|
رواية : رقصة الدم على رمال النفط
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 19:57
المحور:
الادب والفن
مقدمة : حيث تتداخل رمال الصحراء برائحة النفط الخام وصرخات الأمم التي تكافح من أجل الحياة، تقع رواية "رقصة الدم على رمال النفط" كعمل أدبي يمزج بين الواقعية السحرية ، العمق النفسي ، البساطة القاسية، الحس الوطني الملتهب ، التفاصيل الاجتماعية الدقيقة ، وحوارات مكثفة، مع رؤية شيوعية تقدمية مستلهمة من نموذج الصين في الثقة بالذات الجماعية ورفض أوهام الهيمنة الغربية. هذه الرواية ليست مجرد سرد قصصي، بل هي عمل جراحي ينقب في جذور تطوير التخلف، مفهوم قدمه المفكر أندريه جوندر فرانك، ويشرحه سمير أمين وبربيش بأن الدول التي تعمقت علاقاتها مع الغرب الإمبريالي ازدادت هشاشتها وتخلفها، وفقدت أسس نهضتها العقلية والتنموية، لتغرق في مستنقعات التكفير والفتنة التي تخدم أجندات الاستعمار الحديث. الرواية، من خلال شخصياتها الأربع – مقرن، فيصل، نايف، وفرحان – تكشف عن دور المحميات الخليجية في تنفيذ هذه الأجندات، عبر نشر الاندماج الاستهلاكي، تدمير الوعي الإنتاجي، تفكيك الطبقة الوسطى في دول محورية كمصر وسوريا والعراق، وتحويل الشعوب إلى أدوات للفتنة والإرهاب، في خدمة الإمبريالية الغربية والصهيونية.
تبدأ الرواية برؤية نقدية لدور المحميات الخليجية، خاصة السعودية وقطر، في تعزيز التخلف عبر نشر ثقافة استهلاكية طفيلية تقتل الإبداع والإنتاج. هذه المحميات، بتمويلها الهائل من عائدات النفط، لم تستثمر في بناء اقتصادات إنتاجية في المنطقة، بل صارت أداة لتدمير الدول العربية المحورية. في مصر، سوريا، والعراق، كانت الطبقة الوسطى – العمود الفقري لأي نهضة – هدفًا للتفكيك من خلال سياسات اقتصادية فرضتها مؤسسات الإمبريالية مثل صندوق النقد الدولي، مدعومة بدولارات النفط الخليجية. هذه السياسات حولت الشعوب إلى مستهلكين للسلع الغربية، بدلاً من منتجين لاحتياجاتهم. الأساتذة والمثقفون الذين هاجروا إلى الخليج للتدريس، عادوا بعقلية اتكالية، مفتونين بموديلات السيارات الفاخرة وأحياء الترف، دون أن يبني أحدهم مصنعًا أو معملًا يساهم في نهضة بلده. بدلاً من ذلك، تبنوا عقلية "الدكانجي"، حيث أصبحت الدكاكين رمزًا لاقتصاد طفيلي يعتمد على البيع والشراء دون إنتاج. هؤلاء المثقفون، بدلاً من نقل المعرفة الإنتاجية، صاروا خاضعين لشيوخ النفط، الذين يتلقون أوامرهم من وكالة الاستخبارات الأمريكية، لنشر "الإسلام البريجينسكي" – النسخة الوهابية التكفيرية التي تحولت إلى أداة لتدمير المجتمعات العربية من الداخل.
الرواية تسلط الضوء على هذا الدور التدميري من خلال شخصياتها. مقرن، العامل المتقاعد في الرياض، يمثل الجيل الذي حلم بالثورة في السبعينيات، لكنه واجه خيبة بسبب سيطرة آل سعود على النفط. في الفصل الأول، يرى أشباح العمال الذين ماتوا في الحقول، تصرخ: "أنت من بعتنا!" الرمال في غرفته تتحرك، تشكل كلمات: "الشعب هو القوة." يجد كتابًا عن الاشتراكية، فيستيقظ أمله، ويبدأ بالتحدث إلى العمال عن النفط كحق للشعب، مستلهمًا تجربة الصين في الثقة بالذات. في الفصل الخامس، يواجه الشيخ عبد الرحمن، رمز الوهابية الممولة من السي آي إيه، في قصره الذهبي، حيث تنهار الجدران وتنزف الشاشات دمًا، في إشارة إلى الدم العربي الذي يُراق باسم الدين المزيف. في الفصل التاسع، يقود مظاهرة في الرياض، رافعًا شعار "النفط للشعب"، لكنه يُصاب ويستيقظ في المستشفى، مؤمنًا بأن الرمال، صوت الشعب، لن تصمت.
فيصل، الصحفي الشاب في الدوحة، يكشف في الفصل الثاني وثيقة تثبت تواطؤ آل ثاني مع الاستخبارات الأمريكية لتمويل جماعات مثل "جبهة النصرة" في سوريا، خدمةً لمصالح إسرائيل. يرفض رئيس تحريره نشرها، لكنه يرسلها إلى شبكة "صوت الشعب"، على الرغم من تهديد الأمن. في الفصل السادس، يرى شاشة المقهى تتحول إلى مصنع يحول النفط إلى كتب وأدوات زراعية، والرمال تهمس: "الحقيقة سلاحنا." يهرب من الأمن، محميًا بجدار من الرمال، ويعرف أن الحقيقة انتشرت، مشعلة أمل الشعب.
نايف، المقاتل السابق في إدلب، يمثل ضحية الإسلام التكفيري. في الفصل الثالث، يكتشف أن أسلحته تُستخدم ضد شعبه، فيرمي بندقيته التي تتحول إلى منجل. ينضم إلى شباب يزرعون الأرض، مستلهمًا من كتاب عن الصين. في الفصل السابع، يواجه تهديدًا من مموليه، لكنه يواصل زراعة الزيتون، والقذائف تتحول إلى مطر يحمل بذورًا، في إشارة إلى قدرة الأرض على الحياة.
فرحان، الفنان في غزة، يرسم لوحات تنزف دمًا يتحول إلى زهور زيتون. في الفصل الرابع، ينظم معرضًا سريًا، لكن غارة تدمره، ولوحته تتحول إلى طيور تحمل شعار: "الأرض لنا." في الفصل الثامن، يواجه جنود الاحتلال، لكن الرمال تبتلعهم، ويواصل الرسم مع الناس، مؤمنًا بأن الفن هو سلاح الشعوب.
في الفصل العاشر، يلتقي الشخصيات في حلم على جبل، يزرعون شجرة زيتون تمتد جذورها عبر العالم العربي. الرمال تشكل خريطة بلا حدود، والدم يتحول إلى مطر يحمل بذورًا. يستيقظون في أماكنهم، مؤمنين بأن الشعب، رغم الحرب والحصار، قادر على الثورة.
الرواية تكشف كيف تستخدم المحميات الخليجية النفط لدعم أجندات استعمارية، مثل صرف تريليوني دولار لتدمير سوريا، وتريليون ومئتي مليار لتدمير اليمن، الحضارة العريقة ذات الشعب الأكثر وعيًا. هذه الحروب، التي أُعلنت من واشنطن في عهد أوباما وبدعم من السعودية، تهدف إلى إضعاف المقاومة واستهداف إيران، روسيا، والصين، لأنها تمتلك نماذج تنمية مستقلة. المحميات اشترت أسلحة خردة بتريليونات لدعم لوبيات السلاح الأمريكية، وتعهدت بدفع ستة تريليونات لترامب لإشعال الحروب ونزع سلاح المقاومة. شخصيات مثل الجولاني، المولود في السعودية، تجسد هذا التدمير، حيث قتل عشرات الآلاف في سوريا والعراق، بينما عولجت عصاباته في إسرائيل دون إطلاق رصاصة على الاحتلال.
الرواية، عبر الرمال التي تتكلم، تقدم نقدًا لتطوير التخلف للخبير في الأمم المتحدة بربيش الذي درس الغاز التخلف وفك أهمها ، حيث الاندماج الاستهلاكي يقتل الوعي الإنتاجي، والإسلام الوهابي يزرع الفتنة. لكنها تقدم أملًا، حيث الشعب، ممثلًا في مقرن، فيصل، نايف، وفرحان، يجد قوته في الثقة بالذات، مستلهمًا من الصين، ليبني مستقبلًا يعتمد على الأرض والإنسان، رافضًا الخضوع للإمبريالية.
الفصل الاول
في حي العمال المهمش بالرياض، حيث تتسلل رائحة النفط الخام إلى الرئتين كلما تنفس الإنسان، كان مقرن يجلس على كرسي بلاستيكي متصدع أمام شاشة تلفاز قديمة، الشاشة تبث خطبة داعية يرتدي عمامة بيضاء ناصعة، وجهه يشع بنور مزيف كأنه شمعة في مهب الريح. الداعية يتحدث عن "الصبر الجميل"، عن الفقر كابتلاء إلهي، وعن الجنة التي تنتظر من يتحمل ظلم الدنيا دون شكوى. صوت الداعية رخيم، يتسلل إلى العقل كسم يخدر الجسد، لكن عيني مقرن كانتا معلقتين على شيء آخر، شيء لا يراه إلا هو. من زاوية الشاشة، بدأت تتسرب أشباح، وجوه باهتة لأناس لا يعرفهم، لكنهم يبدون مألوفين. رجال ونساء وأطفال، عيونهم غائرة، ملابسهم ملطخة بدم جاف، يطفو حولهم ضباب أسود كأنه دخان حريق لم ينطفئ. كانوا ينظرون إليه، لا بعتب، بل بحزن عميق، كأن عيونهم تقول: "أنت من بعتنا ببرميل نفط."
مقرن، الرجل الخمسيني ذو اللحية الخفيفة المغبرة، شعر بالهواء في الغرفة يثقل. كان يعيش في شقة صغيرة، جدرانها متشققة كجلد الأرض بعد جفاف طويل، وأثاثها عبارة عن بقايا أحلام شبابه الثوري. في السبعينيات، كان مقرن يحمل لافتات في شوارع الرياض، يصرخ مع زملائه في نقابة العمال: "النفط للشعب!" كان يحلم بثورة، بوطن عربي يقف على قدميه، لا يركع للغرب ولا يبيع ضميره لدولار. لكن السنين مرت، والنفط تحول إلى لعنة، واللافتات تحولت إلى ذكريات تؤلمه كلما نظر إلى المرآة. الآن، هو مجرد عامل نفط سابق، أجبرته إصابة في ظهره على التقاعد المبكر، يعيش على معاش زهيد يكفي بالكاد لشراء الخبز ودفع فاتورة الكهرباء. لكنه لم يفقد كل شيء بعد. في صدره، كان هناك قلب ينبض، وإن كان بضعف، وفي عقله كانت ذكريات ترفض أن تموت.
الليلة، كانت الشاشة تبث حلقة خاصة عن "فضائل الصبر". الداعية، الذي يشبه نسخة محدثة من القرضاوي، رفع إصبعه وهو يقول: "إن الله يحب الصابرين، والفقر ليس عيبًا، بل هو اختبار." مقرن شعر بغضب يتصاعد في أحشائه، لكنه لم يتحرك. كان يعرف أن هذا الداعية، بقصره الذهبي ودولاراته المغسولة بدماء اليمنيين والسوريين، لا يعيش في العالم نفسه الذي يعيشه هو. لكنه استمر في النظر، كأن الشاشة سحرته، أو كأنه يبحث عن شيء في كلام الداعية قد يبرر خنوعه. فجأة، تغير المشهد على الشاشة. بدلاً من الداعية، ظهرت صورة لحقل نفط مشتعل، والنيران تأكل كل شيء، لكن بدلاً من الدخان، كانت الأشباح تتصاعد. وجوه الشهداء، كما أسماهم في قلبه، بدأت تتحدث. "مقرن، أين صوتك؟" قالت امرأة تحمل طفلاً ميتًا. "أنت من كنت تصرخ لأجلنا، فلماذا صمت؟" قال رجل بلا ذراعين، دم يسيل من كتفيه. مقرن أغلق عينيه، لكن الأصوات لم تتوقف. فتح عينيه مجددًا، وجد الشاشة عادت إلى الداعية، لكن صوته الآن كان يشبه صوت آلة، كأنها أوامر صادرة من مكتب بعيد في واشنطن.
