احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 23:06
المحور:
الادب والفن
لفصل الأول: ظلال الجوع
الشمس تحترق فوق رؤوس الناس، كأنها عينٌ غاضبة تراقب قطاع غزة المحاصر. الطابور يمتد كالثعبان الجريح، مئات الأجساد النحيلة تتكدس أمام نقطة توزيع المساعدات التي تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية". الرمل الجاف يتطاير مع كل خطوة، يعلق في الحناجر، يخنق الأنفاس. جمال يقف في وسط الزحام، يده تمسك بكيس قماش بالٍ، عيناه تبحثان عن أملٍ في الأفق البعيد. لكنه لا يرى سوى الخيام الممزقة، وأعمدة الدخان التي ترتفع من أنقاض المباني البعيدة. صوتٌ من الخلف يصرخ: "تحرك، يا أخي، لا تُبطئ الطابور!" جمال يلتفت، يرى وجهًا هزيلًا، عينان غائرتان كأنهما حفرتان في جمجمة. يبتسم بمرارة، يتقدم خطوة. الطابور لا ينتهي.
في ذهن جمال، ذكريات أبيه تطفو كالأشباح. كان أبوه يروي له عن النكبة، عن القرى التي سُرقت، عن الزيتون الذي اقتُلع. "كنا نأكل من الأرض، يا جمال، والأرض كانت تُطعمنا. الآن الأرض جائعة مثلنا." صوت أبيه يتردد في أذنيه، يختلط بصوت الأطفال الذين يبكون في الطابور. جمال، الذي كان يومًا معلمًا يُعلم التاريخ في مدرسة صغيرة في رفح، لم يعد يملك سوى هذه الذكريات. المدرسة أصبحت ركامًا، والكتب التي كان يقرؤها لتلاميذه تحولت إلى رماد. الآن، يقف هنا، ينتظر كيس دقيق قد يكون فاسدًا، أو علبة سردين تنقصها نصف محتوياتها.
في مكان آخر، داخل خيمة طبية متهالكة، تقف الآء، زوجة جمال، تحاول إنقاذ طفلٍ لم يتجاوز الخامسة. جسده الهزيل يرتجف تحت يديها، عيناه مغمضتان، وأمه تبكي بصمت. "ممنوع التدخين هنا!" تصرخ الآء على أحد الرجال الذي يحاول إشعال سيجارة بجوار خزان الأكسجين الوحيد في الخيمة. الرجل ينظر إليها بنظرة خاوية، يطفئ السيجارة بأصابعه المرتجفة. الآء تعود إلى الطفل، تضع أنبوبًا في فمه، تحقن جسده بمحلول ملحي. لكنها تعلم أن هذا لن يكفي. الأدوية التي وصلت من "مؤسسة غزة الإنسانية" لا تحتوي إلا على جرعات ضئيلة من المواد الفعالة. "ممنوع علينا إنقاذهم،" تمتمت لنفسها، وهي تتذكر كيف كانت مستشفى الشفاء، حيث عملت لسنوات، مليئة بالأمل قبل أن تتحول إلى كومة من الحجارة.
في الخيمة المجاورة، يجلس يحيى، ابن جمال والآء، على الأرض. يده تمسك بحجر صغير ينقش به كلمات على الرمل: "حرية، مقاومة، غزة." يحيى في الثامنة عشرة، جسده طويل ونحيف، عيناه تحملان غضبًا لا يهدأ. أمام نقطة التوزيع، رأى أحد العاملين في المؤسسة يرمي كيس طحين على الأرض، ويضحك مع زميله بصوت عالٍ. "هؤلاء لا يستحقون أكثر من هذا!" قال العامل بلهجة ساخرة. يحيى شعر بدمائه تغلي. اقترب منه، صرخ: "لماذا تفعل هذا؟ ألا ترى أطفالنا يموتون؟" العامل نظر إليه بنظرة متعالية، ثم دفع يحيى بعنف. "ارجع إلى مكانك، يا صبي!" لكن يحيى لم يتراجع. عيناه التقطتا وميضًا في عيني العامل، وميضًا يخفي سرًا. في تلك اللحظة، قرر يحيى أن يكتشف الحقيقة وراء هذه المؤسسة التي تُسمي نفسها "إنسانية".
في زاوية الخيمة، تجلس سلمى، ابنة جمال والآء، ذات الاثنتي عشرة سنة. أمامها ورقة ممزقة وقلم رصاص قصير. ترسم شجرة زيتون، لكن خطوطها متعرجة، كأن الشجرة مريضة. "كانت جدتي تقول إن الزيتون يعيش ألف عام،" تمتمت سلمى لنفسها. لكنها لم ترَ زيتونة حقيقية منذ سنوات. الجوع يعض معدتها، لكنها تستمر في الرسم، كأن الشجرة ستخرج من الورق وتُطعمها. صوت أمها يصلها من الخيمة الطبية، يحمل نبرة اليأس. سلمى تضع القلم جانبًا، تنظر إلى السماء. طائرة مسيرة تحلق فوق المخيم، صوتها كالزنبور الغاضب. "لماذا يراقبوننا؟" تساءلت سلمى. لم تجد إجابة، لكن الخوف يتسرب إلى قلبها.
اليوم يمر ببطء. جمال يعود إلى الخيمة حاملًا كيس دقيق ناقص الوزن. الآء تنهي عملها في الخيمة الطبية، لكن الطفل الذي حاولت إنقاذه يموت بين يديها. يحيى يجلس في زاوية، يخطط في صمت لتسلل إلى مستودع المؤسسة. وسلمى ترسم شجرة أخرى، لكن هذه المرة تضيف إليها طائرًا صغيرًا، كأنها تمنحه حرية لم تعد موجودة. فوق المخيم، الطائرة المسيرة تستمر في الطنين، عينٌ لا تنام، تراقب الجوع والألم والأمل الذي يتلاشى ببطء.
الليل يهبط على غزة، باردًا وقاسيًا. جمال يجلس بجانب الآء، يحتضن سلمى النائمة. يحيى ينظر إلى السماء، يفكر في الغد. في مكان ما، بعيدًا عن المخيم، يجلس الدكتور ماكس في مكتبه المكيف في تل أبيب، يوقّع على أمر بتقليص المساعدات. "هذه سياسة، وليست إنسانية،" يقول لنفسه، لكنه لا يصدق كلماته. في غزة، الجوع يزداد، والأنقاض تتراكم، والأمل يتشبث بالحياة كالنبات الذي ينمو بين الشقوق. لكن الطائرة المسيرة لا تزال تحلق، وصوتها يذكّر الجميع بأن الغد قد يكون أقسى من اليوم.
