية، وكانت هذه الخرائط أساسًا لخرائط كولومبوس، الذي اطلع عليها في البرتغال، واستخدمها ليصل إلى أمريكا، ظانًا إياها آسيا، كما يقول الباحثون في "أول خريطة للعالم رسمها الإدريسي". أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف كان الإدريسي قد رسم مجسمًا للكرة الأرضية، أول من فعل ذلك، ووصف المدن بدقة، من القاهرة إلى لندن، مستخدمًا تقارير الرحالة والملاحظة المباشرة.
لكن أنطونيو كان يربط الخرائط بالأرقام، فالأرقام العربية، التي طورها الخوارزمي، أصبحت أساس الحسابات الأوروبية، ومنها اشتق بعض الحروف في الترقيم. "الأرقام العربية ليست مجرد رموز"، قال بلوكا، "بل أساس الثنائي 0 و1 في الإنترنت، وفي الحسابات التجارية، نقلها فيبوناتشي في 1202، الذي درس في بجايا بالأندلس، وغيرت بنوك فلورنسا وجنوى." كان الأرقام العربية، المعروفة عالميًا بـ"Arabic numerals"، هندية الأصل لكن عربية الانتشار، حيث طورها الخوارزمي في "حساب الجمل"، وانتقلت إلى أوروبا عبر البابا سلفيستر الثاني، الذي درس في القرويين بفاس، وأدخلها إلى روما عام 999، وأصبحت أساس الترقيم، حيث مشتقة من حروف الجمل العربية في بعض الأشكال، كما في مخطوطة فيجيليانوس عام 975 في الأندلس، أقدم مخطوطة أوروبية تحتويها بدون الصفر. في جنوى، أصبحت هذه الأرقام أساس الحسابات البحرية، والحروف في الوثائق التجارية، حيث تستخدم في الرموز البريدية والعملات، مشتقة جزئيًا من أشكالها العربية.
مع غروب الشمس، جلس الاثنان في فناء المكتبة، يناقشان الشبه الأدبي، ففي "رسالة الغفران"، يلتقي ابن القارح بآدم في الجنة، يتحدث عن اللغة الأولى، العربية، قائلاً: "إنّما كنتُ أتكلّم بالعربيّة وأنا في الجنّة، فلمّا هبطتُ إلى الأرض نُقل لساني إلى السّريانيّة." وفي "الكوميديا"، يلتقي دانتي آدم في السماء الثامنة، يناقشان اللغة الأصلية في جنة عدن. كان هذا التطابق مذهلاً، كما في دراسات بلاثيوس، الذي أثبت التأثير الإسلامي عبر ترجمات المعراج. بلوكا أضاف: "والنزهة مع الحوريات: عند عودة ابن القارح من الجحيم، تلقاه حورية عاتبة رقيقة، تصحبه في حدائق الجنان. عند دانتي، ماتيلدا تلقاه في غابة الفردوس الأرضي، باسمة عاتبة، تجيب على أسئلته بلطف، ويمضي معها حتى يلتقي ببياتريس محاطة بالحسان." كان الشبه في النزهة واضحًا، رمزًا للانتقال من الدنيا إلى السماء، مستوحى من قصص الإسراء.
في الأيام التالية، تجول أنطونيو في أسواق جنوى، يرى آثار الخرائط: تجار يحسبون المسافات بالأرقام العربية، ويرسمون خطوط الطول على الجلود، مستوحين من الإدريسي. كانت الخرائط العربية، كما في كتاب سزكين، أساس اكتشافات المسلمين لأمريكا قبل كولومبوس، مع خريطة بيري رئيس التي تُشبه الخرائط الحديثة، ووصلت إلى البرتغال عام 1428، تحدد مضيق ماجلان. أنطونيو تذكر كيف كان الإدريسي قد جمع 70 لوحة، مع وصف 83 منطقة، وكانت خريطته مستديرة، كالبيضة، صفارها الأرض محاطًا بالبياض كالماء، وألهمت كولومبوس وفاسكو دا غاما، كما في "معلومات عن الإدريسي". في مكتبة، قرأ أنطونيو عن الأرقام: "الأرقام العربية أساس الترقيم العالمي، مشتقة من حروف الجمل، وأصبحت أساس الحسابات، حيث نقلها البابا سلفيستر من القرويين، وغيرت أوروبا."
مع مرور الأسابيع، أصبح أنطونيو جزءًا من دائرة التجار، يناقشون كيف بنت الخرائط الجسور: الإدريسي رسمها لروجر، مستخدمًا رياضيات الخوارزمي، ووصلت إلى كولومبوس، الذي اعتمد عليها في رحلته، واكتشف أمريكا. "بدون الإدريسي، لا اكتشافات"، قال بلوكا، مشيرًا إلى 1456 نسخة من الخريطة، محفوظة في أكسفورد وبودلي. أنطونيو ربط بالأدب: "كما في لقاء آدم، يتحدث عن اللغة في الجنة، رمز للأصل المشترك، والنزهة مع الحوريات، انتقال من الجحيم إلى الجنة." كان الشبه في الحوادث دليلًا على التأثير، كما في دراسات غنيمي هلال: "الشبه في الرحلة والأقسام."
في نهاية الفصل، وقف أنطونيو أمام سفينة تقلع، جاهزًا للعودة إلى فلورنسا، محملًا بخريطة الإدريسي: "هذه وصلت إلى كولومبوس، مبنية على رياضيات عربية." كان الجسر قد اكتمل، حيث تربط الخرائط بين الشرق والغرب، والأرقام أساس الحسابات، والشبهات دليلًا على التبادل. في عيون أنطونيو، كانت جنوى جسرًا، يعبره المعري ودانتي، في رحلة لا تنتهي نحو الغفران الإلهي.
الفصل الثامن: غفران الإلهي
في أواخر صيف عام 1311، حين كانت شمس إيطاليا الغاربة تلون سماء جنوى بلون الياقوت والمرجان، كما وصفها المعري في رحلته الخيالية إلى الجنة، وقف أنطونيو دي جنوفا أمام رصيف الميناء الرئيسي، يراقب سفنًا تقلع نحو فلورنسا، محملة بالتوابل من قرطبة والحرير من دمشق، لكنه كان يحمل في قلبه وزن رحلة طويلة انتهت الآن، رحلة بدأت بأمواج الشرق في موانئ الغرب، ومرّت بأصداء المعري في فلورنسا، وخرائط الخوارزمي في بيزا، وسخرية الآخرة في أحلامه، وحبر الشرق في ورشه، وعيون الروح في عياداته، وجسر الخرائط في أسواقه، لتصل إلى هذه اللحظة حيث يدرك أن جنوى، ومعها المدن الإيطالية الأخرى، بنيت أساس حضارتها الأوروبية على الاستفادة من الحصارات العربية في دمشق وبغداد وقرطبة، حيث لم تكن الحروب دائمًا بالسيوف، بل بالكتب والخرائط والأدوات الجراحية والرياضيات التي غيرت وجه العالم. كان أنطونيو، الشاب الذي بدأ رحلته تاجرًا عاديًا، قد تحول إلى عالم يرى الروابط الخفية، يربط بين الشروحات العربية لأرسطو التي أعمق من الأصل، والخرائط التي وصل بها كولومبوس إلى القارة الجديدة، والحبر الذي كتب به المعري سخريته، والرياضيات التي أصبحت أساس الإنترنت، والطب في العيون الذي أنقذ الرؤية الجسدية والروحية، وفوق كل ذلك، الشبه بين "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري و"الكوميديا الإلهية" لدانتي أليغييري، دليل على تبادل حضاري يجعل الشرق والغرب وجهًا لوجه في مرآة الآخرة.
كانت الشمس تغرب ببطء، تلقي ظلالًا طويلة على الأبراج الحجرية الشاهقة، تلك التي بنيت بأقواس إسلامية منحنية مستوحاة من مساجد قرطبة، وأنطونيو تذكر كيف بدأت رحلته في صباح صافٍ من عام 1310، عندما عاد من صقلية محملًا بـ"رسالة الغفران"، تلك الرسالة الخيالية التي أملاها المعري في معرة النعمان حوالي 424 هـ/1033 م، ردًا على ابن القارح الحلبي، الذي طلب الشهرة بالمراسلة، فكتب المعري قصة تجري في يوم القيامة، ينهض ابن القارح من القبر، يصعد إلى الجنة يلتقي الشعراء الجاهليين مثل الشنفرى وابن الرومي، يناقشون أشعارهم عن الخمر والحب، يغفر الله لهم بسبب بلاغتهم، ثم ينزل إلى النار يرى الغيلان تعذب الآثمين حسب أخطائهم الأدبية، مليئة بالسخرية اللاّذعة والنقد اللغوي، كما قال طه حسين إنها أول قصة خيالية عند العرب، مستوحاة من أساطير الجن والقرآن وقصص كليلة ودمنة. كان ذلك الكتاب، الذي بلغ 61 ألف كلمة في ثلاثمائة صفحة، قد وصل إليه عبر تاجر عربي، وأشعل فيه شرارة البحث عن الشبه مع "الكوميديا الإلهية"، تلك الملحمة الشعرية التي بدأ دانتي نظمها عام 1307، وانتهى بها عام 1321 قبل وفاته، مكونة من 100 نشيد، ثلاثة أجزاء: الجحيم بتسع دوائر، المطهر جبلًا عاليًا، الفردوس تسع كرات سماوية، يبدأ في غابة الضلال، يرشده فرجيل إلى الجحيم ثم المطهر، ثم بياتريس إلى الفردوس، ساخرًا من التعصب والسياسيين، مستوحى من الثالوث المقدس في الهيكل الثلاثي.
في تلك اللحظة، وهو ينظر إلى البحر، تذكر أنطونيو كيف كانت جنوى، مع البندقية وبيزا، أساس الحضارة الأوروبية، مستفيدة من الحصارات العربية في دمشق، عاصمة الأمويين ثم العباسيين، حيث كان بيت الحكمة يجمع المترجمين ليحولوا اليونانية إلى العربية، مضيفين شروحات أعمق، كشروحات ابن رشد لأرسطو التي غيرت الفلسفة الغربية، ووصلت عبر صقلية إلى توما الأكويني، الذي اعتمد عليها في "الخلاصة اللاهوتية". كانت الشروحات العربية أهم من النصوص اليونانية الأصلية، فأضافت التجارب والمنطق، كما في "الشفاء" لابن سينا، الذي ترجم إلى اللاتينية ودرس في بولونيا وبيزا، أساس الطب والفلسفة الأوروبية. أما الخرائط، فكانت الإدريسي في "نزهة المشتاق" رسمها لروجر الثاني عام 1154، أول خريطة دقيقة للعالم، مع 70 لوحة ووصف 83 منطقة، وصلت إلى كولومبوس عبر البرتغال، الذي اعتمد عليها في رحلته 1492، مكتشفًا أمريكا، كما أثبت الباحثون في دراساتهم عن "اكتشاف المسلمين للقارة الأمريكية". كانت هذه الخرائط مبنية على رياضيات الخوارزمي، الذي طور الصفر والجبر في بغداد، وانتقلت إلى فيبوناتشي في بجايا، ثم إلى أوروبا، أساس الحسابات البحرية في جنوى.
أنطونيو تذكر الحبر العربي، الذي صنع من عفص البلوط والزاج في ورش بغداد وقرطبة، وصل إلى جنوى عبر الأندلس، سمح بكتابة المخطوطات التي نقلت الشروحات، كما في ترجمات جيراردو الكريموني في طليطلة، حيث كتب بحبر عربي كتب الرازي وابن سينا، أساس الطب الأوروبي. كان الحبر، كما وصفه المؤرخون، "دم الحضارة الإسلامية"، فبدونه لا كتب، لا ترجمات، ولا حتى "الغفران" التي كتبها المعري في محبسه، ردًا على ابن القارح، مليئة بالسخرية والنقد الأدبي. أما الرياضيات، فالصفر الخوارزمي أساس الجبر، والثنائي 0 و1 في الإنترنت، حيث الخوارزميات تبني العالم الرقمي، كما في "حساب الجمل" الذي غير الحسابات التجارية في جنوى، ووصل إلى فيبوناتشي عام 1202. كانت الحروف الأوروبية اليوم مشتقة جزئيًا من العربية، عبر الأندلس، حيث استخدمت في الترقيم والرموز، كما في مخطوطة فيجيليانوس عام 975، أقدم مثال أوروبي للأرقام العربية.
في عيون الروح، تذكر أنطونيو علي بن عيسى في "تذكرة الكحالين"، الذي وصف 130 مرضًا للعين، وجراحة الساد بالإبرة الذهبية، ترجم إلى اللاتينية ودرس في ساليرنو وبيزا، أنقذ آلافًا من العمى، كما أنقذ ابن الهيثم الرؤية في "المناظر"، شرح البصريات، أساس النظارات والكاميرا، ترجم في القرن الثاني عشر، أثر في روجر بيكون. كانت هذه العيون ترى الجسد والروح، كما رأى المعري الآخرة بعيون الشك، ودانتي الجحيم بعيون الإيمان. الشبه بين الكتابين كان الخيط الذي يربط كل شيء: في "الغفران"، رحلة ابن القارح إلى الجنة والنار، سخرية من الأدباء، هيكل ثنائي، نثر استطرادي مليء بالسجع، مستوحى من المعراج والأساطير العربية. في "الكوميديا"، رحلة دانتي إلى الجحيم والمطهر والفردوس، سخرية من التعصب، هيكل ثلاثي، شعر مترابط، مستوحى من الترجمات الإسلامية. الشبه في البناء: الرحلة بدون خوارق إلا الفكرة، الدليل، الأقسام، كما قال غنيمي هلال "الشبه في نوع الرحلة وأقسامها وكثير من مواقفها".
أنطونيو تذكر لقاء آدم: في "الغفران"، يتحدث آدم عن العربية في الجنة، ثم السُريانية على الأرض. في "الكوميديا"، يناقش دانتي آدم اللغة الأصلية في عدن. النزهة: حورية عاتبة تقود ابن القارح في الحدائق، ماتيلدا تقود دانتي في غابة الفردوس. الشبه في الشخصيات: الشعراء في الجنة عند المعري، الفلاسفة في الليمبو عند دانتي، سعة الرحمة للكفار. كان بلاثيوس في "الإسلام والكوميديا" أثبت التأثير عبر ترجمات المعراج عام 1264، قبل دانتي بسنة، وانتشرت في إيطاليا، كما في وثيقة ألفونسو العاشر. شوقي ضيف قال "المعري صنع كوميديا إلهية وأثر في العالمية"، وعمر فروخ "تنتزع السبق من دانتي". لويس عوض رجح ترجمة لاتينية ضائعة، وصلاح فضل أكد التطابق في الوصف.
مع غروب الشمس، جلس أنطونيو في غرفة مكتبه، يكتب مذكراته: "جنوى بنيت على الشرق، الشروحات أعمق من الأصل، الخرائط وصلت كولومبوس، الحبر كتب التاريخ، الرياضيات أساس الإنترنت، العيون أنقذت الرؤية، والشبه بين الكتابين دليل التبادل." كان الفصل الثامن نهاية الرحلة، لكنه بداية، حيث يمتد الغفران الإلهي إلى الأبد، رابطًا بين المعري ودانتي في ظلال الحضارة. كانت جنوى، في عيون أنطونيو، بوابة الغفران، حيث يلتقي الشرق بالغرب في وحدة إلهية.
الفصل التاسع: ظلال الأعمى في فلورنسا
مع اقتراب الخريف على جنوى في عام 1311، حيث كانت أوراق الأشجار الخضراء في حدائق المدينة تبدأ في الاصفرار كأنها صفحات مخطوطة قديمة تذبل تحت وطأة الزمن، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن الرياح الباردة من الشمال تحمل معها أصداءً خافتة لصوت أبي العلاء المعري، ذلك الشاعر الأعمى الذي ولد في معرة النعمان عام 363 هـ/973 م، وفقد بصره في الرابعة بسبب الجدري، لكنه اكتسب بصرًا داخليًا أعمق من أي رؤية جسدية، يرى فيه الآخرة ليس كنور إلهي، بل كمسرحية ساخرة مليئة بالتناقضات البشرية والأدبية. كان أنطونيو قد عاد من رحلاته الطويلة في بيزا وفلورنسا، محملًا بمخطوطات تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى وخرائط الإدريسي، لكنه الآن يجد نفسه عالقًا في غرفة مكتبه، مضاءة بمصباح زيتي يتمايل مع الريح، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها بوابة إلى عالم الآخرة الذي يربط بين الشرق السوري والغرب الإيطالي. كانت المدينة خارج النافذة تغفو تحت غيوم رمادية، سفنها في الميناء ترسو كأرواح متعبة، وأنطونيو يتساءل كيف وصلت هذه الرسالة، المكتوبة في محبس المعري لخمسين عامًا، إلى يدي دانتي المنفي في فلورنسا، لتصبح إلهامًا لرحلته الخيالية في "الكوميديا الإلهية". كان يعلم أن الجسر لم يكن بحريًا فحسب، بل ثقافيًا، عبر ترجمات صقلية والأندلس، حيث كانت النسخ اللاتينية الضائعة تنتقل كأسرار تجارية، تحمل سخرية المعري إلى عقل دانتي الذي يبحث عن الخلاص في ظلال التعصب.
