|
رواية مشاعل الهامش
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 22:12
المحور:
الادب والفن
مقدمة الرواية
رواية " مشاعل الهامش " تحكي سيرة ياسر الضحى، مفكر قد يكون مستوحى من سمير أمين، أو ربما تجسيدًا لروح مجموعة من المفكرين التقدميين الذين وقفوا كالجبال في وجه الرياح العاتية للنيوليبرالية. على مدى أربعة عقود، حين استبدت الطغمة النيوليبرالية بالعالم، نهبت الموارد، وأعادت صياغة الاقتصادات لخدمة النخب، كان ياسر يحمل مشعل النقد والمقاومة. ليست هذه الرواية سيرة ذاتية بحتة، بل مزيج من الخيال والواقع، حيث يتداخل التاريخ مع التخييل ليرسم صورة رجل، أو فكرة، تحدى العالم بقلمه وقلبه.
ياسر الضحى، الذي قد يكون سمير أمين أو ظلاً لمفكرين مثله، يأخذنا في رحلة عبر إفريقيا والعالم العربي، من القاهرة إلى داكار، ومن باريس إلى بكين. في كل محطة، يواجه الإرث الاستعماري، الفساد المحلي، والفيروس النيوليبرالي الذي يأكل الشعوب تحت شعارات الحرية. يحلل تجارب العالم الثالث بدقة، من مالي إلى السنغال، ومن الخراج الإسلامي إلى قروض البنك الدولي. لكنه لا يكتفي بالتحليل، بل يضع أمامنا مشاهد مستقبلية مفتوحة على احتمالات متعددة: وحدة الشعوب، مقاومة الاستغلال، أو حتى السقوط في فخ قوى جديدة كالصين وروسيا.
الروائي، في هذا العمل، يبسط المفاهيم المعقدة والنظريات الجافة التي قدمها المفكرون التقدميون، وقد يُخلّ بعضها بعمقها ودقتها في سبيل ذلك. لكن لغة الرواية تسعى لتصل إلى كل الناس، لتكون بمثابة مدخل للأفكار الأساسية التي نادى بها ياسر الضحى. لكل من تأثر بهذه الرواية، فإنها دعوة للاشتغال على النفس، لدراسة الاقتصاد السياسي، والتعمق في كتب سمير أمين أو الباحثين التقدميين من مدرسة التبعية، حيث تكمن الجذور الحقيقية لهذه النار.
الرواية ليست وثيقة تاريخية، بل لوحة تجمع بين الواقع القاسي والخيال الطموح. ياسر الضحى ليس شخصًا واحدًا، بل رمزًا لكل من حملوا النار في قلوبهم، رافضين الصمت أمام الظلم. من خلال رحلته، نرى العالم الثالث ليس كضحية، بل كقوة نائمة تنتظر لحظة النهوض. هذه الرواية دعوة للتفكير، للمقاومة، ولحمل النار التي لا تنطفئ.
الفصل الأول: بذور النار
1. في زقاق ضيق من أزقة القاهرة، حيث تتسلل أشعة الشمس كخيوط ذهبية متعبة، كان ياسر الضحى يقف، صبيًا في العاشرة، يراقب العالم بعينين واسعتين كأنهما نافذتان على بحر من الأسئلة. كان عام 1931، والمدينة تمور بحياة لا تهدأ: عربات الترام تصرخ في المسافات، وباعة الخبز ينادون بأصوات تخترق الضباب الصباحي، وأطفال الحارة يركضون حافيي الأقدام، يطاردون كرة من القماش الممزق. ياسر، ابن الطبيب المصري والطبيبة الفرنسية، كان غريبًا في هذا العالم. بيته في الزمالك، بحدائقه الغنّاء ونوافذه الزجاجية المطلة على النيل، كان بعيدًا عن هذا الزقاق، لكنه لم يكن بعيدًا عن قلبه. كان يشعر، بغريزة لا يفسرها، أن هنا، بين الجدران المتشققة والوجوه المجعدة بالفقر، يكمن سر الحياة.
2. في تلك الظهيرة الحارة، رأى ياسر مشهدًا لم يغادر ذاكرته أبدًا. فلاح عجوز، ظهره منحنٍ كقوس منهك، يقف أمام إقطاعي يرتدي بدلة أنيقة ويحمل عصا فضية. العصا ارتفعت، ثم هوت على ظهر الفلاح، مرة، مرتين، ثلاثًا، كل ضربة تصاحبها كلمات حادة: "أين محصول الأسبوع؟ أين؟" الفلاح لم يتكلم، فقط أطلق أنينًا خافتًا، كأن الأرض نفسها تئن معه. ياسر، المختبئ خلف جدار طيني، شعر بشيء يتمزق في صدره. لم يكن خوفًا، بل شيئًا أعمق، أشبه بالغضب الممزوج بالحيرة. لماذا يضرب هذا الرجل؟ لماذا لا يدافع الفلاح عن نفسه؟ لماذا يسمح العالم بهذا؟
3. عاد ياسر إلى البيت، رأسه مملوء بالصور والأسئلة. والده، الدكتور حمدي، كان جالسًا في مكتبته، يقرأ كتابًا طبيًا بالفرنسية، بينما أمه، إيزابيل، كانت تكتب رسالة إلى أختها في باريس. كان البيت هادئًا، يعكس النظام الأوروبي الذي فرضته إيزابيل على حياتهم: السجاد الفارسي، المزهريات الصينية، والراديو الذي يعزف أغنية لأم كلثوم بصوت خافت. لكن ياسر لم يكن يرى هذا النظام. كان يرى ظهر الفلاح المكسور، وسمع صوت العصا وهي تهوي. "أبي، لماذا يضربون الفلاحين؟" سأل بصوت مرتجف. رفع حمدي عينيه ببطء، كأنه يزن كلماته. "العدالة نار، يا ياسر، تحرق صاحبها قبل أن تنير دربه." كانت إجابة غامضة، لكنها استقرت في قلب ياسر كبذرة في تربة خصبة.
4. في الأيام التالية، بدأ ياسر يراقب العالم بعين أكثر حدة. كان يتسلل من البيت إلى الأزقة، يراقب العمال في المصانع الصغيرة، والباعة الجائلين، والأطفال الذين يبحثون عن قشور الخبز في القمامة. كان يرى تناقضًا لا يفهمه: بيته مليء بالكتب والطعام والدفء، بينما العالم خارج أسواره يغرق في الجوع والعنف. كان يشعر بأنه منفصل عن هذا العالم، لكنه في الوقت ذاته ينتمي إليه. كان يحلم بأن يكون بطلاً، مثل أبطال القصص التي كانت إيزابيل تقرأها له، لكنه لم يكن يعرف كيف. كانت أمه تتحدث عن الحرية والمساواة في فرنسا، لكنها كانت تقول أيضًا إن العالم معقد، وإن التغيير يحتاج إلى وقت.
5. في إحدى الليالي، جلس ياسر مع والديه على مائدة العشاء. كان النيل يتلألأ تحت ضوء القمر، مرئيًا من نافذة غرفة الطعام. حمدي كان يتحدث عن مريض فقير عالجه في عيادته مجانًا، وكيف شعر بالعجز أمام الفقر الذي يقتل أكثر من المرض. إيزابيل، بصوتها الهادئ، تحدثت عن ثورة فرنسا وكيف غيرت العالم، لكنها أضافت: "الثورات تأكل أبناءها أحيانًا." ياسر لم يفهم كل الكلمات، لكنه شعر بثقلها. كان يريد أن يسأل المزيد، لكن عينيه كانتا معلقتين على النيل، كأنه يحمل إجابات لم يكتشفها بعد.
6. في المدرسة، كان ياسر مختلفًا عن أقرانه. أبناء النخبة المصرية والأجانب كانوا يتحدثون عن ألعابهم وسفراتهم إلى أوروبا، لكن ياسر كان يفضل الجلوس مع ابن البواب، سمير، الذي كان يحكي له عن قريته في الصعيد وعن الفلاحين الذين يعملون ليل نهار دون أمل. سمير كان يقول: "الأرض ليست لنا، يا ياسر. الأرض للإقطاعيين." هذه الكلمات كانت تصيب ياسر كالصاعقة. كيف يمكن أن تكون الأرض، التي يمشي عليها الجميع، ملكًا لبعضهم فقط؟ بدأ يسأل نفسه: من يملك العالم؟ ولماذا يسمح الجميع بذلك؟
7. في إحدى الجولات في الأزقة، صادف ياسر رجلاً عجوزًا يجلس على رصيف، يرتدي جلبابًا ممزقًا ويحمل كتابًا قديمًا. كان الرجل يقرأ بصوت منخفض، كأنه يتحدث إلى نفسه. اقترب ياسر وسأله: "ماذا تقرأ؟" أجاب العجوز: "كتاب عن العدل، يا بني. لكنه كتاب لا يقرأه الأغنياء." أعطاه العجوز الكتاب، وكان عنوانه بالفرنسية، شيء عن "رأس المال". ياسر لم يفهم الكلمات، لكنه شعر بأن الكتاب ثقيل، ليس بوزنه، بل بما يحمله من أفكار. أخذه إلى البيت وخبأه تحت وسادته، كأنه كنز.
8. الأيام مرت، وياسر بدأ يكتب أفكاره في دفتر صغير. كان يكتب عن الفلاح، عن العصا، عن النيل، عن الأرض التي لا يملكها أحد. كتب يومًا: "إذا كانت الأرض للجميع، فلماذا يجوع الجميع؟" كان يشعر بأن هناك لغزًا كبيرًا يحيط بالعالم، وأن مهمته هي حله. والده لاحظ هذا التغيير، وسأله ذات ليلة: "ماذا تريد أن تكون، يا ياسر؟" أجاب الصبي، بعد تردد: "أريد أن أجعل العالم عادلاً." ضحك حمدي، لكن عينيه كانتا مليئتين بالقلق. "العدالة، يا بني، هي نار. كن حذرًا."
9. في إحدى الليالي، حلم ياسر بأنه يقف وسط حقل واسع، والفلاحون يحيطون به، يحملون مشاعل مشتعلة. كانوا يهتفون باسمه، لكنه شعر بالخوف. النار كانت تقترب منه، تحرق يديه، لكنها لم تؤلمه. استيقظ مفزوعًا، لكنه شعر بقوة غريبة. كان الحلم علامة، ربما رسالة من المستقبل. بدأ يشعر بأن النار التي تحدث عنها والده ليست فقط خطرًا، بل هي أيضًا نور.
10. في تلك السنة، بدأ ياسر يقرأ المزيد. أمه، إيزابيل، كانت تجلب له كتبًا من باريس، قصصًا عن الثورات، عن أبطال قاوموا الظلم. لكنه كان يفضل القصص التي سمعها من سمير، عن الفلاحين الذين يزرعون الأرض ولا يأكلون منها. بدأ يشعر بأن العالم ليس فقط القاهرة أو باريس، بل هو أكبر، أعمق، وأكثر ظلمًا. كان يشعر بأن هناك حربًا خفية تدور، ليست بين الدول، بل بين من يملكون ومن لا يملكون.
11. في إحدى الأمسيات، دعا حمدي صديقًا له، أستاذًا في الجامعة، للعشاء. كان الأستاذ يتحدث عن الاقتصاد، عن الإقطاع، عن الاستعمار البريطاني الذي يخنق مصر. ياسر كان يستمع من بعيد، يحاول فهم الكلمات الكبيرة: "الرأسمالية"، "الاستغلال"، "الطبقة". بعد العشاء، اقترب من الأستاذ وسأله: "هل يمكن أن يتغير العالم؟" أجاب الأستاذ: "نعم، لكن التغيير يكلف دمًا ودموعًا." هذه الكلمات أرعبته، لكنها أيضًا ألهمته.
12. في الأسابيع التالية، بدأ ياسر يرسم خرائط في عقله. كان يتخيل العالم كحقل كبير، مقسم إلى أجزاء، بعضها خصب وبعضها جاف. كان يرى الفلاحين في الجزء الجاف، يعملون بلا توقف، بينما الأغنياء في الجزء الخصب يأكلون ويضحكون. كان يتساءل: من قسم العالم هكذا؟ وكيف يمكن إعادة تقسيمه؟ بدأ يكتب في دفتره: "الأرض لمن يزرعها، وليس لمن يملكها." كانت هذه الكلمات أول شرارة في ذهنه، شرارة ستصبح لاحقًا نارًا لا تنطفئ.
13. في إحدى الليالي، بينما كان ياسر يقرأ كتابًا عن الثورة الفرنسية، سمعه والده يتمتم بكلمات غاضبة. اقترب حمدي وسأله: "لماذا أنت غاضب؟" أجاب ياسر: "لأن العالم ظالم، وأنا لا أعرف كيف أغيره." أمسك حمدي بكتف ابنه وقال: "ابحث عن الحقيقة، يا ياسر. الحقيقة هي السلاح الوحيد الذي لا يكسر." هذه الكلمات أصبحت بوصلته، وإن لم يعرف بعد كيف سيستخدمها.
14. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يكون عالمًا. لم يكن يعرف ماذا يعني ذلك بالضبط، لكنه كان يشعر بأن العلم هو الطريق إلى العدالة. كان يرى والده وهو يعالج المرضى، وأمه وهي تكتب عن أفكارها، وأراد أن يكون مثلهما، لكن بشكل مختلف. أراد أن يعالج مرض العالم، لا الأجساد فقط. بدأ يقرأ كل ما يقع تحت يديه: كتب التاريخ، الاقتصاد، الفلسفة. كان يشعر بأن كل كتاب هو خطوة نحو فهم اللغز الكبير.
15. في إحدى الجولات في الأزقة، التقى ياسر مرة أخرى بالعجوز صاحب الكتاب. سأله: "هل قرأت الكتاب؟" أومأ ياسر برأسه، رغم أنه لم يفهم سوى القليل. ضحك العجوز وقال: "لا تقلق، الكتب مثل البذور. تحتاج إلى وقت لتنمو." أعطاه كتابًا آخر، هذه المرة عن العمال في أوروبا. أخذ ياسر الكتاب وعاد إلى البيت، يشعر بأن شيئًا كبيرًا يتشكل في داخله، شيء لا يستطيع تسميته بعد.
16. في تلك الفترة، بدأ ياسر يلاحظ تناقضات والديه. حمدي كان يتحدث عن العدالة، لكنه كان يعالج الأغنياء بنفس الاهتمام الذي يعالج به الفقراء. إيزابيل كانت تحلم بثورة، لكنها كانت تخاف من الفوضى. كان ياسر يشعر بأن هناك شيئًا ناقصًا في أفكارهما، شيئًا لا يستطيعان قوله. بدأ يكتب في دفتره: "العدالة ليست كلامًا، بل فعلاً. لكن كيف أفعل؟"
17. في إحدى الأمسيات، دعا حمدي مجموعة من الأصدقاء إلى البيت. كانوا يتحدثون عن الاستقلال الوطني، عن الإنجليز، عن مصر المستقبلية. ياسر كان يستمع من الزاوية، يحاول فهم الكلمات. سمع أحدهم يقول: "الفقراء هم وقود التاريخ." هذه العبارة أذهلته. هل الفقراء مجرد وقود؟ أم أنهم النار نفسها؟ بدأ يشعر بأن مهمته هي إيجاد إجابة لهذا السؤال.