الفصل الثاني: أنياب المؤسسة
في تل أبيب، حيث تتلألأ الأضواء كأنها نجوم مزيفة في سماء لا تعرف الرحمة، يجلس الدكتور ماكس في مكتبه الزجاجي. الجدران شفافة، لكنها تخفي أسرارًا أثقل من الرصاص. أمامه شاشة كمبيوتر تعرض تقارير عن "مؤسسة غزة الإنسانية"، الأرقام ترقص أمام عينيه: كميات الطعام الموزعة، عدد الشاحنات التي عبرت الحدود، ونسبة الخسائر البشرية المقبولة. "مقبولة"، كلمة يرددها في ذهنه كلما شعر بثقل الضمير. يرتشف قهوته السوداء، ينظر إلى ساعته الفاخرة، ويتذكر اجتماعه الأخير مع ممثلي الشركات الأمريكية القريبة من ترامب. "إنها سياسة، يا دكتور،" قالوا له بنبرة باردة. "عليك أن تفهم، لا مكان للعواطف هنا." ماكس يبتسم بمرارة، يضع القلم على الورق، يكتب تعليمات جديدة: "تقليص المساعدات بنسبة 20%، مع التركيز على توزيع الدقيق الفاسد في المناطق الشمالية." يوقّع باسمه، لكنه يشعر كأن القلم يحفر في صدره.
في غزة، تحت سماء رمادية تخنقها أبخرة القنابل القديمة، يقف جمال أمام خيمته، يستمع إلى أبو زيد، الجار العجوز الذي يحمل ذاكرة فلسطين ككتاب مقدس. أبو زيد، بصوته المتهدج، يروي قصة الأونروا، المنظمة التي كانت يومًا أمل اللاجئين. "لقد خنقوها، يا جمال،" يقول، وهو يشير إلى السماء كأنها المسؤولة. "فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، كلهم تواطؤوا. اتهموها بالإرهاب، قطعوا تمويلها، ثم أتوا بهذه المؤسسة الملعونة التي تُسمي نفسها إنسانية." جمال يصغي، عيناه تتجولان في وجوه الناس حوله: أطفال حفاة، نساء يحملن جثث أحلامهن في أعينهن. يتذكر كيف كان يعلّم تلاميذه عن تاريخ فلسطين، عن المقاومة، عن الأمل. لكنه الآن لا يملك سوى هذا الكيس القماشي الفارغ، وعدد من الذكريات التي لا تُطعم جائعًا.
في الخيمة الطبية، تعمل الآء بيدين مرتجفتين. أمامها امرأة عجوز، جلدها متشقق كأرض صحراء، تتوسل للحصول على دواء لابنها المصاب بالسكري. الآء تفتح صندوق الأدوية، تجد أمبولات الإنسولين شبه فارغة. "هذه ليست أدوية،" تمتمت لنفسها، "هذه إهانة." تتذكر أيام دراستها الطبية في القاهرة، عندما كانت تحلم بإنقاذ العالم. الآن، في هذه الخيمة المتهالكة، تشعر أنها تقاوم الموت بأظافرها. صوت من الخارج يقاطع أفكارها: "دكتورة الآء، هناك صحفي أجنبي يريد التحدث إليك!" تنظر الآء إلى المرأة العجوز، ثم إلى الصندوق الفارغ، وتتخذ قرارًا. تخرج لتلتقي الصحفي، رجل بريطاني يحمل كاميرا ودفترًا. "ما الذي يحدث هنا؟" يسألها. الآء تنظر إليه، عيناها تحملان غضبًا مكبوتًا. "إنهم يقتلوننا ببطء،" تقول. "الأدوية فاسدة، الطعام لا يكفي، والمؤسسة التي تدّعي إنقاذنا هي من تدفننا." الصحفي يكتب بسرعة، لكن الآء تعلم أن كلماتها قد لا تغير شيئًا.
في مكان آخر، يتسلل يحيى تحت جنح الظلام إلى مستودع تابع للمؤسسة. قلبه يدق بعنف، يده تمسك بمصباح صغير يضيء الطريق. المستودع يقع على مشارف المخيم، محاط بأسلاك شائكة وحراس مسلحين. يحيى يتذكر كلمات والده: "المعرفة هي السلاح، يا يحيى، لا البارود." لكنه الآن لا يملك خيارًا. يتسلق الجدار، يتجنب أضواء الكشافات، ويدخل المستودع. داخله، أكوام من الصناديق تحمل شعار المؤسسة. يفتح إحداها، يجد أكياس دقيق ممزوجة بمواد غريبة، علب سردين منتهية الصلاحية، وأدوية تحمل تواريخ قديمة. في زاوية المستودع، يجد مكتبًا صغيرًا. على الطاولة، أوراق ووثائق. يحيى يقرأ بسرعة: تقارير عن تقليص المساعدات، تعليمات بإتلاف الطعام الجيد، وخطة لإضعاف السكان بشكل منهجي. "إنهم لا يساعدوننا،" يهمس لنفسه، "إنهم يقتلوننا." يأخذ بعض الأوراق، يحشرها في جيبه، لكنه يسمع صوت خطوات تقترب. يختبئ خلف صندوق، قلبه يكاد يتوقف. الحارس يمر، لكنه لا يراه. يحيى يفر من المستودع، لكنه يعلم أن ما اكتشفه سيغير كل شيء.
في الخيمة، تجلس سلمى على الأرض، تجمع أغصانًا جافة لإشعال نار صغيرة. النار هي الشيء الوحيد الذي يمنحها الدفء في هذا الليل البارد. ترسم على الرمل صورة لأمها وهي تعالج مريضًا، لكن يدها ترتجف من الجوع. "لو كانت الأرض تتكلم،" تقول لنفسها، "لكانت بكت معنا." صوت والدها يصلها من بعيد، يتحدث مع أبو زيد. سلمى تستمع، تحاول فهم الكلمات الكبيرة: "تواطؤ، إبادة، مجاعة." لكنها لا تحتاج إلى فهمها. الجوع يفسر كل شيء. عيناها تلتقطان وميضًا في السماء، طائرة مسيرة أخرى. هذه المرة، تبدو أقرب، كأنها تحدق بها مباشرة. سلمى تغطي رسوماتها بالرمل، تخاف أن تراها الطائرة.