نهض مقرن، أطفأ التلفاز بعنف، لكن الغرفة لم تصمت. بدأت الجدران تهتز، والرمال، التي تتسرب دائمًا من شقوق النوافذ بسبب العواصف الصحراوية، بدأت تتشكل على الأرض أمامه. تشكلت وجوه، أيدٍ، أجساد. لم تكن أشباحًا هذه المرة، بل كانت الرمال نفسها تتكلم. "أنت منا، مقرن، ونحن منك. لماذا تركتنا؟" صوت الرمال كان عميقًا، كأنه يخرج من أعماق الأرض. مقرن حاول الرد، لكنه شعر بلسانه يثقل، كأن النفط نفسه يملأ فمه. ركض إلى المطبخ، رذاذ الماء على وجهه لم يهدئه. عاد إلى الغرفة، وجد كتابًا قديمًا ملقى على الأرض بجانب سريره. كتاب بالي، غلافه ممزق، لكنه تعرف عليه فورًا: "مبادئ الاشتراكية"، كتاب كان يقرأه في شبابه مع رفاقه في النقابة. لم يره منذ عقود. كيف وصل إلى هنا؟ هل وضعته الرمال؟
فتح الكتاب، وقرأ جملة واحدة: "الشعب هو القوة، لا الملوك." شعر بدفء يسري في صدره، كأن قلبه عاد إلى الحياة. لكنه لم يستطع الاستمرار في القراءة. الرمال عادت للتحرك، هذه المرة تشكلت على شكل خريطة، خريطة العالم العربي، من المغرب إلى الخليج. كل نقطة في الخريطة كانت تنزف دمًا، ومن كل نقطة كانت تخرج أصوات صراخ. "سوريا!" صرخت نقطة. "اليمن!" صرخت أخرى. "فلسطين!" صرخت ثالثة. مقرن أغلق الكتاب، لكن الخريطة لم تختفي. اقترب منها، لمسها بأصابعه المرتجفة، فتحولت الرمال إلى دم يلطخ يديه. تراجع إلى الخلف، قلبه يدق بعنف. "أنا لم أبعكم!" صرخ، لكن الغرفة ردت عليه بصمت مخيف.
في تلك الليلة، لم ينم مقرن. جلس على الأرض، الكتاب في يده، والرمال تحيط به كأنها تحرسه أو تحاسبه. بدأ يتذكر أيامه في الحقول، عندما كان يعمل في شركة النفط الوطنية. كان يرى العمال يموتون في الحوادث، يسمع عن أرباح خيالية تذهب إلى قصور آل سعود، بينما العمال يتقاسمون الخبز اليابس. كان يتذكر الاجتماعات السرية في بيوت الطين، حيث كانوا يتحدثون عن ثورة، عن أرض عربية حرة، عن نفط يخدم الشعب لا الغرب. لكن تلك الأحلام تحطمت تحت وطأة القمع، والسجون، والدعاة الذين ملأوا الفضاء بكذبة "الصبر الجميل". كان مقرن يعرف أن النفط لم يكن مجرد وقود، بل كان دم الأمة، يُستخرج من عروقها ويُباع في أسواق الغرب.
في الفجر، عندما بدأ الأذان يصدح من المسجد القريب، نهض مقرن. كان الأذان يذكره بأيام كان يصلي فيها بحماس، لكن الآن، كل صوت يبدو له كجزء من مسرحية كبيرة. خرج إلى الشارع، الهواء البارد يلسع وجهه. الحي كان هادئًا، لكن الرمال كانت لا تزال تتحرك تحت قدميه. كل خطوة كان يسمع فيها صوتًا: "مقرن، عُد إلينا." توقف أمام دكان صغير يبيع الخبز. صاحب الدكان، رجل عجوز يُدعى أبو سالم، استقبله بابتسامة متعبة. "ما بك، يا مقرن؟ وجهك كأنك رأيت عفريتًا." ضحك مقرن ضحكة مريرة. "ليس عفريتًا، يا أبو سالم. رأيت وطنًا ينزف."
دخل مع أبو سالم إلى الدكان، جلسا على كرسيين خشبيين. بدأ أبو سالم يحكي عن أيام زمان، عن الرياض قبل النفط، قبل القصور الذهبية، قبل الفضائيات التي تبث السم. "كنا نعيش ببساطة، يا مقرن. لم نكن أغنياء، لكن كنا أحرارًا." مقرن استمع، لكنه كان يرى الرمال تتسرب من تحت الباب، تشكل كلمات على الأرض: "الشعب، لا الملوك." نهض فجأة، كأن شيئًا في داخله استيقظ. "أبو سالم، هل تؤمن بالثورة؟" سأل بحذر. العجوز نظر إليه بدهشة، ثم ابتسم. "الثورة لا تموت، يا ولدي. لكنها تحتاج إلى قلوب شجاعة."
عاد مقرن إلى شقته، الرمال لا تزال تحيط به. فتح الكتاب مجددًا، قرأ عن تجربة الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بالثقة بنفسه، لا بالركوع للغرب. كل جملة كانت تضرب في صدره كمطرقة. تذكر كيف كان يحلم بوطن عربي يقف على قدميه، يصنع مصانعه، يزرع أرضه، يعلم أبناءه. لكن الوهابية، بمساعدة الغرب، حولت هذا الحلم إلى كابوس. الدعاة، بفتاواهم المضحكة، جعلوا الفقر قدرًا، والظلم اختبارًا، والثورة كفرًا. لكن مقرن الآن كان يشعر بشيء جديد. كأن الرمال التي تتحدث إليه ليست مجرد أشباح، بل هي صوت الشعب الذي يرفض الموت.
في تلك اللحظة، سمع طرقًا على الباب. فتحه، وجد جاره الشاب، خالد، يحمل ورقة مطوية. "مقرن، وجدت هذا في صندوق البريد. مكتوب عليه اسمك." أخذ مقرن الورقة، فتحها بحذر. كانت رسالة مكتوبة بخط يدوي: "الشعب ينتظرك. التاريخ لا يرحم الصامتين." لم يكن هناك توقيع، لكن الرمال على الأرض تحركت، كتبت كلمة واحدة: "ثورة." شعر مقرن بدمه يغلي. لأول مرة منذ سنوات، شعر أنه ليس وحيدًا. الرمال كانت معه، والشعب كان ينتظر. لكن السؤال كان: هل لا يزال لديه الشجاعة ليعود إلى شبابه، إلى لافتاته، إلى حلمه؟
اليوم التالي كان مختلفًا. خرج مقرن إلى الشارع، الكتاب في يده، والرمال تتبعه كظل. في الحي، بدأ يتحدث إلى العمال، إلى الشباب، إلى النساء اللواتي يعملن في البيوت. كان يحكي عن الصين، عن شعب قاوم الغرب بإرادته، عن أمة عربية يمكن أن تنهض إذا آمنت بنفسها. الناس كانوا يستمعون، بعضهم بدهشة، وبعضهم بخوف، لكن عيونهم كانت تلمع بشيء لم يره منذ زمن: الأمل. الرمال كانت لا تزال تتحرك، تشكل كلمات جديدة: "الشعب هو القوة." مقرن عرف أن الطريق لن يكون سهلاً. آل سعود، بدولاراتهم ودعاتهم، لن يتركوه يتحدث. لكنه عرف أيضًا أن الرمال لن تصمت، وأن الشعب، رغم الظلم، لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل الثاني
في مكتب صغير متهالك في قلب الدوحة، حيث تتسلل رطوبة الخليج الحارة عبر الشقوق في الجدران المتصدعة، كان فيصل يجلس على مكتب خشبي قديم، محاطًا بأكوام من الأوراق المغبرة التي تبدو كأنها أطلال مدينة مدفونة تحت رمال الزمن. فيصل، الشاب العشريني ذو العينين القلقتين والشعر الأشعث الذي يرفض الانضباط، كان صحفيًا طموحًا يعمل في زاوية منسية من مبنى "الجزيرة"، بعيدًا عن الأضواء التي تتبع نجوم القناة، أولئك الذين يرتدون بدلات لامعة ويتلقون دولارات سخية لترديد روايات آل ثاني. لم يكن فيصل من هؤلاء. كان يؤمن أن الحقيقة سلاح، لكنه لم يكن يعرف بعد كم هو ثقيل، ولا كيف يمكن أن يحرق من يحمله. أمامه، على شاشة حاسوبه القديم التي تتأرجح ألوانها بين الأخضر والرمادي، كانت وثيقة. ليست مجرد وثيقة، بل قنبلة ورقية، صفحات رقمية تحمل أدلة دامغة على صفقة سرية بين آل ثاني ووكالة الاستخبارات الأمريكية لتمويل جماعات متطرفة في سوريا. كل كلمة في الوثيقة كانت طعنة، ليست في جسد، بل في ضمير الأمة. مراسلات بين مسؤولين قطريين ووكلاء أمريكيين، أرقام حسابات بنكية في سويسرا، ملايين الدولارات تُحوَّل تحت عناوين مشفرة، تعليمات واضحة: "إضعاف سوريا، إشغال العراق، حماية المصالح الإسرائيلية." قرأ فيصل الوثيقة مرة، ثم مرتين، ثم ثلاثًا، كأنه يحاول إقناع نفسه أنها حقيقية، أو ربما يتمنى أن تكون كذبة. لكن مع كل قراءة، كان الغضب ينمو في صدره كشجرة شائكة، ومع الغضب، كان الخوف يزحف كظل بارد.
كيف وصلت هذه الوثيقة إليه؟ لم يكن فيصل متأكدًا. وصلته عبر بريد إلكتروني مجهول، مرسل من عنوان غامض يحمل اسم "الحقيقة_٧٧". لم يكن هناك نص في الرسالة، فقط ملف مرفق بعنوان "الخيانة". عندما فتحه، شعر بقلبه يتوقف للحظة، كأن الزمن تجمد. كانت الوثيقة عبارة عن سلسلة من الرسائل، مكتوبة بلغة باردة، لغة الأرقام والصفقات، لغة لا تعرف الدم أو الصراخ. كانت تتحدث عن ملايين الدولارات التي تُحوَّل إلى جماعات مثل "جبهة النصرة"، عن خطط لتدمير النسيج الاجتماعي في سوريا، عن دعم لعصابات تُسمي نفسها "ثوارًا" بينما تنفذ أوامر تل أبيب وواشنطن. كان هناك اسم يتكرر: الجولاني. اسم كان فيصل يسمعه في الأخبار، لكنه الآن رآه في سياق مختلف، كدمية في يد من يدفع أكثر. شعر فيصل بغثيان يعتصر معدته. كيف يمكن لأمة أن تبيع أبناءها هكذا؟ كيف يمكن لآل ثاني، الذين يدّعون حماية العرب، أن يتحولوا إلى تجار دم؟
نهض فيصل من مكتبه، سار في الممر الضيق الذي يفصل مكتبه عن مكاتب الصحفيين الكبار. كان الممر مظلمًا، رائحة العرق والعطور الرخيصة تملأ الهواء. كان يعرف أن رئيس التحرير، السيد عبد الله، لن يرحب بهذه الوثيقة. عبد الله، رجل بدين يشبه تمثالًا ذهبيًا، كان يعيش في عالم القصور والصفقات، عالم لا يعرف فيه الحقيقة إلا كسلعة تُباع وتُشترى. لكنه قرر المحاولة. طرق باب مكتب عبد الله، دخل ليجده يجلس خلف مكتب فاخر، يدخن سيجارًا كوبيًا بينما شاشة عملاقة خلفه تبث تقريرًا عن "انتصارات الثورة السورية". كانت الصور على الشاشة مليئة بالدمار، لكن المذيع كان يتحدث بنبرة متفائلة، كأن الدمار نصر. "فيصل، ما الذي تريده؟" سأل عبد الله بنبرة مليئة بالاستعلاء، عيناه مثبتتان على السيجار. فيصل رفع الوثيقة المطبوعة، يده ترتجف قليلاً. "وجدت شيئًا، سيدي. شيء يجب أن يعرفه الناس." عبد الله ألقى نظرة سريعة على الوثيقة، ثم ضحك ضحكة عالية، كأن فيصل روى نكتة. "الدولارات أقوى من الحقيقة، يا فيصل. اذهب واكتب تقريرًا عن الحور العين، سيكون أكثر فائدة." كان صوت عبد الله كالسوط، لكنه لم يكن يعرف أن كلماته لم تطفئ النار في صدر فيصل، بل أشعلتها.