18. في إحدى الليالي، بينما كان النيل يعكس ضوء القمر، جلس ياسر على الشرفة يكتب في دفتره. كتب: "إذا كان العالم ظالمًا، فمن واجبي أن أغيره. لكن كيف؟" كان يشعر بأن النار التي تحدث عنها والده بدأت تشتعل في داخله. لم تكن نارًا مدمرة، بل كانت نورًا، وعدًا، وتحديًا.
19. في الأشهر التالية، بدأ ياسر يقرأ عن الثورات في أماكن أخرى: روسيا، فرنسا، الصين. كان يشعر بأن العالم أكبر مما كان يتصور، وأن الظلم ليس فقط في القاهرة، بل في كل مكان. بدأ يحلم بأن يكون جزءًا من شيء أكبر، شيء يغير العالم. لكنه كان يعرف أن الطريق طويل، وأن النار التي بدأت تشتعل في قلبه ستحتاج إلى وقت لتنمو.
20. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يكرس حياته لفهم العالم وتغييره. كان لا يزال صبيًا، لكنه شعر بأنه لم يعد صبيًا. كانت النار قد بدأت، وكان يعرف أنها لن تنطفئ أبدًا.
الفصل الثاني: باريس: الاشتعال
1. في شتاء 1950، وصل ياسر الضحى إلى باريس، مدينة الأضواء التي بدت له كأنها لوحة سريالية، ألوانها متداخلة بين الضباب والأحلام. كان في العشرين من عمره، شاب طويل القامة، نحيف، بعينين تحملان قلقًا لا يفسره. القاهرة، بأزقتها المزدحمة وصوت النيل الهامس، كانت وراءه الآن، لكن ذكريات الفلاح وظهر العصا لا تزال تطارده. كان قد جاء لدراسة الاقتصاد في السوربون، برغبة جامحة لفهم العالم الذي رآه ينهار تحت أقدام الفقراء. لكن باريس لم تكن كما تخيلها: كانت مدينة التناقضات، حيث يرقص الأغنياء في مقاهي الشانزليزيه بينما يتسول العمال المهاجرون في أزقة مونمارتر.
2. في الأيام الأولى، كان ياسر يتجول في المدينة كمن يبحث عن سر مفقود. كانت الشوارع تصطدم ببعضها كأفكاره: فوضوية، متشابكة، مليئة بالحياة والموت معًا. كان يرى الطلاب الفرنسيين يناقشون سارتر وكامو في المقاهي، بينما العمال الجزائريون ينظفون الشوارع تحت أنظار شرطة متجهمة. هذه التناقضات أشعلت فيه شرارة جديدة. في إحدى الأمسيات، صادف ملصقًا على جدار: دعوة لحضور اجتماع للحزب الشيوعي الفرنسي. كان الملصق بسيطًا، لكنه حمل وعيدًا: "من أجل عالم بلا استغلال." شعر ياسر بأن هذه الكلمات موجهة إليه.
3. في قاعة صغيرة مكتظة برائحة التبغ والحبر، استمع ياسر إلى خطابات ملتهبة عن الطبقة العاملة، عن الرأسمالية التي تأكل العالم، عن ثورة قادمة. كان المتحدثون، بعضهم أكاديميون وبعضهم عمال، يتحدثون بلغة لم يسمعها من قبل، لغة تجمع بين العلم والغضب. أحدهم، رجل عجوز ذو لحية بيضاء، تحدث عن ماركس كما لو كان نبيًا. "الرأسمالية آلة،" قال، "لكنها آلة يمكن تفكيكها." ياسر شعر بأن قلبه ينبض بإيقاع جديد. بعد الاجتماع، اقترب من العجوز وسأله: "كيف يمكننا تفكيكها؟" أجاب العجوز: "بالعلم، يا بني، وبالنار."
4. انضم ياسر إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ليس بدافع الإيمان الأعمى، بل برغبة في فهم هذه النار. كان يقضي لياليه في قراءة ماركس وإنجلز، يحاول فك طلاسم "رأس المال". الكتاب كان كثيفًا، مثل غابة مظلمة، لكنه وجد فيه ضوءًا. بدأ يرى العالم كسلسلة من العلاقات: من يملك، من يعمل، من يجوع. كتب في دفتره: "الرأسمالية ليست نظامًا، بل حرب. حرب لا ترى بالعين، لكنها تقتل كل يوم." هذه الفكرة أصبحت بوصلته، لكنها أيضًا أثقلت كاهله.
5. في السوربون، كان ياسر طالبًا متميزًا، لكنه كان غريبًا. زملاؤه، معظمهم من الأوروبيين، كانوا يرون الاقتصاد كعلم أرقام ومعادلات، لكن ياسر كان يراه ساحة معركة. في إحدى المحاضرات، تحدى أستاذه الذي كان يدافع عن السوق الحرة. "السوق الحرة حرة لمن؟" سأل ياسر بصوت مرتفع. "للأغنياء الذين يملكونها، أم للفقراء الذين يموتون تحتها؟" القاعة صمتت، والأستاذ رد بابتسامة متعجرفة: "الاقتصاد ليس مكانًا للعواطف." لكن ياسر لم يكن يتحدث من عاطفة، بل من إحساس عميق بالظلم.
6. في شقته الصغيرة في الحي اللاتيني، كان ياسر يقضي ساعات طويلة يكتب أفكاره. كانت الشقة متواضعة، سرير حديدي ومكتب خشبي متآكل، لكنها كانت ملاذه. كان يكتب عن التراكم الرأسمالي، عن كيف أن العالم مقسم إلى مركز وهامش، الأول ينهب والثاني يعاني. كتب: "المركز يأكل العالم، والهامش ينزف. لكن من يوقف النزيف؟" كانت هذه الكلمات بداية أطروحته التي ستشكل لاحقًا كتابه عن التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي.
7. في إحدى الأمسيات، التقى ياسر بمفكر شيوعي فرنسي يُدعى جان. كان جان رجلاً في الأربعين، ذا عينين حادتين وصوت يحمل مرارة الخيبات. دعاه إلى مقهى صغير في مونبارناس، حيث تحدثا حتى منتصف الليل. "الثورة ليست حلمًا، يا ياسر،" قال جان. "لكنها تأكل أبناءها. كن حذرًا." هذه الكلمات أرعبت ياسر، لكنها أيضًا ألهمته. بدأ يرى الحزب ليس فقط كمنارة، بل كمتاهة. كان يشعر بأن هناك تناقضًا داخل الحزب نفسه: بين المثالية والسلطة، بين العلم والدوغمائية.
8. في الشوارع، بدأ ياسر يلاحظ العمال المهاجرين، خاصة الجزائريين الذين كانوا يعانون من العنصرية والاستغلال. في إحدى المظاهرات، رأى شابًا جزائريًا يُضرب على يد الشرطة. المشهد أعاد إلى ذاكرته صورة الفلاح في القاهرة. اقترب من الشاب بعد أن أطلقت الشرطة سراحه وسأله: "لماذا تقاوم؟" أجاب الشاب: "لأنني إنسان، ولست حيوانًا." هذه الكلمات استقرت في قلب ياسر، وأصبحت جزءًا من إيمانه المتزايد بأن العدالة ليست فكرة، بل ضرورة.
9. لكن باريس لم تكن فقط مكانًا للأفكار. كانت أيضًا مدينة الإغراءات. في إحدى الأمسيات، دعته زميلة دراسة فرنسية، ماري، إلى حفل في شقة فاخرة. كانت الشقة مليئة بالطلاب الأثرياء، يتحدثون عن الفن والأدب بينما يحتسون النبيذ. شعر ياسر بالغربة بينهم. حاولت ماري أن تشاركه الحديث، لكنه كان شاردًا. "لماذا أنت صامت؟" سألته. أجاب: "أفكر في أولئك الذين لا يملكون كأس نبيذ." ضحكت ماري، ظنت أنه يمزح، لكنه كان جادًا. غادر الحفل مبكرًا، عائدًا إلى شقته حيث الكتب هي رفقته الوحيدة.
10. في تلك الفترة، بدأ ياسر يكتب مقالاً عن التراكم الرأسمالي. كان يكتب بلغة ملتهبة، كأنه يحاول إشعال النار في الورق. كتب: "العالم ليس نظامًا اقتصاديًا، بل نظام نهب. الأغنياء في المركز يسرقون العرق من الهامش." لكنه شعر بأن كلماته ناقصة. كان يحتاج إلى فهم أعمق، إلى أدوات علمية تمكنه من تفكيك هذا النظام. قرر أن يركز دراسته على الاقتصاد السياسي، ليس كعلم نظري، بل كسلاح.
11. في إحدى المحاضرات، التقى ياسر بأستاذ مصري آخر، دكتور مصطفى، كان قد فر من القمع في مصر بعد انضمامه إلى حركة وطنية. تحدث مصطفى عن الاستعمار، عن كيف أن بريطانيا وفرنسا لا تزالان تسيطران على العالم العربي. "الاستعمار لم ينته، يا ياسر،" قال. "لقد غير جلده فقط." هذه الكلمات أثرت في ياسر بعمق. بدأ يرى أن الظلم في القاهرة ليس منفصلاً عن باريس، بل هو جزء من شبكة عالمية.
12. في إحدى الليالي، بينما كان ياسر يقرأ في شقته، شعر بضيق مفاجئ. كان يشعر بأن الأفكار تتدفق في ذهنه كسيل لا يمكن السيطرة عليه. كتب في دفتره: "الرأسمالية، الاستعمار، الظلم... كلها وجوه لنفس الوحش. لكن كيف أقتل الوحش؟" كان يشعر بأن العلم هو سيفه، لكنه لم يكن متأكدًا من قوته. بدأ يشعر بالعزلة، كأن باريس، بكل أضوائها، مدينة لا تراه.
13. في إحدى المظاهرات ضد الحرب في الجزائر، انضم ياسر إلى الحشود. كان يهتف معهم، لكنه شعر بأن صوته ضعيف. بعد المظاهرة، جلس في مقهى مع مجموعة من الطلاب الشيوعيين. تحدثوا عن الثورة، عن روسيا، عن الصين. لكن ياسر كان يفكر في مصر، في الفلاحين، في النيل. سأل أحدهم: "لماذا تهتم بمصر؟ الثورة عالمية." أجاب ياسر: "لأن مصر هي قلبي، والقلب لا ينبض إلا بدم العالم."
14. في تلك الفترة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط حقل من النار، والفلاحون يحيطون به، لكنهم لا يحترقون. كانوا ينظرون إليه كأنهم ينتظرون شيئًا. استيقظ مفزوعًا، لكنه شعر بأن الحلم رسالة. كتب في دفتره: "النار ليست للحرق فقط، بل للإضاءة. يجب أن أجد طريقي."
15. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يكرس حياته لفهم النظام العالمي وتفكيكه. كان يعرف أن الطريق طويل، لكنه كان مستعدًا. باريس، بكل تناقضاتها، أشعلت فيه نارًا جديدة، نار العلم والثورة، نار ستصحبه إلى آخر أيامه.
16. في الأشهر التالية، بدأ ياسر يشارك في مناقشات الحزب بنشاط أكبر. كان يتحدث عن مصر، عن إفريقيا، عن العالم الثالث. لكنه لاحظ أن بعض الشيوعيين الفرنسيين ينظرون إلى قضايا الجنوب بازدراء، كأنها ثانوية. هذا أثار غضبه. كتب في دفتره: "إذا كانت الثورة لا تشمل الجميع، فهي ليست ثورة."
17. في إحدى الليالي، التقى ياسر بامرأة جزائرية، فاطمة، كانت ناشطة في حركة التحرير الوطني. تحدثت عن الاستعمار الفرنسي، عن القرى التي أحرقت، عن الشعب الذي يقاوم. كانت كلماتها مليئة بالغضب، لكنها كانت أيضًا مليئة بالأمل. "نحن لا نقاوم لأننا أقوياء،" قالت. "نقاوم لأننا لا نملك خيارًا آخر." هذه الكلمات أصبحت جزءًا من ياسر، جزءًا من إيمانه الجديد.
18. في الجامعة، بدأ ياسر يناقش أفكاره مع أساتذته وزملائه. لكنه شعر بأن الجامعة، بكل علمها، بعيدة عن الواقع. كان الأساتذة يتحدثون عن النماذج الاقتصادية كأنها حقائق مطلقة، بينما ياسر كان يراها أدوات لتبرير الظلم. في إحدى المحاضرات، قال أستاذ: "الاقتصاد علم محايد." رد ياسر: "لا يوجد علم محايد في عالم غير عادل." هذا الرد جعل بعض الطلاب يضحكون، لكنه جعل آخرين يفكرون.
19. في إحدى الأمسيات، دعاه جان إلى اجتماع سري للحزب. كان الاجتماع في قبو قديم، مضاء بضوء خافت. تحدثوا عن خطة لتنظيم إضراب عمالي. ياسر استمع باهتمام، لكنه شعر بأن شيئًا ما ناقص. كان الحزب يتحدث عن العمال الفرنسيين، لكن ماذا عن العمال في إفريقيا؟ في آسيا؟ في مصر؟ سأل جان: "لماذا لا نتحدث عن العالم كله؟" أجاب جان: "كل خطوة في مكانها، يا ياسر." لكن ياسر لم يكن مقتنعًا.
20. في تلك الفترة، بدأ ياسر يشعر بالغربة. كان يحب باريس، لكنه لم يشعر أبدًا بأنها موطنه. كان يشعر بأنه غريب بين الشيوعيين، بين الطلاب، بين الجميع. كتب في دفتره: "أنا ابن القاهرة، لكنني أنتمي إلى العالم. لكن العالم، هل ينتمي إليّ؟" كان هذا السؤال يطارده، لكنه كان أيضًا يدفعه إلى الأمام.
الفصل الثالث: ناصر والحلم
1. في صيف 1952، عاد ياسر الضحى إلى القاهرة، مدينته التي لم ينسَ رائحتها: مزيج من غبار الصحراء ودخان المصانع ونفَس النيل. كانت المدينة تمور بالحماس، فقد أطاحت ثورة يوليو بالملك فاروق، وحملت معها وعدًا بمصر جديدة. ياسر، الذي كان في الثانية والعشرين، عاد من باريس حاملاً في قلبه نار الأفكار الشيوعية وفي عقله أسئلة عن العدالة لم تجد إجابات بعد. كان يرى في عبد الناصر بطلًا، رجلاً يتحدى الاستعمار البريطاني ويعد بإعادة الأرض للفلاحين. لكن القاهرة التي عاد إليها لم تكن تلك التي تركها: كانت مدينة تتأرجح بين الأمل والفوضى، بين الحلم والخوف.