في تل أبيب، يتلقى ماكس مكالمة هاتفية. صوت من الطرف الآخر، بنبرة حادة: "هناك تسريب محتمل، دكتور. شخص ما تسلل إلى المستودع." ماكس يشعر بقشعريرة. يفكر في الوثائق، في الأرقام، في الجرائم التي وقّع عليها. "سأتولى الأمر،" يقول، لكنه يعلم أن الأمر قد يفلت من يديه. ينظر إلى صورة عائلته على المكتب، زوجته وابنته الصغيرة. يتساءل: "هل سأتمكن يومًا من مواجهتهما؟" لكنه يطرد الفكرة، يعود إلى شاشته، يكتب تعليمات جديدة: "زيادة الحراسة، تدمير أي دليل."
في غزة، يعود يحيى إلى الخيمة، يده تمسك بالوثائق المسروقة. يجلس بجانب والده، يهمس له: "أبي، لقد وجدت الحقيقة. هذه المؤسسة ليست لإنقاذنا، إنها سلاحهم." جمال ينظر إلى ابنه، يرى في عينيه مزيجًا من الغضب والخوف. "ماذا ستفعل بهذه الوثائق؟" يسأل. يحيى يصمت، قلبه مشتعل، لكنه لا يملك إجابة. في الخيمة الطبية، تتلقى الآء رسالة تهديد على هاتفها القديم: "توقفي عن الحديث مع الصحفيين، وإلا ستدفعين الثمن." ترمي الهاتف جانبًا، تنظر إلى سلمى النائمة. "لن أصمت،" تقول لنفسها، لكن صوتها يرتجف.
الليل يتعمق، والجوع يزداد. أبو زيد يواصل روايته، يتحدث عن أيام كانت فيها فلسطين خضراء، عن البحر الذي كان يُطعم الصيادين. "لكنهم سرقوا البحر أيضًا،" يقول، وصوته ينكسر. جمال يضع يده على كتف العجوز، يحاول مواساته، لكنه يعلم أن الكلمات لا تُطعم. في الخيمة، سلمى تحلم بشجرة زيتون تتحدث، تقول لها: "اصبري، يا سلمى، الأرض لا تموت." لكن فوق المخيم، الطائرة المسيرة لا تزال تحلق، عين الشيطان التي لا تنام، تراقب كل حركة، كل همسة، كل حلم يحاول النجاة.
الفجر يقترب، لكنه لا يحمل معه أملًا. يحيى يخفي الوثائق تحت فراشه، يتعهد أن يكشف الحقيقة، مهما كلفه الأمر. الآء تعود إلى الخيمة، عيناها محمرتان من البكاء، لكنها تقرر مواصلة عملها. جمال ينظر إلى عائلته، يفكر في أبيه، في النكبة، في الجوع الذي يأكل أحلامهم. وفي تل أبيب، يغلق ماكس مكتبه، يخرج إلى الشارع، يشعر بثقل العالم على كتفيه. المدينة تنام، لكن غزة لا تنام. الجوع لا ينام. والطائرة المسيرة تستمر في الطنين، كأنها تعلن أن المأساة لم تنته بعد.
الفصل الثالث: صوت الأمم
الليل في غزة ليس ليلًا، بل هو جرح مفتوح ينزف ظلامًا. الخيام تتمايل تحت وطأة الريح، كأنها أرواح تتوسل النجاة. داخل خيمة جمال، راديو قديم يبث صوتًا متقطعًا، كأنه يحتضر. الصوت يحمل خبرًا هزّ العالم، أو هكذا يُفترض: الأمم المتحدة تعترف رسميًا بوجود مجاعة حقيقية في قطاع غزة. جمال يجلس القرفصاء، أذناه تلتقطان الكلمات بعناية، كأنه يحاول استيعاب لغة غريبة. "مجاعة كارثية... أكثر من نصف مليون إنسان... ظروف لا إنسانية..." الكلمات تتردد في ذهنه، لكنها لا تغير شيئًا. الجوع لا يحتاج إلى اعتراف، فهو يعيش في بطن سلمى، في عيون الآء المنهكة، في قلب يحيى الثائر. جمال ينظر إلى الراديو، يتمنى لو يستطيع أن يصرخ في وجه العالم: "أنتم متأخرون! أنتم متأخرون جدًا!"
في تل أبيب، يظهر بنيامين نتنياهو على شاشات التلفاز، وجهه متصلب، عيناه تلمعان بغضب مصطنع. "كذبة وقحة!" يصرخ في مؤتمر صحفي، وهو يشير إلى تقرير الأمم المتحدة. "لا مجاعة في غزة! هذه دعاية حماس!" الكاميرات تلتقط كلماته، تنقلها إلى العالم، لكن في غزة، لا أحد يشاهد. الكهرباء مقطوعة، والناس مشغولون بالبحث عن لقمة. جمال يطفئ الراديو، يشعر بالإهانة. كيف يمكن لكلمة "كذبة" أن تنفي جثث الأطفال التي رآها بعينيه؟ كيف يمكن للعالم أن يصدق رجلًا يعيش في قصور بينما غزة تتضور جوعًا؟ يضع يده على جبينه، يحاول تهدئة الغضب الذي يعصف بداخله. لكنه يعلم أن الغضب وحده لا يكفي.
في الخيمة الطبية، تقف الآء أمام طابور من المرضى، وجوههم شاحبة كالأشباح. امرأة تحمل رضيعًا يبكي بصوت ضعيف، كأنه طائر جريح. "دكتورة، أرجوكِ، ابني لم يأكل منذ ثلاثة أيام," تتوسل المرأة. الآء تنظر إلى الرضيع، تحاول إخفاء اليأس في عينيها. "سأفعل ما بوسعي," تقول، لكن صوتها خافت، كأنها تتحدث إلى نفسها. تفتح صندوق الأدوية، تجد أقراصًا منتهية الصلاحية مرة أخرى. "مؤسسة غزة الإنسانية"، الاسم الذي يطارد كوابيسها. تتذكر حديثها مع الصحفي البريطاني قبل أيام، كيف حذرتها الرسالة التهديدية. لكن الخبر الذي سمعته اليوم على الراديو يمنحها شرارة أمل. إذا اعترف العالم بالمجاعة، فربما يتحرك. ربما يتوقف هذا الجحيم. تنظم الآء مظاهرة صغيرة أمام الخيمة الطبية، تجمع النساء والأطفال، يرفعون لافتات مكتوبة بخطوط مرتجفة: "أوقفوا المجاعة!" و"غزة تموت!" لكن قبل أن تبدأ المظاهرة، تسمع صوت محركات ثقيلة. جنود إسرائيليون يظهرون، بنادقهم موجهة إلى السماء، لكن عيونهم موجهة إلى القلوب. قنبلة دخانية تنفجر، الناس يركضون، الآء تسقط على الأرض، تشعر بألم حاد في كتفها. لكنها تنهض، تصرخ: "لن نسكت!" صوتها يضيع وسط الضجيج، لكنه يتردد في قلبها.