خرج فيصل من المكتب، رأسه يدور. كان يعرف أن عبد الله ليس مجرد رئيس تحرير، بل جزء من آلة كبيرة، آلة تحركها آل ثاني بدعم من الغرب. كان يعرف أن "الجزيرة" ليست مجرد قناة إخبارية، بل واجهة لتغطية صفقات قذرة. عاد إلى مكتبه، لكنه لم يستطع الجلوس. الوثيقة كانت تحترق في يده، كأنها قطعة من النار. قرر أن يذهب إلى مقهى شعبي في وسط الدوحة، مكان يتجمع فيه العمال والطلاب والصحفيون المهمشون. المقهى كان مكتظًا، رائحة الشيشة تملأ الهواء، وشاشة صغيرة في الزاوية تبث تقريرًا من "الجزيرة" عن "الثورة" في سوريا. الناس كانوا ينظرون إلى الشاشة بلامبالاة، كأنهم اعتادوا على الأكاذيب. جلس فيصل في زاوية، أخرج حاسوبه المحمول، وبدأ يكتب. لم يكن يكتب لـ"الجزيرة"، بل لنفسه، وللشعب، وللوثيقة التي تحترق في يده. كتب: "الحقيقة ليست سلعة تباع، بل سلاح يحرر. آل ثاني، بدولاراتهم الملوثة، يبيعون دم السوريين واليمنيين، لكن الشعب هو القوة الحقيقية."
بينما كان يكتب، بدأت الشاشة في المقهى تتغير. بدلاً من تقرير "الجزيرة"، ظهرت صورة لنهر من النفط يتحول إلى دم، وأطفال سوريا يسبحون فيه، يصرخون: "لماذا بعتنا، يا فيصل؟" توقف عن الكتابة، نظر حوله. لم يبدُ أن أحدًا في المقهى لاحظ التغيير. كانوا يدخنون الشيشة، يتحدثون عن أسعار البنزين والطقس. لكنه شعر بأن الشاشة تتحدث إليه وحده. نهض، اقترب من الشاشة، لمسها. فجأة، تحولت الشاشة إلى مرآة، وفيها رأى وجهه، لكن ليس وجهه الحالي. كان وجهه وجه شاب سوري، عيناه غائرتان، دم يسيل من جبينه. "أنت الصوت، يا فيصل. لا تصمت." تراجع فيصل، قلبه يدق بسرعة. عاد إلى طاولته، لكن أصابع يديه كانت ترتجف. كيف يمكن أن ينشر هذه الوثيقة؟ إذا فعل، سيكون في خطر. ليس فقط وظيفته، بل حياته. لكنه عرف أيضًا أن الصمت هو الموت الحقيقي.
في تلك الليلة، عندما عاد إلى شقته الصغيرة في حي الوكرة، لم يستطع النوم. كان يسمع صوتًا غريبًا، كأنه همسة تأتي من الجدران. "فيصل، الحقيقة تنتظرك." التفت حوله، لكن الغرفة كانت فارغة. لكنه لاحظ شيئًا غريبًا: الرمال. كانت تتسرب من تحت النافذة، على الرغم من أن النوافذ كانت مغلقة. الرمال بدأت تتشكل على الأرض، تشكل كلمات: "الشعب هو القوة." فيصل شعر بأن الرمال تتحدث إليه، كما لو كانت صوت الأمة نفسها. أخرج الوثيقة من حقيبته، وضعها على الطاولة. كان يعرف أن نشرها في "الجزيرة" مستحيل. لكنه تذكر شبكة إعلامية تقدمية سرية كان قد سمع عنها، شبكة تُدعى "صوت الشعب"، يديرها صحفيون منفيون ونشطاء يؤمنون بالثقة بالذات، برفض أوهام الغرب. قرر أن يرسل الوثيقة إليهم.
لكن قبل أن يضغط على زر الإرسال، انقطع الإنترنت. الشاشة أصبحت سوداء، لكنها لم تظل كذلك. بدأت تظهر عليها وجوه، وجوه ضحايا الحرب في سوريا، في اليمن، في فلسطين. كانوا ينظرون إليه، لا بعتب، بل بحزن عميق. "أنت صوتنا، يا فيصل. لا تخذلنا." شعر فيصل بأن قلبه يتمزق. أغلق الحاسوب، لكنه لم يستطع إيقاف الأصوات. خرج إلى الشرفة، نظر إلى الدوحة، مدينة القصور اللامعة والفقر المخفي. كانت الأضواء تلمع كنجوم مزيفة، لكن فيصل رأى شيئًا آخر: نهرًا من النفط يتدفق في شوارع المدينة، يتحول إلى دم، وفي الدم، كان هناك أطفال يحملون لافتات: "الشعب هو القوة." عاد إلى الغرفة، فتح الحاسوب مجددًا. الإنترنت عاد، كأن شيئًا لم يكن. أرسل الوثيقة إلى "صوت الشعب"، مع ملاحظة قصيرة: "الحقيقة أثقل من النفط، لكنها أقوى."
في اليوم التالي، استيقظ فيصل على صوت هاتفه يرن. كان رسالة من "صوت الشعب": "تلقينا الوثيقة. سننشرها الليلة. كن حذرًا." شعر فيصل بمزيج من الرعب والأمل. خرج إلى الشارع، توجه إلى المقهى الشعبي مجددًا. هذه المرة، كانت الشاشة تبث شيئًا مختلفًا: تقريرًا من "صوت الشعب" يكشف عن الوثيقة. الناس في المقهى توقفوا عن الحديث، عن تدخين الشيشة. كانوا ينظرون إلى الشاشة، بعضهم بصدمة، وبعضهم بغضب. فيصل جلس في زاويته، لكنه شعر بشيء غريب: الرمال تحت قدميه بدأت تتحرك، تشكل كلمات: "أنت الصوت." لم يكن خائفًا الآن. كان يعرف أن الطريق سيكون خطيرًا، لكن الشعب، الذي كان يراه في الرمال، في الأطفال، في الدم، كان ينتظره. وهو لن يصمت.
الفصل الثالث
في شوارع إدلب المحطمة، حيث تتسلل رائحة البارود إلى الرئتين مع كل نفس، كان نايف يقف في زقاق ضيق، محاطًا بجدران متصدعة تحمل آثار قذائف لم تكف عن السقوط منذ سنوات. كان نايف، الشاب الثلاثيني ذو الوجه المغبر والعينين اللتين تحملان ثقل ذكريات لم يعد متأكدًا إن كانت تخصه أم تخص أشباحًا أخرى، يحمل بندقية قديمة، صدئة كأنها جزء من جسده. كان تاجر سلاح الآن، يبيع الموت باسم "الجهاد"، لكنه لم يكن دائمًا هكذا. في طفولته بدمشق، كان يركل كرة قدم مع أصدقاء من كل الطوائف، علويين ومسيحيين وسنة، يضحكون تحت شمس حارة ويحلمون بأن يصبحوا لاعبين محترفين أو مهندسين أو حتى شعراء. لكن الحرب جاءت، ومثل ريح صحراوية، جرفت كل شيء: الأصدقاء، الأحلام، وحتى الضحكات. الآن، في إدلب، كان نايف رجلًا آخر، رجلًا يحمل بندقية لا يعرف إن كانت تحميه أم تدينه.
في تلك الليلة، كان الزقاق هادئًا بشكل مخيف، كأن الحرب أخذت استراحة قصيرة. كان نايف ينتظر زبونًا جديدًا، رجلًا يُدعى أبو الزبير، قائد ميليشيا يريد شحنة من القنابل اليدوية. الدولارات التي وعد بها أبو الزبير كانت كافية لتأمين حياة نايف لأشهر، لكن شيئًا في داخله كان يقاوم. كلما أغلق عينيه، كان يرى وجوه أصدقائه القدامى، أولئك الذين قُتلوا في الحرب أو اختفوا فيها. كان يرى وجه أمه، التي ماتت في غارة جوية، وهي تصرخ: "نايف، لا تبع نفسك!" لكنه كان يهز رأسه، يحاول طرد هذه الأصوات. "هذه الحرب ليست خياري،" كان يقول لنفسه. "أنا فقط أحاول البقاء."
لكن تلك الليلة كانت مختلفة. عندما وصل أبو الزبير، رجل ضخم بعيون كالصقر وشارب كثيف، كان يحمل حقيبة جلدية سوداء. "المال جاهز، يا نايف. أين البضاعة؟" سأل بنبرة لا تحتمل التأخير. نايف أشار إلى صندوق خشبي مخفي تحت كومة من الأنقاض. لكن قبل أن يفتح الصندوق، سمع صوتًا غريبًا، كأنه همسة تأتي من الجدران. توقف، نظر حوله. الزقاق كان فارغًا، لكن الهمسة استمرت، كأن الرمال نفسها تتكلم. "نايف، أنت تبيع دم إخوتك." التفت إلى أبو الزبير، لكن الرجل كان ينظر إليه ببرود، كأنه لم يسمع شيئًا. فتح نايف الصندوق، أخرج قنبلة يدوية، لكن عندما لمسها، شعر بأنها تنبض، كأنها قلب حي. تراجع خطوة، القنبلة سقطت من يده، وعندما لامست الأرض، لم تنفجر، بل تحولت إلى كرة قدم قديمة، مثل تلك التي كان يلعب بها في طفولته.
أبو الزبير ضحك بسخرية. "ما هذا الهراء، يا نايف؟ هل أنت مخمور؟" لكن نايف لم يرد. كان يحدق في الكرة، التي بدأت تتدحرج ببطء نحو منتصف الزقاق. من الظلام، خرجت أشباح، أشباح أصدقائه القدامى، يرتدون ملابس المدرسة، يضحكون ويركلون الكرة. "تعال، نايف!" صرخ أحدهم، وجهه مضيء كأنه لا يزال حيًا. نايف حاول الاقتراب، لكنه شعر بقدميه تثقلان، كأن الرمال تمسك به. أبو الزبير صرخ: "أين البضاعة، يا أحمق؟" لكن نايف لم يسمعه. كان يرى أصدقاءه يلعبون، وفجأة، تحولت الكرة إلى قنبلة مجددًا، انفجرت في وجوههم، لكن بدلاً من الدم، خرجت بذور، بذور زرعت نفسها في الأرض، ونبتت أشجار زيتون صغيرة. نايف سقط على ركبتيه، يده تلمس الرمال، التي كانت لا تزال تهمس: "الجهاد الحقيقي هو تحرير الأرض، لا تدميرها."
أبو الزبير، الذي فقد صبره، سحب مسدسه وصوبه نحو نايف. "إذا لم تعطني البضاعة الآن، سأقتلك." لكن نايف لم يتحرك. كان يرى شيئًا آخر الآن: حقلًا أخضر، حيث أصدقاؤه يزرعون الأرض، يحملون مناجل بدلاً من بنادق. أحدهم، فتى اسمه زياد، كان يحمل مفتاحًا كبيرًا مكتوبًا عليه: "الثقة بالذات." اقترب زياد من نايف، وقال: "هذه الحرب ليست لنا، يا نايف. إنها لهم، لأولئك الذين يبيعون دماءنا للغرب." نايف حاول الرد، لكن فمه امتلأ بالرمال. تف عليها، لكن الرمال تحولت إلى نفط، نفط أسود لزج يلطخ وجهه. أبو الزبير أطلق طلقة تحذيرية في الهواء، لكن نايف لم ينتبه. كان يسمع صوت زياد يتردد: "ارمِ السلاح، نايف. الأرض تنتظرك."
في تلك اللحظة، قرر نايف شيئًا لم يكن متأكدًا منه. أمسك الصندوق الخشبي، رمى محتوياته في الزقاق، لكن بدلاً من القنابل، خرجت بذور، بذور تحمل رائحة الزيتون والياسمين. أبو الزبير صرخ: "خائن!" وسحب الزناد، لكن المسدس لم يطلق رصاصًا، بل خرجت منه رمال، رمال غطت وجهه حتى اختفى. نايف لم يفهم ما حدث. الزقاق كان فارغًا الآن، لا أبو الزبير، لا قنابل، فقط الرمال التي بدأت تتشكل على شكل حقل صغير، حقل ينمو فيه الزيتون. جلس نايف على الأرض، يده تلمس البذور، قلبه يدق بسرعة. كان يشعر أن شيئًا في داخله يتغير، كأن الحرب التي عاشها لسنوات كانت كذبة، كذبة صُنعت في مكاتب بعيدة، في الرياض والدوحة وواشنطن.