2. استقر ياسر في شقة صغيرة في وسط المدينة، قريبة من ميدان التحرير، حيث كان يسمع هتافات الجماهير كل ليلة. كان يتجول في الأزقة، يراقب الوجوه: الفلاحون الذين جاءوا إلى المدينة بحثًا عن عمل، العمال الذين يضربون عن العمل، الطلاب الذين يحلمون بمستقبل أفضل. لكنه رأى أيضًا الجنود في الشوارع، والخوف في عيون البعض. كتب في دفتره: "الثورة مثل النيل، تتدفق بقوة، لكنها قد تحمل الطمي أو الدم." كان يشعر بأن الثورة فرصة، لكنه كان يخشى أن تتحول إلى وهم.
3. في إحدى الأمسيات، التقى ياسر بصديق قديم من المدرسة، محمود، الذي انضم إلى جماعة وطنية تدعم ناصر. دعاه محمود إلى اجتماع في مقهى قديم في حي السيدة زينب. كانت القاعة مليئة بالشباب، بعضهم يرتدي الجلاليب والبعض الآخر بدلات أنيقة. تحدثوا عن الإصلاح الزراعي، عن تأميم الشركات الأجنبية، عن مصر التي ستصبح قوة عالمية. ياسر استمع باهتمام، لكنه شعر بأن هناك شيئًا ناقصًا. "ماذا عن الفقراء؟" سأل. "ماذا عن الفلاح الذي رأيته يُضرب في طفولتي؟" رد محمود: "ناصر سيغير كل شيء، يا ياسر. ثق بالثورة."
4. لكن ياسر لم يكن يثق بسهولة. كان قد تعلم في باريس أن الثورات ليست مجرد هتافات، بل صراعات. بدأ يقرأ عن تاريخ الثورات: الفرنسية، الروسية، الصينية. كان يرى أن كل ثورة تبدأ بحلم، لكنها قد تنتهي بخيبة. في إحدى الليالي، جلس على ضفاف النيل يكتب مقالاً ناريًا بعنوان "الثورة والعدالة". كتب: "الثورة التي لا تعطي الأرض للفلاح ولا الخبز للجائع ليست ثورة، بل مسرحية." أرسل المقال إلى جريدة محلية، لكنه لم يُنشر. "خطير جدًا"، قال المحرر. "لا نريد إزعاج الحكومة."
5. هذا الرفض أثار غضب ياسر، لكنه أيضًا ألهمه. بدأ يشارك في حلقات نقاش سرية مع مفكرين وناشطين. كانوا يجتمعون في شقق صغيرة، يتحدثون عن ناصر، عن الاشتراكية، عن الاستعمار. لكن ياسر لاحظ شيئًا مقلقًا: بعض الشيوعيين المصريين كانوا يواجهون القمع. سمع عن اعتقالات، عن تعذيب في السجون. في إحدى الجلسات، سأل أحد الناشطين: "إذا كانت الثورة ضد الظلم، فلماذا تقمع أبناءها؟" لم يكن لدى أحد إجابة.
6. في تلك الفترة، بدأ ياسر يعمل كباحث في معهد اقتصادي صغير في القاهرة. كان المعهد ممولاً من الحكومة، لكنه كان أيضًا مليئًا بالبيروقراطية. كان ياسر يكتب تقارير عن الفقر في الريف، عن توزيع الأراضي، لكن تقاريره كانت تُطوى في الأدراج. "هذا ليس وقت النقد،" قال له مديره. "الثورة تحتاج إلى دعم، لا إلى أسئلة." لكن ياسر لم يكن يستطيع التوقف عن السؤال. كتب في دفتره: "إذا كانت الثورة تخاف من الحقيقة، فهي ليست ثورة."
7. في إحدى الأيام، زار ياسر قرية في دلتا النيل. كان قد سمع عن الإصلاح الزراعي، عن توزيع الأراضي على الفلاحين. لكنه رأى شيئًا مختلفًا: الفلاحون كانوا يملكون أراضٍ صغيرة، لكنهم كانوا مدينين للبنوك، مضطرين لزراعة محاصيل تحددها الحكومة. التقى بفلاح عجوز، يشبه ذلك الذي رآه في طفولته. سأله ياسر: "هل أنت سعيد بالثورة؟" أجاب العجوز: "الثورة مثل المطر، يا بني. تبلل الأرض، لكنها لا تروي الجميع." هذه الكلمات أصبحت وخزة في قلب ياسر.
8. في القاهرة، بدأ ياسر يلتقي بمفكرين آخرين، بعضهم من اليسار، وبعضهم من الإخوان المسلمين. كان يناقشهم بحماس، لكنه شعر بالغربة. الإخوان تحدثوا عن الدين كحل للظلم، لكن ياسر رأى أن الدين يمكن أن يكون أداة للسلطة. الشيوعيون تحدثوا عن الطبقة العاملة، لكن ياسر شعر أن أفكارهم مستوردة من أوروبا، غير ملائمة لمصر. كتب في دفتره: "مصر ليست باريس، ولا موسكو. مصر بحاجة إلى ثورة خاصة بها."
9. في إحدى الليالي، دعاه محمود إلى مظاهرة في ميدان التحرير. كانت الجماهير تهتف لناصر، تحمل صوره، وتطالب بالاستقلال الكامل. ياسر انضم إلى الهتاف، لكنه شعر بالقلق. كان يرى الحماس، لكنه رأى أيضًا الجنود الذين يراقبون الجماهير بعيون حادة. بعد المظاهرة، جلس مع محمود في مقهى. "هل تعتقد أن ناصر سيحقق العدالة؟" سأل ياسر. أجاب محمود: "إذا لم يفعل، فسنفعل نحن." لكن ياسر لم يكن متأكدًا.
10. في تلك الفترة، بدأ ياسر يكتب مقالات أكثر جرأة. كتب عن التناقضات في الثورة، عن القمع الذي يطال الشيوعيين، عن الفلاحين الذين لا يزالون يعانون. أرسل مقالاً إلى جريدة يسارية صغيرة، لكنه تلقى تحذيرًا من صديق: "احذر، يا ياسر. الحكومة تراقب." هذا التحذير جعله يشعر بالعزلة. كان يريد دعم الثورة، لكنه لم يستطع تجاهل ظلالها.
11. في إحدى الأمسيات، زار ياسر والده، حمدي، في بيته في الزمالك. كان حمدي قد تقاعد جزئيًا، لكنه لا يزال يعالج الفقراء مجانًا. تحدثا عن الثورة، عن ناصر. "إنه رجل شجاع،" قال حمدي. "لكنه يحتاج إلى وقت." لكن ياسر كان عجولاً. "الوقت يقتل الفقراء، يا أبي،" رد. كان حمدي ينظر إلى ابنه بعينين مليئتين بالقلق. "لا تسرع، يا ياسر. النار التي تحملها قد تحرقك."
12. في تلك السنة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى ناصر يقف على منصة، والنيل يتحول إلى دم. استيقظ مفزوعًا، لكنه شعر بأن الحلم رسالة. كتب في دفتره: "الثورة مثل النيل، يمكن أن تكون حياة أو موتًا. يجب أن نختار." بدأ يشعر بأن دوره ليس فقط دعم الثورة، بل نقدها، لجعلها أفضل.
13. في إحدى الجلسات السرية، التقى ياسر بشاب شيوعي يُدعى خالد. كان خالد مليئًا بالغضب، يتحدث عن ضرورة إسقاط الحكومة إذا لم تحقق العدالة. لكن ياسر كان يرى أن الإسقاط ليس الحل. "نحتاج إلى بناء، لا هدم،" قال. هذا الخلاف جعله يشعر بأنه غريب حتى بين رفاقه. كتب في دفتره: "أنا مع الثورة، لكنني ضد أوهامها."
14. في إحدى الأيام، زار ياسر سوق الجملة في روض الفرج. كان السوق مزدحمًا بالباعة والمشترين، لكنه لاحظ شيئًا: الأسعار مرتفعة، والفقراء يتسولون الطعام. سأل بائعًا: "لماذا الطعام غالٍ؟" أجاب البائع: "الثورة لم تصل إلى بطوننا بعد." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر: هل الثورة مجرد شعارات؟ أم أنها تحتاج إلى شيء أعمق؟
15. في تلك الفترة، بدأ ياسر يقرأ عن الاشتراكية العربية، عن أفكار ناصر حول الوحدة والعدالة. لكنه شعر بأن هذه الأفكار ناقصة. كتب في دفتره: "الاشتراكية العربية تحتاج إلى جذور، جذور في تربة العالم الثالث." بدأ يرى أن مصر ليست منفصلة عن إفريقيا، عن آسيا، عن العالم المستضعف.
16. في إحدى الليالي، دعاه محمود إلى لقاء مع ضابط من الجيش، كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة. تحدث الضابط عن خطط تأميم قناة السويس، عن تحدي الغرب. ياسر استمع بحماس، لكنه سأل: "وماذا عن الفلاحين؟ هل ستملكون الأرض فعلاً؟" الضابط ابتسم ابتسامة سياسية: "كل شيء في وقته." لكن ياسر شعر بخيبة. كان يريد إجابات، ليس وعودًا.
17. في تلك السنة، بدأ ياسر يشعر بالعزلة. كان يدعم ناصر، لكنه لم يستطع تجاهل القمع. كان يحب الثورة، لكنه كان يكره تناقضاتها. كتب في دفتره: "الثورة مثل الحب، مليئة بالأمل والألم." بدأ يفكر في مغادرة مصر مرة أخرى، ليس هروبًا، بل بحثًا عن إجابات أكبر.
18. في إحدى الأمسيات، جلس ياسر على ضفاف النيل، يراقب القوارب الصغيرة وهي تتحرك ببطء. كان يفكر في الفلاح، في العمال، في العالم الذي يريد بناءه. كتب في دفتره: "إذا كانت الثورة لا تصل إلى الفقراء، فهي ليست ثورتي." هذه الكلمات أصبحت شعاره، وإن لم يعرف بعد كيف سيحققها.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يواصل نضاله، لكن ليس داخل مصر فقط. كان يشعر بأن العالم الثالث بحاجة إلى صوت، صوت يتحدث عنه من الداخل، لا من الخارج. كتب في دفتره: "مصر هي البداية، لكن العالم هو الهدف."
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر في ميدان التحرير، يستمع إلى خطاب ناصر عبر الراديو. كانت الجماهير تهتف، لكن ياسر كان صامتًا. كان يشعر بأن الثورة بداية، لكنها ليست النهاية. كان يعرف أن النار التي بدأت في قلبه ستحتاج إلى المزيد من الوقود.
الفصل الرابع: رحلة إفريقيا
1. في صيف 1956، وصل ياسر الضحى إلى مالي، أرض الشمس الحارقة والصحراء التي تمتد كبحر لا نهائي. كان في الخامسة والعشرين، شابًا يحمل في قلبه نار الثورة وفي عقله أفكارًا عن عالم عادل. ترك القاهرة بعد خيبته من تناقضات ثورة يوليو، وبعد أن شعر أن مصر، رغم أحلامه بها، ليست المكان الوحيد الذي يحتاج إلى صوته. عُرض عليه منصب استشاري في وزارة الاقتصاد في باماكو، ولم يتردد. كانت مالي، التي نالت استقلالها مؤخرًا، تعاني من إرث الاستعمار الفرنسي، وياسر رأى فيها فرصة لاختبار أفكاره عن العدالة والتنمية.
2. عندما وصل إلى باماكو، صدمته الحياة هناك. كانت المدينة مزيجًا من الألوان والأصوات: الأسواق المزدحمة، رائحة التوابل، وأصوات الموسيقى التقليدية التي تختلط بصرخات الباعة. لكن تحت هذه الحيوية، رأى الفقر: أطفال حافو الأقدام يركضون في الشوارع، ومزارعون يعانون من الجفاف، ونخب محلية تستفيد من الفساد. كتب في دفتره: "مالي مثل مصر، قلبها ينبض بالحياة، لكنها تنزف من جروح الاستعمار."
3. في مكتبه الصغير في الوزارة، بدأ ياسر يعمل على خطط تنموية. كان يحلم بمشاريع زراعية تعيد الحياة إلى الأراضي الجافة، ومصانع صغيرة توفر فرص عمل للشباب. لكنه سرعان ما اكتشف أن الوزارة ليست مكانًا للأحلام. البيروقراطية كانت خانقة، والمسؤولون كانوا يفضلون المشاريع التي تجلب أموالاً سريعة من الغرب. في إحدى الاجتماعات، اقترح ياسر مشروعًا لري الأراضي الريفية. رد أحد المسؤولين: "هذا مكلف. الغرب لن يموله." شعر ياسر بالغضب، لكنه أخفاه.
4. في إحدى الزيارات إلى قرية نائية، رأى ياسر ما جعله يعيد التفكير في كل شيء. كانت القرية تعاني من الجفاف، والمزارعون كانوا يعتمدون على بئر وحيدة بالكاد تكفي للشرب. التقى بامرأة عجوز، كانت تجلس تحت شجرة بعيداً عن الشمس، تحكي له عن الاستعمار الفرنسي. "كانوا يأخذون قمحنا،" قالت. "والآن، الحكومة تأخذ أملنا." هذه الكلمات أعادت إلى ذهن ياسر صورة الفلاح المصري الذي رآه في طفولته. كتب في دفتره: "الاستعمار لم ينته، بل غير وجهه."
5. في باماكو، بدأ ياسر يلتقي بناشطين محليين، بعضهم كانوا شيوعيين، والبعض الآخر وطنيين يحلمون بإفريقيا موحدة. كانوا يتحدثون عن كوامي نكروما، عن حركات التحرير في الجزائر وغانا. في إحدى الجلسات، التقى بشاب يُدعى أحمد، كان قائدًا نقابيًا في مصنع محلي. تحدث أحمد عن استغلال الشركات الفرنسية التي لا تزال تسيطر على الاقتصاد. "نحن أحرار، لكننا عبيد،" قال. هذه الكلمات ألهمت ياسر، لكنها أيضًا أثقلته. كيف يمكن تحرير شعب من قيود لا ترى؟
6. في الوزارة، بدأ ياسر يكتب تقارير عن الاقتصاد المحلي، لكنه اكتشف أن معظمها يُطوى في الأدراج. في إحدى المرات، اقترح مشروعًا لتطوير تعاونيات زراعية، لكن مسؤولاً كبيراً قال له: "الغرب يريدنا أن نزرع القطن لهم، لا الطعام لشعبنا." هذا الرد جعل ياسر يشعر بالعجز. كتب في دفتره: "الاستقلال ليس حرية، بل بداية معركة أخرى." بدأ يرى أن الرأسمالية العالمية هي العدو الحقيقي، نظام يربط بين باريس وباماكو والقاهرة بخيوط خفية.