يحيى، في زاوية المخيم، يجلس مع مجموعة من الشباب. الوثائق التي سرقها من المستودع مخفية تحت ملابسه، لكنها تحرق صدره. يخبر أصدقاءه بما اكتشف: "إنهم يخططون لإضعافنا، لقتلنا ببطء. هذه ليست مساعدات، إنها سلاح!" الشباب ينظرون إليه، بعضهم متحمس، وبعضهم خائف. "ماذا سنفعل؟" يسأل أحدهم، شاب في العشرين، عيناه تحملان جروح الحرب. يحيى يصمت، يفكر في كلمات والده عن المقاومة السلمية. لكنه يرى أمامه وجوه الأطفال الجائعين، يسمع صوت أمه وهي تبكي على مريض آخر يموت. "سأجد طريقة," يقول، لكنه يشعر بثقل القرار. يتسلل إلى خيمة مهجورة، يلتقي بمجموعة مقاومة سرية. قائدهم، رجل يُدعى أبو خالد، يستمع إلى يحيى وهو يروي عن الوثائق. "إذا كانت هذه الحقيقة،" يقول أبو خالد، "فسنحتاج إلى أكثر من كلمات. سنحتاج إلى نار." يحيى يشعر بقشعريرة. النار تعني العنف، والعنف قد يعرض عائلته للخطر. لكنه يرى في عيون أبو خالد لهيبًا لا ينطفئ، ويعلم أن الخيارات تضيق.
سلمى، في الخيمة، تجلس على الأرض، أمامها ورقة ممزقة تكتب عليها يومياتها. "اليوم سمعت الراديو يقول إننا جائعون. لكنني أعرف هذا منذ زمن. بطني يؤلمني، وأحيانًا أحلم بالخبز. أمي تقول إن العالم سيساعدنا، لكنني لا أصدقها. الطائرة في السماء تراقبني، كأنها تعرف أحلامي." كلماتها طفولية، لكنها تحمل ثقلًا يفوق عمرها. تضع القلم جانبًا، تنظر إلى والدها وهو يتحدث مع أبو زيد. العجوز يروي قصة عن يافا، عن البحر الذي كان يغني للصيادين. سلمى تستمع، تحاول تخيل البحر، لكنها لا ترى سوى الرمل والخيام. تنظر إلى السماء، ترى الطائرة المسيرة مرة أخرى. هذه المرة، تبدو أقرب، كأنها تتحدث إليها. "لماذا لا تتركيننا وشأننا؟" تهمس سلمى، لكن الطائرة لا تجيب.
في تل أبيب، يجلس الدكتور ماكس في مكتبه، يشاهد المؤتمر الصحفي لنتنياهو على شاشته. يشعر بالاشمئزاز، ليس من نتنياهو، بل من نفسه. يتذكر الوثائق التي وقّع عليها، التعليمات التي أرسلها إلى المستودعات. يفتح درج مكتبه، يخرج دفترًا صغيرًا، يكتب: "أنا لست بريئًا. لكنني لست الوحيد." يفكر في الاتصال بالصحفي الذي التقاه في جنيف قبل أسابيع، لكنه يتردد. الخوف يعتصر قلبه. ماذا لو كشف الحقيقة؟ ماذا لو فقد كل شيء؟ يغلق الدفتر، يضعه في الدرج، لكنه يعلم أن الحقيقة لن تبقى مدفونة إلى الأبد.
في غزة، تعود الآء إلى الخيمة، كتفها ملفوف بضمادة بدائية. جمال ينظر إليها، يرى الإرهاق في عينيها. "لماذا تعرضين نفسك للخطر؟" يسألها. الآء تبتسم بمرارة. "لأن السكوت هو الخطر الحقيقي," تجيب. يحيى يدخل الخيمة، وجهه شاحب، عيناه تحملان سرًا. يخبر والديه عن لقائه مع المقاومة، عن الوثائق، عن النار التي يفكر في إشعالها. جمال يصمت، يفكر في أبيه، في المقاومة التي علمه إياها. "كن حذرًا، يا يحيى," يقول أخيرًا. "الحقيقة سلاح، لكنها قد تقتل صاحبها." يحيى يهز رأسه، لكنه لا يعد بشيء.
الليل يزداد ظلمة، والجوع يزداد قسوة. أبو زيد يواصل روايته، يتحدث عن الأمل الذي كان يعيش في قلوب الفلسطينيين قبل النكبة. "كنا نزرع الأرض، وكانت الأرض تُطعمنا," يقول. لكن صوته ينكسر، ودمعة تنزلق على خده. سلمى تنام، تحلم بالبحر الذي لم تره أبدًا. يحيى يجلس في زاوية، ينظر إلى الوثائق، يفكر في الخطوة التالية. الآء تضمد كتفها بنفسها، تتعهد أن تواصل عملها مهما كان الثمن. وجمال ينظر إلى عائلته، يشعر بثقل التاريخ على كتفيه. فوق المخيم، الطائرة المسيرة لا تزال تحلق، صوتها كاللعنة التي لا تنتهي. لكن في مكان ما، في قلب غزة، شرارة أمل تبدأ بالاشتعال، ضعيفة لكنها حية، كالنبات الذي ينمو بين الأنقاض.
الفصل الرابع: خيانة الإنسانية
الجوع في غزة لم يعد مجرد إحساس، بل صار وحشًا يتربص بكل نفس، يعض الأحشاء، يفتت العزائم، ويحول الإنسان إلى ظلٍ يبحث عن بقايا نفسه. المخيم يغلي باليأس، الأجساد النحيلة تتزاحم حول نقطة توزيع المساعدات، لكن الأكياس التي تُوزعها "مؤسسة غزة الإنسانية" أصبحت أقل، والطعام فيها أكثر فسادًا. جمال يقف في الطابور، يده تمسك بكيس قماش ممزق، عيناه تبحثان عن شيء يملأ بطن سلمى، لكن الأمل يتلاشى مع كل خطوة. أمامه، رجل عجوز يسقط على الأرض، يده تمتد نحو كيس دقيق سقط من عربة المؤسسة. شاب آخر يقفز، ينتزع الكيس، يركض بعيدًا. جمال يهرع إلى العجوز، يساعده على النهوض، لكنه يرى في عينيه نظرة الخذلان. "كنا إخوة، يا جمال،" يهمس العجوز، "الآن أصبحنا نسرق من بعضنا." جمال يصمت، قلبه يعتصر. الجوع لم يدمر الأجساد فقط، بل بدأ يفتت الروابط التي كانت تجمع الناس. يعود إلى خيمته، الكيس فارغ، والغضب يعتمل في صدره.