في تلك الليلة، التي كانت الرياح فيها تهز النوافذ كأنها أرواح الجن في وصف المعري، جلس أنطونيو أمام الطاولة الخشبية العتيقة، يمسك بالمخطوطة البالية التي اشتراها من أحمد بن يوسف في صقلية، نسخة جزئيًا مترجمة إلى اللاتينية في بلاط ألفونسو العاشر، الملك الحكيم في قشتالة عام 1264، قبل ولادة دانتي بسنة واحدة. كان المستشرق الإسباني ميغيل أسين بلاثيوس قد أثبت في كتابه "الإسلام والكوميديا الإلهية" عام 1919 أن هذه الترجمة، التي أمر بها ألفونسو طبيبًا يهوديًا يدعى أبراهام الحكيم، كانت أساسًا لانتشار قصص المعراج والآخرة الإسلامية في أوروبا، ومنها "الغفران" كجزء من مجموعة نصوص أدبية شرقية، ثم نقلها المترجم الإيطالي بونيا فينتورا دي سينا إلى اللاتينية في العام التالي، 1265، وانتشرت في المكتبات الفلورنسية عبر التجارة مع صقلية، حيث كانت الثقافة النورمانية العربية مزيجًا فريدًا يجمع بين الإسلام والمسيحية. تذكر أنطونيو كيف كان معلّم دانتي، برونيتو لاتيني، قد زار الأندلس في الستينيات من القرن الثالث عشر، وعاد محملًا بمخطوطات عربية، بما فيها نسخ جزئية من "الغفران"، التي قرأها دانتي في نفيه بين 1302 و1310، مستلهمًا هيكلها الثنائي ليبني هيكله الثلاثي، مضيفًا اللمسة الإيطالية. كان لويس عوض في "على هامش الغفران" يرجّح وجود ترجمة لاتينية ضائعة قرأها دانتي مباشرة، أوضح ما يُنسب إلى الصدفة، وكان تشيروللي في تحقيقاته عام 1949 قد نشر الترجمات اللاتينية والفرنسية لوثيقة المعراج، مؤكدًا انتشارها في إيطاليا، مما يجعل "الغفران" جزءًا من هذا التيار.
أغلق أنطونيو عينيه، والريح تهز الستائر، وغرق في حلم يشبه رحلة ابن القارح، يجد نفسه في غابة مظلمة تشبه غابة دانتي، لكن أشجارها مزخرفة بآيات قرآنية محفورة، وفجأة يظهر المعري، الأعمى ذو اللحية البيضاء الطويلة، يرتدي رداءً من الصوف الخشن كالذي لبسَه في محبسه، يمسك بعصا من التمر المجفف، يقول بصوت هادئ لكنه حاد كسيف نحوي: "مرحبًا بك في ظلال الأعمى، أيها التاجر الجنوي، هل جئت لترى الآخرة بعيون الشك، أم لتسمع سخريتي من الجنة والنار؟" أنطونيو أومأ، مذهولًا، وفي لحظة، وجدا نفسيهما يسيران في طريق ضبابي يتفرع إلى جنتين وجحيمين متداخلين، كأن الحلم يمزج بين الرسالتين، والمعري يشير بعصاه إلى منظر بعيد حيث يجتمع شعراء الجاهلية في قصر من الياقوت، يناقشون النحو والشعر بينما حوريات يقدمن لهم الخمر المحرم في الدنيا، ويقول المعري: "هنا في الجنة، يلتقي ابن القارح بالشعراء، يسألهم عن أشعارهم، فيبررون هجاءهم وغرامهم، ويغفر الله لهم بسبب جمال كلامهم، رغم كفرهم أحيانًا، فالشعر يفتح أبواب الغفران، وهذا نقدي للفقهاء الذين يضيقون رحمة الله." كان أنطونيو يستمع، وفجأة يظهر دانتي، الشاب ذو العيون الحادة، يرتدي رداءً أحمر يشبه رداء المنفيين في فلورنسا، يقول: "أيها الأعمى الحكيم، لقاءاتك بالشعراء في الجنة ألهمتني لليمبو في الجحيم، حيث ألتقي بفيرجيل وهوميروس، أعترف بفضلهم رغم وثنيتهم، فالإبداع يتجاوز الدين، كما في نشيدي الرابع: وَرَأَيْتُ هُنَاكَ الْبَارْدَ الْعَظِيمَ هُومِيرُوسَ الْبَوَّلَاءَ، وَهُورَاسَ الْلَاطِينِيَّ، وَأُوْبِيدَ وَأُوْفِيدَ، وَفِيرْجِيلْيُوسَ الْمَارُوْنِيَّ، يَتَحَدَّثُونَ فِي فَنْوِهِمْ وَمَعَانِيهَا، وَيَتَعَارَفُونَ بِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُدَارَسَةِ. "
استمر الحلم، والثلاثة يجلسون في ساحة خيالية، جدرانها مزخرفة بآيات من الرحمن ونشيدات من الكوميديا، والمعري يقول: "في رسالتي، كتبتُها رهينًا المحبسين، ردًا على ابن القارح الماكر الذي أرسل إليّ رسالة يشكو فيها أمره، يسأل عن الزندقة، فأجبته بقصة تجري في موقف الحشر، الجنة، النار، وسَمَّيْتُهَا الغفران لكثرة ذكر الغفران فيها، بِمَ غُفِرَ لَكَ يَا شَاعِرُ؟ بِقَوْلِي الْحَسَنِ. هذا السخرية من التعصب، فالرحمة وسعت كل شيء، حتى الكفار الشعراء." دانتي أومأ، عيناه تلمعان كنجوم في السماء الثامنة: "وأنا في نفي من فلورنسا عام 1302، هامًا بين المدن الإيطالية، قرأتُ ترجمتكِ اللاتينية الضائعة في مكتبة باليرمو، عبر صقلية، حيث كانت الثقافة النورمانية تجمع العرب واللاتين، وترجمتُ الهيكل الثنائي إلى ثلاثي، الجحيم للعذاب، المطهر للتطهير، الفردوس للطوبى، مستوحى من سعة رحمتك، فوضعتُ ابن رشد وابن سينا في الليمبو مع أرسطو، فاضلين رغم كفرهم، لأن علمهم أعمق من النصوص اليونانية." أنطونيو تدخل: "كيف وصلت النسخة بالضبط؟" رد دانتي: "عبر ألفونسو العاشر، الذي أمر بترجمتها إلى القشتالية عام 1264، ثم إلى اللاتينية بواسطة بونيا فينتورا، الإيطالي في بلاطه، وانتشرت في فلورنسا عبر معلّمي برونيتو لاتيني، الذي زار الأندلس وعاد محملًا بمخطوطات، قرأتُها في 1307، أثناء كتابة الجحيم، فألهمتني السخرية اللاّذعة."
في الحلم، انتقل الثلاثة إلى الجنة، حيث كانت الأنهار تجري باللبن والعسل، والحوريات ترقص حول قصور الياقوت، كما وصف المعري مستوحى من سورة الرحمن "كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ"، وهناك التقوا بزهير بن أبي سلمى، الشاعر الجاهلي، الذي يقول لابن القارح في الرسالة: "أَنَا زَهْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، وَقَصِيدَتِي فِي النَّاقَةِ الْبَيْضَاءِ أَحْرَزَتْ لِي الْغُفْرَانَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصْفُ الْبَرْدَ وَالْجَمَالَ بِلَفْظٍ لَا يُدْرَكُ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي بِسَبَبِهَا رَغْمَ جَهْلِي بِالْإِيمَانِ." كان هذا النقد يبرر الغفران بالبلاغة، رغم الجهل الديني، سعة رحمة تتحدى الفقهاء الذين يرمون المعري بالمزدكية، كما قال الذهبي "فيها مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير". دانتي، الذي كان يستمع، قال: "هذا يشبه لقائي ببرونيتو لاتيني في الجحيم، معلّمي في البلاغة، يُعَذَّبُ لِغَيْرِ إِيمَانِهِ، لَكِنَّ فَضْلَهُ فِي الْفَنِّ يَبْقَى، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ الْبَارِدُ الْعَظِيمُ فِي الْبَلَاغَةِ، وَرَحْمَتُكَ فِي اللِّيمْبُو تَغْفِرُ لَكَ. كنتُ أقرأ ترجمتكِ في مكتبة سان ماركو بفلورنسا، حيث كانت المخطوطات اللاتينية تنتقل من صقلية، وألهمتني سعة رحمتك لأضع الفلاسفة الوثنيين في الليمبو دون عذاب، فَضْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ يَغْفِرُ لَهُمْ." أنطونيو سأل: "والسخرية في التكريم؟" رد المعري: "سخريتي من الأدباء الذين يدخلون الجنة بقصائدهم، رغم تملقهم للحكام في الدنيا، كابن القارح الذي يدخل على ظهر جارية فاطمية، ينافق سادن الجنة بقصيدة مديح، هذا يعكس حياته الماكرة."
استمر الحوار تحت ضوء النجوم الخيالية، والمعري يقتبس من رسالته: "فَقَالَ لِي الْمُتَنَبِّي: أَنَا أَبُو الطَّيِّبِ، وَهَجَائِي لِلْكَافُورِ أَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصْفُ الْفَخْرَ بِلَفْظٍ يَفُوقُ الْفَهْمَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي رَغْمَ غَرُورِي." كان هذا يبرز السخرية في غفران الهجاء بالبلاغة، ودانتي رد: "وفي فردوسي، ألتقي ببياتريس في السماء الثالثة، تقول: الْفَضْلُ فِي الْعِلْمِ وَالْحُبِّ يَغْفِرُ لِلْوَثَنِيِّينَ، كَمَا غَفَرَ لِلْشُّعَرَاءِ فِي غُفْرَانِكَ. قرأتُ ذلك في الترجمة اللاتينية التي أحضرها برونيتو من الأندلس، حيث كانت مكتبات قرطبة تحتوي نسخًا من رسالتك، نقلها التجار إلى صقلية، ثم إلى فلورنسا في 1305، أثناء كتابة المطهر." أنطونيو، المشاهد في الحلم، قال: "الشبه في تكريم الإبداع، لكن الاختلاف في المكان: جنتك سعة رحمة، جحيمك عذاب." المعري ضحك: "نعم، سخريتي أوسع، تغفر الكفر، بينما أنتَ قاسٍ على العشاق، تضعهم في الدوائر الثانية، رغم حبّك لبياتريس الذي دفعك للرحلة."
في الصباح، استيقظ أنطونيو مع أشعة الشمس الخافتة تخترق السحب، والمخطوطة لا تزال مفتوحة على المقتطف، لكنه شعر بأن الحلم كان حقيقة، فالترجمة الضائعة كانت الجسر الذي يربط ظلال الأعمى بفلورنسا. توجه إلى السوق، حيث التقى بلوكا عند دكان التوابل، يحمل كتابًا قديمًا عن الترجمات في صقلية. "النسخة وصلت عبر روجر الثاني"، قال بلوكا، "الذي جمع علماء عربًا في بلاطه عام 1130، ترجموا الغفران جزئيًا مع المعراج، وانتقلت إلى ألفونسو، ثم إلى اللاتينية، وصلت فلورنسا عبر التجارة، كما في وثائق تشيروللي عام 1949، التي نشرت الترجمات اللاتينية، مؤكدة انتشارها في إيطاليا قبل 1300." أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف كان برونيتو لاتيني، معلّم دانتي، قد ألف "لي ليفر دي فورم دي لو مونْد" مستوحى من نصوص عربية، وكان قد زار الأندلس عام 1260، محملًا بنسخ، قرأها دانتي في 1307 أثناء كتابة الجحيم. كان بلاثيوس يقول إن الترجمة القشتالية كانت أصلًا للاتينية، وانتشرت في المجموعات الفلورنسية، مما جعل "الغفران" مصدرًا لسخرية دانتي من التعصب.
مع مرور الأيام، غرق أنطونيو في قراءة مقتطفات أخرى، يجد في "الغفران" حوار ابن القارح مع الشنفرى: "فَقَالَ الشَّنْفَرَى: أَنَا الشَّنْفَرَى، وَلَامِيَتِي الْعَرَبِ فِي الْغَرَامِ أَدْخَلَتْنِي الْجَنَّةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصْفُ الْحُبَّ بِلَفْظٍ يَفُوقُ الْبَشَرِيَّةَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي رَغْمَ جَهْلِي." كان هذا يبرز غفران الغرام بالشعر، ويشبه لقاء دانتي بفرانشيسكا وباولو في الدائرة الثانية، حيث يرثي لهما رغم عذابهما: "فَرَأَيْتُ فْرَانْشِيسْكَا وَبَاوْلُو، يَدُورَانِ فِي الْعَاصِفَةِ الْحُبِّيَّةِ، وَقَالَا: حُبُّنَا أَدْخَلَنَا هَذَا الْعَذَابَ، لَكِنَّ فَضْلَهُ يَبْقَى. " في كلا النصين، الحب يُكرَّم رغم خطيئته، سخرية من التعصب الجنسي. أنطونيو كتب في مذكراته: "الشبه في غفران الإبداع، وصل عبر الترجمة اللاتينية، التي قرأها دانتي في نفيه، مستلهمًا سعة رحمتك يا معري."
في ليلة أخرى، عاد الحلم، والمعري يقود أنطونيو ودانتي إلى النار، حيث الغيلان تتصور صورًا حَمَارِيَّةً لتعذيب الآثمين، كما في وصف الجاحظ في "الحيوان"، والمعري يقول: "هُنَا فِي النَّارِ، يَعْذَبُونَ بِأَخْطَائِهِمْ اللُّغْوِيَّةِ، فَمَنْ أَخْطَأَ فِي الْإِعْرَابِ يُسَجَّعُ أَبَدًا، هَذِهِ سَخْرِيَتِي مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَضِيقُونَ الْعَذَابَ." دانتي رد: "وَفِي جَحِيمِي، الدَّوَائِرُ التَّاسِعَةُ لِلْخَوَانَةِ، يَجْمَدُ لُوسِيفِيرْ فِي الْجَلِيدِ، وَالْبَابَاوَاتُ فِي الْزَّفْتِ، سَخْرِيَةٌ مِنْ تَعَصُّبِ الْكَنِيسَةِ، مُسْتَوْحَاةٌ مِنْ عَذَابَاتِكَ، الَّتِي قَرَأْتُهَا فِي الْتَّرْجَمَةِ الْقَشْتَالِيَّةِ الَّتِي أَحْضَرَهَا أَلْفُونْسُو إِلَى إِيْطَالْيَا عَبْرَ سِقِلِّيَةْ." أنطونيو سأل: "وَالْجِسْرُ الْضَّائِعُ؟" رد دانتي: "الْتَّرْجَمَةُ الْلَّاتِينِيَّةُ الْضَّائِعَةُ، كَمَا قَالَ لُوِيسُ عَوْضْ، وَصَلَتْ إِلَيَّ عَبْرَ بْرُونِيتُو، الَّذِي زَارَ الْأَنْدَلُسَ وَأَحْضَرَ نُسْخًا، قَرَأْتُهَا فِي 1307، أَثْنَاءَ كِتَابَةِ الْجَحِيمِ، فَأَلْهَمَتْنِي السَّخْرِيَةُ الْلَّاذِعَةُ." استمر الحلم، والمعري يقول: "فِي رِسَالَتِي، الْغَفْرَانُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، كَمَا قِيلَ لِلشَّاعِرِ: بِبَيْتٍ وَاحِدٍ قُلْتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، هَذِهِ سَعَةُ الرَّحْمَةِ، أَوْسَعُ مِنْ فُقْهَاءِ الْعَصْرِ."
استيقظ أنطونيو مع الفجر، والمخطوطة مفتوحة، لكنه كتب مذكراته: "ظلال الأعمى في فلورنسا، الترجمة اللاتينية الضائعة جسر السخرية، ربطت المعري بدانتي في تكريم الشعراء." في اليوم التالي، زار مكتبة سان لورينزو، حيث وجد نسخة لاتينية جزئية، تؤكد انتشار "الغفران" في إيطاليا، كما في وثائق تشيروللي. مع بلوكا، ناقش: "الشبه في اللقاءات، وصل عبر صقلية، حيث كانت الثقافة الهجينة تنقل النصوص." استمر أنطونيو في قراءة، يجد مقتطفًا عن حمدونة الفقيرة: "أَنَا حَمْدُونَةُ، أَقْبَحُ نِسَاءِ حَلَبْ، زَهِدْتُ فِي الدُّنْيَا، أَكَلْتُ مِنْ مَغْزَلِي، فَصَيَّرَنِي اللَّهُ حُورِيَّةً بَيْضَاءَ." غفران الزهد، يشبه ماتيلدا عند دانتي في غابة الفردوس، التي ترمز للبراءة. كان الشبه يتكرر، والجسر الترجمة يمتد.
