أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة















المزيد.....


الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 21:44
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول: المخيم تحت الركام

في زاوية من العالم حيث تنسى الشمس أن تشرق، كان المخيم يرقد كجثة مدينة، محاطاً بحديد الدبابات وغبار الجرافات الأمريكية العملاقة. لم يكن المخيم مجرد مكان، بل كائن حي، يتنفس بصعوبة تحت وطأة الركام، يهمس بقصص المقاومة في أزقته الضيقة، ويصرخ بصمت في وجه المحتل. بيوت من الطوب الرخيص، متشابكة كأحضان الأمهات، كانت تقاوم الانهيار، كما يقاوم أهلها اليأس. من بعيد، كان يمكن سماع أصوات الانفجارات، وكأن الأرض نفسها تتأوه، بينما الجنود، بزيهم الأخضر الداكن، يتحركون كالظلال، يحملون بنادق أمريكية وأوامر لا إنسانية.

في هذا العالم المكسور، كان موفق يعيش. شاب في العشرين من عمره، معاق ذهنياً، يرى العالم بعيون طفل لا يعرف الكراهية. كان وجهه مستديراً، وعيناه تلمعان ببراءة لا تتناسب مع الدمار المحيط به. في مخيلته، كانت حيفا، تلك المدينة التي تحدثت عنها جدته، جنة خضراء حيث البحر يغني أناشيد الحرية، والزيتون يرقص مع الريح. لم يرَ حيفا قط، لكنه كان يحملها في قلبه كما يحمل المؤمن إيمانه. كان يردد كلام جدته بصوت خافت: "كانت بيوتنا هناك دافئة، يا موفق، كأنها أحضان الله." وكان يبتسم، غير مدرك أن البيوت التي تحدثت عنها الجدة أصبحت الآن مستوطنات يسكنها غرباء جاؤوا من بروكلين وبولونيا والمغرب.

كان المخيم يعج بالحياة رغم الموت. أطفال بعيون حادة كالصقور، يصنعون أسلحة بدائية من الحجارة وأنابيب الحديد، يستدرجون جنود الاحتلال إلى كمائن محكمة في الأزقة. كانوا يعرفون أن السلاح الحقيقي هو إرادتهم، تلك الإرادة التي جعلت جيشاً مدججاً بالتكنولوجيا يتخبط في متاهة المخيم. في إحدى الليالي، استدرجوا دورية إلى بيت ملغم، فانفجر الحطام على رؤوس الجنود، وتحولت صيحاتهم إلى أصداء تائهة بين الجدران. كان المخيم، بكل بساطته، يضحك في وجه المحتل، ضحكة مرة، كأنها ضحكة رجل يعرف أن الموت قريب لكنه يرفض الاستسلام.

في الجانب الآخر، كان شلومو يقف على جدار محطم، بندقيته الأمريكية (إم-16) بين يديه، وعيناه تتفحصان المخيم كما يتفحص الصياد فريسته. شلومو، ابن المستوطنات، لم يكن يعرف أباً ولا أماً. نشأ في مغتصبة على أطراف حيفا، حيث تعلم أن الفلسطينيين ليسوا بشراً، بل "حشرات" يجب سحقها. كان في الثلاثين من عمره، لكنه بدا أكبر سناً، كأن الأيديولوجية التي حُقن بها قد سرقت شبابه. في جيبه، كان يحمل أوامر القائد موفاز: "ستون هدفاً يومياً، لا فرق بين طفل أو عجوز أو معاق." كان هذا الأمر يرن في أذنيه كنشيد وطني، يذكره بأن كل رصاصة يطلقها هي خطوة نحو "تطهير" الأرض.