في اليوم التالي، بدأ نايف يسير في شوارع إدلب، لكن هذه المرة لم يكن يحمل بندقية. كان يحمل شيئًا آخر: كتابًا صغيرًا وجده في جيبه، كتابًا عن تجربة الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بإرادته، بثقته بنفسه. لم يكن يعرف من وضعه هناك، لكنه شعر أن الرمال هي التي قادته إليه. في إحدى الساحات المدمرة، التقى بمجموعة من الشباب، شباب مثله، كانوا يحملون مناجل ومطارق بدلاً من أسلحة. "نحن نزرع الأرض، يا نايف," قال أحدهم، شاب نحيف يُدعى خالد. "الحرب لن تعيد سوريا. الأرض ستفعل." نايف نظر إلى خالد، ثم إلى البذور في يده. "كيف نزرع في أرض ميتة؟" سأل. خالد ابتسم. "الأرض ليست ميتة. إنها تنتظرنا."
بدأ نايف يعمل معهم، يحفر الأرض، يزرع البذور. كلما غرس بذرة، كان يرى وجه أحد أصدقائه القدامى يبتسم له. في إحدى الليالي، عندما كان يجلس تحت شجرة زيتون صغيرة، سمع الرمال تهمس مجددًا: "الشعب هو القوة." نهض، نظر إلى الحقل، ورأى أشجار الزيتون تنمو بسرعة غريبة، كأنها تتحدى الحرب نفسها. لكن في تلك اللحظة، سمع صوت طائرة مقاتلة في السماء. القذيفة سقطت قريبًا، لكنها لم تدمر الحقل. بدلاً من ذلك، تحولت إلى مطر، مطر غريب حمل بذورًا أخرى. نايف ضحك، ضحكة لم يسمعها منذ سنوات. كان يعرف أن الطريق طويل، لكنه عرف أيضًا أن الرمال لن تصمت، وأن الأرض، مهما دُمرت، لا تزال قادرة على الحياة.
الفصل الرابع
في زقاق ضيق من أزقة غزة، حيث يمتزج غبار القذائف برائحة البحر القريب، كان فرحان يجلس في ورشته الصغيرة، وهي ليست أكثر من غرفة طينية متصدعة تحمل آثار الغارات المتكررة. فرحان، الفنان الفلسطيني ذو الأربعين عامًا، ذو الوجه المجعد كخريطة أرض محتلة والعينين اللتين تحملان لمعة الأمل رغم كل شيء، كان يمسك بفرشاة مهترئة، يرسم على قماش قديم تملؤه الشقوق. أمامه، لوحة نصف مكتملة تصور امرأة فلسطينية تحمل طفلًا ميتًا، عيناها تنظران إلى السماء كأنها تبحث عن إجابة لم تأتِ. كان فرحان يرسم ببطء، كل حركة من يده كانت كأنها صلاة، أو ربما لعنة. كلما غمس الفرشاة في الطلاء الأحمر، كان الطلاء يتحول إلى دم حقيقي، يسيل على القماش، يترك بقعًا لا يمكن محوها. لم يكن هذا جديدًا. منذ سنوات، كانت لوحاته تنزف، كأن الأرض نفسها تتكلم من خلالها. الجيران، الذين اعتادوا على رؤية لوحاته، اتهموه بالسحر. "أنت تدعو الأرواح، يا فرحان!" قالت له أم محمد، الجارة العجوز، ذات يوم. لكنه هز رأسه، وقال: "هذا ليس سحرًا. هذا دم أوطاننا." لم تفهم أم محمد، لكنها لم تجادله. كانوا جميعًا يعرفون أن فرحان ليس مجرد فنان، بل هو صوت غزة، صوت لا يصمت حتى تحت القنابل.
كانت الورشة مليئة بلوحات لم تكتمل، لوحات تصور عمالًا فلسطينيين يحملون مناجل ومطارق، نساء يزرعن الأرض رغم الحصار، أطفالًا يركضون في حقول من الزيتون رغم الدبابات. كل لوحة كانت تحمل رؤية فرحان: رؤية شيوعية تقدمية، مستلهمة من قصص سمعها عن الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بالثقة بنفسه، لا بالركوع للغرب. لم يكن فرحان يؤمن بالدعاة الذين يملأون الفضائيات بكلام عن "الصبر الجميل"، ولا بالسياسيين الذين يبيعون فلسطين في غرف مغلقة. كان يؤمن بالشعب، بالأرض، بالمناجل التي يمكن أن تصنع ثورة. لكنه كان يعرف أيضًا أن الثورة ليست سهلة في غزة، حيث الجدران تستمع والسماء ترمي بالنار.
في تلك الليلة، كان فرحان يعمل على لوحته الجديدة. كانت تصور حقلًا من الزيتون، لكن الأشجار لم تكن عادية. كل شجرة كانت تحمل وجهًا، وجه شهيد، وجه عامل، وجه امرأة تقاوم. بينما كان يرسم، بدأ القماش ينزف مجددًا. لم يتوقف. كان يعرف أن الدم ليس عيبًا، بل دليلًا على أن لوحته حية. لكنه لاحظ شيئًا غريبًا: الدم بدأ يتحول إلى زهور زيتون، زهور صغيرة تنبت على القماش كأنها تتحدى الموت. توقف فرحان، نظر إلى اللوحة بدهشة. "هل أنتِ تتكلمين؟" سأل القماش، كأنه يتحدث إلى الأرض نفسها. لم يكن هناك رد، لكن الزهور استمرت في النمو، حتى غطت اللوحة بأكملها. شعر فرحان بشيء يتحرك في صدره، شيء بين الأمل والخوف. كان يعرف أن هذه اللوحة ليست مجرد لوحة، بل رسالة. لكنه لم يكن يعرف بعد إلى من.
في اليوم التالي، قرر فرحان تنظيم معرض سري في مخيم الشاطئ. كان المعرض فكرة خطيرة. الاحتلال لا يحب الفن، والسلطات المحلية لا تحب الأفكار التي تتحدى. لكنه لم يهتم. جمع لوحاته، حملها على عربة يد قديمة، وسار في أزقة غزة، متجنبًا نقاط التفتيش. التقى بأصدقاء من المخيم، شباب ونساء يشاركونه حلمه. كان هناك أحمد، العامل الذي فقد ساقه في غارة، وفاطمة، المعلمة التي ترفض أن تتوقف عن تعليم الأطفال رغم انهيار المدارس. ساعدوه في إعداد المعرض في قبو مهجور، قبو كان يستخدم كمخبأ أثناء الغارات. علقوا اللوحات على الجدران الرطبة، وأضاؤوا المكان بمصابيح كيروسين قديمة. كانت اللوحات تنزف، لكن الدم كان يتحول إلى زهور، وكل زهرة كانت تحمل شعارًا: "الشعب هو القوة."
بدأ الناس يتسللون إلى المعرض، بحذر، خوفًا من عيون الجواسيس. كان هناك أمهات فقدن أبناءهن، أطفال يحملون ندوب الحرب، شيوخ يتذكرون فلسطين قبل النكبة. وقفوا أمام اللوحات، بعضهم بكى، وبعضهم صرخ: "هذا دمنا!" لكن فرحان لاحظ شيئًا: كلما اقترب أحدهم من لوحة، كانت الزهور تنمو أكثر، كأن دموع الناس تسقيها. فاطمة، التي كانت تقف بجانبه، همست: "لوحاتك ليست فنًا، يا فرحان. إنها ثورة." لم يرد، لكنه شعر بأن كلماتها صحيحة. كان يرى في عيون الناس شيئًا لم يره منذ زمن: إرادة. لم تكن إرادة الحرب، بل إرادة الحياة، إرادة الأرض التي ترفض الموت.
لكن الفرح لم يدم. في منتصف المعرض، سمعوا صوتًا مدويًا، كأن السماء انشقت. غارة. القذيفة سقطت قريبًا، هزت الجدران، أطفأت المصابيح. الناس هربوا، لكن فرحان بقي. لم يكن خائفًا. ركض نحو لوحاته، حاول إنقاذها، لكن الجدران بدأت تنهار. تحت الأنقاض، رأى لوحته الكبيرة، تلك التي تصور حقل الزيتون. كانت سليمة، تطفو فوق الركام كعلم. اقترب منها، لمسها، فتحولت إلى طيور، طيور زيتون تحلق فوق غزة، تحمل رسائل مكتوبة بدم: "الأرض لنا، لا للغرب." سمع فرحان صوتًا من السماء، صوتًا لا يشبه أي صوت سمع من قبل: "ارسم، فرحان. الفن هو سلاح الشعوب."
في تلك الليلة، عاد فرحان إلى ورشته المدمرة. لم يبقَ منها سوى جدران متصدعة وقماش واحد، لكنه لم ييأس. أمسك بفرشاته، بدأ يرسم مجددًا. هذه المرة، كان يرسم شجرة زيتون واحدة، لكنها كانت شجرة ضخمة، جذورها تمتد من غزة إلى دمشق، إلى بغداد، إلى الرياض. كل جذر كان يحمل اسمًا: اسم شهيد، اسم عامل، اسم امرأة تقاوم. والدم، الذي كان ينزف من القماش، تحول إلى مطر، مطر يسقي الأرض، يزرع الأمل. فرحان عرف أن الاحتلال قد يدمر ورشته، قد يقتله، لكنه عرف أيضًا أن لوحاته لن تموت. كانت الأرض تتكلم من خلالها، والشعب، رغم الحصار، كان لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل الخامس
في حي العمال المكتظ بالرياض، حيث يمتزج غبار الصحراء برائحة النفط الخام الذي يتسرب من أنابيب متهالكة، كان مقرن يمشي بخطوات ثقيلة، كأن الأرض نفسها تحاول جره إلى أسفل. مقرن، الرجل الخمسيني ذو اللحية المغبرة والعينين اللتين تحملان ثقل أحلام شبابه الثوري، كان يحمل كتابًا قديمًا تحت إبطه، كتابًا عن الاشتراكية وجدّه تحت سريره قبل أيام، كأن الرمال التي تتكلم إليه هي التي وضعته هناك. كان يشعر أن شيئًا في داخله قد استيقظ، شيئًا كان نائمًا منذ سنوات، منذ أيام النقابات واللافتات التي كان يرفعها في السبعينيات، صارخًا: "النفط للشعب!" لكن تلك الأيام كانت بعيدة، مدفونة تحت طبقات من الخيبة والصمت، تحت خطب الدعاة الذين يملأون الفضائيات بكلام عن "الصبر الجميل"، وعن الفقر كابتلاء إلهي، وعن جنة تنتظر من يركع للظلم. لكن الليلة، كان مقرن مختلفًا. كان يسمع صوت الرمال، صوت الشعب، يهمس له: "أنت الصوت، لا تصمت."
كان قد قرر مواجهة الداعية الشهير، الرجل الذي يشبه القرضاوي، الذي يعيش في قصر ذهبي في ضواحي الرياض، قصر يلمع كأنه مرآة تعكس دولارات النفط الملوثة بدماء العرب. كان الداعية، الشيخ عبد الرحمن، نجم فضائية "الرسالة"، يظهر كل ليلة على الشاشات، يتحدث عن الصبر والجنة بصوت رخيم يخدر العقول. مقرن، الذي كان يشاهد خطبه منذ سنوات، شعر أن الوقت قد حان ليواجهه، ليس لأنه يكره الرجل، بل لأنه يكره الكذبة التي يمثلها. كان يعرف أن الشيخ عبد الرحمن ليس مجرد داعية، بل جزء من آلة كبيرة، آلة تحركها آل سعود بدعم من الغرب، آلة تحول الدين إلى مخدر، والشعب إلى قطيع. أمسك مقرن بالكتاب، كأنه سلاح، وتوجه إلى القصر.
كان الطريق إلى القصر طويلًا، عبر شوارع الرياض التي تمتزج فيها الأضواء اللامعة للقصور برائحة الفقر في الأحياء الشعبية. كل خطوة كان يسمع فيها صوت الرمال، تهمس له: "الشعب هو القوة." عندما وصل إلى بوابة القصر، كانت الشمس قد غربت، والقصر مضاء كأنه نجم في صحراء مظلمة. الحراس، بزيهم الأسود ونظراتهم الباردة، سألوه عن هويته. "أنا مقرن، أريد رؤية الشيخ عبد الرحمن," قال بنبرة هادئة لكن حازمة. الحراس تبادلوا النظرات، ثم سمحوا له بالدخول، كأنهم يعرفون أنه لن يغادر حيًا إذا قرر الشيخ ذلك.