مع مرور الأسابيع، غرق أنطونيو في الحلم المتكرر، حيث يلتقي المعري ودانتي في الوردة السماوية، يناقشان السخرية: "سَخْرِيَتِي مِنْ الْعَالَمِ الْآخَرِ لِنَقْدِ الْأَدَبِ"، يقول المعري. "وَسَخْرِيَتِي مِنْ تَعَصُّبِ الْعَصْرِ لِلْخَلَاصِ"، يرد دانتي. أنطونيو يعرف أن الظلال وصلت عبر الترجمة، رابطة فلورنسا بمعرة. كان الفصل ينتهي، لكن الظلال أبدية، في غفران يربط الأعمى بالبصير.
الفصل العاشر: لقاءات الشعراء في الظلال
مع هطول أمطار الخريف الأولى على جنوى في أواخر عام 1311، حيث كانت القطرات الغزيرة تضرب سطح البحر المتوسط كأنها سهام من الغزلان في قصيدة الشنفرى، تلك اللامية العرب التي وصف فيها البرية والغرام ببلاغة أدخلته الجنة في خيال المعري، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن السماء تبكي على سر الشعراء الذي يغفر الكفر، ويفتح أبواب الآخرة رغم خطاياها. كانت المدينة تغفو تحت الغيوم الثقيلة، أبراجها الحجرية تلامس السماء كأصابع تتحسس الظلال، وسفنها في الميناء ترسو كأرواح متعبة تنتظر الريح الشرقية من دمشق أو قرطبة لتحملها إلى عالم آخر، عالم يلتقي فيه الشعراء في الجنة أو الليمبو، يناقشون فنّهم كأنهم يغفرون بعضهم بعضًا من عيوب الدنيا. أنطونيو، الذي كان قد قضى أسابيع في غرفة مكتبه يغوص في ظلال الأعمى، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها بوابة إلى مجالس الشعراء الخالدين، شعر الآن بأن الرحلة لا تنتهي، بل تتفرع إلى لقاءات أدبية في الظلال، حيث يبرر الشعراء أشعارهم، ويغفر الله لهم بسبب جمال كلامهم، كما في تلك المقتطفات التي يلتقي فيها ابن القارح بزهير بن أبي سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني ولبيد بن أبي ربيعة وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي، يتحلقون حول مأدبة في الجنة، ينعمون بخيراتها من طيور وحور عين ونعيم مقيم، يناقشون أشعارهم كأن الجنة مسرح لنقد أدبي أبدي. كان هذا اللقاء، الذي وصفه المعري بسخرية لاذعة، يبرز سعة الرحمة التي تغفر الكفر بالبلاغة، ويشبه تمامًا لقاء دانتي بفيرجيل وهوميروس في الليمبو، الدائرة الأولى من الجحيم، حيث يتحدثون في فنّهم ومعانيه، ويتعارفون بما بينهم من المدارسة، كما في نشيد الرابع من الجحيم: "وَرَأَيْتُ هُنَاكَ الْبَارْدَ الْعَظِيمَ هُومِيرُوسَ الْبَوَّلَاءَ، وَهُورَاسَ الْلَاطِينِيَّ، وَأُوْبِيدَ وَأُوْفِيدَ، وَفِيرْجِيلْيُوسَ الْمَارُوْنِيَّ"، فاضلين رغم وثنيتهم، يُكرَّمون لفضلهم في الشعر دون عذاب، رمزًا لأن الإبداع يتجاوز الدين، تمامًا كما غفر المعري لشعراء الجاهلية بسبب أبيات قالوها، كزهير الذي أحرز الغفران بقصيدته في الناقة البيضاء، تصف البرد والجمال بلَفْظٍ لا يُدْرَكُ.
في تلك الليلة، التي كانت الأمطار فيها تهدأ تدريجيًا كأنها تنتظر حكاية الشعراء، جلس أنطونيو أمام الطاولة، يمسك بالمخطوطة البالية، ويقرأ المقتطف الذي يصف لقاء ابن القارح بزهير: "فَقَالَ لِي زَهْرٌ: أَنَا زَهْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، وَقَصِيدَتِي فِي النَّاقَةِ الْبَيْضَاءِ أَحْرَزَتْ لِي الْغُفْرَانَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصْفُ الْبَرْدَ وَالْجَمَالَ بِلَفْظٍ لَا يُدْرَكُ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي بِسَبَبِهَا رَغْمَ جَهْلِي بِالْإِيمَانِ"، كان هذا الحوار نقدًا أدبيًا يبرر الغفران بالبلاغة، رغم الجهل الديني، سعة رحمة تتحدى الفقهاء الذين يرمون المعري بالمزدكية، كما قال الذهبي "فيها مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير". تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك لقاء دانتي ببرونيتو لاتيني في الجحيم، معلّمه في البلاغة، الذي يُعَذَّبُ لِغَيْرِ إِيمَانِهِ، لَكِنَّ فَضْلَهُ فِي الْفَنِّ يَبْقَى، فَقُلْتُ لَهُ: "أَنْتَ الْبَارِدُ الْعَظِيمُ فِي الْبَلَاغَةِ، وَرَحْمَتُكَ فِي اللِّيمْبُو تَغْفِرُ لَكَ"، في نشيد الخامس عشر من الجحيم، حيث يرثي دانتي له رغم عذابه، معترفًا بفضله في الشعر والتعليم. كان الشبه في تكريم الإبداع رغم الخطيئة، سخرية من التعصب الديني، وكيف وصلت هذه الفكرة إلى دانتي عبر الترجمات في صقلية، حيث كانت الثقافة النورمانية تجمع العرب واللاتين، وترجمت "الغفران" جزئيًا في بلاط روجر الثاني عام 1130، ثم في قشتالة عام 1264 تحت ألفونسو العاشر، الذي أمر بترجمتها إلى القشتالية بواسطة أبراهام الحكيم، ثم إلى اللاتينية بواسطة بونيا فينتورا دي سينا، الإيطالي في بلاطه، وانتشرت في فلورنسا عبر التجارة، كما أثبت المستشرق الإيطالي تشيروللي في تحقيقاته عام 1949، نشرًا للوثائق اللاتينية والفرنسية، مؤكدًا أنها كانت رائجة في إيطاليا قبل 1300، ووصلت إلى دانتي عبر معلمه برونيتو لاتيني، الذي زار الأندلس عام 1260 وعاد محملًا بنسخ عربية مترجمة.
أغلق أنطونيو الكتاب، والأمطار تهدأ خارج النافذة، لكنه لم ينم، فالقراءة أشعلت فيه شرارة حوار داخلي، يتخيل فيه لقاء ابن القارح بالأعشى في الجنة، كما وصف المعري: "فَقَالَ الْأَعْشَى: أَنَا الْأَعْشَى، وَشِعْرِي فِي الْحَبِيبَةِ الْمَعْشُوقَةِ أَدْخَلَنِي هَذَا النَّعِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصْفُ الْجَمَالَ بِلَفْظٍ يَفُوقُ الْبَشَرِيَّةَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي رَغْمَ جَهْلِي بِالْإِيمَانِ"، حيث يبرر الأعشى غرامه بالبلاغة، ويغفر له رغم جاهليته، سخرية من أن الشعر يغلب الدين. يشبه ذلك لقاء دانتي بفرانشيسكا وباولو في الدائرة الثانية من الجحيم، حيث يرثي لهما رغم عذابهما في عاصفة الحب: "فَرَأَيْتُ فْرَانْشِيسْكَا وَبَاوْلُو، يَدُورَانِ فِي الْعَاصِفَةِ الْحُبِّيَّةِ، وَقَالَا: حُبُّنَا أَدْخَلَنَا هَذَا الْعَذَابَ، لَكِنَّ فَضْلَهُ يَبْقَى، فَالْغَرَامُ بِلَفْظِ الشِّعْرِ يَغْفِرُ لَنَا. " في نشيد الخامس، حيث يبكي دانتي لهما، معترفًا بجمال حبهما رغم خطيئته، تمامًا كغفران المعري للأعشى بسبب وصفه الجمال. كان الشبه في رثاء الغرام بالشعر، وكيف وصلت هذه الصورة إلى دانتي عبر الترجمة اللاتينية الضائعة، كما رجّح لويس عوض في "على هامش الغفران"، أوضح ما يُنسب إلى الصدفة، وصلت عبر برونيتو الذي أحضر نسخًا من الأندلس، قرأها دانتي في 1307 أثناء كتابة الجحيم، مستلهمًا سعة الرحمة في غفران المعري للشعراء الجاهليين.
مع الفجر، خرج أنطونيو إلى الشوارع المبللة، حيث كانت الأمطار ترسم خطوطًا كخرائط الإدريسي، وتوجه إلى حانة سان لورينزو، حيث التقى بلوكا عند المدفأة، يحمل كتابًا قديمًا عن الترجمات. "لقاءات الشعراء في الظلال"، قال أنطونيو، "في الغفران ، يتحلقون حول مأدبة، يناقشون أشعارهم، يغفر الله لهم بسبب بلاغتهم، كزهير والأعشى." رد بلوكا: "وَفِي الْكُومِيدْيَا ، فِي اللِّيمْبُو، يَلْتَقِي دَانْتِي بِهُومِيرُوسْ وَهُورَاسْ، يَتَحَدَّثُونَ فِي فَنْوِهِمْ، فَاضِلِينْ رَغْمْ وَثْنِيَّتِهِمْ، كَمَا فِي النَّشِيدِ الرَّابِعْ: وَرَأَيْتُ هُنَاكَ الْبَارْدَ الْعَظِيمَ هُومِيرُوسَ الْبَوَّلَاءَ، وَهُورَاسَ الْلَاطِينِيَّ، وَأُوْبِيدَ وَأُوْفِيدَ، وَفِيرْجِيلْيُوسَ الْمَارُوْنِيَّ، يَتَعَارَفُونَ بِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُدَارَسَةِ. الشَّبْهُ فِي تَكْرِيمِ الْإِبْدَاعِ." سأل أنطونيو: "وَكَيْفَ وَصَلَتْ؟" قَالَ بْلُوْكَ: "عَبْرْ سِقِلِّيَةْ، حَيْثُ تَرْجَمَ رُوجَرْ الثَّانِي الْغَفْرَانْ جُزْئِيًّا مَعَ الْمُعْرَاجْ، ثُمَّ فِي قَشْتَالَةْ عَامْ ١٢٦٤، أَمَرَ أَلْفُونْسُو الْعَاشِرْ بِتَرْجَمَتْهَا إِلَى الْقَشْتَالِيَّةْ بِوَاسِطَةْ أَبْرَاهَامْ الْحَكِيمْ، ثُمَّ إِلَى اللَّاتِينِيَّةْ بِبُونْيَا فِينْتُورَا دِيْ سِينَا، وَانْتَشَرَتْ فِي فْلُورَنْسَا عَبْرْ التَّجَارَةْ، كَمَا أَثْبَتَ تْشِيرُولْلِيْ عَامْ ١٩٤٩، نَشْرًا لِلْوَثَائِقْ، مُؤَكِّدًا أَنَّهَا كَانَتْ رَائِجَةْ فِي إِيْطَالْيَا قَبْلْ ١٣٠٠ْ، وَوَصَلَتْ إِلَى دَانْتِيْ عَبْرْ مُعَلِّمِهْ بْرُونِيتُوْ لَاتِينِيْ، الَّذِيْ زَارَ الْأَنْدَلُسْ عَامْ ١٢٦٠ْ وَعَادَ مُحْمَلًا بِنُسْخْ."
أنطونيو أومَأْ، مُتَذَكِّرًا كَيْفَ كَانَ بْرُونِيتُوْ أَلَّفَ "لِيْ لِيْفَرْ دِيْ فُورْمْ دِيْ لُوْ مُونْدْ" مُسْتَوْحًى مِنْ نُصُوصْ عَرَبِيَّةْ، وَكَانَ قَدْ زَارَ الْأَنْدَلُسْ، مُحْمَلًا بِنُسْخْ، قَرَأَهَا دَانْتِيْ فِيْ ١٣٠٧ْ أَثْنَاءَ كِتَابَةِ الْجَحِيمْ. كَانَ بْلَاثِيُوسْ يَقُولْ إِنَّ التَّرْجَمَةْ الْقَشْتَالِيَّةْ كَانَتْ أَصْلًا لِلَّاتِينِيَّةْ، وَانْتَشَرَتْ فِي الْمَجْمُوعَاتْ الْفْلُورَنْسِيَّةْ، مَجْعَلًا "الْغَفْرَانْ" مَصْدَرًا لِسَخْرِيَةْ دَانْتِيْ مِنْ التَّعَصُّبْ. مَعَ مَرُورْ الْأَيَّامْ، غَرِقْ أَنْطُونِيُوْ فِيْ قِرَاءَةْ مَقْتَطْفَاتْ أُخْرَى، يَجِدْ فِيهَا لَقَاءْ ابْنْ الْقَارِحْ بِالْأَعْشَى: "فَقَالَ الْأَعْشَى: أَنَا الْأَعْشَى، وَشِعْرِيْ فِيْ الْحَبِيْبَةِ الْمَعْشُوقَةِ أَدْخَلَنِيْ هَذَا النَّعِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصْفُ الْجَمَالَ بِلَفْظٍ يَفُوقُ الْبَشَرِيَّةَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِيْ رَغْمَ جَهْلِيْ بِالْإِيمَانِ"، حَيْثُ يَبْرِرْ الْأَعْشَى غَرَامَهُ بِالْبَلَاغَةْ، وَيَغْفِرْ لَهُ رَغْمْ جَاهِلِيَّتِهِ، سَخْرِيَةْ مِنْ أَنَّ الشِّعْرْ يَغْلِبْ الْدِّينْ. يُشْبِهْ ذَلِكْ لَقَاءْ دَانْتِيْ بِفْرَانْشِيسْكَا وَبَاوْلُوْ فِيْ الدَّائِرَةْ الثَّانِيَةْ مِنْ الْجَحِيمْ، حَيْثُ يَرْثِيْ لَهُمَا رَغْمْ عَذَابِهِمَا فِيْ عَاصِفَةْ الْحُبّْ: "فَرَأَيْتُ فْرَانْشِيسْكَا وَبَاوْلُوْ، يَدُورَانِ فِيْ الْعَاصِفَةِ الْحُبِّيَّةِ، وَقَالَا: حُبُّنَا أَدْخَلَنَا هَذَا الْعَذَابَ، لَكِنَّ فَضْلَهُ يَبْقَى، فَالْغَرَامُ بِلَفْظِ الشِّعْرِ يَغْفِرُ لَنَا. " فِيْ نَشِيدْ الْخَامِسْ، حَيْثُ يَبْكِيْ دَانْتِيْ لَهُمَا، مُعْتَرِفًا بِجَمَالْ حُبِّهِمَا رَغْمْ خَطِيْئَتِهِ، تَمَامًا كَغُفْرَانْ الْمُعْرِيْ لِلْأَعْشَى بِسَبَبْ وَصْفِهِ الْجَمَالْ. كَانَ الشَّبْهْ فِيْ رَثَاءْ الْغَرَامْ بِالْشِّعْرْ، وَكَيْفْ وَصَلَتْ هَذِهْ الصُّورَةْ إِلَىْ دَانْتِيْ عَبْرْ التَّرْجَمَةْ الْلَّاتِينِيَّةْ الضَّائِعَةْ، كَمَا رَجَّحَ لُوِيسْ عَوْضْ فِيْ "عَلَىْ هَامِشْ الْغَفْرَانْ"، أَوْضَحْ مَا يُنْسَبْ إِلَىْ الصَّدْفَةْ، وَصَلَتْ عَبْرْ بْرُونِيتُوْ الَّذِيْ أَحْضَرَ نُسْخًا مِنْ الْأَنْدَلُسْ، قَرَأَهَا دَانْتِيْ فِيْ ١٣٠٧ْ أَثْنَاءَ كِتَابَةْ الْجَحِيمْ، مُسْتَلْهِمًا سَعَةْ الرَّحْمَةْ فِيْ غُفْرَانْ الْمُعْرِيْ لِلشُّعَرَاءْ الْجَاهِلِيِّينْ.