لكن شلومو، في لحظات ضعفه النادرة، كان يتساءل. تذكر بيتاً اقتحمه الأسبوع الماضي: رائحة الخبز الطازج، وسجادة مطرزة بعناية، وصورة عائلية معلقة على جدار متشقق. "كيف يعيشون هكذا، وهم وسخون كما قالوا لنا؟" كانت الفكرة تطارده كشبح، لكنه كان يطردها بسرعة. التنميط الذي تلقاه في المستوطنة كان أقوى من الحقيقة. لقد تعلم أن الفلسطينيين ليسوا سوى أعداء، وأن الأرض التي يقفون عليها هي ملكه، بفضل أموال المانحين الكبار، أولئك الذين يجلسون في قصورهم في لندن ونيويورك، يديرون العالم بخيوط خفية. كان يسمع همسات عن عائلة روتشيلد، تلك القوة التي تقف خلف كل شيء، منذ أيام الهاغانا وستيرن وإرغون، تلك العصابات التي أحرقت العجزة والمعاقين في حيفا عام 1948، وصولاً إلى اليوم، حيث يُكتب في تقارير "الشؤون الخارجية" الأمريكية أن نسبة قتل المدنيين في غزة تفوق النازية بخمسة إلى عشرة أضعاف.

كان المخيم يقاوم، لكنه كان ينزف. الجرافات الأمريكية، بأذرعها الحديدية، كانت تهدم البيوت كما يهدم طفل لعبة لا يحبها. لكن في كل زقاق، كان هناك طفل يحمل حجراً، أو شاب يصنع قنبلة بدائية، أو عجوز ترفع يديها إلى السماء تدعو. وكان موفق، ببراءته، يمشي بين الركام، غير مدرك أن عينيْ شلومو تتبعانه، وأن بندقيته قد بدأت تختار هدفها.




الفصل الثاني: الرداء المفقود

1. تحت سماء رمادية، كان موفق يجلس على حجر مكسور في زاوية المخيم، يحدق في الأفق كأن عينيه تبحثان عن شيء لم يره أحد سواه. في ذهنه، كانت حيفا تنبض بالحياة: شوارعها المرصوفة، بيوتها ذات النوافذ الزرقاء، ورائحة البحر التي تحكي عنها جدته. كان يتخيل نفسه يرتدي رداءً غريباً، ليس من قماش، بل من ذكريات الأرض التي سُرقت من أهله. هذا الرداء، في خياله الطفولي، كان يحميه من البرد، من الخوف، من صوت القنابل التي لا تتوقف. كان يراهن على أن هذا الرداء سيأخذه يوماً إلى حيفا، حيث البيوت ليست من طوب متشقق، والناس لا ينامون تحت حظر التجول.

2. لم يكن موفق يعرف معنى حظر التجول. كلمات مثل "الاحتلال" أو "القنص" كانت غريبة عنه، مثل لغة قوم لا يعرفهم. لكنه كان يشعر بالاختناق. في البيت الصغير، حيث يعيش مع أمه وأخوته، كانت الجدران تضيق يوماً بعد يوم. كان يسمع أصوات الجرافات وهي تهدم بيوت الجيران، وأحياناً كان يسمع صرخات لا يفهم مصدرها. في تلك اللحظات، كان يغلق عينيه ويتخيل الرداء: لونه أخضر كالزيتون، مطرزاً بنجوم تشبه تلك التي كانت جدته تشير إليها في سماء حيفا. "إذا لبست هذا الرداء،" كان يفكر، "سأمشي إلى البحر، وسأرى الجنة."

3. في الجهة الأخرى من المخيم، كان شلومو يقف في نقطة المراقبة، عيناه مثبتتان على شاشة صغيرة تُظهر تحركات السكان. كان يشعر بالملل، لكنه لم يكن يجرؤ على الشكوى. أوامر القائد موفاز كانت واضحة: "ستون هدفاً يومياً، لا تسألوا عن الأسماء، لا تسألوا عن الأعمار." كان شلومو يعرف أن هذه الأوامر تأتي من أعلى، من أولئك الذين يجلسون في مكاتب فاخرة بعيداً عن الركام. كان يسمع همسات عن أسماء كبيرة، عائلات تملك البنوك والحروب، عائلات مثل روتشيلد، التي يقال إنها زرعت بذرة هذا الكيان منذ أيام الهاغانا وستيرن وإرغون. لم يكن شلومو يفهم كيف تعمل هذه الشبكات، لكنه كان يعرف أن بندقيته، وقنابله، وحتى الجرافات التي تهدم المخيم، كلها مدعومة بأموال لا يعرف مصدرها.