داخل القصر، كانت الجدران مغطاة بالذهب والرخام، والثريات تلمع كأنها نجوم مسروقة من السماء. جلس الشيخ عبد الرحمن على أريكة فاخرة، يرتدي عمامة بيضاء ناصعة وثوبًا يبدو كأنه منسوج من خيوط المال. "ما الذي تريده، يا رجل؟" سأل الشيخ بنبرة فيها استعلاء وقليل من الفضول. مقرن وقف أمامه، الكتاب في يده، وقال: "جئت لأسألك: لماذا تكذب على الشعب؟ لماذا تقول إن الفقر قدر، والظلم اختبار، بينما تعيش في قصر بناه دم اليمنيين والسوريين؟" كان صوته هادئًا، لكنه كان كالرعد في تلك اللحظة. الشيخ ضحك، ضحكة باردة كالصحراء في الليل. "الفقر ابتلاء، يا مقرن. والله يحب الصابرين. أما أنا، فقد رزقني الله بنعمه. أليس هذا عدلًا؟"
مقرن شعر بالغضب يغلي في صدره. "عدل؟ أي عدل هذا الذي يجعلك تسبح في الدولارات بينما الشعب يأكل الرمال؟" قبل أن يرد الشيخ، بدأت الجدران تهتز. الثريات سقطت، تحطمت على الأرض كأنها دموع زجاجية. الشيخ نهض، عيناه مملوءتان بالذعر. "ما هذا؟" صرخ. لكن مقرن لم يرد. كان يرى شيئًا آخر: الجدران تحولت إلى شاشات، شاشات تبث صور الدمار في اليمن، في سوريا، في فلسطين. أطفال يصرخون، نساء يبكين، رجال يحملون جثث أحبائهم. الشاشات كانت تنزف، دمًا حقيقيًا يسيل على الأرض الرخامية. الشيخ تراجع، لكن الدم اقترب منه، كأنه يطارده. "توقفوا!" صرخ، لكن الأصوات من الشاشات كانت أقوى. "أنت من بعتنا!" قالت امرأة يمنية، وجهها مغطى بالرماد. "أنت من جعلت دمنا نفطًا!" قال طفل سوري، عيناه فارغتان.
مقرن وقف ساكنًا، يشاهد المشهد. لم يكن خائفًا. كان يشعر أن الرمال التي تتكلم إليه منذ أيام هي التي تحرك هذا المشهد. اقترب من الشيخ، رفع الكتاب، وقال: "هذا هو الدين الحقيقي، يا شيخ. دين الشعب، دين الأرض، دين الثورة. ليس دينكم المصنوع في مكاتب السي آي إيه." الشيخ حاول الرد، لكن فمه امتلأ بالرمال. بدأ يختنق، يصرخ، لكن صوته تحول إلى همهمة مكتومة. فجأة، انهارت الجدران، وتحول القصر إلى صحراء. الرمال كانت تحيط بمقرن والشيخ، تشكل دوامة، دوامة من الدم والنفط. الشيخ سقط على ركبتيه، يحاول التنفس، لكن الرمال ابتلعته، تاركة وراءه كومة من الدولارات الملطخة بالدم.
مقرن لم يتحرك. كان يقف في وسط الصحراء، الكتاب في يده، والرمال تهمس له: "أنت الصوت." لكنه شعر بشيء غريب. الرمال بدأت تتشكل أمامه، تشكل وجوهًا، وجوه العمال الذين ماتوا في حقول النفط، وجوه الشهداء في سوريا واليمن، وجوه النساء اللواتي يقاومن في فلسطين. كانت الوجوه تنظر إليه، لا بعتب، بل بأمل. "الشعب هو القوة," قالوا في صوت واحد. مقرن أغلق عينيه، شعر بدفء يسري في صدره. عندما فتح عينيه، كان في غرفته مجددًا، الكتاب على الأرض، والرمال تتسرب من تحت النافذة. لكنه لم يكن خائفًا. كان يعرف أن ما رآه لم يكن حلمًا، بل رسالة.
في اليوم التالي، خرج مقرن إلى حي العمال. لم يعد رجلًا يشاهد الفضائيات ويصمت. بدأ يتحدث إلى الناس، إلى العمال، إلى الشباب، إلى النساء. كان يحكي عن الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بالثقة بنفسه، عن أمة عربية يمكن أن تنهض إذا آمنت بقوتها. كان يقرأ لهم من الكتاب، يحكي عن الثورة، عن النفط الذي يجب أن يكون للشعب، لا للملوك. الناس كانوا يستمعون، بعضهم بدهشة، وبعضهم بخوف، لكن عيونهم كانت تلمع بالأمل. الرمال كانت تتحرك تحت أقدامهم، تشكل كلمات: "لا إله إلا الشعب." مقرن عرف أن الطريق سيكون طويلًا، وأن آل سعود لن يتركوه يتحدث. لكنه عرف أيضًا أن الرمال لن تصمت، وأن الشعب، رغم الظلم، لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل السادس
في شوارع الدوحة المزدحمة، حيث تلمع ناطحات السحاب كأنها مرايا تعكس أحلام الدولارات، كان فيصل يجلس في زاوية مقهى شعبي قديم، بعيدًا عن الأضواء البراقة للمدينة الحديثة. المقهى، بجدرانه المتآكلة ورائحة الشيشة التي تملأ الهواء، كان ملاذًا للعمال والطلاب والصحفيين المهمشين، أولئك الذين لم يجدوا مكانًا في قصور آل ثاني. فيصل، الشاب العشريني ذو العينين القلقتين والشعر الأشعث الذي يرفض الانضباط، كان يحدق في شاشة حاسوبه المحمول، قلبه يدق بسرعة غريبة. قبل ساعات، أرسل الوثيقة السرية التي كشفت تواطؤ آل ثاني مع وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى شبكة إعلامية تقدمية تُدعى "صوت الشعب". كانت الوثيقة، التي وصلته عبر بريد إلكتروني مجهول بعنوان "الحقيقة_٧٧"، قنبلة ورقية تحمل أدلة على تمويل جماعات متطرفة في سوريا، صفقات تُنفذ تحت ستار "الثورة" لخدمة مصالح إسرائيل وواشنطن. كان يعرف أن إرسال الوثيقة قد يعرض حياته للخطر، لكنه لم يعد قادرًا على الصمت. كان صوت الشعب، الذي سمعه في حلمه، في الرمال، في وجوه الأطفال السوريين الذين ظهروا على شاشته، يدفعه للمضي قدمًا.
لكن الإنترنت في المقهى انقطع فجأة، كأن يدًا خفية قطعت الخيوط التي تربطه بالعالم. الشاشة أصبحت سوداء، لكنها لم تظل كذلك. بدأت تظهر عليها وجوه، وجوه ضحايا الحرب في سوريا، في اليمن، في فلسطين. كانوا ينظرون إليه، لا بعتب، بل بحزن عميق، عيونهم غائرة، ملابسهم ملطخة بدم جاف. "أنت صوتنا، يا فيصل. لا تصمت," قالت امرأة تحمل طفلًا ميتًا. فيصل أغلق الحاسوب، لكن الأصوات لم تتوقف. نهض، خرج إلى الشارع، لكن الدوحة لم تكن كما يعرفها. الشوارع كانت غارقة في نهر من النفط، نفط أسود لزج يتحول ببطء إلى دم. في الدم، كان هناك أطفال يسبحون، يحملون لافتات مكتوبة بخط يدوي: "الشعب هو القوة." فيصل توقف، قلبه يدق بعنف. كان يعرف أن هذا ليس حلمًا، بل رسالة. الرمال، التي كانت تتسرب من تحت الأبواب في شقته، كانت تتكلم إليه الآن، تهمس: "أنت الصوت."
عاد إلى المقهى، جلس في زاويته. الناس حوله كانوا يتحدثون عن أسعار البنزين، عن مباراة كرة قدم، عن برامج "الجزيرة" التي تملأ الشاشة الصغيرة في الزاوية. لكن فيصل لم يكن يستمع إليهم. كان يفكر في الوثيقة، في الشعب، في الحقيقة التي أصبحت عبئًا على كتفيه. أخرج ورقة من جيبه، بدأ يكتب بخط يده: "الحقيقة أثقل من النفط، لكنها أقوى. آل ثاني، بدولاراتهم الملوثة، يبيعون دم إخوتنا، لكن الشعب هو القوة الحقيقية." بينما كان يكتب، بدأت الشاشة في المقهى تتغير. بدلاً من تقرير "الجزيرة" عن "انتصارات الثورة"، ظهرت صورة لمصنع يحول النفط إلى كتب، إلى أدوات زراعية، إلى مناجل ومطارق. الناس في المقهى توقفوا عن الحديث، نظروا إلى الشاشة بدهشة. لم يكن أحد يعرف من يتحكم بها، لكن فيصل شعر أن الرمال هي التي تفعل ذلك. كانت الرمال تتسرب من تحت الطاولات، تشكل كلمات على الأرض: "الشعب هو القوة."
في تلك اللحظة، سمع فيصل صوتًا من الخارج، صوت سيارات تقترب. كان يعرف هذا الصوت: سيارات الأمن. كان قد توقع ذلك. نشر الوثيقة عبر "صوت الشعب" كان كافيًا لجذب انتباه آل ثاني. لكنه لم يهرب. أغلق الحاسوب، وضع الورقة في جيبه، وخرج إلى الشارع. السيارات توقفت، ونزل منها رجال بزي أسود، عيونهم مخفية خلف نظارات سوداء. "فيصل بن خالد؟" سأل أحدهم بنبرة باردة. فيصل أومأ برأسه، لكنه لم يشعر بالخوف. كان يرى الرمال تتحرك تحت أقدامهم، تشكل دوامة صغيرة. "تعال معنا," قال الرجل. لكن قبل أن يتحرك فيصل، بدأت الرمال تنمو، تحولت إلى جدار، جدار من الوجوه، وجوه الشعب الذي كان يكتب لأجله. الرجال تراجعوا، مذهولين. فيصل استغل اللحظة، ركض عبر الزقاق، باتجاه حي الوكرة، حيث شقته الصغيرة.
عندما وصل إلى شقته، كانت الرمال قد سبقته. كانت تغطي الأرض، تشكل خريطة للعالم العربي، من المغرب إلى الخليج. كل نقطة في الخريطة كانت تنزف، لكن الدم كان يتحول إلى زهور زيتون. فيصل جلس على الأرض، أخرج الورقة من جيبه، وكتب: "لا ثقة بالغرب. الشعب هو الحل." كان يعرف أن الأمن سيجده عاجلاً أم آجلاً، لكنه كان يعرف أيضًا أن الحقيقة، التي نشرها، لن تموت. في تلك الليلة، حلم فيصل بحقل أخضر، حيث العمال يزرعون الأرض، والصحفيون يكتبون الحقيقة، والشعب يقف كجدار ضد الخيانة. استيقظ على صوت طرق على الباب. لم يفتح. كان يعرف أنهم جاؤوا، لكنه كان يعرف أيضًا أن الرمال لن تصمت، وأن الشعب، رغم القمع، لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل السابع
في إدلب المحطمة، حيث تتسلل رائحة البارود إلى الرئتين مع كل نفس، كان نايف يقف في ساحة مهجورة، محاطًا بأنقاض المباني التي كانت يومًا منازل ومدارس وأحلام. نايف، الشاب الثلاثيني ذو الوجه المغبر والعينين اللتين تحملان ثقل ذكريات طفولته الضائعة في دمشق، لم يعد يحمل بندقية. قبل أيام، رمى سلاحه، تلك القطعة الحديدية التي كانت تُعرّفه كتاجر موت باسم "الجهاد". الآن، في يده، كان هناك منجل، أداة بسيطة وجدّها في كومة من الأنقاض، كأن الأرض نفسها أعطته إياها. كان قد انضم إلى مجموعة من الشباب، شباب مثله، كانوا يزرعون الأرض المدمرة، يحولون الحقول المحروقة إلى بساتين صغيرة، يتحدون الحرب ببذور الزيتون والياسمين. لم يكن نايف متأكدًا من أين جاء هذا التغيير في داخله. ربما كانت الرمال، التي كانت تتكلم إليه منذ ليالٍ، ربما كانت أشباح أصدقائه القدامى الذين رآهم يلعبون كرة القدم في زقاق إدلب، ربما كان الكتاب الصغير الذي وجده في جيبه، كتاب عن تجربة الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بالثقة بنفسه، لا بالركوع للغرب. كل ما يعرفه أن الحرب التي عاشها لسنوات كانت كذبة، كذبة صُنعت في مكاتب بعيدة، في الرياض والدوحة وواشنطن، وأنه الآن يريد أن يكون جزءًا من شيء آخر، شيء يعيد الحياة إلى الأرض.