في تل أبيب، يجلس الدكتور ماكس في مكتبه، النور الاصطناعي ينعكس على جدرانه الزجاجية، يمنحه إحساسًا زائفًا بالنظافة. أمامه رسالة إلكترونية من رعاته الأمريكيين، نبرتها حادة كالسكين: "قلّص المساعدات أكثر. لا حاجة للإفراط في التوزيع. الوضع تحت السيطرة." ماكس يقرأ الرسالة مرتين، يده ترتجف. يتذكر الوثائق التي رآها يحيى، يفكر في التسريب المحتمل. الخوف يتسرب إلى قلبه، لكنه يبرر لنفسه: "أنا أنفذ الأوامر فقط. إذا لم أفعل، سيجدون غيري." يوقّع على أمر جديد: "إتلاف 30% من الشحنات القادمة. إبقاء التوزيع على المناطق الجنوبية فقط." يضغط على زر الإرسال، لكنه يشعر كأن يده مغموسة بالدم. يفتح درج مكتبه، ينظر إلى دفتره الصغير، حيث كتب اعترافاته السرية. "أنا لست الوحيد," يكرر لنفسه، لكن الصوت في رأسه يرد: "لكنك متواطئ."
في المخيم، تقف الآء في خيمتها الطبية، تحاول إنقاذ شاب أصيب بشظية أثناء قمع المظاهرة. الدم يتسرب من جروحه، لكن الأدوية شحيحة، والمطهرات نفدت. "لماذا يفعلون هذا بنا؟" يهمس الشاب، عيناه مملوءتان بالألم. الآء لا تجيب، لكنها تشعر بغضب يعصف بقلبها. تتذكر قسم أبقراط الذي أقسمت به قبل سنوات، كيف وعدت بإنقاذ الأرواح. الآن، تشعر أنها تقاتل شبحًا لا يمكن هزيمته. بعد ساعات، يموت الشاب بين يديها. الآء تجلس على الأرض، تضع وجهها بين يديها، تبكي بصمت. صوت من الخارج يناديها: "دكتورة، هناك مريض آخر!" تنهض، تمسح دموعها، لكنها تشعر أن روحها تتفتت مع كل مريض تخسره.
يحيى، في زاوية المخيم، يجتمع مع أبو خالد ومجموعة المقاومة. الوثائق التي سرقها موضوعة أمامهم على الأرض، مضاءة بضوء شمعة خافت. "هذه دليل إدانتهم," يقول يحيى، صوته يحمل لهيب الغضب. "إنهم يوزعون الطعام الفاسد عمدًا، يمنعون الأدوية، يخططون لإضعافنا حتى نسقط." أبو خالد ينظر إلى الوثائق، عيناه تلمعان كالصقر. "إذن، سنرد," يقول. "لكن الكلمات لن تكفي. نحتاج إلى فعل." يحيى يشعر بقشعريرة. يتذكر كلمات والده عن المقاومة السلمية، لكنه يرى أمامه وجه أمه المنهك، يسمع صوت سلمى وهي تبكي من الجوع. "سأفعل ما يجب," يقول، لكنه يشعر بثقل القرار. في تلك اللحظة، يدخل أحد الشباب، وجهه شاحب. "يحيى، هناك خائن بيننا," يهمس. "لقد رأيت أحمد يتحدث إلى أحد حراس المؤسسة." يحيى يشعر كأن الأرض تنهار تحته. أحمد، صديقه منذ الطفولة، الذي كان يشاركه أحلامه بالحرية. "لا يمكن أن يكون صحيحًا," يقول يحيى، لكن الشك يتسرب إلى قلبه. يقرر مواجهة أحمد، لكنه يعلم أن الحقيقة قد تكون أقسى من الجوع نفسه.
سلمى، في الخيمة، تجمع أغصانًا جافة لإشعال نار صغيرة. البرد يتسرب إلى عظامها، والجوع يعض معدتها كالذئب. ترسم على الرمل صورة لأخيها يحيى، يحمل بندقية، لكنها تمسح الرسمة بسرعة. "يحيى لا يحب البنادق," تهمس لنفسها. تتذكر قصص أبو زيد عن فلسطين القديمة، عن الحقول الخضراء، عن الأطفال الذين كانوا يلعبون دون خوف. لكنها لا تستطيع تخيل ذلك. كل ما تعرفه هو الرمل، والخيام، والطائرة المسيرة التي تحلق فوق رأسها كل ليلة. تكتب في يومياتها: "اليوم، رأيت أمي تبكي. لم أرَها تبكي من قبل. أبي يقول إن العالم يسمعنا الآن، لكنني لا أصدق. العالم بعيد، والجوع قريب." تضع القلم جانبًا، تنظر إلى السماء. الطائرة المسيرة هناك، كاللعنة التي لا تنتهي.
في تل أبيب، يتلقى ماكس مكالمة أخرى. الصوت من الطرف الآخر بارد كالجليد: "هناك تسريب مؤكد. وثائق من المستودع وصلت إلى أيدي المقاومة. اعثر على المسؤول، وإلا ستدفع الثمن." ماكس يشعر بالذعر. يفكر في يحيى، الشاب الذي لا يعرفه، لكنه يعلم أن شخصًا ما قد خرق حصونه. يفتح دفتره، يكتب: "أنا لست الوحيد، لكنني الذي وقّع." يتذكر ابنته الصغيرة، كيف كانت تسأله عن عمله. "أساعد الناس," كان يقول لها، لكنه الآن يعلم أن كلماته كذبة. يغلق الدفتر، يضعه في جيبه، يقرر أن يتحدث إلى الصحفي في جنيف. لكنه يعلم أن الخطوة قد تكون نهايته.
في المخيم، يواجه يحيى أحمد في زاوية مظلمة. "هل خانتنا؟" يسأله، صوته يرتجف من الغضب. أحمد ينظر إلى الأرض، عيناه مملوءتان بالذنب. "لم أكن أريد هذا," يقول. "لقد هددوني، قالوا إنهم سيقتلون عائلتي." يحيى يشعر كأن سكينًا يطعن قلبه. يفكر في ضربه، في فضحه أمام المقاومة، لكنه يرى في عيني أحمد خوفًا يشبه خوفه. "اذهب," يقول يحيى أخيرًا. "لكن إذا خانتنا مرة أخرى، لن أرحمك." أحمد يركض بعيدًا، ويحيى يشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى.