4. في ذهن شلومو، كانت الحرب ليست مجرد قتال. كانت لعبة أرقام. كل يوم، كان عليه أن يسجل عدداً معيناً من "الأهداف". لم يكن يفكر فيهم كبشر، لأن التفكير فيهم كبشر سيجعله يفقد عقله. كان يتذكر دروس المستوطنة: "هم حشرات، هم أفاعي، لا مكان لهم على هذه الأرض." لكنه، في لحظات نادرة، كان يرى شيئاً آخر. كان يتذكر بيتاً اقتحمه قبل أشهر: طاولة صغيرة عليها طبق من الفلافل، وصورة طفل مبتسم معلقة على الحائط. كان البيت نظيفاً، دافئاً، على عكس ما قيل له عن "الوسخ" الفلسطيني. هذه الذكريات كانت تزعجه، لأنها تجعله يشك في كل شيء تعلمه.

5. في تلك اللحظة، رأى شلومو موفقاً. كان الشاب يمشي بخطوات غريبة، واثقة وغير حذرة، كأنه لا يرى الدمار حوله. كان واضحاً أن موفق مختلف، أن حركاته تدل على إعاقة ذهنية. لكن شلومو لم يكن ليتوقف عند هذه التفاصيل. في عالمه، لا فرق بين طفل أو معاق أو عجوز. كلهم أهداف. كان يعرف أن تقرير "الشؤون الخارجية" الأمريكية قد وثق شيئاً مذهلاً: النازيون قتلوا واحد بالمئة من المدنيين في حروبهم، لكن هذا الكيان، الذي يخدمه شلومو، قتل من خمسة إلى عشرة بالمئة من المدنيين في غزة. كان هذا الرقم يملأه بالفخر، لكنه، في الوقت نفسه، كان يشعر بدوار غريب، كأن شيئاً في داخله يصرخ: "هل هذا صحيح؟"

6. موفق، غير مدرك لعيني شلومو، قرر أن يغادر البيت. كان حظر التجول مشدداً، لكن موفق لم يكن يفهم معنى الحظر. كان يريد أن يرى العالم، أن يجد الرداء الذي يحلم به. خرج من البيت، متجاهلاً صراخ أمه، ومشى في الزقاق الضيق، حيث الركام يتكدس كالجبال. كان يغني أغنية بلا كلمات، صوتاً طفولياً يعكس فرحاً لا يتناسب مع المكان. في ذهنه، كان يرى حيفا، وكان يشعر أن الرداء قريب، أن الأرض التي سُرقت ليست بعيدة.

7. شلومو، من بعيد، رفع بندقيته. كان يعرف أن موفق ليس تهديداً، لكنه كان يعرف أيضاً أن الأوامر لا تفرق. كان يفكر: "هذا واحد من الستين. سهل، بسيط." لكنه، للحظة، شعر بشيء غريب. كانت خطوات موفق، ببراءتها، تذكره بشيء نسيه منذ زمن طويل: طفولته، قبل أن يصبح جندياً، قبل أن يصبح آلة. لكنه طرد الفكرة بسرعة. كان عليه أن ينهي المهمة. كان عليه أن يثبت أن التنميط الذي تلقاه هو الحقيقة، وليس تلك الصورة النظيفة لبيت فلسطيني، أو تلك الابتسامة الطفولية على وجه موفق.