7. في إحدى الليالي، دعاه أحمد إلى لقاء سري في ضواحي باماكو. كان اللقاء في كوخ طيني، مضاء بمصباح زيت. تحدث الناشطون عن ضرورة مقاومة التدخلات الغربية. كانوا يخططون لإضراب عمالي ضد شركة فرنسية تستغل مناجم الذهب. ياسر استمع، لكنه شعر بالقلق. كان يؤمن بقضيتهم، لكنه كان يعرف أن الإضراب قد يؤدي إلى قمع عنيف. "هل أنتم مستعدون للثمن؟" سأل. أجاب أحمد: "الثمن قد دُفع منذ قرون." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في التضحيات التي تتطلبها الحرية.
8. في الأشهر التالية، بدأ ياسر يكتب مخطوطة عن التراكم الرأسمالي. كان يكتب في الليل، تحت ضوء مصباح خافت، يحاول فهم كيف تنهب الدول الغنية العالم الثالث. كتب: "المركز يأكل الهامش، والاستقلال السياسي ليس كافيًا. نحتاج إلى استقلال اقتصادي." كانت هذه الأفكار بداية أطروحته الكبرى، لكنها كانت أيضًا مصدر عزلته. زملاؤه في الوزارة لم يفهموا شغفه، وبعضهم اتهمه بالمثالية.
9. في إحدى الزيارات إلى منطقة ريفية، شهد ياسر كارثة. الجفاف دمر المحاصيل، والمزارعون كانوا يتضورون جوعًا. حاول ياسر إقناع الوزارة بإرسال مساعدات، لكنه تلقى ردًا باردًا: "لا توجد ميزانية." في تلك الليلة، جلس تحت سماء مليئة بالنجوم، يشعر بأن العالم ينهار. كتب في دفتره: "إذا كان العلم لا ينقذ الجائعين، فما فائدته؟" بدأ يشعر بأن دوره ليس فقط كباحث، بل كمحارب.
10. في باماكو، بدأ ياسر يلاحظ الفساد في النخب المحلية. كان بعض المسؤولين يتعاونون مع الشركات الغربية، يبيعون الأراضي والموارد مقابل عمولات. في إحدى الاجتماعات، واجه ياسر أحد المسؤولين بسؤال مباشر: "لماذا نبيع أرضنا للغرب؟" رد المسؤول بسخرية: "لأننا نريد العيش، يا دكتور." هذا الرد جعل ياسر يشعر بالغثيان. كتب في دفتره: "الفساد هو الوجه الآخر للاستعمار."
11. في إحدى الأمسيات، دعاه أحمد إلى مهرجان شعبي في ضواحي باماكو. كانت الرقصات والأغاني تملأ الهواء، لكن ياسر لاحظ الحزن في عيون الناس. سأل أحمد: "لماذا يرقصون إذا كانوا جائعين؟" أجاب أحمد: "لأن الرقص هو مقاومة، يا ياسر. إنه إثبات أننا أحياء." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في العلاقة بين الحياة والنضال. بدأ يرى أن الثورة ليست فقط سياسية، بل ثقافية أيضًا.
12. في تلك الفترة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط الصحراء، والنار تحيط به. كان يحاول الركض، لكن النار كانت تتبعه. استيقظ مفزوعًا، لكنه شعر بأن الحلم رسالة. كتب في دفتره: "النار ليست عدوي، بل هي جزء مني. يجب أن أتعلم كيف أستخدمها." بدأ يرى أن النضال يحتاج إلى صبر، لكنه لم يكن متأكدًا إن كان يملكه.
13. في إحدى الزيارات إلى منطقة التعدين، رأى ياسر العمال وهم يعملون في ظروف قاسية. كانوا يستخرجون الذهب لشركات أجنبية، بينما بالكاد يكسبون ما يكفي للعيش. التقى بعامل شاب، يُدعى موسى، تحدث عن أحلامه ببناء مدرسة لأطفاله. "لكن الذهب يذهب إلى باريس،" قال موسى. هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في التراكم الرأسمالي بطريقة جديدة. كتب: "الذهب هو دم الأرض، والرأسمالية هي التي تنزفه."
14. في الوزارة، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا. كان بعض المسؤولين يرون أفكاره خطرة، والبعض الآخر يعتبرونه مثاليًا لا يفهم الواقع. في إحدى الاجتماعات، اتهمه مسؤول كبير بأنه "يحلم بثورة لا يمكن تحقيقها." رد ياسر: "الثورة ليست حلمًا، بل ضرورة." هذا الرد جعله يفقد بعض حلفائه، لكنه أيضًا عزز إيمانه بنفسه.
15. في تلك السنة، بدأ ياسر يكتب مخطوطته الأولى عن التراكم الرأسمالي. كان يكتب بلهفة، كأنه يحاول إنقاذ العالم بالكلمات. كتب: "العالم الثالث ليس ضحية، بل ساحة معركة. يجب أن نفهم قواعد هذه الحرب." لكنه شعر بأن الكلمات ليست كافية. كان يريد أن يرى تغييرًا حقيقيًا، لكنه كان يعرف أن التغيير يحتاج إلى وقت.
16. في إحدى الليالي، دعاه أحمد إلى لقاء مع قادة نقابيين. تحدثوا عن خطة لإضراب كبير. ياسر حذرهم من العواقب، لكنهم كانوا مصممين. "إذا لم نقاوم، سنموت ببطء،" قال أحمد. في اليوم التالي، نفذ العمال الإضراب، لكن الشرطة تدخلت بعنف. تم اعتقال أحمد وعدد من العمال. شعر ياسر بالذنب، كأنه كان يستطيع منع هذا. كتب في دفتره: "النضال يكلف دمًا، لكن الصمت يكلف أكثر."
17. في تلك الفترة، بدأ ياسر يشعر بالعزلة. كان يرى أن النخب في مالي، مثل النخب في مصر، تخون شعبها. كتب: "الاستعمار ليس فقط أجنبيًا، بل داخلي أيضًا." بدأ يفكر في مغادرة مالي، ليس هروبًا، بل بحثًا عن مكان يستطيع فيه تحقيق أفكاره. لكنه كان يعرف أن إفريقيا هي موطنه الثاني، وأن نضاله هنا لم ينته بعد.
18. في إحدى الأمسيات، جلس ياسر على ضفاف نهر النيجر. كان النهر هادئًا، لكنه كان يحمل قوة خفية. كتب في دفتره: "إفريقيا مثل النيجر، هادئة من الخارج، لكنها مليئة بالقوة." بدأ يرى أن دوره هو إيقاظ هذه القوة، ليس فقط في مالي، بل في العالم الثالث بأسره.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يواصل عمله في إفريقيا، لكنه كان يعرف أن الطريق طويل. كتب في دفتره: "النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، يجب أن تنتشر في إفريقيا." كان يشعر بأن العالم الثالث هو ساحة معركته الحقيقية.
20. في اليوم الأخير من إقامته في مالي، زار ياسر القرية التي التقى فيها بالعجوز. أعطته سوارًا من الخرز، وقالت: "خذ هذا، يا ابني. إنه رمز الأمل." حمل ياسر السوار، وشعر بأن النار في قلبه لن تنطفئ أبدًا.
الفصل الخامس: السنغال: معهد العالم
1. في خريف 1970، وصل ياسر الضحى إلى داكار، عاصمة السنغال، حيث كانت الشمس تلون الأفق بدرجات البرتقال والذهب. كان في التاسعة والثلاثين، رجلاً ناضجًا تحمل عيناه تجاعيد السنين وقلبه نارًا لم تنطفئ. بعد تجاربه في مالي والنيجر، حيث واجه الفساد والبيروقراطية، عُرض عليه منصب مدير معهد العالم الثالث، مؤسسة تابعة للأمم المتحدة تهدف إلى دراسة التنمية في الدول المستقلة حديثًا. رأى ياسر في هذا المنصب فرصة لتحويل أفكاره إلى واقع، لكن داكار كانت ستعلمه أن الأفكار، مثل البذور، تحتاج إلى تربة صعبة لتنمو.
2. كانت داكار مدينة تنبض بالحياة والتناقضات. شوارعها مكتظة بالأسواق، حيث يختلط صوت الباعة بأنغام الموسيقى الأفريقية، لكن تحت هذه الحيوية كان الفقر يتربص. رأى ياسر الأطفال يتسولون في الشوارع، والعمال يعملون في ظروف قاسية، والنخب المحلية تعيش في رفاهية مستوردة من الغرب. كتب في دفتره: "داكار مثل مرآة، تعكس جمال إفريقيا وجروحها." كان يشعر بأن هذه المدينة ستكون ساحة معركته الجديدة.
3. في المعهد، بدأ ياسر عمله بحماس. كان المعهد ملاذًا للمفكرين من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يجتمعون لمناقشة التنمية والاستقلال الاقتصادي. كان ياسر يقود النقاشات، يتحدث عن التراكم الرأسمالي، عن المركز والهامش، عن قانون القيمة المعولمة الذي بدأ يصيغه. كتب: "العالم الثالث ليس ضحية، بل قوة نائمة. يجب أن نوقظها." لكنه سرعان ما اكتشف أن المعهد، رغم أهدافه النبيلة، كان مقيدًا ببيروقراطية الأمم المتحدة.
4. في إحدى الجلسات، التقى ياسر بمفكر غاني يُدعى كواسي، كان يتحدث عن وحدة إفريقيا كحلم ممكن. كان كواسي مليئًا بالأمل، لكنه حذر ياسر: "الغرب يريدنا أن نبقى مشتتين. حتى الأمم المتحدة، يا ياسر، ليست بريئة." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في دوره. كان يريد أن يجعل المعهد منارة للعالم الثالث، لكنه كان يعرف أن التمويل الغربي يأتي مع قيود. كتب في دفتره: "المعرفة حرة، لكن من يدفع ثمنها؟"
5. في داكار، بدأ ياسر يصيغ أطروحته عن قانون القيمة المعولمة. كان يرى أن الرأسمالية العالمية تعتمد على استغلال العالم الثالث، حيث يتم نقل القيمة من الهامش إلى المركز. في إحدى المحاضرات، شرح أفكاره لمجموعة من الطلاب. "الاقتصاد العالمي ليس نظامًا، بل حرب،" قال. "والعالم الثالث هو الخاسر الأكبر." لكن أحد الطلاب، شاب من نيجيريا، تحداه: "إذا كنا خاسرين، فلماذا لا نقاوم؟" هذا السؤال جعل ياسر يبتسم. كتب في دفتره: "المقاومة تبدأ بالعلم."
6. في المعهد، واجه ياسر تحديات جديدة. كان بعض زملائه يفضلون الأفكار الليبرالية، يتحدثون عن السوق الحرة كحل للفقر. في إحدى المناقشات، واجه ياسر زميلًا فرنسيًا يُدعى بيير. "السوق سيرفع الجميع،" قال بيير. رد ياسر بحدة: "السوق يرفع الأغنياء ويدفن الفقراء." هذا الخلاف جعل ياسر يشعر بالعزلة، لكنه عزز إيمانه بأفكاره. كتب: "الحقيقة ليست ديمقراطية، بل عنيدة."
7. في إحدى الأمسيات، دعاه كواسي إلى قرية قريبة من داكار. كانت القرية تعيش على صيد الأسماك، لكن الصيادين كانوا يعانون من شركات أجنبية تستحوذ على المصيد. التقى ياسر بصياد عجوز، يُدعى مامادو، تحدث عن البحر كمصدر حياة وموت. "البحر يعطينا، لكنه لا يحمينا من الجشع،" قال مامادو. هذه الكلمات ألهمت ياسر. كتب في دفتره: "البحر مثل العالم الثالث، مليء بالثروات، لكنه منهوب."
8. في تلك الفترة، بدأ ياسر يواجه خيانة داخل المعهد. كان أحد زملائه، وهو باحث من جنوب إفريقيا يُدعى جون، يمرر تقارير سرية إلى جهات غربية. اكتشف ياسر أن جون يتلقى أموالاً مقابل التقليل من شأن أفكار المعهد. في مواجهة مباشرة، سأل ياسر: "لماذا تخون قضيتنا؟" أجاب جون: "لأن العالم الثالث لا يمكنه الفوز." هذه الخيانة جرحت ياسر، لكنها عززت تصميمه. كتب: "الخيانة هي السلاح الأخير للضعفاء."
9. في داكار، بدأ ياسر يلتقي بمفكرين من العالم الثالث. كانوا يأتون من الهند، البرازيل، الجزائر، يحملون قصصًا عن النضال والأمل. في إحدى الجلسات، تحدث مفكر هندي عن غاندي، عن المقاومة السلمية. لكن ياسر كان يرى أن المقاومة تحتاج إلى أكثر من السلم. كتب: "السلم يناسب من يملك القوة، لكن العالم الثالث بحاجة إلى نار." هذه الفكرة أصبحت جوهر أطروحاته.
10. في إحدى الليالي، جلس ياسر على شاطئ داكار، يراقب الأمواج وهي تضرب الصخور. كان يفكر في معهده، في أفكاره، في العالم. كتب في دفتره: "المعهد مثل جنة فكرية، لكنه محاصر بالواقع." بدأ يشعر بأن دوره ليس فقط قيادة المعهد، بل بناء جسر بين الأفكار والواقع. لكنه كان يعرف أن هذا الجسر سيكون مكلفًا.
11. في تلك السنة، بدأ ياسر ينشر مقالات في مجلات دولية. كتب عن قانون القيمة المعولمة، عن كيف أن الرأسمالية تجبر العالم الثالث على إنتاج ما يحتاجه المركز. تلقى بعض المديح، لكنه تلقى أيضًا انتقادات. اتهمه بعض المفكرين الغربيين بأنه "مثالي"، بينما اتهمه آخرون في إفريقيا بأنه "مستورد" لأفكار غربية. هذه الانتقادات جعلته يشعر بالعزلة، لكنه كتب: "الحقيقة لا تحتاج إلى موافقة الجميع."
12. في إحدى الزيارات إلى منطقة ريفية، رأى ياسر كيف أن الشركات الأجنبية تستحوذ على الأراضي الزراعية. التقى بمزارعة شابة، تُدعى فاطمة، تحدثت عن كيف أجبرت عائلتها على بيع أرضها. "كنا نزرع الطعام،" قالت. "والآن نزرع القطن للغرب." هذه القصة جعلت ياسر يفكر في التنمية الحقيقية. كتب: "التنمية التي لا تطعم الشعب ليست تنمية، بل سرقة."