الآء تعود إلى الخيمة، تحمل جرحًا جديدًا في قلبها. تخبر جمال عن المريض الذي خسرته، عن الأدوية الفاسدة. "لم يعد هناك معنى لعملي," تقول، وصوتها ينكسر. جمال يضع يده على يدها، يحاول مواساتها، لكنه يعلم أن الكلمات لا تكفي. أبو زيد يدخل الخيمة، يحمل قصة جديدة. "كان لدينا حلم، يا جمال," يقول. "حلم بفلسطين حرة، خضراء، لا جوع فيها ولا خوف." ينظر إلى سلمى، يبتسم. "أنتِ حلم فلسطين الجديد." سلمى تبتسم، لكن عينيها مملوءتان بالدموع. ترسم شجرة زيتون أخرى على الرمل، لكن هذه المرة تضيف إليها طائرًا صغيرًا، كأنها تمنحه أجنحة الحرية.
الليل يهبط على غزة، باردًا وقاسيًا. الجوع يزداد، واليأس يتسرب إلى القلوب. يحيى يجلس في زاوية، ينظر إلى الوثائق، يفكر في الخيانة التي اكتشفها. الآء تضمد جرحها، تتعهد أن تواصل عملها رغم كل شيء. جمال ينظر إلى عائلته، يفكر في أبيه، في النكبة، في الأمل الذي يتلاشى. وفوق المخيم، الطائرة المسيرة تستمر في الطنين، عين الشيطان التي تراقب كل شيء. لكن في قلب يحيى، شرارة المقاومة لا تزال مشتعلة، ضعيفة لكنها حية، كالنار التي ترفض أن تنطفئ.
الفصل الخامس: محكمة الضمير
السماء فوق غزة ثقيلة، محملة بغيوم رمادية كأنها أرواح الضحايا التي لم تجد مأوى. الراديو القديم في خيمة جمال يبث خبرًا جديدًا، صوت المذيع يتقطع لكنه واضح: "المحكمة الجنائية الدولية تبدأ إجراءات أولية ضد بنيامين نتنياهو ويواف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية." جمال يجلس على الأرض، يستمع بقلب مشتعل بالأمل والغضب معًا. سلمى بجانبه، عيناها البريئتان تحدقان في الراديو كأنه كائن حي. "هل سينقذوننا الآن، يا أبي؟" تسأل. جمال ينظر إليها، يحاول إخفاء الشك في عينيه. "ربما، يا سلمى," يجيب، لكنه يعلم أن العدالة الدولية بعيدة كالبحر الذي لم ترَه سلمى قط. في المخيم، ينتشر الخبر كالنار في الهشيم، لكنه لا يملأ بطون الجائعين. الجوع لا ينتظر المحاكم، والطائرة المسيرة التي تحلق فوق رؤوسهم لا تعرف شيئًا عن العدالة.
في تل أبيب، يجلس الدكتور ماكس في مكتبه، وجهه شاحب كالورق. الخبر عن المحكمة الجنائية وصل إليه عبر رسالة إلكترونية من أحد رعاته الأمريكيين: "ابقَ هادئًا. لا دليل يربطنا. دمر أي شيء يمكن أن يُستخدم ضدنا." ماكس يشعر بثقل الكلمات، كأنها أحجار تُلقى على صدره. يفتح درج مكتبه، يخرج دفتره الصغير، يقرأ كلماته التي كتبها في لحظات الضعف: "أنا لست الوحيد، لكنني وقّعت." يتذكر الوثائق التي سرقها يحيى، يعلم أن التسريب قد يكون بداية النهاية. يفكر في الاتصال بالصحفي في جنيف، لكنه يتردد. الخوف يعتصر قلبه، لكن الضمير بدأ يصرخ بصوت أعلى. يأخذ قلمًا، يكتب في الدفتر: "إذا كنت سأسقط، فليسقط الحق معي." يغلق الدفتر، يضعه في جيبه، ويقرر أن الوقت قد حان لفعل شيء، ولو كان آخر ما يفعله.
في المخيم، يتسلل يحيى تحت جنح الظلام إلى خيمة أبو خالد. الوثائق التي سرقها من المستودع مخفية في حقيبة صغيرة، لكنه يعلم أن الوقت ينفد. "وجدت صحفيًا أجنبيًا مستعدًا لنشر هذه الوثائق," يقول لأبو خالد، صوته يحمل مزيجًا من الحماس والخوف. أبو خالد ينظر إليه، عيناه تلمعان كالصقر. "افعلها، يا يحيى," يقول. "لكن كن حذرًا. عيونهم في كل مكان." يحيى يهز رأسه، يغادر الخيمة، لكنه يشعر بثقل المهمة. يتجه إلى نقطة لقاء سرية قرب حدود المخيم، حيث ينتظره الصحفي. لكن قبل أن يصل، تسمع أذناه صوت محركات ثقيلة. جنود إسرائيليون يظهرون من الظلام، كشافاتهم تضيء المكان كالنهار. "توقف!" يصرخ أحدهم. يحيى يحاول الركض، لكنه يشعر بضربة قوية على ظهره. يسقط على الأرض، الوثائق تتطاير من يده. يُسحب إلى سيارة عسكرية، عيناه تلتقطان آخر نظرة على المخيم قبل أن يغيب في الظلام.
في الخيمة الطبية، تعمل الآء بيدين مرتجفتين. أمامها طفلة صغيرة، عيناها غائرتان من الجوع. "دكتورة، أرجوكِ، أنقذيها," تتوسل الأم. الآء تحقن الطفلة بمحلول ملحي، لكنها تعلم أن ذلك لن يكفي. في تلك اللحظة، يدخل طبيب أجنبي متطوع، رجل فرنسي يحمل حقيبة مليئة بالأدوية الحقيقية. "جئت من منظمة غير حكومية," يقول. "سمعنا عن المجاعة، ولا يمكننا السكوت." الآء تنظر إليه، تشعر بشرارة أمل لأول مرة منذ أشهر. يعملان معًا لإنقاذ الطفلة، وبعد ساعات من الجهد، تفتح الطفلة عينيها. الآء تبتسم، دموعها تنزلق على خديها. "لا يزال هناك أمل," تهمس لنفسها. لكن الفرحة لا تدوم طويلًا. تصلها رسالة على هاتفها القديم: "ابنكِ في قبضتنا. توقفي عن المقاومة." الآء تشعر كأن الأرض تنهار تحتها. تنظر إلى الطبيب الفرنسي، تقول: "يحيى في خطر."