الفصل الثالث: المقاومة البدائية

1. في أزقة المخيم، حيث الركام يروي قصصاً لا تنتهي، كان الأطفال يتحركون كالظلال، يحملون أسلحة لم يصنعها مصنع، بل أيدٍ صغيرة مشبعة بالغضب. كانوا يجمعون الحجارة، وأنابيب الحديد، وبقايا العلب المعدنية، ليخلقوا منها قنابل بدائية، كأن الفقر نفسه قد علمهم كيف يقاتلون. لم يكن لديهم دبابات، ولا طائرات، ولا بنادق أمريكية لامعة، لكنهم كانوا يملكون شيئاً أقوى: إرادة لا تنكسر، وذاكرة لا تموت. كان المخيم متاهة، زقاق يؤدي إلى زقاق، وكل زقاق كمين. كانوا يعرفون أن الجيش الذي يحاصرهم، بكل تكنولوجيته، يتخبط في هذا اللبيرنت، كما يتخبط ذئب في فخ صياد.

2. في إحدى الليالي، استدرج شاب يدعى ياسر، لا يتجاوز السابعة عشرة، دورية من الجنود إلى بيت مهجور في طرف المخيم. كان البيت قد أعد بعناية: أسلاك متصلة ببرميل مملوء بالمتفجرات البدائية. عندما اقتحم الجنود الباب، انفجر البيت كأنه بركان صغير، وتطاير الحطام على أجسادهم. صراخ الجنود امتزج بضحكات الأطفال الذين كانوا يراقبون من بعيد. كانوا يعرفون أن هذه الكمائن لن توقف الحرب، لكنها كانت رسالة: "نحن هنا، ولن نرحل." كان المخيم، بكل بساطته، يسخر من الجيش الذي يملك كل شيء إلا الأخلاق.

3. شلومو، من موقعه في نقطة المراقبة، كان يسمع أصداء الانفجار. قلبه كان ينبض بسرعة، ليس خوفاً فقط، بل غضباً. كيف يمكن لهؤلاء "الحشرات"، كما يسميهم، أن يتحدوا جيشاً مدعوماً بأقوى قوى العالم؟ كان يتذكر كلمات قائده: "هم ليسوا بشراً، إنهم أعداء الأرض." لكنه، في لحظات الصدق النادرة، كان يرى شيئاً آخر. كان يتذكر بيتاً اقتحمه قبل أيام: مطبخ صغير به طبق من الزعتر، ودفتر مدرسي مليء بخط طفل يحلم بأن يصبح طبيباً. كانت هذه الصور تطارده، لكنه كان يطردها بسرعة. لقد تعلم أن الحقيقة هي ما يقوله القادة، وليس ما تراه عيناه.

4. في تلك اللحظة، كان موفق لا يزال يمشي في الزقاق، غير مدرك للخطر الذي يحيط به. كان يغني أغنيته الطفولية، ويحلم بالرداء الأخضر الذي سيأخذه إلى حيفا. كان يتخيل أن الأرض التي يمشي عليها ليست ركاماً، بل حقولاً خضراء تمتد إلى البحر. لم يكن يعرف أن عينيْ شلومو تتبعانه من بعيد، وأن بندقيته قد بدأت تتحرك. كان موفق، ببراءته، يمثل كل ما يخاف منه شلومو: إنسانية لا يمكن إنكارها، وحلم لا يمكن قتله.

5. في المخيم، كانت المقاومة تأخذ أشكالاً أخرى. نساء يخبئن الطعام للمقاتلين، عجائز يروون قصص 1948 للأطفال ليحفظوها كالنشيد. كانوا يتحدثون عن حيفا، عن بلد الشيخ، عن الطيرة، عن عسقلان ،عن يافا ، عن أيام كانت الأرض ملكهم قبل أن تأتي العصابات – الهاغانا، ستيرن، إرغون – وتحرق العجزة والمعاقين في حياة الكرمل وعسقلان . كانوا يتحدثون عن أموال المانحين الكبار، أولئك الذين يجلسون في قصورهم في أوروبا وأمريكا، يديرون الحروب بخيوط من ذهب. كانوا يعرفون أن هذا الكيان، الذي يحاصرهم الآن، لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج شبكة من الاحتكارات المالية التي بدأت منذ قرن ولم تتوقف.