الساحة كانت هادئة تلك الليلة، لكن الهدوء في إدلب كان دائمًا خادعًا. كان نايف يعمل مع خالد، شاب نحيف ذو لحية خفيفة وعينين تلمعان بالأمل رغم الدمار. خالد كان قائد المجموعة، أو ربما لم يكن قائدًا بالمعنى التقليدي، بل كان صوتًا يجمع الشباب حوله. "نزرع الأرض، يا نايف," قال خالد بينما كان يحفر حفرة صغيرة في التربة المحروقة. "الحرب لن تعيد سوريا. الأرض ستفعل." نايف نظر إليه، المنجل في يده يرتجف قليلاً. "كيف نزرع في أرض ميتة؟" سأل، صوته مليء بالشك. خالد ابتسم، ابتسامة هادئة كأنها تحمل حكمة عمرها قرون. "الأرض ليست ميتة. إنها تنتظرنا." أعطى خالد نايف بذرة صغيرة، بذرة زيتون، وقال: "اغرسها. دعها تتكلم." نايف تردد، لكنه أمسك البذرة، حفر حفرة صغيرة، ووضعها في التربة. بينما كان يغطيها بالرمال، سمع صوتًا غريبًا، همسة تأتي من الأرض نفسها: "الشعب هو القوة."
تلك الليلة، بينما كان نايف يجلس تحت شجرة زيتون صغيرة نبتت بسرعة غريبة، رأى شيئًا لم يره من قبل. الأشباح، أشباح أصدقائه القدامى، ظهروا مجددًا. لكنهم هذه المرة لم يكونوا يلعبون كرة القدم. كانوا يزرعون الأرض، يحملون مناجل ومطارق، يضحكون كأنهم لم يموتوا. زياد، الفتى الذي كان يحمل مفتاحًا مكتوبًا عليه "الثقة بالذات"، اقترب من نايف، وقال: "هذه هي سوريا الحقيقية، يا نايف. سوريا الأرض، سوريا الشعب. ليست سوريا الجولاني ولا آل ثاني." نايف حاول الرد، لكن فمه امتلأ بالرمال. تف عليها، لكن الرمال تحولت إلى بذور، بذور سقطت على الأرض وبدأت تنمو فورًا. الأشباح ضحكوا، واختفوا، لكن الحقل أصبح أخضر، كأن الحرب لم تمر من هنا أبدًا.
في اليوم التالي، تلقى نايف رسالة من مموليه القدامى في الرياض. كانت رسالة تهديد: "إذا لم تعد إلى تجارة السلاح، ستموت." لم يكن نايف مفاجأًا. كان يعرف أن الذين يدفعون الدولارات لا يحبون من يتحدى أوامرهم. لكنه لم يعد خائفًا. أمسك بالمنجل، عاد إلى الحقل مع خالد والشباب. كانوا يزرعون، يسقون الأرض بماء جلبوه من بئر قديمة، يتحدثون عن أحلام لم تكن موجودة قبل أشهر. "سنبني مدرسة هنا," قالت فاطمة، فتاة شابة فقدت أخاها في الحرب. "وسنزرع حقولًا تمتد إلى حلب," أضاف خالد. نايف استمع، لكنه كان يرى شيئًا آخر: الرمال تتحرك تحت أقدامهم، تشكل خريطة لسوريا، لكن هذه المرة، كانت الخريطة خضراء، مليئة بالأشجار والحقول.
فجأة، سمعوا صوت طائرة مقاتلة في السماء. القذيفة سقطت قريبًا، هزت الأرض، لكنها لم تدمر الحقل. بدلاً من ذلك، تحولت إلى مطر، مطر غريب حمل بذورًا أخرى. نايف ضحك، ضحكة لم يسمعها منذ سنوات. كان يعرف أن الحرب لم تنته، لكن الأرض كانت تتكلم، والشعب كان يستمع. عاد إلى العمل، يحفر، يزرع، يسقي. كل بذرة كانت تحمل اسمًا: اسم شهيد، اسم صديق، اسم أمل. الرمال كانت تهمس: "الشعب هو القوة." نايف عرف أن الطريق طويل، لكنه عرف أيضًا أن الأرض، مهما دُمرت، لا تزال قادرة على الحياة.
الفصل الثامن
.في أزقة غزة الضيقة، حيث يختلط غبار القذائف برائحة البحر القريب وصوت الأذان الذي يتردد بين الجدران المتصدعة، كان فرحان يقف وسط أنقاض ورشته، تلك الغرفة الطينية التي كانت ملاذه، ملجأ فنه، وصوته الذي يتحدى الحصار. فرحان، الفنان الفلسطيني ذو الأربعين عامًا، ذو الوجه المجعد كخريطة أرض محتلة والعينين اللتين تحملان لمعة أمل عنيدة، كان ينظر إلى القماش الوحيد الذي نجا من الغارة الأخيرة. اللوحة، التي كانت تصور حقل زيتون يضم وجوه الشهداء والعمال والمقاومين، كانت لا تزال سليمة، تطفو فوق الأنقاض كعلم يرفض السقوط. لكن الدم الذي كان ينزف منها تحول إلى زهور زيتون صغيرة، زهور تنمو على القماش كأنها تتحدى الموت نفسه. فرحان لم يكن متفاجئًا. منذ سنوات، كانت لوحاته تنزف، كأن الأرض تتكلم من خلالها، لكن هذه المرة، كانت الزهور رسالة. لم تكن رسالة هزيمة، بل انتصار. كان يعرف أن غزة، رغم الحصار والدمار، لا تزال قادرة على الحياة، وأن فنه، رغم كل شيء، هو سلاح الشعب.
قبل أيام، نظم فرحان معرضًا سريًا في قبو مهجور بمخيم الشاطئ. كان المعرض فكرة خطيرة، فالاحتلال لا يحب الفن، والسلطات المحلية تخاف من الأفكار التي تتحدى. لكنه لم يهتم. جمع لوحاته، حملها على عربة يد قديمة، وسار عبر الأزقة، متجنبًا نقاط التفتيش. ساعده أصدقاؤه، أحمد العامل الذي فقد ساقه في غارة، وفاطمة المعلمة التي ترفض التوقف عن تعليم الأطفال رغم انهيار المدارس. علقوا اللوحات على جدران القبو الرطبة، أضاؤوا المكان بمصابيح كيروسين قديمة، ودعوا الناس بحذر. جاءت الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، والأطفال الذين يحملون ندوب الحرب، والشيوخ الذين يتذكرون فلسطين قبل النكبة. وقفوا أمام اللوحات، بعضهم بكى، وبعضهم صرخ: "هذا دمنا!" لكن اللوحات لم تكن تنزف دمًا فقط. كانت الزهور تنمو، تحمل شعارات مكتوبة بدم: "الشعب هو القوة، لا الغرب." الناس شعروا بشيء يتحرك في قلوبهم، شيء لم يشعروا به منذ زمن: الأمل.
لكن الغارة دمرت المعرض. القذيفة سقطت، هزت القبو، حطمت الجدران، أطفأت المصابيح. الناس هربوا، لكن فرحان بقي. حاول إنقاذ لوحاته، لكن الأنقاض ابتلعت معظمها. فقط لوحة حقل الزيتون نجت، طفت فوق الركام كأنها تتحدى الدمار. عندما لمسها فرحان، تحولت إلى طيور، طيور زيتون تحلق فوق غزة، تحمل رسائل مكتوبة بدم: "الأرض لنا." سمع صوتًا من السماء: "ارسم، فرحان. الفن هو سلاح الشعوب." تلك الكلمات ظلت تتردد في رأسه وهو يقف الآن وسط أنقاض ورشته. لم يكن لديه سوى قماش واحد، وفرشاة مهترئة، وقليل من الطلاء، لكنه لم ييأس. أمسك بالفرشاة، وبدأ يرسم مجددًا. هذه المرة، كان يرسم شجرة زيتون واحدة، لكنها كانت ضخمة، جذورها تمتد من غزة إلى دمشق، إلى بغداد، إلى الرياض. كل جذر كان يحمل اسمًا: اسم شهيد، اسم عامل، اسم امرأة تقاوم. والدم، الذي كان ينزف من القماش، تحول إلى مطر، مطر يسقي الأرض، يزرع الأمل.
لكن الاحتلال لم يكن ليترك فرحان وشأنه. في تلك الليلة، سمع صوت أقدام ثقيلة تقترب من الورشة. كانوا جنودًا إسرائيليين، بزيهم العسكري وبنادقهم المصوبة. "أنت الفنان الذي يرسم الثورة؟" سأل أحدهم بنبرة ساخرة. فرحان لم يرد. وقف أمام لوحته، الفرشاة في يده، كأنها سيف. الجندي اقترب، سحب اللوحة من الحامل، رماها على الأرض. "هذا هراء!" صرخ، ثم داس على القماش بجزمته الثقيلة. لكن شيئًا غريبًا حدث. اللوحة لم تتمزق. بدلاً من ذلك، بدأت تنزف، لكن الدم تحول إلى طيور، طيور زيتون تحلق فوق رؤوس الجنود. الجنود تراجعوا، مذهولين، بنادقهم مرتجفة في أيديهم. الطيور لم تهاجمهم، بل حلقت إلى السماء، تحمل رسائل مكتوبة بدم: "الشعب هو القوة." الجنود صرخوا، أطلقوا النار على الطيور، لكن الرصاص تحول إلى بذور، بذور سقطت على الأرض وبدأت تنمو فورًا، تشكل حقلًا صغيرًا وسط الأنقاض.
فرحان لم يتحرك. كان ينظر إلى الجنود، عيناه هادئتان لكن مليئتين بالتحدي. "الفن لا يموت," قال بهدوء. الجندي، الذي كان يبدو مرتبكًا، صرخ: "سنقتلك!" لكن قبل أن يرفع بندقيته، بدأت الرمال تتحرك تحت أقدامهم. الرمال، التي كانت دائمًا تتكلم إلى فرحان، تشكلت على شكل وجوه، وجوه الشعب الفلسطيني، وجوه الشهداء، وجوه العمال. الجنود تراجعوا، صرخوا، لكن الرمال ابتلعتهم، كأن الأرض نفسها رفضت وجودهم. عندما اختفوا، كان الحقل الصغير لا يزال هناك، ينمو، يزهر. فرحان جلس على الأرض، الفرشاة في يده، وابتسم. كان يعرف أن الاحتلال قد يعود، قد يدمر ورشته مجددًا، لكنه عرف أيضًا أن لوحاته، التي تحمل صوت الأرض، لن تموت.
في اليوم التالي، جاء أحمد وفاطمة إلى الورشة. كانا يحملان أخبارًا: الناس في المخيم بدأوا يتحدثون عن المعرض، عن اللوحات التي تنزف، عن الطيور التي تحلق. "لقد ألهمتهم، يا فرحان," قالت فاطمة، عيناها تلمعان. "إنهم يريدون أن يزرعوا، أن يقاوموا، أن يعيشوا." فرحان نظر إلى الحقل الصغير الذي نبت وسط الأنقاض. "هذا ليس فني," قال. "هذا صوت الشعب." أحمد أومأ، ثم أخرج من جيبه كتابًا صغيرًا، كتابًا عن تجربة الصين، عن شعب قاوم الاستعمار بالثقة بنفسه. "وجدت هذا في المخيم," قال. "كأن الأرض أرسلته إلينا." فرحان أخذ الكتاب، تصفحه، وقرأ جملة: "الشعب هو القوة." شعر بدفء يسري في صدره.