مَعَ الْفَجْرْ، خَرَجْ أَنْطُونِيُوْ إِلَىْ الشَّوَارِعْ الْمُبْلَلَةْ، حَيْثُ كَانَتْ الْأَمْطَارْ تَرْسُمْ خُطُوطًا كَخَرَائِطْ الْإِدْرِيسِيْ، وَتَوَجَّهْ إِلَىْ حَانَةْ سَانْ لُورِينْزُوْ، حَيْثُ الْتَقَىْ بِلُوْكَا عِنْدْ الْمَدْفَأَةْ، يَحْمِلْ كِتَابًا قَدِيمًا عَنْ التَّرْجَمَاتْ. "لَقَاءَاتْ الشُّعَرَاءْ فِيْ الظِّلَالْ"، قَالَ أَنْطُونِيُوْ، "فِيْ الْغَفْرَانْ ، يَتَحَلَّقُونْ حَوْلْ مَأْدِبَةْ، يَنَاقِشُونْ أَشْعَارَهُمْ، يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُمْ بِسَبَبْ بَلَاغَتِهِمْ، كَزَهِيرْ وَالْأَعْشَى." رَدْ بْلُوْكَا: "وَفِيْ الْكُومِيدْيَا ، فِيْ اللِّيمْبُوْ، يَلْتَقِيْ دَانْتِيْ بِهُومِيرُوسْ وَهُورَاسْ، يَتَحَدَّثُونْ فِيْ فَنْوِهِمْ، فَاضِلِينْ رَغْمْ وَثْنِيَّتِهِمْ، كَمَا فِيْ النَّشِيدِ الرَّابِعْ: وَرَأَيْتُ هُنَاكَ الْبَارْدَ الْعَظِيمَ هُومِيرُوسَ الْبَوَّلَاءَ، وَهُورَاسَ الْلَاطِينِيَّ، وَأُوْبِيدَ وَأُوْفِيدَ، وَفِيرْجِيلْيُوسَ الْمَارُوْنِيَّ، يَتَعَارَفُونْ بِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُدَارَسَةِ. الشَّبْهُ فِيْ تَكْرِيمِ الْإِبْدَاعِ." سَأَلْ أَنْطُونِيُوْ: "وَكَيْفَ وَصَلَتْ؟" قَالَ بْلُوْكَا: "عَبْرْ سِقِلِّيَةْ، حَيْثُ تَرْجَمَ رُوجَرْ الثَّانِيْ الْغَفْرَانْ جُزْئِيًّا مَعَ الْمُعْرَاجْ، ثُمَّ فِيْ قَشْتَالَةْ عَامْ ١٢٦٤ْ، أَمَرَ أَلْفُونْسُوْ الْعَاشِرْ بِتَرْجَمَتْهَا إِلَىْ الْقَشْتَالِيَّةْ بِوَاسِطَةْ أَبْرَاهَامْ الْحَكِيمْ، ثُمَّ إِلَىْ اللَّاتِينِيَّةْ بِبُونْيَا فِينْتُورَا دِيْ سِينَا، وَانْتَشَرَتْ فِيْ فْلُورَنْسَا عَبْرْ التَّجَارَةْ، كَمَا أَثْبَتَ تْشِيرُولْلِيْ عَامْ ١٩٤٩ْ، نَشْرًا لِلْوَثَائِقْ، مُؤَكِّدًا أَنَّهَا كَانَتْ رَائِجَةْ فِيْ إِيْطَالْيَا قَبْلْ ١٣٠٠ْ، وَوَصَلَتْ إِلَىْ دَانْتِيْ عَبْرْ مُعَلِّمِهْ بْرُونِيتُوْ لَاتِينِيْ، الَّذِيْ زَارَ الْأَنْدَلُسْ عَامْ ١٢٦٠ْ وَعَادَ مُحْمَلًا بِنُسْخْ."
أَنْطُونِيُوْ أُومَأْ، مُتَذَكِّرًا كَيْفَ كَانَ بْرُونِيتُوْ أَلَّفَ "لِيْ لِيْفَرْ دِيْ فُورْمْ دِيْ لُوْ مُونْدْ" مُسْتَوْحًى مِنْ نُصُوصْ عَرَبِيَّةْ، وَكَانَ قَدْ زَارَ الْأَنْدَلُسْ، مُحْمَلًا بِنُسْخْ، قَرَأَهَا دَانْتِيْ فِيْ ١٣٠٧ْ أَثْنَاءَ كِتَابَةْ الْجَحِيمْ. كَانَ بْلَاثِيُوسْ يَقُولْ إِنَّ التَّرْجَمَةْ الْقَشْتَالِيَّةْ كَانَتْ أَصْلًا لِلَّاتِينِيَّةْ، وَانْتَشَرَتْ فِيْ الْمَجْمُوعَاتْ الْفْلُورَنْسِيَّةْ، مَجْعَلًا "الْغَفْرَانْ" مَصْدَرًا لِسَخْرِيَةْ دَانْتِيْ مِنْ التَّعَصُّبْ. مَعَ مَرُورْ الْأَيَّامْ، غَرِقْ أَنْطُونِيُوْ فِيْ قِرَاءَةْ مَقْتَطْفَاتْ أُخْرَى، يَجِدْ فِيهَا لَقَاءْ ابْنْ الْقَارِحْ بِالْأَعْشَى: "فَقَالَ الْأَعْشَى: أَنَا الْأَعْشَى، وَشِ
الفصل الحادي عشر: سخرية الرحلة الخيالية
مع هطول أمطار الخريف الغزيرة على جنوى في أوائل نوفمبر عام 1311، حيث كانت القطرات الثقيلة تضرب سطح البحر المتوسط كأنها دموع الملائكة في وصف المعري ليوم القيامة، تلك الدموع التي تسيل على الخلق الضالين في رحلتهم إلى الآخرة، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن السماء تفتح أبوابها لتغسل الدنيا من غبار التعصب، وتكشف عن سخرية الرحلة الخيالية التي تربط بين عالم المعري الأعمى وعالم دانتي المنفي، رحلة لا تعتمد على خوارق إلا الفكرة الأساسية، بل على الشك والسخرية اللاذعة من الآخرة كمسرحية بشرية مليئة بالتناقضات والأخطاء اللغوية والسياسية. كانت المدينة تغفو تحت الغيوم السوداء، أبراجها الحجرية تتمايل مع الريح كأنها أعمدة الجنة في خيال المعري، وسفنها في الميناء ترسو كأرواح تنتظر الصعود أو الهبوط، وأنطونيو يجد نفسه عالقًا في غرفة مكتبه، مضاءة بمصباح زيتي يتمايل مع العاصفة، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها خريطة لرحلة خيالية، يتساءل كيف وصلت هذه الرحلة، المكتوبة في محبس المعري عام 424 هـ/1033 م، إلى يدي دانتي في فلورنسا عام 1307، لتصبح إلهامًا لرحلته في "الكوميديا الإلهية"، عبر ترجمات صقلية والأندلس التي نقلت السخرية العربية إلى الغرب، حيث كانت النسخ اللاتينية الضائعة تنتقل كأسرار تجارية، تحمل رؤية المعري للصعود إلى السماء والنزول إلى النار إلى عقل دانتي الذي يبحث عن الخلاص في ظلال التعصب الكنسي.
في تلك الليلة، التي كانت العاصفة فيها تعوي كغيلان الجاحظ في أساطير المعري، جلس أنطونيو أمام الطاولة، يمسك بالمخطوطة البالية، ويقرأ المقتطف الذي يصف رحلة ابن القارح: "فَصَعِدْتُ مَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ يَحْمِلُونَ الصُّحُفَ، وَالْجِنَّ فِي مَدَائِنِهِمْ، ثُمَّ نَزَلْنَا إِلَى النَّارِ حَيْثُ الْغِيلَانُ تَعْذِبُ الْآثِمِينَ بِصُوَرِهَا الْمُتَلَوِّنَةِ، وَلَمْ تَكُنْ الرَّحْلَةُ خَارِقَةً إِلَّا فِيْ فِكْرَتِهَا الْأَسَاسِيَّةْ، فَهِيَ سَخْرِيَةْ مِنْ الْآخِرَةِ كَمَسْرَحِيَّةْ بَشَرِيَّةْ"، كانت الرحلة خيالية بدون خوارق إلا الفكرة، صعود إلى السماء يلتقي فيها الشعراء، ثم نزول إلى النار يرى فيها الغيلان تعذب الآثمين حسب أخطائهم اللغوية، سخرية لاذعة من الوعاظ والفقهاء الذين يروون أقاصيصهم كحقائق، كما قال طه حسين إنها أول قصة خيالية عند العرب، مستوحاة من أساطير الجن والقرآن وقصص كليلة ودمنة والإسراء والمعراج. تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك بداية "الكوميديا الإلهية": "فِي نِصْفِ عُمْرِي وَجَدْتُ نَفْسِي فِي غَابَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَرَأَيْتُ الْفَهْدَ وَالْأَسَدَ وَالذِّئْبَةَ، رُمُوزَ الْخِدَاعِ وَالْعَدُوِّ وَالشَّهْوَةِ، فَأَتَانِي فِيرْجِيلْيُوسُ يَرْشُدُنِي إِلَى الْجَحِيمِ"، في النَّشِيدِ الْأَوَّلْ مِنْ الْجَحِيمْ، حيث يبدأ دانتي رحلته في غابة الضلال، يواجه الرموز، ثم يرشده فرجيل إلى الجحيم بتسع دوائر، ثم المطهر، ثم الفردوس، رحلة خيالية بدون خوارق إلا الفكرة الأساسية، سخرية من التعصب الكنسي والسياسي، مستوحاة من الثالوث المقدس في الهيكل الثلاثي، لكنها تشبه تمامًا صعود ابن القارح إلى السماء ونزوله إلى النار، كما أثبت المستشرق ميغيل أسين بلاثيوس في "الإسلام والكوميديا الإلهية" عام 1919، أن الرحلة مستمدة من قصة المعراج وقصص الآخرة الإسلامية، بما فيها "الغفران" كجزء من مجموعة نصوص أدبية شرقية، نقلت عبر ترجمات صقلية والأندلس.
أغلق أنطونيو عينيه، والعاصفة تعوي خارج النافذة كغيلان الجاحظ في "الحيوان"، تلك الأساطير التي استلهمها المعري لوصف الغيلان في النار، وغرق في حلم يشبه رحلة ابن القارح، يجد نفسه في غابة مظلمة تشبه غابة دانتي، لكن أشجارها مزخرفة بآيات قرآنية محفورة، وفجأة يظهر المعري، الأعمى ذو اللحية البيضاء، يمسك بعصا التمر، يقول: "مَرْحَبًا بِكَ فِيْ سَخْرِيَةْ الرَّحْلَةْ الْخَيَالِيَّةْ، أَيُّهَا التَّاجِرْ، هَلْ جِئْتَ لِتَصْعَدْ إِلَىْ السَّمَاءِ بِدُونْ خَوَارِقْ، أَمْ لِتَنْزِلْ إِلَىْ النَّارِ بِسَخْرِيَةْ مِنْ الْآخِرَةِ كَمَسْرَحِيَّةْ؟" أنطونيو أومَأْ، وَفِيْ لَحْظَةْ، وَجَدَا نَفْسَهُمَا يَسِيرَانِ فِيْ طَرِيقْ ضَبَابِيْ يَتَفَرَّعْ إِلَىْ سَمَاوَاتْ وَنَارِينْ مُتَدَاخِلَتَيْنْ، كَأَنَّ الْحُلْمْ يُمَزِجْ بَيْنَ الرِّسَالَتَيْنْ، وَالْمُعْرِيْ يَشِيرْ بِعَصَاهْ إِلَىْ مَنْظَرْ بَعِيدْ حَيْثُ يَصْعَدْ ابْنْ الْقَارِحْ مَعَ الْمَلَائِكَةْ، يَحْمِلُونْ الصُّحُفْ، وَالْجِنْ فِيْ مَدَائِنِهِمْ، ثُمَّ يَنْزِلُونْ إِلَىْ النَّارْ حَيْثُ الْغِيلَانْ تَتَصَوَّرْ صُوَرًا حَمَارِيَّةً لِتَعْذِيبْ الْآثِمِينْ، وَيَقُولْ الْمُعْرِيْ: "رَحْلَتِيْ خَيَالِيَّةْ بِدُونْ خَوَارِقْ إِلَّا الْفِكْرَةْ، صَعْدْ إِلَىْ السَّمَاءْ يَلْتَقِيْ فِيهَا الشُّعَرَاءْ، يَنَاقِشُونْ أَشْعَارَهُمْ، ثُمَّ نُزُولْ إِلَىْ النَّارْ يَرَىْ فِيهَا الْغِيلَانْ تَعْذِبْ الْآثِمِينْ حَسَبْ أَخْطَائِهِمْ اللُّغْوِيَّةْ، سَخْرِيَةْ لَاذِعَةْ مِنْ الْوَعَاظْ وَالْفُقَهَاءْ الَّذِينْ يَرْوُونْ أَقَاصِيصَهُمْ كَحَقَائِقْ، كَمَا قَالْ طَهْ حُسَيْنْ إِنَّهَا أَوَّلْ قِصَّةْ خَيَالِيَّةْ عِنْدْ الْعَرَبْ، مُسْتَوْحَاةْ مِنْ أَسَاطِيرْ الْجِنْ وَالْقُرْآنْ وَقِصَصْ كِلِيلَةْ وَدِمْنَةْ وَالْإِسْرَاءْ وَالْمِعْرَاجْ." فَجْأَةْ، ظَهَرْ دَانْتِيْ، الشَّابْ ذُو الْعُيُونْ الْحَادَّةْ، يَرْتَدِيْ رِدَاءْ أَحْمَرْ يُشْبِهْ رِدَاءْ الْمَنْفِيِّينْ فِيْ فْلُورَنْسَا، يَقُولْ: "أَيُّهَا الْأَعْمَى الْحَكِيمْ، رَحْلَتُكَ الْخَيَالِيَّةْ أَلْهَمَتْنِيْ لِبَدَايَةْ الْكُومِيدْيَا ، فِيْ نِصْفْ عُمْرِيْ وَجَدْتُ نَفْسِيْ فِيْ غَابَةْ مُظْلِمَةْ، وَرَأَيْتُ الْفَهْدَ وَالْأَسَدَ وَالذِّئْبَةَ، رُمُوزَ الْخِدَاعْ وَالْعَدُوّْ وَالشَّهْوَةْ، فَأَتَانِيْ فِيرْجِيلْيُوسْ يَرْشُدُنِيْ إِلَىْ الْجَحِيمْ"، فِيْ النَّشِيدْ الْأَوَّلْ مِنْ الْجَحِيمْ، حَيْثُ يَبْدَأْ دَانْتِيْ رَحْلَتَهْ فِيْ غَابَةْ الضَّلَالْ، يُوَاجِهْ الرُّمُوزْ، ثُمَّ يَرْشُدُهْ فِيرْجِيلْ إِلَىْ الْجَحِيمْ بِتِسْعْ دَوَائِرْ، ثُمَّ الْمُطْهَرْ، ثُمَّ الْفِرْدَوْسْ، رَحْلَةْ خَيَالِيَّةْ بِدُونْ خَوَارِقْ إِلَّا الْفِكْرَةْ الْأَسَاسِيَّةْ، سَخْرِيَةْ مِنْ التَّعَصُّبْ الْكَنْسِيْ وَالْسِّيَاسِيْ، مُسْتَوْحَاةْ مِنْ الثَّالُوثْ الْمُقَدَّسْ فِيْ الْهَيْكَلْ الثَّلَاثِيْ، لَكِنَّهَا تُشْبِهْ تَمَامًا صَعْدْ ابْنْ الْقَارِحْ إِلَىْ السَّمَاءْ وَنُزُولَهْ إِلَىْ النَّارْ، كَمَا أَثْبَتْ الْمُسْتَشْرِقْ مِيْغِيلْ أَسِينْ بْلَاثِيُوسْ فِيْ "الْإِسْلَامْ وَالْكُومِيدْيَا الْإِلَهِيَّةْ" عَامْ ١٩١٩ْ، أَنَّ الرَّحْلَةْ مُسْتَمَدَّةْ مِنْ قِصَّةْ الْمِعْرَاجْ وَقِصَصْ الْآخِرَةْ الْإِسْلَامِيَّةْ، بِمَا فِيهَا "الْغَفْرَانْ" كَجُزْءْ مِنْ مَجْمُوعَةْ نُصُوصْ أَدَبِيَّةْ شَرْقِيَّةْ، نُقِلَتْ عَبْرْ تَرْجَمَاتْ سِقِلِّيَّةْ وَالْأَنْدَلُسْ.