13. في المعهد، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا من الأمم المتحدة. كانوا يريدون تقارير "محايدة"، لكن ياسر كان يصر على كتابة الحقيقة. في إحدى الاجتماعات، قال له مسؤول أممي: "نحتاج إلى حلول عملية، لا أفكار ثورية." رد ياسر: "الحلول العملية التي تخدم الغرب ليست حلولاً." هذا الرد جعله يفقد بعض الدعم، لكنه عزز سمعته بين المفكرين الشباب.
14. في تلك الفترة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط غابة مشتعلة، لكنه لم يكن خائفًا. كانت النار تضيء الطريق أمامه. استيقظ وكتب: "النار ليست للحرق فقط، بل للإرشاد." بدأ يرى أن المعهد هو شعلته، لكنه كان يعرف أن الشعلة تحتاج إلى حماية.
15. في إحدى الأمسيات، دعاه كواسي إلى مهرجان في داكار. كانت الأغاني والرقصات تملأ الهواء، لكن ياسر لاحظ الحزن في عيون الناس. سأل كواسي: "لماذا يرقصون إذا كانوا يعانون؟" أجاب كواسي: "لأن الرقص هو إثبات الحياة." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في العلاقة بين النضال والثقافة. كتب: "الثورة ليست فقط اقتصادية، بل هي أيضًا إحياء للروح."
16. في تلك السنة، بدأ ياسر يواجه تهديدات. تلقى رسائل مجهولة تحذره من الاستمرار في انتقاد الغرب. في إحدى المرات، وجد مكتبه مقلوبًا، وأوراقه ممزقة. لكنه لم يتراجع. كتب: "الخوف هو السلاح الأول للظالمين." بدأ يعمل بجد أكبر، ينظم حلقات دراسية، يدعو المفكرين الشباب للانضمام إلى المعهد.
17. في إحدى الجلسات، تحدث ياسر عن فكرة التكامل الإنتاجي بين دول العالم الثالث. "يجب أن ننتج لأنفسنا، لا للغرب،" قال. لكن أحد زملائه، باحث من كينيا، قال: "هذا حلم صعب. الغرب يملك كل شيء." رد ياسر: "يملكون لأننا نسمح لهم." هذه الكلمات ألهمت البعض، لكنها أثارت غضب آخرين.
18. في إحدى الليالي، جلس ياسر على شاطئ داكار، يستمع إلى الأمواج. كان يفكر في معهده، في أفكاره، في العالم الثالث. كتب: "داكار مثل قلب إفريقيا، تنبض بالأمل والألم." بدأ يشعر بأن دوره هو بناء جسر بين الأفكار والواقع، لكنه كان يعرف أن هذا الجسر سيكون مكلفًا.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يواصل عمله في المعهد، رغم التحديات. كتب في دفتره: "العالم الثالث هو موطني، ومعهدي هو سلاحي." كان يعرف أن الطريق طويل، لكنه كان مستعدًا للمواجهة.
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر أمام طلابه في المعهد، يحاضر عن قانون القيمة المعولمة. كانت عيناه مليئتين بالنار، وصوته يحمل وعدًا. "العالم الثالث ليس نهاية التاريخ،" قال. "بل هو بدايته." وفي تلك اللحظة، شعر أن النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، ونمت في مالي، أصبحت الآن مشعلًا يضيء الطريق.
الفصل السادس: نقد الخرافة
1. في ربيع 1980، كان ياسر الضحى في داكار، لكنه لم يعد ذلك الشاب المتحمس الذي وصل إلى السنغال قبل عشر سنوات. كان الآن في التاسعة والأربعين، رجلاً تحفرت في وجهه خطوط الزمن وفي قلبه تجارب النضال. معهد العالم الثالث، الذي قاده بحماس، أصبح منارة فكرية، لكنه كان أيضًا ساحة صراع. بدأ ياسر يركز على نقد جديد: الإسلام السياسي، الذي بدأ ينتشر في العالم العربي كالنار في الهشيم. كتب في دفتره: "الدين ليس ملاذًا، بل أحيانًا قناعًا للظلم." كانت داكار لا تزال موطنه، لكن أفكاره كانت تتجاوز حدودها.
2. في مكتبه المطل على المحيط الأطلسي، كان ياسر يقرأ تقارير عن صعود الحركات الإسلامية في مصر والسعودية . كان يرى أن هذه الحركات، رغم شعاراتها عن العدالة، تخدم أحيانًا مصالح النخب أو القوى الخارجية. في إحدى الليالي، جلس يكتب مقالاً بعنوان "الخراج والوهم"، وهو كتاب سيثير جدلاً كبيرًا. كتب: "الإسلام السياسي ليس ثورة، بل رد فعل. إنه يستبدل استعمارًا بآخر.كان يقصد جماعة الإخوانج التي تسير تحت الأجندة الوهابية ،وليس إيران، التي كانت ثورة حقيقية لديها بعض الاوهام " كان يعرف أن هذه الكلمات ستُغضب الكثيرين، لكنه كان مصممًا على قول الحقيقة.
3. في المعهد، بدأ ياسر يناقش فكرة نمط الإنتاج الخراجي، الذي رآه كأساس لفهم الاقتصادات العربية التاريخية. كان يرى أن هذا النمط، القائم على جمع الخراج من الفلاحين، لا يزال يؤثر على المنطقة، حتى في ظل الرأسمالية. في إحدى المحاضرات، شرح لطلابه: "الخراج ليس مجرد ضريبة، بل نظام يربط السلطة بالاستغلال." لكن بعض الطلاب، خاصة من العالم العربي، شعروا أن نقده للإسلام السياسي يمس هويتهم. "هل ترفض ديننا؟" سأله أحدهم. رد ياسر: "أرفض استغلال الدين، لا الدين نفسه."
4. في داكار، بدأ ياسر يتلقى رسائل غاضبة من مفكرين عرب. اتهمه البعض بالخيانة، والبعض الآخر بالعمالة للغرب. في إحدى الرسائل، كتب أحدهم: "أنت تدمر وحدتنا." شعر ياسر بالألم، لكنه لم يتراجع. كتب في دفتره: "الحقيقة لا تبحث عن الوحدة، بل عن النور." بدأ يرى أن نقده للإسلام السياسي ليس هجومًا، بل محاولة لتحرير الفكر العربي من قيود الدوغمائية.
5. في إحدى الأمسيات، دعاه صديق سنغالي، أمادو، إلى جلسة نقاش في مقهى صغير. كان المقهى مليئًا بالمفكرين والشعراء، يتحدثون عن إفريقيا والعالم العربي. تحدث ياسر عن الإسلام السياسي، عن كيف أنه يحول الدين إلى أداة سياسية. لكن أحد الحاضرين، شاب من السودان، قاطعه: "الدين هو هويتنا. بدونها، من نكون؟" رد ياسر: "هويتنا ليست في الدين وحده، بل في نضالنا من أجل العدالة." هذا الرد أثار جدلاً حاميًا، لكنه جعل ياسر يشعر بأنه على الطريق الصحيح.
6. في تلك الفترة، بدأ ياسر يدرس التاريخ العربي بعمق أكبر. كان يقرأ عن الإمبراطورية السورية في دمشق وبغداد، التي تنسب لعائلات أموية و عباسية اعتباطا، عن كيف أن الخراج كان يُجمع من الفلاحين لتمويل النخب. رأى أن هذا النمط لا يزال موجودًا، لكنه يرتدي ثوبًا جديدًا: النفط، السلطة، التحالفات مع الغرب. كتب في دفتره: "الخراج اليوم هو النفط، والسلطان اليوم هو الرأسمالية." بدأ يرى أن نقده للإسلام السياسي يجب أن يشمل نقدًا للنظام الاقتصادي العالمي.
7. في المعهد، واجه ياسر تحديات جديدة. كان بعض الممولين الغربيين يضغطون عليه للتركيز على دراسات "محايدة"، بعيدة عن النقد السياسي. في إحدى الاجتماعات، قال له مسؤول أممي: "نريد حلولاً، لا مشاكل." رد ياسر: "المشكلة هي الحل. إذا تجاهلنا الظلم، فإننا نخون العلم." هذا الرد جعله يفقد بعض الدعم، لكنه عزز سمعته بين الطلاب الشباب.
8. في إحدى الزيارات إلى قرية ساحلية، التقى ياسر بصياد عجوز، يُدعى إبراهيم. تحدث إبراهيم عن كيف أن الشركات الأجنبية تستحوذ على الأسماك، بينما الصيادون المحليون يعانون. "البحر لنا، لكنه ليس لنا،" قال. هذه الكلمات ألهمت ياسر. كتب في دفتره: "الإسلام السياسي يعد بالعدالة، لكنه لا يعيد البحر للصيادين." بدأ يرى أن نقده يجب أن يربط بين الاقتصاد والدين.
9. في تلك السنة، نشر ياسر كتابه "الخراج والوهم". كان الكتاب صاعقة. اتهمه البعض في العالم العربي بالكفر، والبعض الآخر بالتغريب. لكنه تلقى أيضًا مديحًا من مفكرين يرون أن نقده ضروري. في إحدى الرسائل، كتب له مفكر مصري: "أنت تضع إصبعك على الجرح، لكن الجرح ينزف." شعر ياسر بالفخر، لكنه شعر أيضًا بالوحدة. كتب: "الناقد يعيش في المنفى، حتى لو كان بين شعبه."
10. في داكار، بدأ ياسر يواجه تهديدات مباشرة. تلقى مكالمات مجهولة، رسائل تحذره من الاستمرار في نقده. في إحدى الليالي، وجد سيارته مخدوشة، وكلمة "خائن" مكتوبة عليها. لكنه لم يتراجع. كتب في دفتره: "الخوف هو السجن الأول، والحقيقة هي المفتاح." بدأ يعمل بجد أكبر، ينظم حلقات دراسية عن الإسلام السياسي ونمط الإنتاج الخراجي.
11. في إحدى الجلسات، التقى ياسر بمفكرة تونسية، سعيدة ، كانت تدرس دور المرأة في الحركات الإسلامية. تحدثت عن كيف أن الإسلام السياسي يستخدم النساء كرمز، لكنه لا يعطيهن حقوقًا. "إنهم يريدوننا صامتات،" قالت. هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في نقده من زاوية جديدة. كتب: "الإسلام السياسي لا يظلم الفقراء فقط، بل النصف الآخر من المجتمع."
12. في تلك الفترة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط مسجد ضخم، لكنه كان خاليًا من الناس. كانت الجدران تتكلم، تقول: "الحقيقة ليست هنا." استيقظ مفزوعًا، لكنه شعر بأن الحلم رسالة. كتب: "الدين ليس المشكلة، بل استغلاله. يجب أن نحرر الروح من القيود."
13. في إحدى الأمسيات، دعاه أمادو إلى مهرجان شعبي في داكار. كانت الأغاني تملأ الهواء، والناس يرقصون تحت ضوء القمر. لكن ياسر لاحظ الحزن في عيونهم. سأل أمادو: "لماذا يرقصون إذا كانوا يعانون؟" أجاب أمادو: "لأن الرقص هو إثبات الحياة." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في العلاقة بين الثقافة والنضال. كتب: "الثورة تحتاج إلى عمل، لا إلى شعارات فقط."
14. في المعهد، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا من زملاء عرب. كانوا يرون أن نقده للإسلام السياسي يضعف وحدة العالم العربي. في إحدى المناقشات، قال له زميل من الأردن: "أنت تقسم، لا توحد." رد ياسر: "الوحدة على الظلم ليست وحدة، بل خيانة." هذا الرد جعله يفقد بعض الأصدقاء، لكنه عزز إيمانه بنقده.
15. في تلك السنة، بدأ ياسر يتلقى دعوات للمحاضرة في جامعات أوروبية. لكنه كان يرفض معظمها. "لا أريد أن أكون صوتًا للغرب،" قال لأمادو. "أريد أن أكون صوت العالم الثالث." بدأ يركز على تدريب جيل جديد من المفكرين الأفارقة والعرب، يعلمهم كيف ينتقدون دون خوف.
16. في إحدى الزيارات إلى القاهرة، التقى ياسر بصديق قديم، محمود، الذي كان يدعم ثورة يوليو. كان محمود قد أصبح موظفًا كبيرًا في الحكومة، لكنه بدا متعبًا. "الثورة تغيرت، يا ياسر،" قال. "أصبحت سلطة." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في نقده للإسلام السياسي. كتب: "السلطة، سواء كانت دينية أو علمانية، تأكل أحلامها."
17. في داكار، بدأ ياسر يواجه تهديدات أكثر خطورة. في إحدى الليالي، تعرض لمحاولة اعتداء أثناء عودته إلى بيته. لكنه لم يتراجع. كتب: "الناقد يعيش في خطر، لكنه يعيش بحرية." بدأ يعمل بجد أكبر، ينشر مقالات، ينظم حلقات دراسية، يتحدث عن الخراج والإسلام السياسي.
18. في إحدى الجلسات، تحدث ياسر عن فكرة التكامل الإنتاجي. "يجب أن ننتج لأنفسنا، لا للغرب،" قال. لكن أحد الطلاب، شاب من المغرب، قال: "الإسلام السياسي يعدنا بالوحدة. أليس هذا أفضل؟" رد ياسر: "الوحدة بدون عدالة هي عبودية." هذه الكلمات ألهمت البعض، لكنها أثارت غضب آخرين.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يواصل نقده، رغم التهديدات. كتب في دفتره: "الإسلام السياسي ليس العدو، بل الوهم الذي يخدم العدو." كان يعرف أن نقده سيجعله منبوذًا في بعض الأوساط، لكنه كان مستعدًا لدفع الثمن.
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر أمام طلابه، يحاضر عن نمط الإنتاج الخراجي. كانت عيناه مليئتين بالنار، وصوته يحمل وعدًا. "النقد ليس هجومًا،" قال. "بل هو بناء لعالم أفضل." وفي تلك اللحظة، شعر أن النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، ونمت في إفريقيا، أصبحت الآن مشعلًا يضيء طريق العالم الثالث.
الفصل السابع: الفيروس الليبرالي
1. في شتاء 2003، كان ياسر الضحى في داكار، لكنه لم يعد ذلك المفكر الشاب الذي وصل إلى السنغال قبل عقود. كان الآن في الثانية والسبعين، رجلاً تحمل جبينه تجاعيد النضال وعيناه بريقًا لا ينطفئ. كان قد أمضى سنوات في معهد العالم الثالث، يصيغ أفكاره عن الرأسمالية والإسلام السياسي، لكن العالم كان يتغير بسرعة مخيفة. العولمة الليبرالية، التي بدأت تجتاح العالم، كانت في نظره فيروسًا يدمر العالم الثالث. كتب في دفتره: "الليبرالية ليست حرية، بل عبودية بثوب جديد."