6. شلومو، في نقطته العالية، كان يشعر بالإحباط. كان المخيم يقاوم أكثر مما توقع. كان يعرف أن الجيوش العربية، التي تستهلك ثروات الدول في التسليح والفساد، لم تصمد يوماً كما يصمد هؤلاء الأطفال. كان يسمع عن إحصائية من "الشؤون الخارجية" الأمريكية، تقول إن هذا الكيان قتل من خمسة إلى عشرة بالمئة من المدنيين في غزة، بينما النازيون لم يتجاوزوا واحد بالمئة. كان هذا الرقم يملأه بالفخر، لكنه كان يشعر أيضاً بثقل غريب في صدره. كان يتساءل، في لحظات ضعفه: "لماذا يقاومون؟ لماذا لا يستسلمون؟"

7. في تلك اللحظة، رأى شلومو موفقاً يقترب من الحواف الزراعية، بالقرب من المقبرة. كانت حركاته واضحة: خطوات غير حذرة، كأنه يمشي في عالم آخر. كان شلومو يعرف أن موفق معاق، لكنه كان يعرف أيضاً أن الأوامر لا تفرق. كان يفكر: "هذا هدف سهل. واحد من الستين." لكنه، للحظة، شعر بشيء يشبه الرحمة. كانت ابتسامة موفق، تلك الابتسامة الطفولية، تذكره بشيء فقده منذ زمن: إنسانيته. لكنه طرد الفكرة. كان عليه أن يثبت أنه جندي، أنه جزء من هذا النظام الذي يخدمه، نظام بني على أموال لا يعرف مصدرها، وعلى أيديولوجية لا تترك مجالاً للشك.



الفصل الرابع: موت موفق

1. كان الزقاق الذي يمشي فيه موفق يبدو كأنه نفق يؤدي إلى عالم آخر، عالم لا يعرف فيه القنابل أو الحظر. كانت خطواته الواثقة، غير الحذرة، ترسم على الركام ظلالاً غريبة، كأنها راقصة في مسرح مهجور. في ذهنه، كان الرداء الأخضر يرفرف، يقوده إلى حيفا، إلى البحر الذي تحدثت عنه جدته. لم يكن يعرف أن عينيْ شلومو، من بعيد، قد حاصرتاه، وأن بندقيته الأمريكية قد اختارت هدفها. كان موفق يغني، صوتاً طفولياً يتردد بين الجدران المحطمة، كأنه يتحدى الموت نفسه ببراءته.

2. شلومو، من موقعه خلف جدار متشقق، كان يمسك بندقيته بيدين ترتعشان قليلاً. لم يكن الارتعاش خوفاً من موفق، بل من شيء آخر، شيء لا يستطيع تسميته. كان يرى بوضوح أن الشاب معاق، أن حركاته لا تحمل تهديداً، لكن الأوامر كانت واضحة: "ستون هدفاً يومياً، لا فرق بين طفل أو عجوز أو معاق." كان يفكر: "هذا سهل، مجرد رصاصة واحدة، وأكون قد أنهيت جزءاً من المهمة." لكنه، في قرارة نفسه، كان يشعر بثقل غريب. كانت ابتسامة موفق، تلك الابتسامة التي لا تعرف الخوف، تذكره بشيء نسيه: ضحكة طفل في مستوطنة بعيدة، قبل أن يصبح جندياً، قبل أن يصبح آلة.