بدأ فرحان يرسم مجددًا، لكن هذه المرة، لم يكن يرسم لوحة واحدة. كان يرسم على جدران الأنقاض، على بقايا المنازل، على الأرض نفسها. كان يرسم حقول زيتون، وجوه مقاومين، مناجل ومطارق. الناس بدأوا يتجمعون حوله، يساعدونه، يرسمون معه. الأطفال جلبوا ألوانهم، النساء جلبن دموعهن، الرجال جلبوا قوتهم. كل ضربة فرشاة كانت تحمل رسالة: "لا للغرب، نعم للشعب." الرمال كانت تتحرك معهم، تشكل كلمات، خرائط، أحلام. فرحان عرف أن الاحتلال سيحاول إيقافه، لكنه عرف أيضًا أن الفن، مثل الأرض، لا يمكن قتله. كان الشعب يرسم معه، والشعب، رغم الحصار، كان لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل التاسع
في شوارع الرياض المزدحمة، حيث يمتزج هدير السيارات الفاخرة بصمت الأحياء الشعبية المنسية، كان مقرن يمشي بخطوات حذرة، كأن الأرض تحت قدميه قد تتحول إلى فخ في أي لحظة. كان الرجل الخمسيني ذو اللحية المغبرة والعينين اللتين تحملان ثقل أحلام شبابه الثوري يحمل كتابًا قديمًا عن الاشتراكية تحت إبطه، كتابًا وجده تحت سريره قبل أيام، كأن الرمال التي تتكلم إليه هي التي وضعته هناك. لم يعد مقرن ذلك العامل المتقاعد الذي يجلس أمام شاشة "الرسالة"، يستمع إلى خطب الدعاة عن "الصبر الجميل". شيء في داخله استيقظ، شيء كان نائمًا منذ أيام النقابات واللافتات التي كان يرفعها في السبعينيات، صارخًا: "النفط للشعب!" الآن، بعد مواجهته مع الشيخ عبد الرحمن في قصره الذهبي، حيث رأى الجدران تنهار والشاشات تنزف دمًا، كان مقرن يشعر أن الرمال، صوت الشعب، تدفعه لفعل شيء أكبر. كان يعرف أن الوقت قد حان لمواجهة أكبر من داعية واحد، مواجهة مع النظام نفسه، مع آل سعود الذين يحولون النفط إلى دولارات ملطخة بدماء العرب.
كانت الرياض، تلك الليلة، مغطاة بضباب خفيف، كأن الصحراء نفسها تتنفس. مقرن قرر العودة إلى قصر الشيخ عبد الرحمن، ليس لمواجهته مجددًا، بل لأنه سمع من جاره خالد أن القصر أصبح مهجورًا بعد تلك الليلة الغريبة. كان الناس في الحي يتحدثون عن أشياء غريبة: أصوات تصرخ من داخل القصر، أضواء تتحرك في النوافذ، رمال تتسرب من الجدران كأنها دم. مقرن لم يكن يؤمن بالخرافات، لكنه كان يؤمن بالرمال. كان يعرف أنها تتكلم، وأنها تحمل رسائل لا يفهمها إلا من يستمع إلى صوت الأرض. عندما وصل إلى القصر، وجد البوابة مفتوحة، الحراس غائبين، والأضواء مطفأة. دخل بحذر، الكتاب في يده كأنه درع. داخل القصر، كان الهدوء مخيفًا، لكن الرمال كانت تتحرك تحت قدميه، تشكل مسارات، كأنها تقوده إلى شيء.
في قاعة الاستقبال الضخمة، حيث كان الشيخ عبد الرحمن يجلس قبل أيام، لم يجد مقرن سوى الفراغ. الثريات كانت محطمة، الجدران متصدعة، والأرض مغطاة بطبقة من الرمال. لكن الرمال لم تكن عادية. بدأت تتشكل أمامه، تشكل صورة، صورة صحراء شاسعة تمتد إلى ما لا نهاية. في وسط الصحراء، رأى شخصيات، شخصيات لم يرها من قبل، لكنها بدت مألوفة. كان هناك رجال يرتدون بدلات فاخرة، يرقصون على إيقاع أوامر تأتي من بعيد، من مكاتب في واشنطن ولندن. كان هناك آخرون، يرتدون أثوابًا بيضاء، يحملون سيوفًا ملطخة بالدم. الرمال كانت تنزف الآن، دمًا أحمر يتحول إلى نفط، نفط أسود لزج يغرق الراقصين. مقرن اقترب، حاول الصراخ، لكن صوته تحول إلى نفط، نفط ملأ فمه، خنقه. سقط على ركبتيه، لكنه لم يستسلم. أمسك الكتاب، فتحه، وقرأ بصوت عالٍ: "الشعب هو القوة، لا الملوك." فجأة، توقفت الرمال عن الحركة، وتحولت الصحراء إلى حقل، حقل أخضر ينمو فيه الزيتون والياسمين.
لكن المشهد لم يدم. سمع مقرن صوتًا، صوت سيارات تقترب. كان يعرف هذا الصوت: سيارات الأمن. كان قد توقع ذلك. منذ أن بدأ يتحدث إلى العمال في الحي، يحكي لهم عن الثورة، عن الصين، عن النفط الذي يجب أن يكون للشعب، كان يعرف أن آل سعود لن يتركوه وشأنه. خرج من القصر، لكنه لم يهرب. وقف في الشارع، الرمال تتحرك تحت قدميه، تشكل دوامة صغيرة. السيارات توقفت، ونزل منها رجال بزي أسود، عيونهم مخفية خلف نظارات سوداء. "مقرن بن سالم؟" سأل أحدهم بنبرة باردة. مقرن أومأ برأسه، لكنه لم يشعر بالخوف. كان يرى الرمال تتشكل خلفهم، تشكل وجوهًا، وجوه العمال، الشهداء، النساء اللواتي يقاومن. "تعال معنا," قال الرجل. لكن قبل أن يتحرك مقرن، بدأت الرمال تنمو، تحولت إلى جدار، جدار من الوجوه التي تنظر إلى الرجال بتحدٍ. الرجال تراجعوا، مذهولين، لكنهم أطلقوا النار. الرصاص لم يصب مقرن. تحول إلى بذور، بذور سقطت على الأرض وبدأت تنمو فورًا، تشكل حقلًا صغيرًا وسط الشارع.
مقرن ركض، ليس خوفًا، بل لأنه عرف أن مهمته لم تنته. توجه إلى حي العمال، حيث كان الناس ينتظرونه. كانوا قد سمعوا عن القصر، عن الرمال، عن الرجل الذي يتحدث عن الثورة. في ساحة صغيرة، تجمع العمال، الشباب، النساء. كانوا يحملون لافتات، لافتات مكتوبة بخط يدوي: "النفط للشعب." مقرن وقف أمامهم، الكتاب في يده، وبدأ يتكلم. "النفط ليس ملك الملوك," قال. "إنه ملكنا، ملك الشعب. الصين قاومت الاستعمار بالثقة بنفسها، ونحن قادرون على ذلك." الناس استمعوا، عيونهم تلمع بالأمل. الرمال كانت تتحرك تحت أقدامهم، تشكل كلمات: "لا إله إلا الشعب." لكن فجأة، سمعوا صوت سيارات الأمن تقترب مجددًا. لم يهربوا. وقفوا معًا، يدًا بيد، كأن الرمال نفسها تجمعهم.
في تلك الليلة، حلم مقرن بحقل أخضر، حيث العمال يزرعون الأرض، والشعب يبني المدارس والمستشفيات. استيقظ في المستشفى، رأسه ملفوف بضمادة. طبيب شاب، يرتدي قناعًا طبيًا، قال له: "لقد شربت النفط، يا مقرن." لكن مقرن ابتسم. كان يعرف أن النفط لم يقتله. كان يعرف أن الرمال، صوت الشعب، لا تزال تتكلم. وهو، رغم الألم، كان لا يزال قادرًا على الثورة.
الفصل العاشر في ليلة هادئة، حيث كانت السماء فوق العالم العربي مغطاة بغيوم رقيقة كأنها ستار يخفي أحلام الأمة، وجد مقرن نفسه واقفًا على قمة جبل غريب، جبل لم يره من قبل، لكنه كان يشعر وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد. الرياح كانت تهب حوله، تحمل رائحة النفط الممزوجة بالزيتون، وصوت الرمال كان يتردد في أذنيه، ليس كهمسة هذه المرة، بل كنشيد قوي، نشيد الشعب الذي يرفض الصمت. مقرن، الرجل الخمسيني ذو اللحية المغبرة والعينين اللتين تحملان ثقل أحلام شبابه الثوري، كان يحمل كتاب الاشتراكية القديم تحت إبطه، كأنه درع يحميه من العالم. لم يكن وحيدًا على الجبل. كان هناك ثلاثة آخرين، ثلاثة لم يلتقِ بهم من قبل، لكنه شعر بأن روحه تعرفهم. فيصل، الصحفي الشاب من الدوحة، كان يقف بقلمه في يده، عيناه تلمعان بقلق الأمل. نايف، المقاتل السابق من إدلب، كان يحمل بذور زيتون، وجهه يحمل ندوب الحرب لكن عينيه تلمعان بالحياة. وفرحان، الفنان من غزة، كان يحمل فرشاة، لوحته الناقصة تحت ذراعه، دمها يتحول إلى زهور. الجبل كان يطل على العالم العربي بأكمله، من المغرب إلى الخليج، من البحر إلى الصحراء، وكل واحد منهم كان يرى أرضه، دمه، حلمه.
الرمال كانت تتحرك تحت أقدامهم، تشكل خريطة، لكنها لم تكن خريطة الحدود التي رسمها الاستعمار. كانت خريطة الشعب، خريطة بلا حدود، حيث الأرض تنبض بالحياة، والنفط يتحول إلى ماء يسقي الحقول. مقرن نظر إلى الآخرين، وقال: "من أنتم؟" لكن قبل أن يجيبوا، سمع صوتًا من الرمال، صوتًا عميقًا كأنه يخرج من قلب الأرض: "أنتم الشعب." فيصل خطا خطوة إلى الأمام، قلمه في يده كأنه سيف. "أنا كتبت الحقيقة," قال، صوته مرتجف لكن قوي. "كتبت عن الخيانة، عن آل ثاني، عن الدولارات التي تبيع دم إخوتنا. لكن الحقيقة أثقل من النفط." نايف تقدم، بذوره في يده، وقال: "أنا تركت السلاح. زرعت الأرض، لأن الأرض هي سوريا الحقيقية، لا الحرب التي صُنعت لنا." فرحان رفع فرشاته، وقال: "أنا رسمت. رسمت الشعب، رسمت الأرض، رسمت الثورة. لوحاتي تنزف، لكن دمها يصنع الحياة." مقرن نظر إليهم، شعر بدفء يسري في صدره. "وأنا," قال، "رفعت صوت الشعب. النفط لنا، لا للملوك."
فجأة، بدأت الرمال تتحرك بسرعة، تشكل دوامة حولهم. من الدوامة، خرجت أشباح، لكنها لم تكن أشباح الموتى فقط. كانت أشباح الأحياء، أشباح العمال في الرياض، الصحفيين في الدوحة، المزارعين في إدلب، المقاومين في غزة. كانوا يحملون مناجل ومطارق، أقلامًا وفرش، بذورًا وأحلامًا. "أنتم الصوت," قالت الأشباح في صوت واحد. "أنتم القوة." الرمال تحولت إلى شجرة زيتون ضخمة، جذورها تمتد عبر الخريطة، من غزة إلى دمشق، من الرياض إلى بغداد. كل جذر كان يحمل اسمًا، اسم شهيد، اسم عامل، اسم امرأة تقاوم. مقرن، فيصل، نايف، وفرحان اقتربوا من الشجرة، لمسوها. الدم، الذي كان ينزف من الجذور، تحول إلى مطر، مطر غريب حمل بذورًا، كتبًا، أدوات زراعية. السماء، التي كانت مغطاة بالغيوم، انفتحت، وأضاءت النجوم العالم العربي بأكمله.
لكن الجبل بدأ يهتز. من بعيد، سمعوا صوتًا، صوت طائرات مقاتلة، سيارات أمن، مدافع. كان صوت الحرب، صوت الاحتلال، صوت الخيانة. لكنهم لم يخافوا. مقرن رفع كتابه، وقال: "الشعب هو القوة." فيصل رفع قلمه، وكتب في الهواء: "الحقيقة سلاحنا." نايف نثر بذوره، التي تحولت إلى حقول خضراء. فرحان رسم على الأرض، لوحة ضخمة تصور الشعب وهو يقف كجدار. الرمال كانت معهم، تتحرك، تشكل كلمات: "لا للغرب، نعم للشعب." الصوت القادم من بعيد اقترب، لكنه لم يوقفهم. بدأوا يزرعون الشجرة، يغرسون بذورها في الجبل. كل بذرة كانت تنمو فورًا، تشكل غابة، غابة تمتد عبر الأرض العربية، تحميها، تعيدها إلى الحياة.