2. في مكتبه المطل على المحيط، كان ياسر يقرأ تقارير عن الاقتصاد العالمي: الشركات المتعددة الجنسيات تستحوذ على الموارد، والبنوك الدولية تفرض شروطًا قاسية على الدول الفقيرة. كان يرى أن هذا الفيروس ينتشر بسرعة، مدعومًا بمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بدأ يكتب كتابًا جديدًا بعنوان "الفيروس الليبرالي"، ينتقد فيه هذا النظام. كتب: "الليبرالية تعد بالرفاه، لكنها تسلمنا إلى الجوع."
3. في المعهد، كان ياسر يقود نقاشات حامية عن العولمة. كان يجمع طلابًا من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يحثهم على رفض الوعود الكاذبة للسوق الحرة. في إحدى المحاضرات، قال: "السوق الحرة ليست حرة، بل سجن. إنها تعطي الحرية للأقوياء وتترك الضعفاء يتضورون جوعًا." لكن بعض الطلاب، متأثرين بالخطاب الغربي، تحدوه. "أليس التقدم في الانفتاح؟" سأل أحدهم. رد ياسر: "الانفتاح الذي يدمر شعوبنا ليس تقدمًا، بل انتحارًا."
4. في داكار، بدأ ياسر يلاحظ تأثير العولمة على الحياة اليومية. الأسواق المحلية كانت تختفي، تاركة مكانها لمحلات الشركات الكبرى. الشباب كانوا يرتدون ملابس غربية، يحلمون بالهجرة إلى أوروبا. في إحدى الأمسيات، التقى بتاجر شاب، يُدعى أمين، كان يبيع المنتجات المحلية. "لم يعد أحد يشتري مني،" قال أمين. "الجميع يريد العلامات الأجنبية." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في الغزو الثقافي. كتب: "الفيروس الليبرالي لا يدمر الاقتصاد فقط، بل الروح."
5. في تلك الفترة، بدأ ياسر يواجه انتقادات من زملاء في المعهد. كان بعضهم يرون أن نقده للعولمة مبالغ فيه. في إحدى الجلسات، قال له باحث فرنسي، جاك: "العولمة تجلب الاستثمارات. أليس هذا مفيدًا؟" رد ياسر: "الاستثمارات التي تجعلنا عبيدًا ليست نعمة، بل لعنة." هذا الرد جعل جاك يصمت، لكنه أثار غضب بعض الممولين. بدأ ياسر يشعر بأن المعهد نفسه أصبح ساحة صراع.
6. في إحدى الزيارات إلى قرية ريفية، رأى ياسر كيف أن السياسات الليبرالية دمرت الفلاحين. كانت الأراضي تُباع لشركات أجنبية، والمزارعون يضطرون للعمل كأجراء. التقى بفلاحة عجوز، تُدعى خديجة، تحدثت عن أرضها التي فقدتها. "كنا نزرع لأنفسنا،" قالت. "الآن نزرع للغرب." هذه القصة جعلت ياسر يكتب في دفتره: "الليبرالية ليست تقدمًا، بل نهبًا باسم الحرية."
7. في داكار، بدأ ياسر ينظم حلقات دراسية عن الفيروس الليبرالي. كان يدعو المفكرين الشباب لمناقشة كيفية مقاومة العولمة. في إحدى الجلسات، تحدث عن التكامل الإنتاجي بين دول العالم الثالث. "يجب أن ننتج لأنفسنا، لا للغرب،" قال. لكن أحد الطلاب، شاب من غانا، سأل: "كيف يمكننا المنافسة مع الغرب؟" رد ياسر: "بالوحدة. إذا توحدنا، نصبح أقوى منهم."
8. في تلك السنة، نشر ياسر كتابه "الفيروس الليبرالي". كان الكتاب صاعقة، ينتقد فيه المؤسسات الدولية والنخب المحلية التي تروج للعولمة. تلقى مديحًا من مفكري العالم الثالث، لكنه تلقى أيضًا هجومًا من الغرب. اتهمه بعض المفكرين الليبراليين بأنه "معادٍ للتقدم". لكنه لم يهتم. كتب في دفتره: "التقدم الذي يدمر شعوبنا ليس تقدمًا، بل تراجعًا."
9. في إحدى الأمسيات، دعاه صديق سنغالي، أمادو، إلى مهرجان في داكار. كانت الأغاني والرقصات تملأ الهواء، لكن ياسر لاحظ أن الشباب يرتدون ملابس غربية، يغنون أغاني أمريكية. سأل أمادو: "أين ثقافتنا؟" أجاب أمادو: "الفيروس الليبرالي يأكلها." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في العلاقة بين الاقتصاد والثقافة. كتب: "الليبرالية لا تدمر الاقتصاد فقط، بل هويتنا."
10. في المعهد، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا من الممولين. كانوا يريدون منه التركيز على دراسات "عملية"، بعيدة عن النقد السياسي. في إحدى الاجتماعات، قال له مسؤول أممي: "نريد حلولاً، لا هجومًا على النظام العالمي." رد ياسر: "الحل هو في مواجهة النظام، لا الانصياع له." هذا الرد جعله يفقد بعض الدعم، لكنه عزز سمعته بين الطلاب.
11. في إحدى الزيارات إلى القاهرة، التقى ياسر بصديق قديم، محمود، الذي كان قد أصبح كاتبًا معروفًا. تحدث محمود عن العولمة في العالم العربي، عن كيف أن النخب تستفيد منها بينما الفقراء يعانون. "الناس يريدون التغيير،" قال محمود. "لكنهم لا يعرفون كيف." هذه الكلمات جعلت ياسر يفكر في دوره. كتب: "المفكر لا يقدم حلولاً فقط، بل يوقظ الضمير."
12. في داكار، بدأ ياسر يتلقى تهديدات. تلقى رسائل مجهولة تحذره من الاستمرار في نقده للعولمة. في إحدى الليالي، وجد مكتبه مقلوبًا، وأوراقه ممزقة. لكنه لم يتراجع. كتب: "الخوف هو أداة الفيروس الليبرالي. يجب أن نقاومه بالحقيقة." بدأ يعمل بجد أكبر، ينشر مقالات، ينظم حلقات دراسية.
13. في إحدى الجلسات، تحدث ياسر عن فكرة التكامل الإنتاجي. "يجب أن نبني اقتصاداتنا معًا، لا أن نتنافس تحت ظل الغرب،" قال. لكن أحد الطلاب، شاب من نيجيريا، قال: "الغرب يملك كل شيء. كيف يمكننا المنافسة؟" رد ياسر: "بالعلم والوحدة. إذا توحدنا، نصبح قوة لا تُقهر."
14. في تلك الفترة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط مدينة مشتعلة، لكنه لم يكن خائفًا. كانت النار تضيء الطريق أمامه. استيقظ وكتب: "النار ليست للحرق فقط، بل للإرشاد." بدأ يرى أن نقده للعولمة هو شعلته، وأن دوره هو إضاءة الطريق للآخرين.
15. في إحدى الأمسيات، دعاه أمادو إلى لقاء مع ناشطين شباب. تحدثوا عن مقاومة العولمة، عن كيفية الحفاظ على الثقافة المحلية. كان الشباب مليئين بالحماس، لكنهم كانوا أيضًا خائفين. "الغرب قوي جدًا،" قال أحدهم. رد ياسر: "القوة ليست في المال، بل في الإرادة." هذه الكلمات ألهمت الشباب، لكنها جعلت ياسر يفكر في الثمن الذي سيدفعونه.
16. في تلك السنة، بدأ ياسر يتلقى دعوات للمحاضرة في جامعات أوروبية. لكنه كان يرفض معظمها. "أنا لست هنا لإرضاء الغرب،" قال لأمادو. "أنا هنا للعالم الثالث." بدأ يركز على تدريب جيل جديد من المفكرين، يعلمهم كيف ينتقدون النظام العالمي دون خوف.
17. في إحدى الزيارات إلى منطقة ريفية، رأى ياسر كيف أن السياسات الليبرالية دمرت المزارعين. التقى بمزارع شاب، يُدعى إدريس، تحدث عن كيف أجبر على بيع أرضه لشركة أجنبية. "كنا نزرع الطعام،" قال إدريس. "الآن نزرع لهم." هذه القصة جعلت ياسر يكتب: "الفيروس الليبرالي يأكل الأرض قبل أن يأكل الناس."
18. في داكار، بدأ ياسر يواجه تهديدات أكثر خطورة. في إحدى الليالي، تعرض لمحاولة اعتداء أثناء عودته إلى بيته. لكنه لم يتراجع. كتب: "الناقد يعيش في خطر، لكنه يعيش بحرية." بدأ يعمل بجد أكبر، ينشر مقالات، ينظم حلقات دراسية عن العولمة.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يواصل نقده، رغم التهديدات. كتب في دفتره: "الفيروس الليبرالي ليس مجرد نظام اقتصادي، بل غزو ثقافي وسياسي. يجب أن نقاومه بكل الوسائل." كان يعرف أن نقده سيجعله منبوذًا في بعض الأوساط، لكنه كان مستعدًا لدفع الثمن.
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر أمام طلابه، يحاضر عن الفيروس الليبرالي. كانت عيناه مليئتين بالنار، وصوته يحمل وعدًا. "العالم الثالث ليس ضحية،" قال. "بل هو القوة التي ستغير العالم." وفي تلك اللحظة، شعر أن النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، ونمت في إفريقيا، أصبحت الآن مشعلًا يضيء طريق المستقبل.
الفصل الثامن: بوتين والتنين
1. في صيف 2018، كان ياسر الضحى في داكار، لكنه لم يعد ذلك المفكر الشاب المليء بالحماس الذي وصل إلى السنغال قبل عقود. كان الآن في السابعة والثمانين، رجلاً منحني الظهر قليلاً، لكنه لا يزال يحمل في عينيه شرارة النار التي أشعلتها القاهرة في طفولته. كان قد أمضى حياته يناضل من أجل العالم الثالث، يكتب عن الرأسمالية، الإسلام السياسي، والعولمة. لكنه شعر الآن بأن العالم يتغير بسرعة، وأن النار التي حملها تحتاج إلى وقود جديد. كتب في دفتره: "العالم يدور، لكن الظلم يبقى. النضال لا ينتهي."
2. في مكتبه المطل على المحيط الأطلسي، كان ياسر يقرأ عن صعود الصين وروسيا كقوى عالمية جديدة. كان يرى فيهما تحديًا للهيمنة الغربية، لكنه كان حذرًا. الصين، التنين الذي نهض من سباته، كانت تبني جسورًا ومصانع في إفريقيا، لكن ياسر تساءل: ينبغي أن ندرس الأمر عن مستوى التحرير من ربقة الاستعمار الغربي الجديد؟ وروسيا، بقيادة بوتين، بدت كقوة تقاوم الغرب، لكنها كانت أيضًا غارقة في مصالحها الخاصة. كتب: "التنين قوي، لكنه جائع. والدب الروسي يحارب، لكنه يحارب لنفسه."كان هذا قبل وصول شي جين بينغ و تخلص بوتين من أوهام زرعتها القيادة الروسية الخانعة خلال العقد ما قبل القرن الواحد والعشرين وايضا أخطاء وقع بها بوتين ،واعترف أنها كانت اوهام مما جعله حازما وحكيما ، بعد أن استفاد من تجاربه في السنوات الأولى لحكمه ..
3. في تلك السنة، تلقى ياسر دعوة غير متوقعة: زيارة إلى بكين للمشاركة في مؤتمر عن التنمية العالمية. كان مترددًا، لكنه قرر الذهاب. رأى في الصين فرصة لفهم هذا التنين الجديد. عندما وصل إلى بكين، صدمته المدينة: ناطحات السحاب، الشوارع المزدحمة، والطاقة التي تفيض من كل زاوية. لكنه لاحظ أيضًا الفجوة: العمال المهاجرون يعيشون في أطراف المدينة، بينما النخب تحتفل في مركزها. كتب: "الصين تنهض، لكن على أكتاف من؟"
4. في المؤتمر، تحدث ياسر عن العالم الثالث، عن الحاجة إلى تكامل اقتصادي بعيدًا عن هيمنة الغرب. كانت كلماته مليئة بالنار، لكنها لاقت استحسانًا من الحضور الصينيين. بعد المؤتمر، التقى بمسؤول صيني كبير، رجل هادئ بعيون حادة. "نريد مساعدة إفريقيا،" قال المسؤول. لكن ياسر رد: "المساعدة ينبغي أن لا تأتي مع شروط ، ." هذا الرد جعل المسؤول يبتسم، لكنه لم يعلق. شعر ياسر بأن الصين، مثل الغرب، لها أجندتها.كان المسؤول الصيني الأكبر يحمل كل الاحترام والتقدير لياسر ،وقد ساعدته مع النخبة الحاكمة الحالية، إلى فهم العالم افضل ، وبناء مشاهد مستقبلية ، نراها اليوم، في تفوق الصين تكنولوجيا ، وفي محددات صناعة المستقبل ، اي الذكاء الاصطناعي . لهذا كان طلبه لمن حوله ، الاحتفاء بهذا المفكر، مهما كانت انتقاداته ، لانها تصدر عن علم ، وليس عن حقد ، أو شهوة لمنصب ،أو مصلحة خاصة به .
5. في داكار، واصل ياسر كتابة وصيته الفكرية. كان يشعر بأن الموت يقترب، لكنه لم يكن خائفًا. كتب: "حياتي كانت نارًا، لكنها كانت نورًا أيضًا." بدأ يكتب عن المحميات الخليجية الصهيوامريكية ، تلك الدول النفطية التي رأى فيها وجهًا آخر للتوسع الرأسمالي الهمجي عبر اقتصاد الريع والفكر التكفيري الفاشي . كتب: "الخليج ليس جزءًا من العالم الثالث، بل محمية للغرب، تبيع النفط وتشتري السلاح." كان يعرف أن هذا النقد سيثير غضبًا، لكنه لم يعد يهتم.
6. في إحدى الأمسيات، دعاه صديق سنغالي، أمادو، إلى جلسة نقاش في مقهى صغير. كان المقهى مليئًا بالشباب، يتحدثون عن الصين وروسيا كبديل للغرب. لكن ياسر قال :" نعم التنين و الدب افضل من الغرب بما لا يقاس. ولكن ثقوا بشعبكم." هذه الكلمات ألهمت البعض، لكنها أثارت قلق آخرين. سأله شاب: "إذا لم نثق بأحد، فمن سينقذنا؟" رد ياسر: "أنتم ستنقذون أنفسكم."
7. في تلك الفترة، بدأ ياسر يواجه أزمة صحية. كان قلبه يضعف، لكنه رفض التوقف عن العمل. كان يكتب كل يوم، كأنه يسابق الزمن. في إحدى الليالي، جلس في مكتبه، يراقب المحيط. كتب: "المحيط مثل العالم الثالث، هادئ من الخارج، لكنه مليء بالعواصف." بدأ يشعر بأن وصيته الفكرية هي آخر مشعل سيتركه للعالم.