3. تردد شلومو. هل يصوب على الرأس، كما أمر القائد موفاز، لينهي الأمر بسرعة؟ أم على الساقين، ليطيل متعة المشاهدة؟ كان يعرف أن رصاصة في الساقين ستجعل موفق ينزف ببطء، وسيتمكن من رؤيته يتلبط في دمه، كما يحب أن يرى "الأهداف" يعانون. كانت هذه الفكرة تثير فيه قشعريرة غريبة، مزيجاً من القوة والاشمئزاز. تذكر زملاءه في المستوطنة، بنيامين وشمعون وفؤاد، كيف كانوا يسكرون ويتعاطون الكوكايين بين أكوام أغراضهم الفوضوية، وكيف كانوا يضحكون وهم يتحدثون عن "صيد الحشرات". لكنه، في تلك اللحظة، شعر أن هذا ليس صيداً، بل شيئاً آخر، شيئاً لا يستطيع فهمه.

4. قرر شلومو أن يصوب على الساقين. رفع بندقيته، وضبط نقطة التصويب على بعد مئة متر. "إذا اقتربت أكثر، قد يحدث شيء غير متوقع," فكر. كان يعرف قصصاً عن الفلسطينيين الذين يبدون ضعفاء لكنهم يحملون مفاجآت. أطلق الرصاصة الأولى. اخترقت ساق موفق اليسرى، فتعثر لكنه استمر في المشي، كأن الألم لم يصل إلى وعيه. أطلق شلومو الرصاصة الثانية، ثم الثالثة، على نفس الساق. سقط موفق على الأرض، وصرخ صرخة حائرة، لا تحمل غضباً ولا خوفاً، بل دهشة طفولية، كأنه يسأل: "لماذا؟"

5. اقترب شلومو قليلاً، حذراً، وبندقيته لا تزال مرفوعة. كان موفق يتحرك ببطء، يحاول الوقوف، لكن ساقه الممزقة لم تطعه. كانت عيناه تلمعان بدموع، لكن ابتسامته لم تختف. كان ينظر إلى السماء، كأنه يرى الرداء الأخضر يرفرف هناك. شلومو شعر بشيء يعتصر قلبه، لكنه قهقه بصوت عالٍ، كأنه يحاول إسكات ذلك الشعور. صرخ لزميله أيهود، الذي كان يقف على بعد أمتار: "انظر! لقد قتلت حشرة!" لكن صوته كان يحمل رنة غريبة، كأنها رنة رجل يحاول إقناع نفسه.

6. مرت ربع ساعة، وشلومو لا يزال يراقب موفق وهو ينزف. كان يشعر بلذة مريرة غريبة، كأن الرؤية تجلب له إحساساً بالانتصار على "الحشرة" التي تتلبط في دمها. لكنه، في تلك اللحظات، بدأ يرى شيئاً غريباً. كان الركام حول موفق يتحرك، كأن الأرض نفسها تتنفس، كأنها تحاول حمايته. كانت عينا موفق، رغم الألم، تحملان نظرة لا يفهمها. كانت نظرة رجل يعرف أن موته ليس النهاية، بل بداية شيء أكبر. شلومو، للحظة، شعر أن الركام يهمس، أن الأشباح التي خلّفها هذا الكيان – من حيفا إلى غزة – تراقبه.

7. عندما توقف موفق عن الحركة، نهض شلومو ومشى بعيداً، لكنه لم يستطع الهروب من تلك النظرة. في تلك الليلة، حلم بموفق. كان الشاب يقف في حقل أخضر، يرتدي رداءً مطرزاً بالنجوم، ويشير إلى شلومو بيد هادئة، كأنه يقول: "هذه الأرض لي، ولن تكون لك أبداً." استيقظ شلومو، وقلبه ينبض بسرعة، لكنه لم يخبر أحداً. كان يعرف أن الأشباح لا تموت، وأن الرداء الذي يحلم به موفق لن يُسرق مرة أخرى.



الفصل الخامس: الركام يتكلم

1. كان المخيم الآن مجرد بحر من الركام، حيث اختلطت أحجار البيوت المدمرة بذكريات من عاشوا فيها. كانت الأزقة، التي كانت يوماً تعج بالحياة، صامتة إلا من أصداء الريح التي تحمل همسات الأشباح. لكن الركام لم يكن مجرد أنقاض؛ كان صوتاً، ذاكرة حية ترفض النسيان. كل حجر في المخيم كان يحمل قصة: صرخة طفل، دعاء عجوز، أو أغنية مقاومة رددها شاب قبل أن يسقط. كان الركام يتكلم، وكان صوته يصل إلى شلومو، رغم أنه حاول أن يصم أذنيه.