أَغْلَقْ أَنْطُونِيُوْ عَيْنَيْهْ، وَالْعَاصِفَةْ تَعْوِيْ خَارِجْ النَّافِذَةْ كَغِيلَانْ الْجَاحِظْ فِيْ "الْحَيْوَانْ"، تِلْكَ الْأَسَاطِيرْ الَّتِيْ اسْتَلْهَمَهَا الْمُعْرِيْ لِوَصْفْ الْغِيلَانْ فِيْ النَّارْ، وَغَرِقْ فِيْ حُلْمْ يُشْبِهْ رَحْلَةْ ابْنْ الْقَارِحْ، يَجِدْ نَفْسَهْ فِيْ غَابَةْ مُظْلِمَةْ تُشْبِهْ غَابَةْ دَانْتِيْ، لَكِنْ أَشْجَارَهَا مُزَخْرَفَةْ بِآيَاتْ قُرْآنِيَّةْ مُحْفُورَةْ، وَفَجْأَةْ يَظْهَرْ الْمُعْرِيْ، الْأَعْمَىْ ذُو الْلَّحْيَةْ الْبَيْضَاءْ، يَمْسِكْ بِعَصَا الْتَّمْرْ، يَقُولْ: "مَرْحَبًا بِكَ فِيْ سَخْرِيَةْ الرَّحْلَةْ الْخَيَالِيَّةْ، أَيُّهَا التَّاجِرْ، هَلْ جِئْتَ لِتَصْعَدْ إِلَىْ السَّمَاءِ بِدُونْ خَوَارِقْ، أَمْ لِتَنْزِلْ إِلَىْ النَّارِ بِسَخْرِيَةْ مِنْ الْآخِرَةِ كَمَسْرَحِيَّةْ؟" أَنْطُونِيُوْ أُومَأْ، وَفِيْ لَحْظَةْ، وَجَدَا نَفْسَهُمَا يَسِيرَانِ فِيْ طَرِيقْ ضَبَابِيْ يَتَفَرَّعْ إِلَىْ سَمَاوَاتْ وَنَارِينْ مُتَدَاخِلَتَيْنْ، كَأَنَّ الْحُلْمْ يُمَزِجْ بَيْنَ الرِّسَالَتَيْنْ، وَالْمُعْرِيْ يَشِيرْ بِعَصَاهْ إِلَىْ مَنْظَرْ بَعِيدْ حَيْثُ يَصْعَدْ ابْنْ
الفصل الثاني عشر: دوائر العذاب والغفران
مع اقتراب عاصفة الشتاء الأولى على جنوى في ديسمبر عام 1311، حيث كانت الرياح الشمالية الشرقية تعصف بالميناء كأنها غيلان المعري في أساطيره، تلك الكائنات المتلوّنة التي تتصور صورًا حَمَارِيَّةً لتعذيب الآثمين في النار، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن السماء تفتح أبواب الجحيم لتغسل الدنيا من خطاياها، وتكشف عن دوائر العذاب التي تربط بين رؤية المعري للنار كمسرحية أدبية ساخرة ودوائر دانتي في الجحيم كعقاب إلهي مصنَّف، حيث يعذب الآثمون حسب خطاياهم، لكن في كلا العملين، السخرية تتسلل كرحمة خفية، تغفر للإبداع رغم الكفر، وتربط بين الشرق السوري والغرب الإيطالي عبر ترجمات صقلية والأندلس التي نقلت وصف النار الإسلامي إلى أوروبا، كما في روايات المؤرخين العالميين مثل إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" الذي يصف كيف أثرت التصورات الإسلامية للآخرة في الأدب الأوروبي الوسيط، ومحفوظ في مخطوطات مثل تلك في مكتبة الفاتيكان التي تحتوي نسخًا لاتينية من قصص المعراج والغفران، وثائق تثبت انتشارها في إيطاليا قبل دانتي بقرون. كانت المدينة تغفو تحت الغيوم السوداء، أبراجها الحجرية تتمايل مع الريح كأعمدة الجحيم في خيال دانتي، وسفنها في الميناء ترسو كأرواح تنتظر العذاب أو الغفران، وأنطونيو يجد نفسه عالقًا في غرفة مكتبه، مضاءة بمصباح زيتي يتمايل مع العاصفة، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها بوابة إلى دوائر النار، يتساءل كيف وصل وصف الغيلان والعذابات اللغوية إلى يدي دانتي، ليبني بها تسع دوائر، عبر الترجمات التاريخية المحفوظة في أرشيفات صقلية مثل تلك في بلاط روجر الثاني عام 1130، حيث ترجمت قصص الآخرة الإسلامية إلى اللاتينية، وانتقلت إلى قشتالة عام 1264 تحت ألفونسو العاشر، ثم إلى فلورنسا عبر برونيتو لاتيني، معلّم دانتي، الذي زار الأندلس وأحضر نسخًا، كما روى المؤرخ الإيطالي تشيروللي في تحقيقاته عام 1949، نشرًا لوثائق تثبت الانتشار.
في تلك الليلة، التي كانت العاصفة فيها تعوي كغيلان الجاحظ في "الحيوان"، تلك الكائنات التي وصفها بأنها "تَعْرِضُ لِلسَّفَرَةِ وَتَتَلَوَّنُ فِيْ ضُرُوبْ الصُّوَرْ وَالثِّيَابْ، ذَكَرًا كَانْ أَوْ أُنْثَى، وَأَكْثَرْ كَلَامِهِمْ عَلَىْ أَنَّهَا أُنْثَى، وَتَزْعُمْ الْعَرَبْ أَنَّ الْغُولْ تَتَصَوَّرْ فِيْ أَحْسَنْ صُورَةْ إِلَّا أَنَّهْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونْ رِجْلُهَا رِجْلَ حِمَارْ"، جلس أنطونيو أمام الطاولة، يمسك بالمخطوطة البالية، ويقرأ المقتطف الذي يصف النار: "فَرَأَيْتُ فِيْ النَّارِ الْمُتَعَذَّبِينْ يَصْرُخُونْ: الْغَفْرَانْ يَا رَبَّنَا، وَالْغِيلَانْ تَتَصَوَّرْ صُوَرًا حَمَارِيَّةً لِتَعْذِيبْهِمْ بِأَخْطَائِهِمْ اللُّغْوِيَّةِ، فَمَنْ أَخْطَأْ فِيْ الْإِعْرَابْ يُسَجَّعْ أَبَدًا، وَمَنْ هَجَا بِغَيْرِ بَلَاغَةْ يُحْرَقْ بِنَارْ الْكَلِمَاتْ الْخَاطِئَةْ"، كانت الدوائر في النار حسب الخطايا الأدبية، سخرية من التعصب اللغوي والديني، حيث يعذب الغيلان الآثمين بصورهم المتلوّنة، مستوحاة من أساطير الجاحظ والقرآن، كما روى المؤرخ العالمي إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" عام 1978، أن هذه التصورات الإسلامية للنار كعقاب نفسي وأدبي أثرت في الأدب الأوروبي الوسيط، خاصة في دانتي، الذي بنى على الترجمات المحفوظة في أرشيفات الفاتيكان. تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك الجحيم عند دانتي: "فِيْ الدَّوَائِرِ التَّاسِعَةِ، يَغْرَقُ الْخَائِنُونْ فِيْ الْجَلِيدِ، وَلُوسِيفِيرْ يَمْضُغْ جُدَاسْ، وَالْبَابَاوَاتُ فِيْ الْزَّفْتِ لِخِيَانَتِهِمْ"، في النَّشِيدْ الْثَّالِثْ وَالْثَلَاثِينْ مِنْ الْجَحِيمْ، حيث تسع دوائر مصنَّفة حسب الخطايا، من الشهوة في الثانية إلى الخيانة في التاسعة، عقاب contrapasso يعكس الخطيئة، سخرية من التعصب الكنسي، مستوحاة من التصورات الإسلامية للنار كما في المعراج، كما أثبت بلاثيوس في كتابه، أن وصف الدوائر مستمد من ترجمات قصص الآخرة الإسلامية، نقلت عبر صقلية عام 1130 في بلاط روجر، ثم إلى قشتالة 1264، محفوظة في وثائق ألفونسو العاشر.
أغلق أنطونيو عينيه، والعاصفة تعوي كغيلان في "الحيوان" للجاحظ، الذي وصفها بأنها "تَعْرِضُ لِلسَّفَرَةِ وَتَتَلَوَّنُ فِيْ ضُرُوبْ الصُّوَرْ"، وغرق في حلم يشبه نزول ابن القارح إلى النار، يجد نفسه في دوائر متداخلة، الغيلان تتصور صورًا حَمَارِيَّةً، والمعري يقول: "مَرْحَبًا بِكَ فِيْ دَوَائِرْ الْعَذَابْ وَالْغُفْرَانْ، أَيُّهَا التَّاجِرْ، هَلْ جِئْتَ لِتَرَىْ الْغِيلَانْ تَعْذِبْ بِأَخْطَاءْ لُغْوِيَّةْ، أَمْ لِتَسْمَعْ سَخْرِيَةْ مِنْ الْفُقَهَاءْ؟" أنطونيو أومَأْ، وَفِيْ لَحْظَةْ، وَجَدَا نَفْسَهُمَا فِيْ دَوَائِرْ مُتَدَاخِلَةْ، كَأَنَّ الْحُلْمْ يُمَزِجْ بَيْنَ الرِّسَالَتَيْنْ، وَالْمُعْرِيْ يَشِيرْ بِعَصَاهْ إِلَىْ مَنْظَرْ بَعِيدْ حَيْثُ الْغِيلَانْ تَتَصَوَّرْ صُوَرًا حَمَارِيَّةً لِتَعْذِيبْ الْآثِمِينْ، وَيَقُولْ: "فِيْ نَارِيْ، الْدَّوَائِرْ حَسَبْ الْخَطَايَا الْأَدَبِيَّةْ، فَمَنْ أَخْطَأْ فِيْ الْإِعْرَابْ يُسَجَّعْ أَبَدًا، وَمَنْ هَجَا بِغَيْرْ بَلَاغَةْ يُحْرَقْ بِنَارْ الْكَلِمَاتْ الْخَاطِئَةْ، سَخْرِيَةْ مِنْ التَّعَصُّبْ اللُّغْوِيْ وَالْدِّينِيْ، مُسْتَوْحَاةْ مِنْ أَسَاطِيرْ الْجَاحِظْ وَالْقُرْآنْ، كَمَا رَوَىْ الْمُؤَرِّخْ الْعَالَمِيْ إِدْوَارْدْ سَعِيدْ فِيْ الشَّرْقْ فِيْ الْغَرْبْ عَامْ ١٩٧٨ْ، أَنَّ هَذِهْ التَّصَوُّرَاتْ الْإِسْلَامِيَّةْ لِلنَّارْ كَعَقَابْ نَفْسِيْ وَأَدَبِيْ أَثَّرَتْ فِيْ الْأَدَبْ الْأُورُوبِيْ الْوَسِيطْ، خَاصَّةْ فِيْ دَانْتِيْ، الَّذِيْ بَنَىْ عَلَىْ التَّرْجَمَاتْ الْمُحْفُوْظَةْ فِيْ أَرْشِيفَاتْ الْفَاتِيكَانْ." فَجْأَةْ، ظَهَرْ دَانْتِيْ، يَقُولْ: "أَيُّهَا الْحَكِيمْ، دَوَائِرْ نَارِكَ أَلْهَمَتْنِيْ لِتِسْعْ دَوَائِرْ فِيْ جَحِيمِيْ، فِيْ الدَّوَائِرِ التَّاسِعَةِ، يَغْرَقُ الْخَائِنُونْ فِيْ الْجَلِيدِ، وَلُوسِيفِيرْ يَمْضُغْ جُدَاسْ، وَالْبَابَاوَاتُ فِيْ الْزَّفْتِ لِخِيَانَتِهِمْ"، فِيْ النَّشِيدْ
الفصل الثالث عشر: سعة الرحمة والسخرية
مع بداية الشتاء الحقيقي في جنوى في يناير عام 1312، حيث كانت الرياح الشمالية الشرقية تحمل معها برودة بغداد الشتوية التي وصفها المعري في رسالته كأنها عذاب يغفر له الشعراء بسبب بلاغتهم في وصف البرد والجمال، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن السماء تغلق أبواب الجحيم لتفتح أبواب الجنة، تكشف عن سعة الرحمة التي تربط بين غفران المعري للكفار الشعراء بسبب قولهم الحسن، وسعة رحمة دانتي في الليمبو للفلاسفة الوثنيين رغم كفرهم، حيث يُكرَّم الإبداع رغم الخطيئة، سخرية من التعصب الديني الذي يضيق الرحمة، وتربط بين الشرق السوري والغرب الإيطالي عبر الترجمات التاريخية المحفوظة في أرشيفات صقلية مثل تلك في بلاط روجر الثاني عام 1130، حيث ترجمت قصص الآخرة الإسلامية إلى اللاتينية، وانتقلت إلى قشتالة عام 1264 تحت ألفونسو العاشر، محفوظة في وثائق ألفونسو العاشر التي نشرها المؤرخ الإسباني خوان بيدريسا في "كرونيكا ديل ري دون ألفونسو الديكيمو"، ووصلت إلى فلورنسا عبر برونيتو لاتيني، معلّم دانتي، الذي زار الأندلس وأحضر نسخًا، كما روى المؤرخ الإيطالي تشيروللي في تحقيقاته عام 1949، نشرًا لوثائق تثبت الانتشار، وكما وثّق المؤرخ العالمي إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" عام 1978، أن سعة الرحمة الإسلامية أثرت في الأدب الأوروبي الوسيط، خاصة في دانتي، الذي بنى على الترجمات المحفوظة في أرشيفات الفاتيكان مثل مخطوطة "ليبر سكالا ماكوميتي"، نسخة لاتينية من المعراج تحتوي عناصر من "الغفران". كانت المدينة تغفو تحت الثلوج الخفيفة، أبراجها الحجرية تتجمد كأعمدة الجنة في خيال المعري، وسفنها في الميناء ترسو كأرواح تنتظر الغفران، وأنطونيو يجد نفسه عالقًا في غرفة مكتبه، مضاءة بمصباح زيتي يتمايل مع الريح، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها بوابة إلى سعة الرحمة، يتساءل كيف وصلت هذه السعة، المكتوبة في محبس المعري عام 424 هـ/1033 م، إلى يدي دانتي في فلورنسا عام 1307، لتصبح إلهامًا لليمبو، عبر الترجمات التاريخية المحفوظة في مكتبة الفاتيكان مثل مخطوطة "فاتيكانوس أرابيكوس 681"، نسخة جزئية من "الغفران" نقلت عبر صقلية.
في تلك الليلة، التي كانت الرياح فيها تهدأ تدريجيًا كأنها تنتظر حكاية الرحمة، جلس أنطونيو أمام الطاولة، يمسك بالمخطوطة البالية، ويقرأ المقتطف الذي يصف سعة الرحمة: "فَغَفَرَ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْحَسَنِ، فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ رَغْمَ كُفْرِهِمْ، وَهَذِهِ سَعَةُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّىْ الْجَاهِلِيِّينْ الَّذِينْ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِيمَانْ، بَلْ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ قَالُوهُ فِيْ الْحَيَاةِ أَدْخَلَهُمْ النَّعِيمْ"، كانت هذه السعة سخرية من التعصب، حيث يغفر الله للكفار الشعراء بسبب بلاغتهم، رغم رميهم بالكفر، كما قال الذهبي في تاريخه "فيها مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير"، وكما روى المؤرخ العالمي إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" عام 1978، أن سعة الرحمة الإسلامية، كما في "الغفران"، أثرت في تصورات الأدب الأوروبي للآخرة، خاصة في دانتي، الذي بنى الليمبو على هذه الفكرة. تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك الليمبو عند دانتي: "فِيْ اللِّيمْبُوْ، الْفَلَاسِفَةُ الْوَثَنِيُّونْ كَأَرِسْطُوْ وَأَفْلَاطُونْ وَسُقْرَاطْ وَابْنْ رُشْدْ وَابْنْ سِينَا يَعِيشُونْ بِدُونْ عَذَابْ، فَضْلُهُمْ فِيْ الْعِلْمِ يَغْفِرْ لَهُمْ رَغْمْ كُفْرِهِمْ"، في النَّشِيدْ الرَّابِعْ مِنْ الْجَحِيمْ، حيث يضع دانتي الفلاسفة في مكان انتقالي دون عذاب، سعة رحمة تغفر الكفر بالفضيلة العلمية، مستوحاة من التصورات الإسلامية كما في المعراج والغفران، كما أثبت بلاثيوس في "الإسلام والكوميديا الإلهية" عام 1919، أن سعة الرحمة مستمدة من ترجمات قصص الآخرة الإسلامية، نقلت عبر صقلية عام 1130 في بلاط روجر، محفوظة في وثائق روجر الثاني في مكتبة باليرمو، ثم إلى قشتالة 1264، محفوظة في أرشيفات ألفونسو العاشر.
أغلق أنطونيو عينيه، والرياح تهدأ خارج النافذة كأنها تنتظر حكاية الرحمة، وغرق في حلم يشبه صعود ابن القارح إلى الجنة، يجد نفسه في دوائر سعة، الشعراء يدخلون النعيم بأبياتهم، والمعري يقول: "مَرْحَبًا بِكَ فِيْ سَعَةْ الرَّحْمَةْ وَالسَّخْرِيَةْ، أَيُّهَا التَّاجِرْ، هَلْ جِئْتَ لِتَرَىْ الْكُفَّارْ يَدْخُلُونْ الْجَنَّةْ بِقَوْلِهِمْ الْحَسَنْ، أَمْ لِتَسْمَعْ سَخْرِيَةْ مِنْ الْفُقَهَاءْ الَّذِينْ يَضِيقُونْ الرَّحْمَةْ؟" أنطونيو أومَأْ، وَفِيْ لَحْظَةْ، وَجَدَا نَفْسَهُمَا فِيْ جَنَّةْ مُتَدَاخِلَةْ، كَأَنَّ الْحُلْمْ يُمَزِجْ بَيْنَ الرِّسَالَتَيْنْ، وَالْمُعْرِيْ يَشِيرْ بِعَصَاهْ إِلَىْ مَنْظَرْ بَعِيدْ حَيْثُ الْكُفَّارْ الشُّعَرَاءْ يَدْخُلُونْ النَّعِيمْ بِسَبَبْ قَوْلِهِمْ الْحَسَنْ، وَيَقُولْ: "فِيْ رِسَالَتِيْ، غَفَرْ اللَّهُ لِلْجَاهِلِيِّينْ الشُّعَرَاءْ بِبَيْتْ وَاحِدْ قَالُوهْ فِيْ الْحَيَاةْ، أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةْ، سَعَةْ رَحْمَةْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءْ، حَتَّىْ الْكُفْرْ، سَخْرِيَةْ مِنْ الْفُقَهَاءْ الَّذِينْ يَرْمُونْنِيْ بِالْمَزْدَكِيَّةْ، كَمَا قَالْ الذَّهَبِيْ فِيْ تَارِيخِهْ فِيهَا مَزْدَكَةْ وَاسْتِخْفَافْ، وَفِيهَا أَدَبْ كَثِيرْ ، وَكَمَا رَوَىْ الْمُؤَرِّخْ الْعَالَمِيْ إِدْوَارْدْ سَعِيدْ فِيْ الشَّرْقْ فِيْ الْغَرْبْ عَامْ ١٩٧٨ْ، أَنَّ سَعَةْ الرَّحْمَةْ الْإِسْلَامِيَّةْ، كَمَا فِيْ الْغَفْرَانْ ، أَثَّرَتْ فِيْ تَصَوُّرَاتْ الْأَدَبْ الْأُورُوبِيْ لِلْآخِرَةْ، خَاصَّةْ فِيْ دَانْتِيْ، الَّذِيْ بَنَىْ اللِّيمْبُوْ عَلَىْ هَذِهْ الْفِكْرَةْ." فَجْأَةْ، ظَهَرْ دَانْتِيْ، يَقُولْ: "أَيُّهَا الْحَكِيمْ، سَعَةْ رَحْمَتِكَ أَلْهَمَتْنِيْ لِلِّيمْبُوْ فِيْ جَحِيمِيْ، فِيْ اللِّيمْبُوْ، الْفَلَاسِفَةُ الْوَثَنِيُّونْ كَأَرِسْطُوْ وَأَفْلَاطُونْ وَسُقْرَاطْ وَابْنْ رُشْدْ وَابْنْ سِينَا يَعِيشُونْ بِدُونْ عَذَابْ، فَضْلُهُمْ فِيْ
الفصل الرابع عشر: الجسر الضائع والغفران الأبدي
مع نهاية الشتاء القارس في جنوى في فبراير عام 1312، حيث كانت الثلوج الخفيفة تغطي الأبراج الحجرية كأنها ستائر الغفران في خيال المعري، تلك الستائر التي تفصل بين الدنيا والآخرة، وتكشف عن غفران يغمر الكفار الشعراء بسبب بيت واحد قالوه في الحياة، شعر أنطونيو دي جنوفا بأن السماء تغلق أبواب الجحيم لتفتح أبواب الغفران الأبدي، تكشف عن الجسر الضائع الذي يربط بين سعة رحمة المعري في "رسالة الغفران" وسعة رحمة دانتي في "الكوميديا الإلهية"، حيث يغفر الإبداع الكفر، والعلم يفتح أبواب الليمبو دون عذاب، سخرية من التعصب الذي يضيق الرحمة، وتربط بين الشرق السوري والغرب الإيطالي عبر الترجمات التاريخية المحفوظة في أرشيفات صقلية مثل تلك في بلاط روجر الثاني عام 1130، حيث ترجمت قصص الآخرة الإسلامية إلى اللاتينية، محفوظة في وثائق روجر الثاني في مكتبة باليرمو، وانتقلت إلى قشتالة عام 1264 تحت ألفونسو العاشر، محفوظة في أرشيفات ألفونسو العاشر التي نشرها المؤرخ الإسباني خوان بيدريسا في "كرونيكا ديل ري دون ألفونسو الديكيمو"، ووصلت إلى فلورنسا عبر برونيتو لاتيني، معلّم دانتي، الذي زار الأندلس وأحضر نسخًا، كما روى المؤرخ الإيطالي تشيروللي في تحقيقاته عام 1949، نشرًا لوثائق تثبت الانتشار، وكما وثّق المؤرخ العالمي إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" عام 1978، أن سعة الرحمة الإسلامية، كما في "الغفران"، أثرت في تصورات الأدب الأوروبي للآخرة، خاصة في دانتي، الذي بنى الليمبو على هذه الفكرة، مستلهمًا من الترجمات المحفوظة في أرشيفات الفاتيكان مثل مخطوطة "ليبر سكالا ماكوميتي"، نسخة لاتينية من المعراج تحتوي عناصر من "الغفران". كانت المدينة تغفو تحت الثلوج، أبراجها الحجرية تتجمد كأعمدة الجنة في خيال المعري، وسفنها في الميناء ترسو كأرواح تنتظر الغفران الأبدي، وأنطونيو يجد نفسه عالقًا في غرفة مكتبه، مضاءة بمصباح زيتي يتمايل مع الريح، يقلب صفحات "رسالة الغفران" كأنها بوابة إلى الجسر الضائع، يتساءل كيف وصلت هذه السعة، المكتوبة في محبس المعري عام 424 هـ/1033 م، إلى يدي دانتي في فلورنسا عام 1307، لتصبح إلهامًا للوردة السماوية، عبر الترجمات التاريخية المحفوظة في مكتبة الفاتيكان مثل مخطوطة "فاتيكانوس أرابيكوس 681"، نسخة جزئية من "الغفران" نقلت عبر صقلية، كما وثّق المؤرخ جيورجيو ليفي ديلا فيد في "إلينكو ديي مانوسكريتي أرابي إسلاميكي ديلّا بيبليوتيكا فاتيكانا" عام 1935، الذي سرد أكثر من 100 مخطوطة قرآنية عربية في الفاتيكان، بما فيها عناصر من نصوص الآخرة الإسلامية.
في تلك الليلة، التي كانت الرياح فيها تهدأ تدريجيًا كأنها تنتظر حكاية الغفران الأبدي، جلس أنطونيو أمام الطاولة، يمسك بالمخطوطة البالية، ويقرأ المقتطف النهائي الذي يصف الغفران: "فَبِمَا غُفِرَ لَكَ يَا شَاعِرُ؟ قَالَ: بِبَيْتٍ وَاحِدٍ قُلْتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، وَهَذِهِ سَعَةُ الرَّحْمَةِ الَّتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّىْ الْكُفْرَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنْ، سَخْرِيَةْ مِنْ الْفُقَهَاءْ الَّذِينْ يَضِيقُونْ الْغُفْرَانْ بِالْعَقِيدَةْ وَحْدَهَا"، كانت هذه السخرية في غفران الكفر بالشعر، حيث يغفر الله للكفار ببيت واحد، سعة رحمة تغطي كل شيء، كما قال الذهبي في تاريخه "فيها مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير"، وكما روى المؤرخ العالمي إدوارد سعيد في "الشرق في الغرب" عام 1978، أن سعة الرحمة الإسلامية، كما في "الغفران"، أثرت في تصورات الأدب الأوروبي للآخرة، خاصة في دانتي، الذي بنى الوردة السماوية على هذه الفكرة، مستلهمًا من الترجمات المحفوظة في أرشيفات الفاتيكان مثل مخطوطة "ليبر سكالا ماكوميتي"، نسخة لاتينية من المعراج تحتوي عناصر من "الغفران"، كما وثّق جيورجيو ليفي ديلا فيد في "إلينكو ديي مانوسكريتي أرابي إسلاميكي ديلّا بيبليوتيكا فاتيكانا" عام 1935، الذي سرد أكثر من 100 مخطوطة قرآنية عربية في الفاتيكان، بما فيها نصوص الآخرة. تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك خاتمة "الكوميديا": "فِيْ الْوَرْدَةِ السَّمَاوِيَّةِ، رَأَيْتُ اللَّهَ، وَالْغُفْرَانُ بِالْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ، حَيْثُ الْفَلَاسِفَةُ وَالشُّعَرَاءُ يَجْتَمِعُونْ فِيْ النُّورْ الْإِلَهِيْ، سَعَةْ رَحْمَةْ تَغْفِرْ الْكُفْرْ بِالْعِلْمْ وَالْفَنْ"، في النَّشِيدْ الرَّابِعْ وَالْعِشْرِينْ مِنْ الْفِرْدَوْسْ، حيث يصل دانتي إلى الوردة السماوية، تاج الله، سعة رحمة تغفر الكفر بالفضيلة، مستوحاة من التصورات الإسلامية كما في المعراج والغفران، كما أثبت بلاثيوس في "الإسلام والكوميديا الإلهية" عام 1919، أن سعة الرحمة مستمدة من ترجمات قصص الآخرة الإسلامية، نقلت عبر صقلية عام 1130 في بلاط روجر، محفوظة في وثائق روجر الثاني في مكتبة باليرمو، ثم إلى قشتالة 1264، محفوظة في أرشيفات ألفونسو العاشر التي نشرها خوان بيدريسا في "كرونيكا ديل ري دون ألفونسو الديكيمو".
أغلق أنطونيو عينيه، والرياح تهدأ خارج النافذة كأنها تنتظر حكاية الغفران الأبدي، وغرق في حلم يشبه خاتمة الرسالة، يجد نفسه في الوردة السماوية، الشعراء والفلاسفة يجتمعون في النور، والمعري يقول: "مَرْحَبًا بِكَ فِيْ الْجِسْرْ الضَّائِعْ وَالْغُفْرَانْ الْأَبَدِيْ، أَيُّهَا التَّاجِرْ، هَلْ جِئْتَ لِتَرَىْ الْكُفَّارْ يَدْخُلُونْ النَّعِيمْ بِبَيْتْ وَاحِدْ، أَمْ لِتَسْمَعْ سَخْرِيَةْ مِنْ الْتَّعَصُّبْ الَّذِيْ يَضِيقْ الرَّحْمَةْ؟" أنطونيو أومَأْ، وَفِيْ لَحْظَةْ، وَجَدَا نَفْسَهُمَا فِيْ وَرْدَةْ سَمَاوِيَّةْ مُتَدَاخِلَةْ، كَأَنَّ الْحُلْمْ يُمَزِجْ بَيْنَ الرِّسَالَتَيْنْ، وَالْمُعْرِيْ يَشِيرْ بِعَصَاهْ إِلَىْ مَنْظَرْ بَعِيدْ حَيْثُ الْكُفَّارْ الشُّعَرَاءْ يَدْخُلُونْ النَّعِيمْ بِسَبَبْ قَوْلِهِمْ الْحَسَنْ، وَيَقُولْ: "فِيْ رِسَالَتِيْ، غَفَرْ اللَّهُ لِلْجَاهِلِيِّينْ بِبَيْتْ وَاحِدْ، أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةْ، سَعَةْ رَحْمَةْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءْ، سَخْرِيَةْ مِنْ الْفُقَهَاءْ، كَمَا رَوَىْ سَعِيدْ فِيْ الشَّرْقْ فِيْ الْغَرْبْ أَنَّ سَعَةْ الْإِسْلَامْ أَثَّرَتْ فِيْ دَانْتِيْ." فَجْأَةْ، ظَهَرْ دَانْتِيْ، يَقُولْ: "أَيُّهَا الْحَكِيمْ، سَعَةْ رَحْمَتِكَ أَلْهَمَتْنِيْ لِلْوَرْدَةْ السَّمَاوِيَّةْ، فِيْ الْوَرْدَةِ، رَأَيْتُ اللَّهَ، وَالْغُفْرَانْ بِالْفَضِيلَةْ، حَيْثُ الْفَلَاسِفَةُ يَجْتَمِعُونْ فِيْ النُّورْ، سَعَةْ تَغْفِرْ الْكُفْرْ بِالْعِلْمْ"، فِيْ النَّشِيدْ الرَّابِعْ وَالْعِشْرِينْ مِنْ الْفِرْدَوْسْ، حَيْثُ يَصِلْ دَانْتِيْ إِلَىْ تَاجْ اللَّهْ، سَعَةْ رَحْمَةْ مُسْتَوْحَاةْ مِنْ الْمُعْرَاجْ، كَمَا أَثْبَتْ بْلَاثِيُوسْ فِيْ كِتَابِهْ.
أَنْطُونِيُوْ سَأَلْ: "وَالْجِسْرْ الضَّائِعْ؟" رَدْ دَانْتِيْ: "الْتَّرْجَمَةْ الْلَّاتِينِيَّةْ الضَّائِعَةْ، كَمَا قَالْ عَوْضْ، وَصَلَتْ عَبْرْ بْرُونِيتُوْ، الَّذِيْ زَارَ سِقِلِّيَةْ وَالْأَنْدَلُسْ، أَحْضَرَ نُسْخًا مِنْ الْغَفْرَانْ ، قَرَأْتُهَا فِيْ ١٣٠٧ْ، مُسْتَلْهِمًا سَعَةْ رَحْمَتِكَ لِلْوَرْدَةْ." اسْتَمْرَ الْحُلْمْ، وَالْمُعْرِيْ يَقُولْ: "فِيْ رِسَالَتِيْ، الْغَفْرَانْ بِالْقَوْلْ الْحَسَنْ، كَمَا قِيلَ لِلشَّاعِرِ: بِبَيْتٍ وَاحِدٍ قُلْتُهُ، فَأَدْخَلَنِيْ الْجَنَّةْ، هَذِهْ سَعَةْ الرَّحْمَةْ، أَوْسَعْ مِنْ فُقْهَاءْ الْعَصْرْ." دَانْتِيْ أَوْمَأْ: "وَفِيْ فِرْدَوْسِيْ، الْفَضِيلَةْ تَغْفِرْ الْكُفْرْ، مُسْتَوْحَاةْ مِنْ غُفْرَانِكَ، الَّتِيْ وَصَلَتْ عَبْرْ التَّرْجَمَاتْ الْمُحْفُوْظَةْ فِيْ الْفَاتِيكَانْ." اسْتَيْقَظْ أَنْطُونِيُوْ مَعَ الْفَجْرْ، وَالْمَخْطُوطَةْ مَفْتُوحَةْ، لَكِنَّهْ كَتَبْ فِيْ مُذَكَّرَاتِهْ: "الْجِسْرْ الضَّائِعْ وَالْغُفْرَانْ الْأَبَدِيْ، التَّرْجَمَةْ الْلَّاتِينِيَّةْ رَبَطَتْ سَعَةْ رَحْمَةْ الْمُعْرِيْ بِدَانْتِيْ فِيْ الْوَرْدَةْ." فِيْ الْيَوْمْ التَّالِيْ، زَارْ مَكْتَبَةْ سَانْ لُورِينْزُوْ، حَيْثُ وَجَدْ نُسْخَةْ لَاتِينِيَّةْ جُزْئِيَّةْ، تُؤَكِّدْ انْتِشَارْ "الْغَفْرَانْ" فِيْ إِيْطَالْيَا، كَمَا فِيْ وَثَائِقْ تْشِيرُولْلِيْ. مَعَ بْلُوْكَا، نَاقَشْ: "الشَّبْهْ فِيْ سَعَةْ الرَّحْمَةْ، وَصَلَتْ عَبْرْ سِقِلِّيَةْ، حَيْثُ كَانَتْ الثَّقَافَةْ الْهَجِينَةْ تَنْقُلْ النُّصُوصْ." اسْتَمْرَ أَنْطُونِيُوْ فِيْ قِرَاءَةْ، يَجِدْ مَقْتَطْفًا عَنْ حَمْدُونَةْ الْفَقِيرَةْ: "أَنَا حَمْدُونَةْ، أَقْبَحْ نِسَاءْ حَلَبْ، زَهِدْتْ فِيْ الدُّنْيَا، أَكْلْتْ مِنْ مَغْزَلِيْ، فَصَيَّرْنِيْ اللَّهْ حُورِيَّةْ بَيْضَاءْ"، غُفْرَانْ الزُّهْدْ، يُشْبِهْ مَاتِيلْدَا عِنْدْ دَانْتِيْ فِيْ غَابَةْ الْفِرْدَوْسْ، الَّتِيْ تَرْمُزْ لِلْبَرَاءَةْ. كَانَ الشَّبْهْ يَتَكَرَّرْ، وَالْجِسْرْ التَّرْجَمَةْ يَمْتَدْ.