8. في إحدى الزيارات إلى القاهرة، التقى ياسر بصديق قديم، محمود، الذي كان قد أصبح كاتبًا متقاعدًا. تحدث محمود عن العالم العربي، عن كيف أن المحميات الخليجية أصبحت مركزًا للنفوذ. "إنهم يشترون كل شيء،" قال محمود. "حتى الأفكار." هذه الكلمات جعلت ياسر يكتب: "النفط هو الدم الجديد للرأسمالية، والخليج هو القلب الذي يضخه."
9. في داكار، بدأ ياسر يتلقى تهديدات جديدة. كانت مقالاته عن المحميات الخليجية قد أثارت غضب النخب في المنطقة. تلقى رسائل مجهولة تحذره من الاستمرار. في إحدى الليالي، وجد زجاج نافذته محطمًا. لكنه لم يتراجع. كتب: "التهديدات هي دليل أنني على الطريق الصحيح." بدأ يعمل بجد أكبر، ينشر مقالات، يحاضر عن الصين وروسيا و محميات الخليج الصهيو أمريكية .
10. في إحدى الجلسات في المعهد، تحدث ياسر عن فكرة التكامل الإنتاجي. "يجب أن نتحد، من إفريقيا إلى آسيا، لنبني اقتصادنا الخاص،" قال. لكن أحد الطلاب، شاب من الجزائر، قال: "الصين تقدم لنا المساعدة . أليس هذا كافيًا؟" رد ياسر: " المساعدة مهما كانت قيد، وليس حرية. لهذا ينبغي الاعتماد على التنمية المتمركزة على الذات " هذه الكلمات ألهمت البعض، لكنها أثارت غضب آخرين.
11. في تلك السنة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط صحراء، والتنين الصيني والدب الروسي يحيطان به. كانا ينظران إليه، لكنه لم يكن خائفًا. استيقظ وكتب: "التنين والدب ليسا أعداء، بقدر انهما أصدقاء. إنهما قوى يجب أن نفهمها." بدأ يرى أن دوره هو تحذير العالم الثالث من الوقوع في فخ تلك القوى الاستعمارية الغربية التي تقدم نفسها على أنها جديدة والتركيز على فك الارتباط مع النمط الرأسمالي الغربي.
12. في إحدى الأمسيات، دعاه أمادو إلى مهرجان شعبي في داكار. كانت الأغاني والرقصات تملأ الهواء، لكن ياسر لاحظ أن الشباب يتحدثون عن الصين كمنقذ. سأل أمادو: "هل الصين هي الأمل؟" أجاب أمادو: "الأمل في أنفسنا، يا ياسر." هذه الكلمات جعلت ياسر يكتب: "الصين ليست حلا سحريا، يجب أن نكون مع وحدة الشعب باغلبيته الساحقة، ومع نمط تنموي يناسب واقعنا "
13. في تلك الفترة، بدأ ياسر يشعر بثقل السنين. كان قلبه يتعب، لكنه كان يرفض التوقف. كتب: "النضال لا ينتهي بالموت، بل ينتقل إلى الآخرين." بدأ يركز على تدريب جيل جديد من المفكرين، يعلمهم كيف ينتقدون القوى العالمية دون خوف.
14. في إحدى الزيارات إلى موسكو، دعي ياسر للقاء مسؤول روسي. تحدث المسؤول عن مقاومة الغرب، عن دور روسيا في دعم العالم الثالث. لكن ياسر كان حذرًا. "روسيا تقاوم الغرب، لكن ماذا عن شعوبنا؟" سأل. المسؤول ابتسم، لكنه لم يجب. شعر ياسر بأنه يقدر بوتين، الذي اعترف متأخرا مع فريقه أنه خدع من الغرب. كما شرح ياسر أن الغرب لن يترك روسيا، الا إذا جعلها بتنمية رثة كتركيا مثلا ،فالغرب الاستعماري لا يقبل بشراكات بل بعبيد يخدمون اله الربح الرأسمالي الغربي وبالتالي على روسيا أن تفك روابطها مع الغرب، لا أن تتوهم أنها يمكن أن تتوحد معه..
15. في داكار، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا من المعهد. كان بعض زملائه يرون أن نقده للصين وروسيا قد يضر بالتمويل. في إحدى الاجتماعات، قال له زميل: "كن حذرًا، يا ياسر. لا نريد أن نخسر حلفاءنا." رد ياسر: "الحلفاء الذين يطالبون بالصمت ليسوا حلفاء." هذا الرد جعله يفقد بعض الدعم، لكنه عزز إيمانه بنقده.
16. في إحدى الليالي، جلس ياسر على شاطئ داكار، يستمع إلى الأمواج. كان يفكر في حياته، في القاهرة، في باريس، في مالي، في السنغال. كتب: "حياتي كانت رحلة، لكن الوجهة كانت دائمًا العدالة." بدأ يشعر بأن وصيته الفكرية هي آخر ما سيتركه للعالم.
17. في تلك السنة، بدأ ياسر يتلقى تهديدات أكثر خطورة. تلقى مكالمات مجهولة تحذره من نقد المحميات الخليجية. في إحدى الليالي، تعرض لمحاولة اعتداء أثناء عودته إلى بيته. لكنه لم يتراجع. كتب: "الناقد يعيش في خطر، لكنه يعيش بحرية."
18. في إحدى الجلسات في المعهد، تحدث ياسر عن المحميات الخليجية. "إنها ليست دولاً، بل قواعد للغرب،" قال. لكن أحد الطلاب، شاب من السعودية، قاطعه: "أنت تهاجم هويتنا." رد ياسر: "أهاجم الظلم، لا الهوية." هذه الكلمات ألهمت البعض، لكنها أثارت غضب آخرين.
19. في نهاية تلك السنة، قرر ياسر أن يكمل وصيته الفكرية. كتب: "الصين وروسيا ليستا سوى البداية التقدمية خارج مسارات عبودية العالم الثالث كما يفرضها الغرب و مصارفه الدولية ، وبالتالي هما جزء من اللغز الذي ينبغي أن نفك مفاتيحه لنعرف ما يناسبنا وما لا ينبغي أن نجربه. العالم الثالث يجب أن يجد طريقه بنفسه." كان يعرف أن نقده سيجعله منبوذًا، لكنه كان مستعدًا لدفع الثمن.
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر أمام طلابه، يحاضر عن العالم الثالث. كانت عيناه مليئتين بالنار، وصوته يحمل وعدًا. "النضال ليس نهاية،" قال. "بل بداية. احملوا النار، ولا تدعوها تنطفئ." وفي تلك اللحظة، شعر أن النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، ونمت في إفريقيا، ستبقى مشتعلة إلى الأبد.
الفصل التاسع: وصية النار
1. في خريف 2025، كان ياسر الضحى في داكار، يجلس في مكتبه المطل على المحيط الأطلسي، وهو في الرابعة والتسعين من عمره. كان جسده قد ضعف، لكن عينيه لا تزالان تحملان تلك النار التي أشعلتها القاهرة في طفولته. كان قد أمضى حياته يناضل من أجل العالم الثالث، يكتب عن الرأسمالية، الإسلام السياسي، العولمة، والصعود الجديد للصين وروسيا. لكنه شعر الآن بأن الوقت قد حان لوضع وصيته الفكرية النهائية. كتب في دفتره: "النار التي حملتها لم تكن للحرق، بل للإضاءة. يجب أن أتركها مشتعلة."
2. في داكار، كان ياسر يراقب العالم من بعيد. كان يرى الصين تتحول إلى قوة عالمية، تبني مدنًا في صحرائها الشرقية تتفوق في التكنولوجيا على باريس ولندن ونيويورك. كان يرى في الصين نموذجًا يتحدى الغرب، ليس فقط بقوتها الاقتصادية، بل بقدرتها على تقليل التفاوت بين أقاليمها. كتب: "الصين ليست مثالية، لكنها أثبتت أن التنمية يمكن أن تكون عادلة إذا كانت الإرادة موجودة." كان يمدح الصين لأنها، برأيه، تقدم حلولًا لمشكلة التفاوت التي يفرضها الغرب على دوله الضعيفة.
3. في الوقت نفسه، كان ياسر ينظر إلى روسيا بعين الناقد الممتن. كان يرى في الاتحاد السوفييتي تجربة وحدوية استثنائية، حيث لم يكن هناك تفاوت في الرواتب بين الجمهوريات يشبه استعمار البنك المركزي الأوروبي لدول مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا وشرق أوروبا. كتب: "الاتحاد السوفييتي لم يكن استعماريًا، بل كان محاولة لبناء عالم متساوٍ. لقد أخطأ، كما في أي تجربة ناجحة ،تجرب لتعرف وتفهم ،لكنه لم ينهب." كان يرى في روسيا بوتين قوة تقاوم الغرب، لكنه كان حذرًا من طموحاتها.
4. في المعهد، كان ياسر يقود نقاشاته الأخيرة. كان يجمع طلابًا من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يحثهم على دراسة الصين وروسيا كبديلين للغرب، لكن دون أوهام. في إحدى المحاضرات، قال: "الصين ليست منقذًا، بل شريكًا يجب أن نتعلم منه وفق ما يخدم تجاربنا التقدمية الخاصة وروسيا ليست بطلة، بل قوة لها أجندتها. لكن كلاهما يعلمنا أن الغرب ليس قدرًا." هذه الكلمات ألهمت الطلاب، لكنها أثارت جدلاً بينهم.
5. في إحدى الأمسيات، دعاه صديق سنغالي، أمادو، إلى جلسة نقاش في مقهى صغير. كان المقهى مليئًا بالشباب الذين يتحدثون عن الصين وروسيا كقوى جديدة. تحدث ياسر عن الاتحاد السوفييتي، عن كيف أنه قدم تجربة وحدوية لم تعرف التفاوت الذي نراه اليوم في أوروبا. "الاتحاد السوفييتي لم يكن مثاليًا،" قال. "لكنه كان يحاول بناء عالم للجميع، لا للنخب." سأله شاب: "وهل يمكننا تكرار ذلك؟" رد ياسر: "يمكننا أن نفعل أفضل، إذا تعلمنا من أخطائهم."
6. في داكار، بدأ ياسر يكتب وصيته الفكرية، كتابًا بعنوان "نار العالم الثالث". كان يكتب ببطء، يداه ترتجفان من السن، لكن عقله كان حادًا كالسكين. كتب: "الصين أعطتنا درسًا: يمكننا بناء مدن في الصحراء، يمكننا تحدي الغرب. لكن يجب أن نبني لشعوبنا، لا لنخبنا." كان يرى أن الصين، بمدنها التكنولوجية مثل شنغهاي وشينزين، قدمت نموذجًا للتنمية العادلة، على عكس الغرب الذي يستغل دوله الضعيفة.
7. في تلك الفترة، كان ياسر يعاني من أزمات صحية متكررة. كان قلبه يضعف، لكنه رفض التوقف عن الكتابة. في إحدى الليالي، جلس في مكتبه، يراقب المحيط. كتب: "المحيط مثل العالم الثالث، مليء بالأسرار والقوة. يجب أن نكتشفها." بدأ يشعر بأن وصيته هي آخر ما سيتركه للعالم، لعلها تكون مشعلا للأجيال القادمة.
8. في إحدى الزيارات إلى القاهرة، التقى ياسر بصديق قديم، محمود، الذي كان قد أصبح كاتبًا متقاعدًا. تحدث محمود عن العالم العربي، عن كيف أن المحميات الخليجية لا تزال تخدم الغرب. "إنهم يشترون الأسلحة، لكنهم لا يبنون المستقبل،" قال محمود. هذه الكلمات جعلت ياسر يكتب: "الخليج هو مرآة الرأسمالية: ثروة بلا عدالة.ثروة لأكثر عمليات التوسع الرأسمالي وحشية ، فكرا، وإرهابا تكفيريا "
9. في داكار، بدأ ياسر يتلقى رسائل من طلاب شباب في الصين. كانوا يمدحون كتبه، يسألونه عن رأيه في بلادهم. رد عليهم برسالة طويلة، كتب فيها: "الصين أثبتت أن العالم الثالث يمكن أن ينهض، لكن الحذر واجب. لا تدعوا النخب تسرق أحلامكم." كان يرى في الصين نموذجًا يمكن أن يلهم إفريقيا، لكنه كان يحذر من تكرار أخطاء الغرب.
10. في إحدى الجلسات في المعهد، تحدث ياسر عن الاتحاد السوفييتي. "كان تجربة فريدة،" قال. "لم يكن هناك تفاوت مثلما نراه اليوم في أوروبا، حيث البنك المركزي الالماني يستعمر دول الجنوب والشرق." لكن أحد الطلاب، شاب من نيجيريا، قاطعه: "لكن الاتحاد السوفييتي انهار. أليس هذا دليلاً على فشله؟" رد ياسر: "الانهيار لا يعني الفشل، بل يعني أننا يجب أن نفعل أفضل أو أن الشعوب لم تكن واعية اجتماعيا للمستوى التنموي، الذي بلغته ،أمام إمبراطورية الدعاية الغزبلزية الغربية ، لتضليل الشعوب."
11. في تلك السنة، بدأ ياسر يحلم بأحلام غريبة. في إحداها، رأى نفسه يقف وسط مدينة صينية، ناطحات السحاب تحيط به، لكنه لم يكن وحيدًا. كان هناك فلاح مصري وصياد سنغالي وعامل روسي يقفون معه. استيقظ وكتب: "النضال واحد، مهما اختلفت الأرض." بدأ يرى أن وصيته يجب أن تكون دعوة للوحدة العالمية.
12. في إحدى الأمسيات، دعاه أمادو إلى مهرجان شعبي في داكار. كانت الأغاني والرقصات تملأ الهواء، لكن ياسر لاحظ أن الشباب يتحدثون عن الصين كمنقذ. سأل أمادو: "هل الصين هي الأمل؟" أجاب أمادو: "الأمل في شعوبنا، يا ياسر." هذه الكلمات جعلت ياسر يكتب: "الصين ليست الحل، لكنها تذكير بأننا نستطيع."
13. في داكار، بدأ ياسر يواجه ضغوطًا من المعهد. كان بعض زملائه يرون أن مدحه للصين والاتحاد السوفييتي قد يضر بالتمويل الغربي. في إحدى الاجتماعات، قال له زميل: "كن حذرًا، يا ياسر. لا نريد أن نخسر حلفاءنا." رد ياسر: "الحلفاء الذين يطالبون بالصمت ليسوا حلفاء." هذا الرد جعله يفقد بعض الدعم، لكنه عزز إيمانه بنقده.