2. شلومو، بعد موت موفق، لم يعد كما كان. كان يقف في نقطة المراقبة، ينظر إلى الركام، لكن عينيه لم تريا شيئاً سوى تلك الابتسامة الطفولية التي حملها موفق حتى آخر لحظة. كان يحلم به كل ليلة: موفق يقف في حقل أخضر، يرتدي رداءً مطرزاً بالنجوم، يشير إليه بيد هادئة ويقول: "هذه الأرض لي." لم يكن الحلم مجرد حلم، بل كابوس يطارده، يذكره بكل هدف أطلق عليه النار، بكل بيت اقتحمه، بكل صرخة سمعها وتجاهلها. كان يشعر أن الركام نفسه يراقبه، أن كل حجر يحمل عيناً تنظر إليه.

3. في المخيم، كانت الأشباح تتجمع. لم يكن موفق وحده. كان هناك أطفال غزة، الذين قُتلوا بنسبة تفوق النازية بخمسة إلى عشرة أضعاف، كما وثقت "الشؤون الخارجية". كان هناك عجزة حيفا، الذين أحرقتهم عصابات الهاغانا وستيرن وإرغون في 1948. كان هناك شباب المخيم، الذين استدرجوا الجنود إلى كمائن، وسقطوا تحت الركام. كانت هذه الأشباح تتحرك في الظلال، تهمس في أذن شلومو، تذكره بأن الأرض التي يقف عليها ليست ملكه، وأن الأموال التي تدعم بندقيته، تلك الأموال التي تأتي من قصور بعيدة في لندن ونيويورك، لن تشتري له راحة البال.

4. شلومو حاول أن يهرب من هذه الأصوات. كان يعود إلى المستوطنة، يجلس مع زملائه بنيامين وشمعون وفؤاد، يحاول أن يضحك، أن يسكر، أن ينسى. لكنه كان يرى وجه موفق في كل زاوية، في كل كوب يشربه، في كل ضحكة يزيفها. كان يتذكر بيوت المخيم: نظافتها، دفئها، رائحة الخبز الطازج. كان يتساءل: "كيف يعيشون هكذا، رغم الفقر، رغم الحصار؟" كانت هذه الأسئلة تحرقه، لأنها كشفت عن كذبة كبيرة: التنميط الذي تلقاه في المستوطنة، أن الفلسطينيين "حشرات"، كان كذبة لا تتحمل مواجهة الحقيقة.

5. في إحدى الليالي، وقف شلومو أمام الركام، وحده. كانت الجرافات قد توقفت عن الهدم لساعات، لكن الدمار كان كاملاً. كان يشعر أن المخيم يتكلم، أن كل حجر يروي قصة. سمع صوتاً خافتاً، كأنه نشيد يردده أطفال بعيدون. كان النشيد يتحدث عن العودة إلى حيفا، عن البحر الذي ينتظر، عن الزيتون الذي لا يموت. كان الصوت يعلو، يملأ السماء، كأن الأشباح نفسها تغني. شلومو أغلق عينيه، لكنه لم يستطع إسكات الصوت. كان يعرف أن هذا النشيد لن يتوقف، أن الركام سيظل يتكلم، وأن الأرض التي يقف عليها لن تسامحه أبداً.

6. في تلك اللحظة، شعر شلومو بشيء بارد يلمس كتفه. التفت، لكنه لم يرَ شيئاً. كان الركام لا يزال صامتاً، لكن عينيه رأتا ظلاً يتحرك، ظلاً يرتدي رداءً أخضر مطرزاً بالنجوم. كان موفق، أو شبحه، يقف هناك، ينظر إليه بنظرة هادئة، كأنه يقول: "لم تنته الحكاية." شلومو أطلق صرخة خافتة، لكنه لم يجرؤ على رفع بندقيته. كان يعرف أن الرصاص لا يقتل الأشباح، وأن الرداء الذي يرتديه موفق لن يُسرق مرة أخرى.