في زنزانة مظلمة، يجلس يحيى على أرضية باردة. يداه مقيدتان، وجهه ملطخ بالدم. جندي إسرائيلي يقف أمامه، يسأله بنبرة ساخرة: "أين الوثائق؟ من ساعدك؟" يحيى يصمت، عيناه تحدقان في الجدار. يفكر في والده، في أمه، في سلمى. يتذكر كلمات أبو زيد: "الصمت مقاومة، يا يحيى." الجندي يضربه، لكن يحيى لا يتكلم. الألم يعصف بجسده، لكنه يشعر أن روحه أقوى من أي وقت مضى. "لن أخون غزة," يهمس، والجندي يضحك. "سنرى كم ستتحمل," يقول، ثم يغادر الزنزانة، تاركًا يحيى وحيدًا مع أفكاره.
في المخيم، تجلس سلمى على الأرض، تكتب في يومياتها. "اليوم، سمعت أن العالم يحاكم الذين جعلونا نجوع. لكن أخي يحيى لم يعد إلى الخيمة. أخاف أن يكون قد ذهب إلى مكان لا يعود منه أحد." كلماتها بسيطة، لكنها تحمل ثقل الخوف. ترسم على الرمل صورة ليحيى، يحمل كتابًا بدلًا من بندقية. "يحيى يحب الكتب," تهمس لنفسها. تنظر إلى السماء، ترى الطائرة المسيرة تحلق كالعادة. لكن هذه المرة، تقرر أن تفعل شيئًا. تأخذ ورقة من يومياتها، تكتب رسالة إلى العالم: "نحن في غزة نجوع. أطفالنا يموتون. أوقفوا المجاعة." تسلّم الرسالة إلى أحد المتطوعين الأجانب، الذي يعد بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. سلمى تشعر بأمل صغير ينمو في قلبها، كبذرة تحت الأنقاض.
في تل أبيب، يتخذ ماكس قرارًا مصيريًا. يرسل دفتره إلى الصحفي في جنيف، مع رسالة قصيرة: "هذه الحقيقة. انشرها." يعلم أن هذه الخطوة قد تكلفه حياته، لكنه لم يعد يطيق ثقل الضمير. يفكر في ابنته، في عينيها البريئتين، ويتساءل إذا كانت ستقبل به يومًا. يغلق مكتبه، يخرج إلى الشارع، يشعر بالهواء البارد يخترق رئتيه. في تلك اللحظة، يشعر أنه حر لأول مرة منذ سنوات.
في المخيم، يصل خبر اعتقال يحيى إلى جمال والآء. الآء تنهار، تبكي بصوت عالٍ، لكن جمال يمسك بيدها، يقول: "يحيى قوي، سيصمد." لكنه يشعر بالخوف يعتصر قلبه. أبو زيد يدخل الخيمة، عيناه مملوءتان بالحزن. "ابنكم بطل," يقول. "لكنه يحتاج إلينا الآن." يروي قصة عن شاب في النكبة، ضحى بنفسه من أجل الحقيقة. "الحقيقة لا تموت، يا جمال," يقول. جمال يهز رأسه، يشعر بثقل التاريخ على كتفيه. ينظر إلى سلمى، يرى في عينيها براءة لم تُكسر بعد. "سنواصل، من أجل يحيى," يقول للآء. الآء تمسح دموعها، تتعهد أن تواصل عملها، أن تحمي سلمى، أن تحافظ على الأمل.
الليل يهبط على غزة، باردًا وقاسيًا. الجوع لا يزال يعض، والخوف يتسرب إلى القلوب. يحيى في زنزانته، يصمد رغم الألم. الآء في خيمتها الطبية، تنقذ حياة أخرى بمساعدة الطبيب الفرنسي. سلمى تنام، تحلم برسالتها وهي تنتشر في العالم. وجمال يجلس بجانب أبو زيد، يستمع إلى قصصه، يحاول إيجاد معنى في هذا الجحيم. فوق المخيم, الطائرة المسيرة تستمر في الطنين, لكن رسالة سلمى تبدأ بالانتشار, كالنور الذي يخترق الظلام. في تل أبيب, ماكس ينتظر مصيره, لكنه يشعر أن روحه, لأول مرة, خفيفة. والحقيقة, كالنار, بدأت تشتعل, ولا شيء يستطيع إطفاءها الآن.
الفصل السادس: أنقاض الأمل
الظلام في غزة ليس مجرد غياب للنور، بل هو كائن حي يتغذى على الأرواح، يلف الخيام بأذرعه الباردة، ويهمس في آذان الجائعين بأن الأمل وهمٌ بعيد. في زنزانة مظلمة، يجلس يحيى، جسده مثقل بالجروح، لكن عينيه لا تزالان تحملان شرارة المقاومة. الجندي الذي يحرسه يسخر منه: "هل تعتقد أن وثائقك ستغير العالم؟ العالم لا يهتم بكم." يحيى يصمت، لكنه يفكر في سلمى، في أمها الآء، في والده جمال. يتذكر كلمات أبو زيد: "الصمت مقاومة، والحقيقة نار لا تنطفئ." في تلك اللحظة، يسمع صوت خطوات تقترب. باب الزنزانة يُفتح، وجندي آخر يهمس بشيء إلى الحارس. يحيى يلتقط كلمات متقطعة: "تسريب... صحفي... جنيف." قلبه يدق بعنف. الوثائق التي سرقها، الحقيقة التي خاطر بحياته من أجلها، بدأت تنتشر. لكنه يعلم أن الثمن قد يكون باهظًا. يغلق عينيه، يتخيل غزة حرة، خضراء، كما كان يرويها أبو زيد. لكن الصورة تتلاشى عندما يُسحب من الزنزانة، مقيدًا، إلى مصير مجهول.
في المخيم، يصل خبر اعتقال يحيى إلى جمال والآء كالصاعقة. الآء تنهار على الأرض، تبكي بصوت مكتوم، كأنها تخاف أن يسمع العالم ضعفها. جمال يقف بجانبها، يده على كتفها، لكنه لا يجد كلمات. الخوف يعتصر قلبه، لكنه يرى في عيني الآء عزيمة لم تُكسر. "يحيى قوي," تقول، وهي تمسح دموعها. "لن يستسلم." جمال يهز رأسه، لكنه يشعر بثقل التاريخ يضغط على صدره. يتذكر والده، كيف كان يروي قصص النكبة، كيف كان يقول: "فلسطين لا تموت، يا جمال، لأنها تعيش في قلوبنا." لكنه الآن يتساءل: كم قلبًا يمكن أن يتحمل هذا الألم؟ في الخيمة، تجلس سلمى، عيناها مملوءتان بالدموع. تكتب في يومياتها: "يحيى لم يعد. أخاف أن يكون قد ذهب إلى مكان لا يعود منه أحد. لكنني سأحتفظ بأمله. سأكون شجرة زيتون مثله." تضع القلم جانبًا، ترسم على الرمل صورة ليحيى، يحمل كتابًا وشجرة. لكن الريح تمحو الرسمة، كأنها تذكرها بأن الأمل هشٌ كالرمل.