14. في إحدى الزيارات إلى قرية ريفية، التقى ياسر بمزارع شاب، يُدعى عثمان. تحدث عثمان عن كيف أن الشركات الصينية تبني طرقًا في قريته، لكنه كان قلقًا. "إنهم يبنون، لكنهم يأخذون أيضًا،" قال. هذه الكلمات جعلت ياسر يكتب: "الصين ليست استعمارًا، لكنها تستجيب لمقتضيات تطورها الخاص ،لهءا ينبغي أن نعتني بمستوى وحدتنا ، و اشكال التنمية التي نستخلصها، من تجاربنا وتاريخنا وواقعنا الخاص."
15. في تلك الفترة، بدأ ياسر يشعر بثقل السنين. كان قلبه يتعب، لكنه كان يرفض التوقف. كتب: "النضال لا ينتهي بالموت، بل ينتقل إلى الآخرين." بدأ يركز على تدريب جيل جديد من المفكرين، يعلمهم كيف ينتقدون القوى العالمية دون خوف.
16. في إحدى الليالي، جلس ياسر على شاطئ داكار، يستمع إلى الأمواج. كان يفكر في حياته، في القاهرة، في باريس، في مالي، في السنغال. كتب: "حياتي كانت رحلة، لكن الوجهة كانت دائمًا العدالة." بدأ يشعر بأن وصيته الفكرية هي آخر ما سيتركه للعالم.
17. في تلك السنة، بدأ ياسر يتلقى رسائل من طلاب في روسيا. كانوا يسألونه عن الاتحاد السوفييتي، عن كيف أنه قدم نموذجًا للوحدة. رد عليهم: "الاتحاد السوفييتي كان محاولة، لكنه أخطأ. يجب أن نبني وحدة جديدة، لكن بلا أخطاء." كان يرى أن تجربة الاتحاد السوفييتي يمكن أن تلهم العالم الثالث، لكن بطريقة أفضل.
18. في إحدى الجلسات في المعهد، تحدث ياسر عن الصين. "لقد بنت مدنًا في الصحراء،" قال. "لكن يجب أن نبني مدنًا لشعوبنا، لا للنخب." لكن أحد الطلاب، شاب من المغرب، قاطعه: "الصين تساعدنا. أليس هذا كافيًا؟" رد ياسر: "المساعدة التي تأتي ، مع تغيير في نمط الإنتاج ،كما نشهد، بعض تجلياته الجديدة في الصين، تجعل الجميع في معادلة رابح رابح "
19. في نهاية تلك السنة، أكمل ياسر كتابه "نار العالم الثالث". كتب في مقدمته: "الصين وروسيا ليستا الحل، لكنهما تذكير بأن العالم الثالث يستطيع. يجب أن نبني وحدتنا، ليس تحت ظل التنين أو الدب، بل تحت شمس شعوبنا.اي كما فعلت روسيا والصين ، بخصائص مشتقة من مستوى نمو أو تخلف بلداننا " كان يعرف أن الكتاب سيثير جدلاً، لكنه كان مستعدًا لدفع الثمن.
20. في اليوم الأخير من تلك السنة، وقف ياسر أمام طلابه، يحاضر عن العالم الثالث. كانت عيناه مليئتين بالنار، وصوته يحمل وعدًا. "النضال ليس نهاية،" قال. "بل بداية. احملوا النار، ولا تدعوها تنطفئ." وفي تلك اللحظة، شعر أن النار التي بدأت في القاهرة، واشتعلت في باريس، ونمت في إفريقيا، ستبقى مشتعلة إلى الأبد.
الفصل العاشر: وصية النار
1. لم ألتقِ ياسر الضحى، أو سمير أمين كما عرفه العالم، سوى مرتين في حياتي، لكن تلك اللقاءات كانت كافية لتترك أثرًا لا يُمحى. المرة الأولى كانت في بروكسل عام 2004، بعد احتلال العراق، في مؤتمر شعبي لمحاكمة مجرمي الحرب. والمرة الثانية كانت في مدينة لييج البلجيكية عام 2015، بعد ما سُمي زورًا بـ"الربيع العربي"، وقبل وفاته بسنوات قليلة. كان ياسر، في كلتا المرتين، كالنار التي لا تنطفئ، صوتًا للعالم الثالث لا يهاب الحقيقة، حتى لو كانت ترتدي قناع الدين أو الحداثة. كتبت في مذكراتي بعد لقائي الأول: "ياسر الضحى ليس مجرد مفكر، بل هو ضمير أمة."
2. في بروكسل، كانت القاعة مكتظة بناشطين من كل أنحاء العالم، يجمعهم غضب مشترك من الدمار الذي أصاب العراق. وقف ياسر، في الثالثة والسبعين من عمره، كالأسد، ينتقد الإمبريالية الأمريكية التي حولت بغداد إلى أنقاض. كان صوته هادئًا لكنه حاد كالسيف، يشرح كيف أن الحرب لم تكن مجرد غزو، بل محاولة لتدمير روح شعب. "العراق ليس أرضًا فقط،" قال. "إنه فكرة، وهم يريدون قتل الأفكار." كانت كلماته تحمل وزن عقود من النضال.
3. في تلك القاعة، وقفت إلى جانبه الكاتبة المصرية نوال السعداوي، التي كانت نارها لا تقل عن نار ياسر. كانا يتحدثان بين الجلسات، وجوههما تحملان عبء سنوات المواجهة. طلبت منهما التقاط صورة معي، فابتسما بود. في تلك اللحظة، شعرت أنني أقف أمام جبلين من التاريخ الحي. الصورة، التي أحتفظ بها حتى اليوم، كانت شاهدة على لقاء لم أكن أعلم أنه سيتبعه آخر. كتب ياسر تعليقًا على الصورة: "النار التي نحملها للعالم الثالث، لا تدعوها تنطفئ."
4. في المؤتمر، تحدث ياسر عن الإمبريالية كمرض يصيب الشعوب، لكنه لم يكتفِ بالحديث عن الغرب. كان يرى أن النخب المحلية، في العراق وغيرها، تتحمل جزءًا من المسؤولية. "الاستعمار لا يعمل بمفرده،" قال. "إنه يجد شركاء في خيانة الشعوب." كانت كلماته تلك أول درس لي عن شجاعة النقد، نقد لا يعرف الحدود، لا للغرب ولا للنخب المحلية. كتبت في مذكراتي: "ياسر لا ينتقد ليدمر، بل ليبني."
5. المرة الثانية التي التقيت فيها ياسر كانت في لييج، في مقر النقابة الاشتراكية، عام 2015. كان الخريف العربي، الذي سُمي زورًا بـ"الربيع"، قد ترك المنطقة في فوضى. كان ياسر، في الرابعة والثمانين، أضعف جسديًا، لكن عقله كان لا يزال حادًا كالنصل. وقف في القاعة، محاطًا بناشطين ومفكرين، يتحدث عن الإسلام السياسي ودوره في تدمير آمال الشعوب. كتب في دفتره، الذي رأيته بين يديه: "الربيع العربي لم يكن ربيعًا، بل عاصفة مصنوعة في مراكز القوى."
6. في تلك الجلسة، تقدمت امرأة محجبة، قالت إنها ناشطة قريبة من جماعة الإخوان المسلمين، وأشادت بمفكر شاب يُدعى البريجينسكي، وصفته بأنه يقدم "إسلامًا عصريًا" يحترم الحداثة. زعمت أن هذا المفكر، الذي قيل إنه حفيد حسن البنا ويدرّس في جامعات لندن، يروج لما أسمته "الإسلام الصهيوني"، فكرة تجمع بين الدين والعولمة. كانت كلماتها مليئة بالحماس، لكنها أثارت ضجة في القاعة. التفتت الأنظار إلى ياسر، منتظرة رده.
7. وقف ياسر بهدوء، لكنه كان كالأسد الذي يستعد للزئير. "الإسلام الصهيوني؟" قال بسخرية مريرة. "إنه إسلام الاستشراق، مصنوع في مراكز القوى الغربية لخدمة مصالحها." شرح كيف أن الإخوان المسلمين، رغم شعاراتهم الدينية، غالبًا ما يتحولون إلى أداة للنخب الرأسمالية. "هل تعتقدون أن الإخوان سيناقشون في البرلمان قضايا الشعب؟" سأل. "لا، إنهم سيوقعون على قروض من البنك الدولي الاستعماري، وسيتركون تونس وغيرها في كارثة اقتصادية." كانت كلماته كالصاعقة، لا تهاب مواجهة أي فكرة، حتى لو كانت ترتدي عباءة الدين.
8. لم يتوقف ياسر عند هذا الحد. تحدث عن يوسف ندى، الرجل الغامض الذي ارتبط اسمه ببنوك سويسرا ووثائق باندورا، وكيف أن الإخوان استخدموا شبكات مالية معقدة، مدعومة من مراكز مثل MI6، لتمويل أنشطتهم. "هذه ليست مقاومة،" قال. "إنها فساد يرتدي قناع التقوى." كان صوته يحمل غضبًا هادئًا، لكنه كان أيضًا مليئًا بالأمل. كتب في دفتره لاحقًا: "الدين ليس العدو، بل استغلاله هو الخطر الحقيقي."
9. بعد الجلسة في لييج، اقتربت من ياسر لأتحدث إليه. كان يجلس في ركن هادئ من مقر النقابة، يحتسي القهوة. سألته عن الإخوان المسلمين، فابتسم بمرارة. "إنهم ليسوا حركة شعبية،" قال. "إنهم أداة مصنوعة في مراكز القوى، من لندن إلى سويسرا. يتحدثون عن الإسلام، لكنهم يخدمون الرأسمالية." كانت كلماته حادة، لكنها لم تكن هجومًا شخصيًا. كان ينتقد الفكرة، لا الأفراد. أضاف: "الربيع العربي كان وهمًا، لكن الشعوب ستستيقظ يومًا."
10. تحدثت معه عن العراق أيضًا، فتذكر لقاءنا الأول في بروكسل. "العراق لا يزال ينزف،" قال. "لكن الشعوب لا تموت، بل تنتظر اللحظة المناسبة للنهوض." كان يؤمن بقوة الشعوب، حتى في أحلك اللحظات. شعرت أنني أمام رجل لم يفقد الأمل، رغم كل الخيبات التي عاشها. كتبت في مذكراتي تلك الليلة: "ياسر الضحى هو صوت العالم الثالث، لا ينحني، لا يصمت."
11. كانت تلك آخر مرة أرى فيها ياسر. علمت بوفاته في 2018، وشعرت بألم عميق. لكنني شعرت أيضًا بالفخر. ياسر الضحى لم يكن مجرد مفكر، بل كان رمزًا للنضال. كان رجلاً لا يهاب مواجهة أي فكرة استعمارية، حتى لو كانت ترتدي قناع الدين أو الحداثة. كان صوتًا للعالم الثالث، صوتًا لا يصمت، حتى في وجه التهديدات والعزلة.
12. في تلك الصورة التي التقطتها في بروكسل، كان ياسر يقف بجانب نوال السعداوي، كلاهما يبتسمان بنور خافت. كانت تلك الصورة وصيتهما، وصية النار التي لا تنطفئ. وفي لييج، رأيته يحمل تلك النار نفسها، يواجه الإخوان والاستشراق والفساد بنفس الشجاعة. كتبت في مذكراتي: "ياسر الضحى علمني أن النضال ليس مجرد كلمات، بل حياة. علمني أن الحقيقة لا تحتاج إلى موافقة الجميع، بل إلى شجاعة من يحملها."
13. وأنا أكتب هذا الفصل، أتذكر كلماته الأخيرة في لييج: "النار التي نحملها ليست للحرق، بل للإضاءة. احملوها، ولا تدعوها تنطفئ." كان ياسر الضحى، أو سمير أمين، رجلاً عاش للعالم الثالث، ومات تاركًا مشعلًا سيبقى مشتعلًا إلى الأبد.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترامب وزيلينسكي: مهرج ودمية يرقصان لارضاء بوتين
-
قمة ترامب وبوتين – كوميديا سوداء في زمن الدولة العميقة وأورو
...
-
رواية خيوط العنكبوت: من الباب العالي إلى هولوكوست غزة
-
كعبة ليونيل والتر ( رواية عن هولوكوست صهيو امريكي في غزة )
-
اولاد ابو العبد (رواية عن هولوكوست في غزة )
-
الجثمان النابض - (رواية عن الهولوكوست الفلسطيني في فلسطين وف
...
-
قمة ألاسكا - عندما يلتقي بوتين وترامب لتقسيم العالم على كأس
...
-
الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة
-
مملكة الظلمات: بين التطبيل للقضية الفلسطينية وتمويل مذابحها
-
المركب السكران في بحر الثقافة العربية: رحلة أحمد صالح سلوم ب
...
-
تاريخ عريق بالجعجعة و القتل على الهوية..
-
الخازوق الروسي وغباء بروكسل... واشنطن تنتحر بابتسامة
-
هولوكوست الصحفيين الفلسطينيين في زمن التيك توك (إسرائيل تتفو
...
-
إسرائيل تتفوق على النازيين بستة أضعاف والبيت الأبيض يصفق ..ا
...
-
آل سعود وثاني: حراس الإبداع أم قوادو التخلف؟ رحلة في تدمير ا
...
-
أغنية -مربى الدلال- لزياد الرحباني: وعي طبقي ساخر، وإبداع مو
...
-
آل سعود وثاني واردوغان.. مهندسو إفقار العرب و ابادتهم من الع
...
-
ألاسكا: حيث يوقّع ترامب استسلام الناتو وبوتين يحتسي فودكا ال
...
-
هولندا وأبقارها المعجزة: مسرحية الغرب الهزلية لتدمير أحلام ا
...
-
سنغافورة الاوهام: من السودان إلى سوريا، رحلة التدمير بضمانة
...
المزيد.....
-
اُستبعدت مرشحة لبطولته بسبب غزة.. كريستوفر لاندون يتحدث عن ر
...
-
معلمو اليمن بين قسوة الفقر ووجع الإهمال المزمن
-
باب الفرج في دمشق.. نافذة المدينة على الرجاء ومعلم ناطق بهند
...
-
ربما ما تتوقعونه ليس من بينها.. كوينتن تارانتينو يكشف عن -أف
...
-
كلية الفنون الجميلة في دمشق تمنع الموديل العاري.. فهل سيؤثر
...
-
رحيل الفنانة السورية إيمان الغوري.. وداعًا -خيرو-
-
مراسم وداع في كييف لفنان أوكراني قُتل على الجبهة في زابوريجي
...
-
إطلالة أنيقة للممثلة المصرية دينا الشربيني خلال العرض الأول
...
-
وفاة الشاعر السعودي سعود القحطاني بعد سقوطه من أعلى جبل في ع
...
-
اشتهرت بدورها في -أحلام أبو الهنا-.. وفاة الفنانة السورية إي
...
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|