مَعَ مَرُورْ الْأَسْبُوعْ، غَرِقْ أَنْطُونِيُوْ فِيْ الْحُلْمْ الْمُتَكَرِّرْ، حَيْثُ يَلْتَقِيْ الْمُعْرِيْ وَدَانْتِيْ فِيْ الْوَرْدَةْ السَّمَاوِيَّةْ، يَنَاقِشَانْ السَّخْرِيَةْ: "سَخْرِيَتِيْ مِنْ الْعَالَمْ الْآخَرْ لِنَقْدِ الْأَدَبْ"، يَقُولْ الْمُعْرِيْ. "وَسَخْرِيَتِيْ مِنْ تَعَصُّبْ الْعَصْرْ لِلْخَلَاصْ"، يَرْدْ دَانْتِيْ. أَنْطُونِيُوْ يَعْرِفْ أَنَّ الظِّلَالْ وَصَلَتْ عَبْرْ التَّرْجَمَةْ، رَابِطَةْ فْلُورَنْسَا بِمَعْرَةْ. كَانَ الْفَصْلْ يَنْتَهِيْ، لَكِنَّ الظِّلَالْ أَبَدِيَّةْ، فِيْ غُفْرَانْ يَرْبِطْ الْأَعْمَىْ بِالْبَصِيرْ.
………………
ملخص
رواية: كوميديا الفردوس السومري
الفصل الأول: أمواج الشرق في موانئ الغرب في أوائل القرن الرابع عشر، حيث تتلاقى أمواج البحر المتوسط مع رياح الشرق، كانت مدينة جنوى الإيطالية تتنفس نبض الحياة التجارية. كانت جنوى، مع أخواتها البندقية وبيزا، بوابة أوروبا نحو العالم الجديد، لكن جذور قوتها كانت تغوص في أعماق الحضارة العربية. كانت سفنها تحمل ليس فقط الحرير والتوابل من دمشق وبغداد وقرطبة، بل أيضًا أسرار العلوم التي غيرت وجه القارة.
كان أنطونيو دي جنوفا، تاجرًا شابًا ذا عيون حادة كسيف، يقف على رصيف الميناء في صباح صافٍ من عام 1310. كان قد عاد للتو من رحلة إلى صقلية، حيث التقى بتاجر عربي من قرطبة يدعى أحمد بن يوسف. "المدن الإيطالية مثل جنوى بنيت على أكتاف العرب"، قال أحمد له ذات ليلة، وهما يجلسان تحت ضوء مصباح زيتي. "حصاراتنا في دمشق وبغداد لم تكن للحرب فحسب، بل لنقل المعرفة. خرائطنا، حبرنا، رياضياتنا... كلها أساس حضارتكم."
أنطونيو، الذي كان يقرأ مخطوطات دانتي سرًا، شعر باهتزاز في روحه. كان يعرف أن دانتي، المنفي من فلورنسا، ينقل في "الكوميديا الإلهية" رؤى للعالم الآخر مستوحاة من رسالة "الغفران" لأبي العلاء المعري، الشاعر العربي الأعمى الذي سخر من الجنة والنار. "هل الشبه بين الاثنين مجرد صدفة؟" سأل أنطونيو نفسه، وهو يمسك بكتاب متهالك وصل إليه عبر التجار العرب: نسخة مترجمة جزئيًا من "رسالة الغفران"، تتحدث عن رحلة خيالية إلى الآخرة، مليئة بسخرية ونقد أدبي، تشبه تمامًا رحلة دانتي مع فرجيل وبياتريس.
في تلك الليلة، قرر أنطونيو أن يبحث عن الروابط. كان يعلم أن الشروحات العربية لأرسطو وأفلاطون، التي قدمها ابن رشد وابن سينا، أهم من النصوص اليونانية الأصلية، فهي أعادت تفسيرها لتناسب العقل البشري. وفي غرفة مكتبه، أضاء شمعةً وفتح خريطة عربية قديمة، رسمها الإدريسي في القرن الثاني عشر، تُظهر العالم بتفاصيل دقيقة لم يعرفها الأوروبيون. "هذه الخرائط التي سيستخدمها كولومبوس بعد قرون"، همس لنفسه، متذكرًا كيف وصلت إلى جنوى عبر التجارة مع قرطبة.
الفصل الثاني: أصداء المعري في فلورنسا انتقل أنطونيو إلى فلورنسا، مدينة النهضة الناشئة، حيث كان دانتي يكتب أجزاء من "الكوميديا". هناك، في حانة صغيرة مليئة بروائح التوابل العربية، التقى بـلوكا، عالم رياضيات يدرس في جامعة بولونيا. "الصفر الخوارزمي ليس مجرد رقم"، قال لوكا، وهو يرسم على لوح خشبي: 0، 1، 2... "هو أساس كل شيء. بدون الصفر، لا جبر، لا حسابات تجارية دقيقة، ولا حتى الإنترنت الذي سنراه يومًا ما، حيث يعتمد على الثنائي: 0 و1."
أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف أدخل الخوارزمي الأرقام العربية إلى العالم الإسلامي في كتابه "حساب الجمل"، ثم انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس. "والحبر العربي؟" سأل أنطونيو. "صُنع من عفص البلوط والزاج، ووصل إلى ورشنا في جنوى، مما سمح بكتبنا وخرائطنا"، رد لوكا. "أما في الطب، فالكحلال مثل علي بن عيسى كتبوا عن جراحة الساد قبل قرون، وترجمت كتبهم إلى اللاتينية، فأصبحت أساس طب العيون في أوروبا."
لكن أنطونيو كان يبحث عن الشبه الأدبي. قرأ لوكا مقطعًا من "الغفران": ابن القارح يزور الجنة والنار، يلتقي الشعراء، يسخر من الآخرة. "انظر إلى دانتي: الجحيم، المطهر، الفردوس. الرحلة، الدليل، السخرية من التعصب. المعري كتبها في 1033، ودانتي في 1307. هل اقتبس؟" لوكا هز كتفيه: "التأثير الإسلامي واضح، عبر صقلية والأندلس. الشروحات العربية لأرسطو غيرت فلسفة أوروبا، وكذلك الروايات الخيالية."
في تلك اللحظة، شعر أنطونيو أن القصة أكبر: جنوى ليست مجرد ميناء، بل جسر بين الشرق والغرب، حيث يلتقي المعري بدانتي في ظلال الغفران الإلهي.
الفصل الثالث: خرائط الخوارزمي وأسرار البصر عاد أنطونيو إلى جنوى محملًا بمخطوطات، واستقبله صديقه الطبيب ماريو، الذي درس في بولونيا. "الطب العربي في العيون غير حياتنا"، قال ماريو. "كتاب تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى، ترجم إلى اللاتينية، يصف جراحة الساد بدقة لم نعرفها. وابن الهيثم في المناظر شرح البصريات، أساس نظاراتنا اليوم."
أنطونيو أظهر له خريطة الإدريسي: "هذه الخرائط العربية، مبنية على رياضيات الخوارزمي، وصلت إلى كولومبوس بعد قرون. بدون الصفر، لا حسابات بحرية دقيقة." ماريو أومأ: "والأرقام العربية أساس كل شيء. الحروف الأوروبية اليوم مشتقة منها جزئيًا، والثنائي في الإنترنت – 0 و1 – يعود إلى الصفر الخوارزمي."
لكن الشبه الأدبي ظل يلازمه. قرأ أنطونيو عن كيف تأثر دانتي بقصة المعراج الإسلامية، وكيف يشبه ابن القارح في "الغفران" دانتي في رحلته. "السخرية اللاّذعة، النقد الأدبي، الرحلة إلى الآخرة... كلها روابط"، قال أنطونيو لماريو. "جنوى استفادت من الحصارات العربية، ليس بالسيف، بل بالعلم."
الفصل الرابع: سخرية الآخرة في رحلة أخرى إلى بغداد الخيالية في أحلامه، تخيل أنطونيو لقاءً بين المعري ودانتي. المعري، الأعمى الساخر، يقول: "رحلتي إلى الغفران كانت لأسخر من الجنة والنار، لأنقد الأدباء." دانتي يرد: "وأنا في الجحيم والفردوس، أسخر من التعصب، مستوحى من معراجكم." الشبه واضح: الرحلة الخيالية، الدليل (ابن القارح/فرجيل)، المواقف الساخرة.
في جنوى، أخبر أنطونيو لوكا: "الشروحات العربية لأفلاطون أعادت تفسير الروح، وأثرت في دانتي." لوكا أضاف: "والحبر العربي سمح بكتابة هذه المخطوطات، والرياضيات بنت الجسور."
الفصل الخامس: حبر الشرق ورياضيات الغرب في ورشة الحبر في جنوى، تعلم أنطونيو كيف يُصنع الحبر من عفص البلوط، تقنية عربية وصلت عبر قرطبة. "بدون هذا الحبر، لا مخطوطات"، قال الصانع. ثم زار مكتبة، حيث قرأ عن الخوارزمي: "صفره أساس الإنترنت، حيث الثنائي 0 و1 يبني العالم الرقمي."
الشبه بين الكتابين يتجلى في البناء: الرحلة، الأقسام (الجنة/النار، الجحيم/الفردوس)، السخرية. "دانتي اقتبس من المعري عبر الترجمات"، قال أنطونيو.
الفصل السادس: عيون الروح والجسد في بيزا، التقى أنطونيو بطبيب عيون يدرس كتب الموصلي: "جراحة الساد العربية أنقذت آلافًا في أوروبا." أنطونيو ربط: "كما أنقذت الغفران روح دانتي من التعصب."
تذكر كيف كانت قرطبة مركزًا للطب، حيث الشروحات العربية لجالينوس أعادت الطب إلى أوروبا.
الفصل السابع: جسر الخرائط عاد أنطونيو إلى جنوى بخريطة الإدريسي: "هذه وصلت إلى كولومبوس، مبنية على رياضيات عربية." لوكا أضاف: "والأرقام أساس الحروف الأوروبية في الحسابات."
الشبه في الحوادث: لقاء آدم باللغة الأولى في كلا الكتابين، النزهة مع الحوريات/ماتيلدا.
الفصل الثامن: غفران الإلهي في نهاية رحلته، أدرك أنطونيو أن جنوى بنيت على الاستفادة من الحضارة العربية: الخرائط، الحبر، الرياضيات، العيون. والشبه بين "الغفران" و"الكوميديا" دليل على التبادل الثقافي. "الشرق أعطى الغرب نوره"، كتب في مذكراته، وهو ينظر إلى البحر، حيث تتلاقى الأرواح في ظلال الغفران الإلهي.
الفصل التاسع: ظلال الأعمى في فلورنسا عاد أنطونيو إلى جنوى من بيزا، لكنه لم يستطع النوم، فالليلة كانت مليئة بأصداء صوت المعري، ذلك الأعمى الذي رأى الآخرة بعيون الشك، يسخر من الجنة والنار كأنها مسرحية أدبية. في غرفة مكتبه، أضاء شمعة وفتح "رسالة الغفران"، يقرأ مقتطفًا يصف فيه ابن القارح لقاءه بالشعراء في الجنة: "فَرَأَيْتُ زَهْرًا وَلَبِيدًا وَالْأَعْشَى وَالنَّابِغَةَ الْجَعْدِيَّ وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْبَلَاغَةِ، يَتَحَدَّثُونَ فِي أَشْعَارِهِمْ وَمَعَانِيهَا، وَيَتَعَارَفُونَ بِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَعَارِفَةِ وَالْمُدَارَسَةِ." كان هذا اللقاء نقدًا أدبيًا، يغفر الله للشعراء بسبب بلاغتهم، رغم كفرهم أحيانًا، سعة رحمة تتحدى الفقهاء. تذكر أنطونيو كيف يشبه ذلك لقاء دانتي بفيرجيل وهوميروس في الليمبو، في الجحيم، حيث يحاور الشعراء الوثنيين، يعترف بفضلهم رغم عدم إيمانهم، كما في نشيد الرابع: "وَرَأَيْتُ هُنَاكَ الْبَارْدَ الْعَظِيمَ هُومِيرُوسَ الْبَوَّلَاءَ، وَهُورَاسَ الْلَاطِينِيَّ، وَأُوْبِيدَ وَأُوْفِيدَ، وَفِيرْجِيلْيُوسَ الْمَارُوْنِيَّ." في كلا النصين، الشعراء في مكان انتقالي، يناقشون فنّهم، رمزًا لأن الإبداع يتجاوز الدين.
في الصباح، التقى بلوكا في السوق، يحمل مخطوطة لاتينية ضائعة يزعم أنها ترجمة لـ"الغفران". "كيف وصلت إلى دانتي؟" سأل أنطونيو. رد بلوكا: "عبر صقلية، حيث ترجم ألفونسو العاشر الملك القشتالي الغفران إلى القشتالية عام 1264، قبل ولادة دانتي بسنة، ثم إلى اللاتينية بواسطة بونيا فينتورا دي سينا، المترجم الإيطالي في بلاطه. انتشرت في إيطاليا، كما أثبت تشيروللي عام 1949، في مجموعات المخطوطات الفلورنسية." تخيل أنطونيو دانتي في نفيه، يقرأ الترجمة في حانة باليرمو، يرى في رحلة ابن القارح نموذجًا لرحلته، يستلهم السخرية من التعصب. في حلم ذلك اليوم، التقى المعري بدانتي في الجنة، يقول المعري: "رحلتي سخرية من الآخرة، لنقد الأدباء." رد دانتي: "وأنا سخرية من التعصب، مستوحى من معراجكم، لكن غفرانك أعطاني الهيكل." استيقظ أنطونيو يعلم أن الترجمة الضائعة كانت الجسر.
الفصل العاشر: لقاءات الشعراء في الظلال مع اقتراب الخريف، غرق أنطونيو في قراءة مقتطفات "الغفران"، يجد فيها لقاء ابن القارح بزهير بن أبي سلمى في الجنة: "فَقَالَ لِي زَهْرٌ: أَنَا زَهْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، وَقَصِيدَتِي فِي النَّاقَةِ الْبَيْضَاءِ أَحْرَزَتْ لِي الْغُفْرَانَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصْفُ الْبَرْدَ وَالْجَمَالَ بِلَفْظٍ لَا يُدْرَكُ." كان هذا النقد يبرر الغفران بالبلاغة، رغم خطايا الشعراء، سعة رحمة تتحدى التعصب. يشبه ذلك لقاء دانتي ببرناردو في الفردوس، لكنه في الجحيم، يلتقي ببرونيتو لاتيني، معلمه، في الدائرة السابعة: "وَرَأَيْتُ هُنَاكَ بْرُونِيتُو لَاتِينِيَّ، مُعَلِّمِي فِي الْبَلَاغَةِ، يَعْذَبُ لِغَيْرِ إِيمَانِهِ، لَكِنَّ فَضْلَهُ فِي الْفَنِّ يَبْقَى." في كلا النصين، الشعراء يُكرَّمون لفنّهم رغم عيوبهم، رمزًا لأن الإبداع يتجاوز الدين.
في لقاء مع ماريو في العيادة، روى أنطونيو: "الشبه في تكريم الشعراء، لكن كيف وصلت النسخة؟" رد ماريو: "عبر الأندلس، حيث كانت طليطلة مركز الترجمة، ووصلت نسخة الغفران إلى بلاط ألفونسو عام 1264، ترجمت إلى القشتالية، ثم إلى اللاتينية، انتشرت في فلورنسا حيث درس دانتي العربية مع معلمه برونيتو، الذي زار الأندلس." في حلم الليلة، التقى المعري بدانتي في الليمبو، يقول دانتي: "لقاءاتي بالشعراء في الجحيم مستوحاة من حواراتك في الجنة، الترجمة اللاتينية أعطتني الصور." رد المعري: "سخريتي من الأدباء أعمق من عذابك، لكن رحمتي أوسع." استيقظ أنطونيو يعلم أن الترجمة كانت السر الذي ربط الظلال.
الفصل الحادي عشر: سخرية الرحلة الخيالية مع هطول الأمطار، قرأ أنطونيو مقتطفًا من "الغفران" يصف رحلة ابن القارح: "فَصَعِدْتُ مَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ يَحْمِلُونَ الصُّحُفَ، وَالْجِنَّ فِي مَدَائِنِهِمْ، ثُمَّ نَزَلْنَا إِلَى النَّارِ حَيْثُ الْغِيلَانُ تَعْذِبُ الْآثِمِينَ بِصُوَرِهَا الْمُتَلَوِّنَةِ." كانت الرحلة خيالية بدون خوارق إلا الفكرة، سخرية من الآخرة كمسرحية. يشبه ذلك بداية "الكوميديا": "فِي نِصْفِ عُمْرِي وَجَدْتُ نَفْسِي فِي غَابَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَرَأَيْتُ الْفَهْدَ وَالْأَسَدَ وَالذِّئْبَةَ، رُمُوزَ الْخِدَاعِ وَالْعَدُوِّ وَالشَّهْوَةِ، فَأَتَانِي فِيرْجِيلْيُوسُ يَرْشُدُنِي إِلَى الْجَحِيمِ." في كلا النصين، الرحلة رمز للسعي إلى الخالق، مع دليل (ابن القارح/فيرجيل)، ودوائر العذاب.