فجأة، استيقظوا. مقرن كان في غرفته في الرياض، الكتاب على الأرض، والرمال تتسرب من تحت النافذة. فيصل كان في شقته في الدوحة، قلمه في يده، ورسالة من "صوت الشعب" على هاتفه: "الوثيقة انتشرت، الشعب يقرأ." نايف كان في حقل إدلب، المنجل بجانبه، وشجرة زيتون صغيرة تنمو أمامه. فرحان كان في ورشته في غزة، فرشاته في يده، ولوحة جديدة تنزف زهورًا. لكنهم جميعًا سمعوا الصوت نفسه، صوت الرمال، صوت الشعب: "نحن القوة، لا الغرب." كانوا يعرفون أن الحلم لم يكن حلمًا، بل رؤية. كانوا يعرفون أن الطريق طويل، لكنهم عرفوا أيضًا أن الشعب، رغم الحرب والحصار والخيانة، لا يزال قادرًا على الثورة.
……………
رواية "رقصة الدم على رمال النفط" هي عمل أدبي يمزج بين الواقعية السحرية ، العمق النفسي . ورؤية شيوعية تدور أحداث الرواية في العالم العربي، حيث تتقاطع قصص أربع شخصيات – مقرن، فيصل، نايف، وفرحان – في صراعهم ضد الظلم، الخيانة، والاستعمار، معتمدين على قوة الشعب كبديل للهيمنة الغربية والوهابية. الرمال، رمز متكرر في الرواية، تتكلم، تنزف، وتشكل رؤى، كأنها صوت الأمة الذي يرفض الصمت. عبر عشرة فصول، تتكشف رحلة كل شخصية، من اليأس إلى الأمل، من الصمت إلى الثورة، في سياق يعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية في المنطقة.
في الفصل الأول، نلتقي بمقرن، عامل نفط سابق في الرياض، يعيش في حي العمال المهمش، محاصرًا بخطب الدعاة عن "الصبر الجميل". يعاني من خيبة أحلامه الثورية في السبعينيات، عندما كان يرفع شعار "النفط للشعب". في ليلة مشحونة، يرى أشباح العمال الذين ماتوا في الحقول، تخرج من شاشة التلفاز، تصرخ: "أنت من بعتنا!" الرمال في غرفته تتحرك، تشكل وجوهًا وكلمات: "الشعب هو القوة، لا الملوك." يجد كتابًا قديمًا عن الاشتراكية تحت سريره، كأن الأرض وضعته هناك، فيستيقظ أمله. يخرج إلى الشارع، يتحدث إلى العمال، يحكي عن الصين التي قاومت الاستعمار بالثقة بنفسها، ويبدأ رحلة إعادة إحياء حلمه الثوري.
في الفصل الثاني، ننتقل إلى فيصل، الصحفي الشاب في الدوحة، الذي يعمل في زاوية منسية من مبنى "الجزيرة". يكتشف وثيقة سرية تكشف تواطؤ آل ثاني مع الاستخبارات الأمريكية لتمويل جماعات متطرفة في سوريا، خدمةً لمصالح إسرائيل وواشنطن. يحاول عرض الوثيقة على رئيس التحرير، لكنه يُرفض بسخرية. في مقهى شعبي، يرى شاشة التلفاز تتحول إلى نهر نفط يصبح دمًا، وأطفال سوريا يصرخون: "لماذا بعتنا؟" يقرر إرسال الوثيقة إلى شبكة "صوت الشعب" التقدمية، على الرغم من المخاطر. الرمال تتكلم إليه، تشكل كلمات: "الحقيقة سلاحنا." عندما تنشر الوثيقة، يبدأ الناس في المقهى بالتوقف عن مشاهدة "الجزيرة"، ويشتعل الأمل في عيونهم.
في الفصل الثالث، نتابع نايف، المقاتل السابق في إدلب، الذي تحول إلى تاجر سلاح باسم "الجهاد". يكتشف أن الأسلحة التي يبيعها تُستخدم ضد شعبه، فيشعر بالذنب. في زقاق مظلم، يرى أشباح أصدقائه القدامى يلعبون كرة قدم، يحملون مفتاحًا مكتوبًا عليه: "الثقة بالذات." عندما يحاول إطلاق النار على شبح طفل، تتحول بندقيته إلى منجل. يرمي السلاح، وينضم إلى مجموعة شباب يزرعون الأرض المدمرة. الرمال تهمس: "الجهاد الحقيقي هو تحرير الأرض." يبدأ بزراعة بذور الزيتون، وفي ليلة، يرى أشباح أصدقائه يزرعون معه، والمطر يتحول إلى زيتون، في إشارة إلى أمل جديد ينمو رغم الحرب.
في الفصل الرابع، ننتقل إلى فرحان، الفنان الفلسطيني في غزة، الذي يرسم لوحات تنزف دمًا يتحول إلى زهور زيتون. لوحاته تصور عمالًا وفلاحين يقاومون، تحمل رؤية شيوعية لتحرير الأرض. ينظم معرضًا سريًا في مخيم الشاطئ، يجذب الأمهات والأطفال والشيوخ. اللوحات تنزف، لكن الدم يصبح زهورًا، تشعل الأمل في قلوب الناس. غارة إسرائيلية تدمر المعرض، لكن لوحة حقل الزيتون تطفو فوق الأنقاض، تتحول إلى طيور تحمل شعار: "الأرض لنا." فرحان يسمع صوتًا: "الفن هو سلاح الشعوب." يعود إلى ورشته المدمرة، يرسم شجرة زيتون جذورها تمتد عبر العالم العربي، مؤمنًا بقوة الفن والشعب.
في الفصل الخامس، يواجه مقرن الشيخ عبد الرحمن في قصره الذهبي بالرياض. يسأله: "لماذا تكذب على الشعب؟" الشيخ يسخر، لكن الجدران تهتز، والشاشات تنزف دمًا، تظهر صور الدمار في اليمن وسوريا. الرمال تبتلع الشيخ، تاركة كومة دولارات ملطخة بالدم. مقرن يرى وجوه العمال والشهداء في الرمال، يسمع: "لا إله إلا الشعب." يخرج إلى حي العمال، يتحدث عن الثورة، عن الصين، عن النفط الذي يجب أن يكون للشعب. الناس يستمعون، عيونهم تلمع بالأمل، والرمال تكتب: "الشعب هو القوة."
في الفصل السادس، يواصل فيصل رحلته في الدوحة. بعد نشر الوثيقة عبر "صوت الشعب"، يصبح هدفًا للأمن. في مقهى شعبي، يرى شاشة التلفاز تتحول إلى مصنع يحول النفط إلى كتب وأدوات زراعية. الرمال تتحرك، تشكل كلمات: "الشعب هو القوة." عندما تأتي سيارات الأمن، تحولت الرمال إلى جدار من الوجوه يحميه. يهرب إلى شقته، يكتب: "لا ثقة بالغرب." في حلمه، يرى عمالًا يبنون مستقبلًا جديدًا. يستيقظ على رسالة من "صوت الشعب": "الشعب يقرأ." يعرف أن الحقيقة انتشرت، وأن الشعب بدأ يستيقظ.
في الفصل السابع، نايف في إدلب يواصل زراعة الأرض مع مجموعة الشباب. يتلقى تهديدًا من مموليه القدامى، لكنه يرفض العودة إلى تجارة السلاح. يرى أشباح أصدقائه يزرعون معه، والمطر يتحول إلى بذور زيتون. الرمال تهمس: "الأرض لمن يزرعها." عندما تسقط قذيفة، تتحول إلى مطر يحمل بذورًا، في إشارة إلى أن الأرض ترفض الموت. نايف يضحك، يشعر أن الحياة ممكنة حتى في قلب الحرب، وأن الشعب، رغم الدمار، قادر على إعادة البناء.
في الفصل الثامن، يعود فرحان إلى ورشته المدمرة في غزة، يرسم على الجدران والأنقاض، يحول الدمار إلى فن. جنود إسرائيليون يهاجمون، لكن لوحته تتحول إلى طيور زيتون تحمل شعار: "الشعب هو القوة." الرمال تبتلع الجنود، وتبقى لوحاته حية. الناس في المخيم يتجمعون، يرسمون معه، يزرعون الأمل. فرحان يجد كتابًا عن الصين، يقرأ: "الشعب هو القوة." يدرك أن فنه ليس مجرد لوحات، بل ثورة، وأن الشعب، رغم الحصار، قادر على المقاومة.
في الفصل التاسع، يقود مقرن مظاهرة في الرياض، رافعًا شعار "النفط للشعب." الرمال تتحول إلى بحر من العمال، يحملون مناجل ومطارق. سيارات الأمن تهاجم، لكن الرصاص يتحول إلى بذور تنمو في الشوارع. في حلمه، يرى مصنعًا يحول النفط إلى مدارس ومستشفيات. يستيقظ في المستشفى، مصابًا، لكنه يبتسم، يعرف أن الرمال لا تزال تتكلم، وأن الشعب، رغم القمع، لا يزال قادرًا على الثورة.
في الفصل العاشر، يلتقي الشخصيات الأربعة في حلم على جبل يطل على العالم العربي. مقرن يحمل كتابه، فيصل قلمه، نايف بذوره، وفرحان فرشاته. يزرعون شجرة زيتون جذورها تمتد عبر الأرض العربية. الرمال تشكل خريطة بلا حدود، والدم يتحول إلى مطر يحمل بذورًا وكتبًا. يواجهون صوت الحرب، لكنهم لا يخافون. يستيقظون في أماكنهم، لكنهم يسمعون صوت الشعب: "نحن القوة، لا الغرب." يعرفون أن الحلم هو رؤية، وأن الشعب، رغم كل شيء، قادر على بناء مستقبل جديد.
الرواية تنتهي برؤية متفائلة، حيث الشخصيات، رغم المخاطر، يواصلون نضالهم. الرمال، كصوت الأمة، تربطهم ببعضهم، تدفعهم للثورة ضد الظلم والاستعمار. الرؤية الشيوعية الصينية تتجلى في إيمانهم بقوة الشعب، رفضهم للوهابية والغرب غير المتحرر بعد من منطقه المتوحش الاستعماري بانتظار استلام أحزاب شيوعية للحكم في الغرب، وإصرارهم على بناء مستقبل يعتمد على الأرض والإنسان.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية: سنغافورة السراب
-
رواية: أنقاض الإمبراطورية: غزة تُحرر أمريكا
-
نهاية عصر الصهيونية: كيف تحولت أمريكا من عبدة اللوبي إلى ثوا
...
-
رواية: أسرى الشرق المفقود
-
سيرك الخيانة برعاية الروتشيلد
-
رواية : دون كيشوت الفرات والنيل
-
رواية :سلاسل العقل، أغلال القلب
-
مسرحية العدو الأمريكي والصهيوني الكوميدية
-
رواية لحن من الظلال..مع مقدمة نقدية تاريخية
-
رواية: الخاتم والنار
-
كيف تتحول الى إمبراطورية إعلامية تسخر من مردوخ
-
رواية : عدسات مغموسة بالدم والحقيقة (رواية عن الهولوكوست الأ
...
-
رواية : صرخة من النهر إلى البحر ( رواية عن الهولوكوست الأمري
...
-
رواية الجوع ( عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين
...
-
رواية : بكاء تحت الركام (عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد
...
-
ملخص خلفيات حرب الاستخبارات الأميركية السرية لإسقاط الدولة ا
...
-
رواية : آيات الفوضى الخلاقة
-
رواية : خرائط الجميز العجيبة
-
رواية: انفاق الزيتون الدامي
-
السلاح أو الموت: مسرحية المقاومة في زمن نتنياهو النازي الجدي
...
المزيد.....
-
خدعوك فقالوا: الهوس بالعمل طريقك الوحيد للنجاح
-
بـ24 دقيقة من التصفيق الحار.. -صوت هند رجب- لمخرجة تونسية يه
...
-
تصفيق حار استمر لـ 14 دقيقة بعد انتهاء عرض فيلم -صوت هند رجب
...
-
-ينعاد عليكم- فيلم عن الكذب في مجتمع تبدو فيه الحقيقة وجهة ن
...
-
رشحته تونس للأوسكار.. فيلم -صوت هند رجب- يخطف القلوب في مهرج
...
-
تصفيق 22 دقيقة لفيلم يجسد مأساة غزة.. -صوت هند رجب- يهزّ فين
...
-
-اليوم صرتُ أبي- للأردني محمد العزام.. حين تتحوّل الأبوة إلى
...
-
للصلاة.. الفنان المعتزل أدهم نابلسي في معرض دمشق الدولي
-
تمثال الأسد المجنح في البندقية.. -صُنع في الصين-؟
-
توسلات طفلة حوصرت تحت القصف الإسرائيلي بغزة في فيلم -صوت هند
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|