في تل أبيب، يجلس الدكتور ماكس في غرفة صغيرة، بعيدًا عن مكتبه الزجاجي. أمامه شاشة حاسوب، يتابع الأخبار: "تسريب وثائق يكشف تورط مؤسسة غزة الإنسانية في إبادة منهجية." الخبر ينتشر كالنار في الهشيم، والصحفي في جنيف ينشر الدفتر الذي أرسله ماكس. في الدفتر، اعترافات خطيرة: تعليمات بتقليص المساعدات، خطط لتوزيع طعام فاسد، تواطؤ مع شركات أمريكية. ماكس يشعر بالخوف، لكنه يشعر أيضًا بالتحرر. لقد اختار الحقيقة، ولو كانت نهايته. يفكر في ابنته، في عينيها البريئتين، ويتساءل إذا كانت ستغفر له يومًا. يأخذ قلمًا، يكتب رسالة أخيرة إلى زوجته: "لم أكن رجلًا صالحًا، لكنني حاولت أن أكون إنسانًا في النهاية." يضع الرسالة في مظروف، يغلق عينيه، ويشعر بثقل العالم يزول عن كتفيه. في تلك الليلة, يتخذ قرارًا نهائيًا. في صباح اليوم التالي, يُعثر عليه في شقته, بلا حياة, وبجانبه رسالة تكشف كل شيء.
في المخيم, يصل خبر التسريب إلى الخيام عبر الراديو القديم. الناس يتجمعون, يستمعون بقلوب مشتعلة بالأمل والغضب. "العالم يعرف الآن!" يصرخ أحدهم. لكن الفرحة لا تدوم. الطائرات المسيرة تزداد, والقصف يعود بقوة أكبر. الجوع يزداد, والخوف يتسرب إلى القلوب. الآء تعمل في خيمتها الطبية, تحاول إنقاذ طفل آخر, لكن الأدوية نفدت مرة أخرى. الطبيب الفرنسي المتطوع لا يزال بجانبها, يحمل حقيبة صغيرة من الأدوية التي جلبها. "سنواصل," يقول لها, وهي تهز رأسها, لكن عينيها مملوءتان بالقلق على يحيى. في تلك اللحظة, تصلها رسالة من أبو خالد: "يحيى حاول الهروب. لكنه لم ينجح." الآء تشعر كأن قلبها يتوقف. تنهار على الأرض, لكنها تنهض بسرعة, تتعهد أن تواصل من أجل يحيى, من أجل سلمى, من أجل غزة.
في زنزانة أخرى, يحيى يقاوم الألم. الجنود يحاولون كسره, لكنه يرفض الكلام. يفكر في أمه, في أبيه, في سلمى. يتذكر رسالتها التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي, كيف ألهمت الناس في أماكن بعيدة. "سلمى هي الأمل," يهمس لنفسه. في تلك اللحظة, يسمع صوت انفجار قريب. الجنود يركضون خارج الزنزانة, تاركين الباب مفتوحًا. يحيى يرى فرصته. ينهض, رغم الألم, ويركض نحو الباب. لكنه قبل أن يصل إلى الخارج, يسمع صوت طلقة. الألم يعصف بصدره, يسقط على الأرض, عيناه تحدقان في السماء. "غزة... لن تموت," يهمس, ثم يغلق عينيه إلى الأبد.
في المخيم, يصل خبر مقتل يحيى كالسيف الذي يقطع القلب. الآء تصرخ, صوتها يملأ المخيم, كأنها تنادي السماء لتعيده. جمال يقف بجانبها, عيناه مملوءتان بالدموع, لكنه يمسك بيدها, يقول: "سنواصل, يا الآء. من أجله." لكن الآء تشعر أن جزءًا منها مات مع يحيى. سلمى تجلس في زاوية, تكتب في يومياتها: "يحيى ذهب. لكنه ترك لنا شجرة زيتون في قلوبنا. سأحملها, وسأزرعها يومًا." دموعها تسقط على الورق, لكنها تستمر في الكتابة, كأنها تعتقد أن الكلمات يمكن أن تحيي الموتى.
أبو زيد, العجوز الذي حمل ذاكرة فلسطين, يجلس بجانب جمال. جسده أصبح هزيلًا, الجوع أكل قوته, لكنه لا يزال يروي قصصه. "كان لدينا حلم, يا جمال," يقول, صوته ضعيف كالريح. "حلم بأرض لا جوع فيها, لا خوف." ينظر إلى سلمى, يبتسم. "أنتِ الحلم, يا سلمى." في تلك الليلة, ينام أبو زيد ولا يستيقظ. الجوع أخذه, لكنه ترك لسلمى قصة مكتوبة على ورقة قديمة, قصة عن فلسطين, عن الزيتون, عن الأمل. سلمى تقرأ القصة, دموعها تسقط على الورق, لكنها تتعهد أن تحفظها.
في الأيام التالية, تنتشر رسالة سلمى في العالم, تصبح رمزًا للمقاومة. الناس في مدن بعيدة يرفعون لافتات: "أوقفوا المجاعة في غزة!" الضغط الدولي يزداد, والمحكمة الجنائية تسرّع إجراءاتها. لكن في غزة, الجوع لا يزال يعض, والقصف لا يتوقف. الآء تعود إلى خيمتها الطبية, تحمل ألم فقدان يحيى, لكنها تواصل إنقاذ الأرواح. جمال يجمع الناس في المخيم, يحثهم على الصمود, على الاحتفاظ بالأمل. وسلمى, في زاوية الخيمة, تقرأ قصة أبو زيد لأطفال المخيم. "كانت فلسطين خضراء," تقول, صوتها يرتجف لكنه قوي. "وستعود يومًا." الأطفال يستمعون, عيونهم تلمع بالأمل. فوق المخيم, الطائرة المسيرة البريطانية لا تزال تحلق, لكن صوت سلمى يرتفع, كالنور الذي يخترق الظلام. الحقيقة انتشرت, والأمل, رغم كل شيء, يرفض أن يموت.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