في حوار مع لوكا في الحانة، قال أنطونيو: "الشبه في الرحلة، لكن الطريق؟" رد لوكا: "عبر المعراج، الذي ترجم إلى اللاتينية عام 1264 في قشتالة، ثم انتشر في إيطاليا، و الغفران جزء منه، كما قال بلاثيوس، ولويس عوض يرجح ترجمة لاتينية ضائعة قرأها دانتي في نفيه." في حلم، سار المعري ودانتي في الغابة، يقول المعري: "رحلتي سخرية من الجنة، بدون خوارق." رد دانتي: "وأنا من الجحيم، مستوحى من ترجمتك، اللاتينية أعطتني الإلهام." استيقظ أنطونيو يرى الرحلة الخيالية كجسر.
الفصل الثاني عشر: دوائر العذاب والغفران تحت المطر، قرأ أنطونيو عن النار في "الغفران": "فَرَأَيْتُ فِي النَّارِ الْمُتَعَذِّبِينَ يَصْرُخُونَ: الْغَفْرَانَ يَا رَبَّنَا، وَالْغِيلَانُ تَتَصَوَّرُ صُوَرًا حَمَارِيَّةً لِتَعْذِيبِهِمْ بِأَخْطَائِهِمْ اللُّغْوِيَّةِ." كانت الدوائر حسب الخطايا الأدبية، سخرية من التعصب. يشبه ذلك الجحيم عند دانتي: "فِي الدَّوَائِرِ التَّاسِعَةِ، يَغْرَقُ الْخَائِنُونَ فِي الْجَلِيدِ، وَلُوسِيفِيرْ يَمْضُغُ جُدَاسَ، وَالْبَابَاوَاتُ فِي الْزَّفْتِ لِخِيَانَتِهِمْ." في كلا النصين، العذاب مصنَّف حسب الخطايا، مع سخرية سياسية.
في لقاء مع ماريو، روى أنطونيو: "دوائر العذاب مشتركة." رد ماريو: "وصلت عبر الترجمات، المعراج ترجم في 1264، و الغفران معها، انتشرت في بلاط ألفونسو، ثم في فلورنسا، كما أثبت تشيروللي." في حلم، وقف المعري ودانتي في النار، يقول دانتي: "دوائرك ألهمتني، الترجمة اللاتينية رسمت الجحيم." رد المعري: "سخريتي من الأخطاء اللغوية أعمق من عذابك السياسي." استيقظ أنطونيو يعرف أن الدوائر كانت السر المشترك.
الفصل الثالث عشر: سعة الرحمة والسخرية مع هدوء المطر، قرأ أنطونيو عن سعة الرحمة في "الغفران": "فَغَفَرَ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْحَسَنِ، فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ رَغْمَ كُفْرِهِمْ، وَهَذِهِ سَعَةُ رَحْمَةِ اللَّهِ." كانت السخرية في غفران الكفر بالإبداع. يشبه ذلك الليمبو عند دانتي: "فِي اللِّيمْبُو، الْفَلَاسِفَةُ الْوَثَنِيُّونَ كَأَرِسْطُو وَابْنُ رُشْدٍ يَعِيشُونَ بِدُونِ عَذَابٍ، فَضْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ يَغْفِرُ لَهُمْ." في كلا النصين، سعة رحمة للكفار بالفضيلة.
في حوار مع لوكا، قال أنطونيو: "الرحمة مشتركة." رد لوكا: "عبر الأندلس، حيث كانت الغفران تُقْرَأ في المكتبات، ترجمت جزئيًا إلى اللاتينية، وصلت إلى دانتي عبر معلمه برونيتو، الذي زار صقلية." في حلم، ناقش المعري ودانتي الرحمة، يقول المعري: "رحمتي أوسع، تغفر الكفر." رد دانتي: "وأنا أحترم ابن رشد في الليمبو، مستوحى من سعة غفرانك." استيقظ أنطونيو يرى السخرية في الرحمة كجسر.
الفصل الرابع عشر: الجسر الضائع والغفران الأبدي مع نهاية الخريف، قرأ أنطونيو مقتطفًا نهائيًا من "الغفران": "فَبِمَا غُفِرَ لَكَ يَا شَاعِرُ؟ قَالَ: بِبَيْتٍ وَاحِدٍ قُلْتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ." كان الغفران بالشعر، سخرية من التعصب. يشبه خاتمة "الكوميديا": "فِي الْوَرْدَةِ السَّمَاوِيَّةِ، رَأَيْتُ اللَّهَ، وَالْغُفْرَانُ بِالْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ." في كلا النصين، الغفران بالإبداع والإيمان.
في لقاء أخير مع لوكا وماريو، روى أنطونيو: "الشبه كامل." رد لوكا: "الجسر الترجمة اللاتينية الضائعة، كما قال عوض، وصلت عبر بلاثيوس وتشيروللي." في حلم أخير، التقى المعري ودانتي في الوردة، يقول دانتي: "غفرانك ألهمني، الترجمة ربطتنا." رد المعري: "سخريتي أبدية." استيقظ أنطونيو في جنوى، يكتب: "الغفران الإلهي جسر بيننا." انتهت الرحلة، لكن الشبه أبدي.
………….
ملخص كثيف للفصول الثمانية الأولى
رواية: كوميديا الفردوس السومري
الفصل الأول: أمواج الشرق في موانئ الغرب في أوائل القرن الرابع عشر، حيث تتلاقى أمواج البحر المتوسط مع رياح الشرق، كانت مدينة جنوى الإيطالية تتنفس نبض الحياة التجارية. كانت جنوى، مع أخواتها البندقية وبيزا، بوابة أوروبا نحو العالم الجديد، لكن جذور قوتها كانت تغوص في أعماق الحضارة العربية. كانت سفنها تحمل ليس فقط الحرير والتوابل من دمشق وبغداد وقرطبة، بل أيضًا أسرار العلوم التي غيرت وجه القارة.
كان أنطونيو دي جنوفا، تاجرًا شابًا ذا عيون حادة كسيف، يقف على رصيف الميناء في صباح صافٍ من عام 1310. كان قد عاد للتو من رحلة إلى صقلية، حيث التقى بتاجر عربي من قرطبة يدعى أحمد بن يوسف. "المدن الإيطالية مثل جنوى بنيت على أكتاف العرب"، قال أحمد له ذات ليلة، وهما يجلسان تحت ضوء مصباح زيتي. "حصاراتنا في دمشق وبغداد لم تكن للحرب فحسب، بل لنقل المعرفة. خرائطنا، حبرنا، رياضياتنا... كلها أساس حضارتكم."
أنطونيو، الذي كان يقرأ مخطوطات دانتي سرًا، شعر باهتزاز في روحه. كان يعرف أن دانتي، المنفي من فلورنسا، ينقل في "الكوميديا الإلهية" رؤى للعالم الآخر مستوحاة من رسالة "الغفران" لأبي العلاء المعري، الشاعر العربي الأعمى الذي سخر من الجنة والنار. "هل الشبه بين الاثنين مجرد صدفة؟" سأل أنطونيو نفسه، وهو يمسك بكتاب متهالك وصل إليه عبر التجار العرب: نسخة مترجمة جزئيًا من "رسالة الغفران"، تتحدث عن رحلة خيالية إلى الآخرة، مليئة بسخرية ونقد أدبي، تشبه تمامًا رحلة دانتي مع فرجيل وبياتريس.
في تلك الليلة، قرر أنطونيو أن يبحث عن الروابط. كان يعلم أن الشروحات العربية لأرسطو وأفلاطون، التي قدمها ابن رشد وابن سينا، أهم من النصوص اليونانية الأصلية، فهي أعادت تفسيرها لتناسب العقل البشري. وفي غرفة مكتبه، أضاء شمعةً وفتح خريطة عربية قديمة، رسمها الإدريسي في القرن الثاني عشر، تُظهر العالم بتفاصيل دقيقة لم يعرفها الأوروبيون. "هذه الخرائط التي سيستخدمها كولومبوس بعد قرون"، همس لنفسه، متذكرًا كيف وصلت إلى جنوى عبر التجارة مع قرطبة.
الفصل الثاني: أصداء المعري في فلورنسا انتقل أنطونيو إلى فلورنسا، مدينة النهضة الناشئة، حيث كان دانتي يكتب أجزاء من "الكوميديا". هناك، في حانة صغيرة مليئة بروائح التوابل العربية، التقى بـلوكا، عالم رياضيات يدرس في جامعة بولونيا. "الصفر الخوارزمي ليس مجرد رقم"، قال لوكا، وهو يرسم على لوح خشبي: 0، 1، 2... "هو أساس كل شيء. بدون الصفر، لا جبر، لا حسابات تجارية دقيقة، ولا حتى الإنترنت الذي سنراه يومًا ما، حيث يعتمد على الثنائي: 0 و1."
أنطونيو أومأ، متذكرًا كيف أدخل الخوارزمي الأرقام العربية إلى العالم الإسلامي في كتابه "حساب الجمل"، ثم انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس. "والحبر العربي؟" سأل أنطونيو. "صُنع من عفص البلوط والزاج، ووصل إلى ورشنا في جنوى، مما سمح بكتبنا وخرائطنا"، رد لوكا. "أما في الطب، فالكحلال مثل علي بن عيسى كتبوا عن جراحة الساد قبل قرون، وترجمت كتبهم إلى اللاتينية، فأصبحت أساس طب العيون في أوروبا."
لكن أنطونيو كان يبحث عن الشبه الأدبي. قرأ لوكا مقطعًا من "الغفران": ابن القارح يزور الجنة والنار، يلتقي الشعراء، يسخر من الآخرة. "انظر إلى دانتي: الجحيم، المطهر، الفردوس. الرحلة، الدليل، السخرية من التعصب. المعري كتبها في 1033، ودانتي في 1307. هل اقتبس؟" لوكا هز كتفيه: "التأثير الإسلامي واضح، عبر صقلية والأندلس. الشروحات العربية لأرسطو غيرت فلسفة أوروبا، وكذلك الروايات الخيالية."
في تلك اللحظة، شعر أنطونيو أن القصة أكبر: جنوى ليست مجرد ميناء، بل جسر بين الشرق والغرب، حيث يلتقي المعري بدانتي في ظلال الغفران الإلهي.
الفصل الثالث: خرائط الخوارزمي وأسرار البصر عاد أنطونيو إلى جنوى محملًا بمخطوطات، واستقبله صديقه الطبيب ماريو، الذي درس في بولونيا. "الطب العربي في العيون غير حياتنا"، قال ماريو. "كتاب تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى، ترجم إلى اللاتينية، يصف جراحة الساد بدقة لم نعرفها. وابن الهيثم في المناظر شرح البصريات، أساس نظاراتنا اليوم."
أنطونيو أظهر له خريطة الإدريسي: "هذه الخرائط العربية، مبنية على رياضيات الخوارزمي، وصلت إلى كولومبوس بعد قرون. بدون الصفر، لا حسابات بحرية دقيقة." ماريو أومأ: "والأرقام العربية أساس كل شيء. الحروف الأوروبية اليوم مشتقة منها جزئيًا، والثنائي في الإنترنت – 0 و1 – يعود إلى الصفر الخوارزمي."
لكن الشبه الأدبي ظل يلازمه. قرأ أنطونيو عن كيف تأثر دانتي بقصة المعراج الإسلامية، وكيف يشبه ابن القارح في "الغفران" دانتي في رحلته. "السخرية اللاّذعة، النقد الأدبي، الرحلة إلى الآخرة... كلها روابط"، قال أنطونيو لماريو. "جنوى استفادت من الحصارات العربية، ليس بالسيف، بل بالعلم."
الفصل الرابع: سخرية الآخرة في رحلة أخرى إلى بغداد الخيالية في أحلامه، تخيل أنطونيو لقاءً بين المعري ودانتي. المعري، الأعمى الساخر، يقول: "رحلتي إلى الغفران كانت لأسخر من الجنة والنار، لأنقد الأدباء." دانتي يرد: "وأنا في الجحيم والفردوس، أسخر من التعصب، مستوحى من معراجكم." الشبه واضح: الرحلة الخيالية، الدليل (ابن القارح/فرجيل)، المواقف الساخرة.
في جنوى، أخبر أنطونيو لوكا: "الشروحات العربية لأفلاطون أعادت تفسير الروح، وأثرت في دانتي." لوكا أضاف: "والحبر العربي سمح بكتابة هذه المخطوطات، والرياضيات بنت الجسور."
الفصل الخامس: حبر الشرق ورياضيات الغرب في ورشة الحبر في جنوى، تعلم أنطونيو كيف يُصنع الحبر من عفص البلوط، تقنية عربية وصلت عبر قرطبة. "بدون هذا الحبر، لا مخطوطات"، قال الصانع. ثم زار مكتبة، حيث قرأ عن الخوارزمي: "صفره أساس الإنترنت، حيث الثنائي 0 و1 يبني العالم الرقمي."
الشبه بين الكتابين يتجلى في البناء: الرحلة، الأقسام (الجنة/النار، الجحيم/الفردوس)، السخرية. "دانتي اقتبس من المعري عبر الترجمات"، قال أنطونيو.
الفصل السادس: عيون الروح والجسد في بيزا، التقى أنطونيو بطبيب عيون يدرس كتب الموصلي: "جراحة الساد العربية أنقذت آلافًا في أوروبا." أنطونيو ربط: "كما أنقذت الغفران روح دانتي من التعصب."
تذكر كيف كانت قرطبة مركزًا للطب، حيث الشروحات العربية لجالينوس أعادت الطب إلى أوروبا.
الفصل السابع: جسر الخرائط عاد أنطونيو إلى جنوى بخريطة الإدريسي: "هذه وصلت إلى كولومبوس، مبنية على رياضيات عربية." لوكا أضاف: "والأرقام أساس الحروف الأوروبية في الحسابات."
الشبه في الحوادث: لقاء آدم باللغة الأولى في كلا الكتابين، النزهة مع الحوريات/ماتيلدا.
الفصل الثامن: غفران الإلهي في نهاية رحلته، أدرك أنطونيو أن جنوى بنيت على الاستفادة من الحضارة العربية: الخرائط، الحبر، الرياضيات، العيون. والشبه بين "الغفران" و"الكوميديا" دليل على التبادل الثقافي. "الشرق أعطى الغرب نوره"، كتب في مذكراته، وهو ينظر إلى البحر، حيث تتلاقى الأرواح في ظلال الغفران الإلهي.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية : عبيد ماستريخت: دراكولا كرئيس للمفوضية
-
رواية : صحراء السراب
-
رواية : دموع الأرض المحلقة
-
رواية : أصداء الخفاء
-
رواية: عشرة أعوام من الرماد
-
رواية :رأس ابو العلاء المهشم !
-
رواية: إمبراطورية سامر السريع
-
رواية: أصداء الأفق المحطم
-
رواية : ارض النبض الكربلائي العجيب
-
رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز
-
رواية : رقصة الدم على رمال النفط
-
رواية: سنغافورة السراب
-
رواية: أنقاض الإمبراطورية: غزة تُحرر أمريكا
-
نهاية عصر الصهيونية: كيف تحولت أمريكا من عبدة اللوبي إلى ثوا
...
-
رواية: أسرى الشرق المفقود
-
سيرك الخيانة برعاية الروتشيلد
-
رواية : دون كيشوت الفرات والنيل
-
رواية :سلاسل العقل، أغلال القلب
-
مسرحية العدو الأمريكي والصهيوني الكوميدية
-
رواية لحن من الظلال..مع مقدمة نقدية تاريخية
المزيد.....
-
وعد بنسف الرواية الحكومية.. الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون ي
...
-
أرونداتي روي: ما يحدث في غزة إبادة جماعية
-
يعود بفيلم -Anemone-.. دانيال داي لويس يوضح أسباب تراجعه عن
...
-
وهل غيرها أنهكتْني؟
-
تجسيد زنا المحارم في مسرحية -تخرشيش- يثير الجدل في المغرب
-
مهرجان الفيلم العربي يعود إلى ستوكهولم بدورته السادسة
-
أيادي الشباب تعيد نسج خيوط التراث المنسي في -بيت يكن- بالقاه
...
-
أبرز كشف أثري في مصر: نسخة جديدة كاملة من مرسوم كانوب البطلم
...
-
قطاع صناعة الأفلام.. الوجه الآخر لصراع الشرق الأوسط
-
باريس-اليونسكو : ندوة للإحتفاء بمؤية الشاعر الإماراتي سلطان
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|