7. غادر شلومو المخيم تلك الليلة، لكنه لم يغادر أشباحه. كان يعرف أن الحرب التي يقاتل فيها ليست حرباً عادية، بل حرباً مدعومة بأموال لا يعرف مصدرها، وأيديولوجية لا تترك مجالاً للإنسانية. كان يعرف أن المخيم، رغم الركام، سيظل يقاوم، وأن أصوات الأطفال، والعجزة، والمعاقين، ستظل تردد نشيد العودة. وفي قلبه، كان يعرف أن موفق، ببراءته، قد هزمه، ليس بسلاح، بل بحلم لا يموت.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مملكة الظلمات: بين التطبيل للقضية الفلسطينية وتمويل مذابحها
- المركب السكران في بحر الثقافة العربية: رحلة أحمد صالح سلوم ب ...
- تاريخ عريق بالجعجعة و القتل على الهوية..
- الخازوق الروسي وغباء بروكسل... واشنطن تنتحر بابتسامة
- هولوكوست الصحفيين الفلسطينيين في زمن التيك توك (إسرائيل تتفو ...
- إسرائيل تتفوق على النازيين بستة أضعاف والبيت الأبيض يصفق ..ا ...
- آل سعود وثاني: حراس الإبداع أم قوادو التخلف؟ رحلة في تدمير ا ...
- أغنية -مربى الدلال- لزياد الرحباني: وعي طبقي ساخر، وإبداع مو ...
- آل سعود وثاني واردوغان.. مهندسو إفقار العرب و ابادتهم من الع ...
- ألاسكا: حيث يوقّع ترامب استسلام الناتو وبوتين يحتسي فودكا ال ...
- هولندا وأبقارها المعجزة: مسرحية الغرب الهزلية لتدمير أحلام ا ...
- سنغافورة الاوهام: من السودان إلى سوريا، رحلة التدمير بضمانة ...
- نتنياهو ومسرحية الفتح الهزلي: غزة تكتب النهاية بسخرية التاري ...
- مسرحية -ائتلاف أريزونا-: كوميديا فاشية بنكهة بلجيكية مضحكة ح ...
- مسرحية الخيانة اللبنانية: نواف سلام، جعجع، والكتائب في دور ا ...
- أفيون إعلام أكاذيب الوحدة 8200
- ما بين جون ميرشايمر وسمير امين :أسرار الإبادة الجماعية الأمر ...
- نقد فكري وسياسي لفاشية حكومة ائتلاف اريزونا البلجيكية
- نقد الأيديولوجيات المتطرفة والدفاع عن السيادة الوطنية
- الولايات المتحدة الشيوعية ،هل هو السيناريو الحتمي !


المزيد.....




- فيلم جديد يرصد رحلة شنيد أوكونور واحتجاجاتها الجريئة
- وثائقي -لن نصمت-.. مقاومة تجارة السلاح البريطانية مع إسرائيل ...
- رحلة الأدب الفلسطيني: تحولات الخطاب والهوية بين الذاكرة والم ...
- ملتقى عالمي للغة العربية في معرض إسطنبول للكتاب على ضفاف الب ...
- لأول مرة في الشرق الأوسط: مهرجان -موسكو سيزونز- يصل إلى الكو ...
- شاهين تتسلم أوراق اعتماد رئيسة الممثلية الألمانية الجديدة لد ...
- الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة
- فنانون يتضامنون مع حياة الفهد في أزمتها الصحية برسائل مؤثرة ...
- طبول الـ-ستيل بان-.. موسيقى برميل الزيت التي أدهشت البريطاني ...
- بين الذاكرة وما لم يروَ عن الثورة والانقسامات المجتمعية.. أي ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة