|
رواية : صرخة من النهر إلى البحر ( رواية عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني على شعب فلسطين في غزة )
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 14:51
المحور:
الادب والفن
الفصل الاول ؛ صدى الشوارع
في شوارع أمستردام، حيث تتراقص أضواء الفجر الباهتة على صفحة القنوات الهادئة، كان الهواء يرتجف من هتافات الحشود، كأنها أمواج بحر متلاطمة تحمل وجعاً قديماً وحلماً يتشكل في الأفق: "فلسطين حرة من النهر إلى البحر!" كانت الأصوات تنطلق كالرعد، تتردد بين المباني القديمة، تحطم صمت الصباح بقوة لا تعرف التراجع. اللافتات، المرفوعة عالياً، كانت تتراقص في مهب الريح، بعضها مكتوب بخطوط متعرجة بالعربية، وبعضها بالفرنسية والهولندية، لكن الرسالة كانت واحدة: العدالة أو لا شيء. وسط هذا الزحام الإنساني، وقف زكريا، رجل في الأربعين من عمره، فلسطيني من مخيم اليرموك، عيناه غائرتان كمن يحمل ذاكرة قرن من الألم. في يده لافتة بسيطة، كتب عليها بحبر أسود كلمات كأنها صرخة موجعة: "عدالتنا لن تموت." لم يكن زكريا مجرد وجه في الحشد، بل كان تجسيداً لتاريخ شعب، جسداً مثقلاً بندوب النكبة، وروحاً تتشبث بأمل لا ينكسر. كان يرى في كل هتاف، في كل وجه، امتداداً لقصة بدأت قبل مولده، قصة جده أحمد الذي طُرد من يافا عام 1948، تاركاً وراءه بيتاً من الحجر وشجرة زيتون كانت أقرب إليه من قلبه.
كان المطر يهطل خفيفاً، يبلل وجه زكريا ويغسل الحبر عن لافتته، لكنه لم يبال. بجانبه، وقفت آنا، طالبة هولندية في العشرين، شعرها الأحمر يتطاير كلهب في مهب الريح. لم تزر فلسطين قط، لكن عينيها، اللتين تلمعان بحماس الشباب، كانتا تعكسان إيماناً عميقاً بالعدالة. كانت قد قرأت عن النكبة، عن الحصار، عن الأطفال الذين يدفنون تحت أنقاض غزة، وعن قنابل تسقط كالمطر القاسي. "هذا ليس عن فلسطين وحدها،" قالت له في لحظة هدوء، وهي تمسح قطرات المطر عن وجهها، "هذا عن كرامتنا جميعاً." نظر إليها زكريا، ورأى في عينيها بريقاً يذكره بأمه، التي كانت تحكي له عن يافا وهي تغنيه للنوم بأناشيد المقاومة. لم يجب، لكن شفتيه ارتسمت عليهما ابتسامة خافتة، كأنها إشارة إلى أن التاريخ، رغم قسوته، يحمل دائماً بذور الأمل.
كانت شوارع أمستردام، بمبانيها الحجرية العتيقة ونوافذها الطويلة، مسرحاً لمشهد لم تشهده منذ عقود. توقفت القطارات في المحطة المركزية، وتوقف نبض المدينة لحظات تحت وطأة الحشد الهادر. الشرطة، بزيها الأزرق القاتم، اصطفت في صفوف كثيفة، تحاول تفريق المتظاهرين، لكن الحشد، بوجوهه المتنوعة – عرب، أوروبيون، أفارقة، آسيويون – شكل سلسلة بشرية، أيديهم متشابكة كأنها جسد واحد، روح واحدة. كانوا يعلمون أن هذه ليست مجرد مظاهرة، بل لحظة تاريخية، نقطة تحول يقف فيها العالم على مفترق طرق. في تلك الليلة، وبينما كانت الأصوات تتصاعد كالمد العارم، وصلت الأنباء: رئيس الوزراء مارك روته، الرجل الذي ظن أن بإمكانه تجاهل صرخة الشعب، قدم استقالته. لم يكن قادراً على مواجهة إرادة حشد هزته صرخة فلسطين، صرخة لم تكن مجرد كلمات، بل جرحاً نازفاً منذ قرن.
كان زكريا يتذكر، وهو يسير بين الحشود، كلمات جده أحمد: "الأرض لا تُسرق، يا زكريا، إنها تُغتصب، لكنها تنتظر عودتنا." تلك الكلمات، التي حفظها عن ظهر قلب، كانت ترن في أذنيه كلما رأى صورة لغزة على شاشة التلفاز، كلما سمع عن قنبلة تسقط على مدرسة أو مستشفى. لكنه اليوم، في شوارع أمستردام، شعر أن تلك الكلمات لم تعد مجرد ذكرى، بل نبوءة تتحقق. كان العالم يتحرك، ببطء ربما، لكن بحزم. في باريس، في روما، في دبلن، كانت الأصوات تتصاعد، كأن الضمير الإنساني، الذي ظل نائماً لعقود، بدأ يستيقظ من سباته العميق.
كانت شوارع أمستردام، بجمالها الهادئ وقنواتها الراكدة، مسرحاً لصراع لم يكن جديداً، لكنه كان يحمل طاقة متجددة. كانت اللافتات تحمل شعارات ليست غريبة: "أوقفوا الإبادة!" "الحرية لفلسطين!" "لا للتواطؤ!" لكن هذه الكلمات، التي كُتبت مرات لا تُحصى في التاريخ، كانت اليوم تحمل قوة مختلفة، كأنها ليست مجرد حبر على ورق، بل دم ينبض في عروق الحشد. زكريا، وهو ينظر إلى الوجوه من حوله، تذكر كلمات غسان كنفاني: "إن القضية ليست قضية فلسطين، بل قضية الإنسان." وهنا، في هذه الشوارع، شعر أن كنفاني كان معهم، يكتب بقلمه الثوري، يوثق لحظة قد تغير مجرى التاريخ.
كانت آنا، بجانبه، تصور المشهد بهاتفها، عيناها تلمعان بحماس الشباب. كانت تعرف أن هذه الصور ستصل إلى العالم، ستنتشر كالنار في الهشيم عبر الشبكات الاجتماعية، ستصل إلى أولئك الذين لا يزالون مترددين في الانضمام إلى النضال. "هل تعتقد أن هذا سيغير شيئاً؟" سألته، وهي تنظر إلى صفوف الشرطة التي بدأت تتقدم. نظر إليها زكريا، وعيناه تحملان خليطاً من الألم والإيمان. "كل صرخة تغير شيئاً،" قال، صوته هادئ لكنه قاطع كالسيف، "حتى لو لم نرَ التغيير اليوم." لم تكن إجابته مجرد كلمات، بل كانت تعبيراً عن إيمان رجل شهد الكثير من الخسارات، لكنه لم يفقد الأمل أبداً.
فجأة، بدأت الشرطة تستخدم خراطيم المياه. كانت المياه الباردة تضرب الحشد كالسياط، لكنها لم تطفئ الحماس. كان المتظاهرون يتشبثون ببعضهم، يرفعون لافتاتهم عالياً، كأنهم يتحدون العالم بأسره. زكريا، الذي تبلل حتى النخاع، شعر برعشة، لكنه لم يتحرك. كان يفكر في غزة، في الأطفال الذين يواجهون القنابل، في الأمهات اللواتي يدفنّ أبناءهن تحت الأنقاض. "إذا تحملوا ذلك،" فكر، "فما هي خراطيم المياه؟" آنا، التي كانت لا تزال تصور، أمسكت بيده، كأنها تقول له: "نحن معاً في هذا." كان المشهد يحمل شيئاً من الشعرية القاسية التي كتب عنها تولستوي في "الحرب والسلام"، حيث يتصادم التاريخ مع الإنسان، حيث تصبح اللحظات الصغيرة، كمظاهرة في شارع، جزءاً من ملحمة عظيمة.
كان زكريا يشعر بذلك، وهو يرى الحشد يزداد، وجوه جديدة تنضم، أصوات لم يسمعها من قبل. كان هناك شيء يتشكل، شيء أكبر منهم جميعاً، شيء يحمل في طياته إمكانية تغيير العالم. كان يفكر في كلمات دوستويفسكي: "المعاناة هي الطريق الوحيد إلى الحقيقة." وفي هذه اللحظة، شعر أن الحقيقة ليست بعيدة، بل هي هنا، في هذه الشوارع، في هذه الأصوات، في هذا النضال الذي لا ينتهي. كانت آنا، بجانبه، تكتب شيئاً على هاتفها، ربما رسالة إلى العالم. نظر إليها، ورأى في عينيها شيئاً من روح سارتر، الذي قال إن الإنسان محكوم عليه بالحرية. لكن هذه الحرية، كما عرف زكريا، لا تُمنح، بل تُنتزع.
في تلك الليلة، وبينما كانت الأخبار عن استقالة روته تنتشر، كان زكريا يجلس في مقهى صغير قرب إحدى القنوات. كان المطر قد توقف، والمدينة استعادت هدوءها المؤقت. لكنه كان يعرف أن هذا الهدوء لن يدوم. كان يفكر في جده، في يافا، في غزة. كان يفكر في آنا، التي وعدته بأن تلتقيه غداً في مظاهرة أخرى. كان يفكر في كلمات تشيخوف: "الإنسان لا يصبح حراً إلا عندما يتحرر من خوفه." لكنه، وهو ينظر إلى اللافتة المبللة بجانبه، عرف أن الخوف لم يعد يسيطر عليه. كان هناك شيء أقوى: الأمل.
كان الفجر يقترب، والضوء يتسرب ببطء إلى السماء. نهض زكريا، حمل لافتته، ومشى نحو البيت. كان يعرف أن الغد سيحمل مظاهرة أخرى، صرخة أخرى، أملاً آخر. في قلبه، كان يحمل فلسطين، ليست كأرض فقط، بل كرمز للكرامة، للحرية، للإنسانية التي ترفض أن تموت. كان يحملها كما يحمل الإنسان حلمه، بقوة لا تعرف الاستسلام، وروح لا تعرف الانكسار.
الفصل الثاني ؛ وعد الظلم
كانت الغرفة في لندن، عام 1917، مظلمة كأنها قبر، تعج برائحة السيجار الثقيلة وأوراق العهد القديم المتراكمة على المكتب الخشبي العتيق. كان الضوء الخافت يتسلل من نافذة ضيقة، يكشف عن وجه آرثر بلفور، الرجل الذي كتب بقلمه وعداً كان بمثابة حكم إعدام على شعب لم يره قط. كان الحبر يسيل على الورقة، كدم ينزف من جرح لم يلتئم بعد، وعدٌ وُجه إلى من لا يستحق، ليمنح أرضاً ليست ملكه. لم يكن بلفور يفكر في فلاحي يافا، ولا في رعاة الخليل، ولا في الأطفال الذين يلعبون في شوارع القدس. كان يفكر في مصالح الإمبراطورية، في توازن القوى، في صفقات السياسة التي تُبرم على حساب الشعوب. في تلك اللحظة، وهو يوقّع الورقة، لم يكن يعلم أن كلماته ستصبح شرارة ظلم تاريخي، جرحاً سيظل نازفاً لأكثر من قرن.
في قرية صغيرة قرب حيفا، عام 1948، كان أحمد، جد زكريا، يقف على عتبة بيته الحجري، يمسك ببندقية قديمة صدئة، كأنها امتداد لروحه المتمردة. لم يكن مقاتلاً بالفطرة، بل فلاحاً يعشق أشجار الزيتون التي زرعها بيديه. كانت الأرض بالنسبة إليه ليست مجرد تراب، بل ذاكرة، هوية، حياة. كان يعرف أن العصابات الصهيونية تقترب، يسمع أصوات طلقات نارية بعيدة، ويرى الدخان يتصاعد من القرى المجاورة. لم يكن هناك وقت للوداع. عندما اقتحموا القرية، كان أحمد يقاوم مع نفر قليل من أهلها، لكنهم كانوا كالريش في مواجهة عاصفة. طُرد أحمد، تاركاً خلفه بيتاً من الحجر وزوجة حاملاً بطفل لن يرى يافا أبداً. وهو يسير في قافلة اللاجئين، تحت شمس حارقة، كان ينظر إلى الخلف، إلى شجرة الزيتون التي زرعها قبل عشرين عاماً، وكأنها تناديه: "سأنتظرك."
في أمستردام، عام 2025، كان زكريا يحمل تلك القصة في قلبه وهو يسير في شوارع المدينة المبللة بالمطر. كانت ذكرى جده، التي روتها له أمه مرات لا تُحصى، ترافقه كظل لا يفارقه. كان يتذكر كيف كانت أمه تجلس بجانب سريره في مخيم اليرموك، تحكي له عن يافا، عن البحر الذي كان يعانق الشاطئ كصديق قديم، عن رائحة البرتقال التي كانت تملأ الجو. لكن تلك القصص لم تكن مجرد حكايات، بل كانت وصية، وعدٌ بأن الأرض لا تُنسى، وأن العدالة، مهما تأخرت، ستأتي يوماً. اليوم، وهو يقف في شوارع أمستردام، شعر زكريا أن تلك الوصية تتحقق، ببطء، لكن بثبات. كانت الأصوات التي تهتف "فلسطين حرة" تحمل صدى صوت جده، صوت أمه، صوت شعب لم يستسلم.
كان زكريا قد وصل إلى أمستردام قبل عقد من الزمن، هارباً من جحيم الحرب في سوريا، حيث دُمر مخيم اليرموك، موطنه الثاني، بنفس القسوة التي دُمرت بها يافا. كان يحمل معه حقيبة صغيرة، وبعض الصور القديمة، وذاكرة مثقلة بالخسارات. لكنه لم يكن وحيداً. في أمستردام، وجد مجتمعاً من المهاجرين، من الفلسطينيين والسوريين والعراقيين، الذين كانوا يتشاركون نفس الألم، نفس الحلم. كانوا يجتمعون في مقاهي صغيرة، يتحدثون عن الماضي، عن النكبة، عن الحصار على غزة، عن الأمل الذي لا يموت. لكن ما جعل زكريا يشعر بالاختلاف اليوم هو أن الحشد الذي يقف معه لم يكن من المهاجرين فقط. كان هناك هولنديون، فرنسيون، أفارقة، شباب وشيوخ، نساء ورجال، جميعهم يهتفون بصوت واحد، كأن فلسطين أصبحت رمزاً للنضال العالمي ضد الظلم.
بينما كان زكريا يسير بين الحشود، كانت آنا، الطالبة الهولندية، لا تزال بجانبه. كانت تحمل هاتفها، تصور المشهد، ترسل الصور إلى أصدقائها في الجامعة، إلى العالم. كانت آنا قد بدأت رحلتها مع القضية الفلسطينية قبل عامين، عندما حضرت محاضرة في الجامعة عن النكبة. كانت المحاضرة تتحدث عن الأرقام – 750 ألف فلسطيني طُردوا، 500 قرية دُمرت – لكن ما هزها لم يكن الأرقام، بل القصص. قصة امرأة عجوز فقدت أبناءها الثلاثة في قصف على غزة. قصة طفل يبحث عن أمه تحت الأنقاض. قصة شعب يرفض أن يُمحى. منذ تلك اللحظة، أصبحت آنا جزءاً من الحركة، تقرأ كتب غسان كنفاني، تشاهد أفلاماً وثائقية، تنضم إلى المظاهرات. لكن اليوم، وهي تقف بجانب زكريا، شعرت أنها لم تعد مجرد متضامنة، بل شريكة في نضال أكبر منها.
كانت الشرطة قد بدأت تتقدم، تحمل دروعاً وهراوات، وخراطيم المياه جاهزة للاستخدام. كان زكريا ينظر إليهم، لكنه لم يشعر بالخوف. كان قد رأى ما هو أسوأ في اليرموك، حيث كانت القنابل تسقط كالمطر، وحيث كان الجوع يقتل ببطء. "إذا تحملنا ذلك،" فكر، "فما هي هذه الهراوات؟" آنا، التي كانت لا تزال تمسك بيده، شعرت برعشة خفيفة، لكنها لم تتراجع. كانت تعرف أن هذه اللحظة ليست مجرد مواجهة مع الشرطة، بل مواجهة مع نظام عالمي ظل لعقود يدعم الظلم. كانت ترى في عيني زكريا قوة لم ترها من قبل، قوة رجل يحمل تاريخاً من المعاناة، لكنه يرفض أن ينكسر.
فجأة، بدأت خراطيم المياه تضرب الحشد. كانت المياه الباردة كالسياط، لكنها لم تطفئ الحماس. كان المتظاهرون يتشبثون ببعضهم، يرفعون لافتاتهم عالياً، كأنهم يتحدون العالم بأسره. زكريا، الذي تبلل حتى النخاع، شعر برعشة، لكنه لم يتحرك. كان يفكر في غزة، في الأطفال الذين يواجهون القنابل، في الأمهات اللواتي يدفنّ أبناءهن تحت الأنقاض. كان يفكر في جده أحمد، الذي مشى في قافلة اللاجئين، حاملاً مفتاح بيته كأنه رمز الأمل. "إذا تحمل جده ذلك،" فكر، "فأنا أستطيع أن أتحمل هذا." آنا، التي كانت لا تزال تصور، أمسكت بيده بقوة أكبر، كأنها تقول له: "نحن معاً في هذا."
كان المشهد يحمل شيئاً من الشعرية القاسية التي كتب عنها تولستوي في "الحرب والسلام"، حيث يتصادم التاريخ مع الإنسان، حيث تصبح اللحظات الصغيرة، كمظاهرة في شارع، جزءاً من ملحمة عظيمة. كان زكريا يشعر بذلك، وهو يرى الحشد يزداد، وجوه جديدة تنضم، أصوات لم يسمعها من قبل. كان هناك شيء يتشكل، شيء أكبر منهم جميعاً، شيء يحمل في طياته إمكانية تغيير العالم. كان يفكر في كلمات دوستويفسكي: "المعاناة هي الطريق الوحيد إلى الحقيقة." وفي هذه اللحظة، شعر أن الحقيقة ليست بعيدة، بل هي هنا، في هذه الشوارع، في هذه الأصوات، في هذا النضال الذي لا ينتهي.
بينما كانت الشرطة تتقدم، ظهرت شخصية جديدة في الحشد. كان اسمه خالد، شاب فلسطيني في الثلاثين من عمره، وصل إلى أمستردام قبل بضع سنوات. كان خالد مختلفاً عن زكريا. بينما كان زكريا هادئاً، متأملاً، يحمل ذاكرة شعب في قلبه، كان خالد ناراً مشتعلة، صوتاً لا يهدأ. كان يقف في مقدمة الحشد، يهتف بصوت يهز الأرض: "فلسطين حرة! فلسطين حرة!" كانت عيناه تلمعان بحماس الشباب، لكن خلف هذا الحماس كان هناك ألم عميق. كان خالد قد فقد أخاه في قصف على غزة عام 2014، ومنذ ذلك الحين، أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة إليه ليست مجرد قضية وطن، بل قضية حياة أو موت. كان يرى في كل مظاهرة، في كل هتاف، فرصة لإبقاء ذكرى أخيه حية.
اقترب خالد من زكريا، ورأى اللافتة في يده. "عدالتنا لن تموت،" قرأها بصوت عالٍ، ثم ابتسم. "هذه الكلمات، يا أخي، هي ما يبقينا أحياء." نظر إليه زكريا، ورأى في عينيه شيئاً من روح جده أحمد، تلك الروح التي لا تستسلم. "نعم،" قال زكريا، "لكن العدالة لا تأتي بالكلمات وحدها." كان خالد يعرف ذلك جيداً. كان قد شارك في تنظيم هذه المظاهرة، قضى ليالٍ طويلة في كتابة الشعارات، في التواصل مع النشطاء في أوروبا، في إقناع الشباب الهولنديين بالانضمام. كان يؤمن أن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، هي جزء من طريق طويل نحو الحرية.
بينما كان الحشد يواجه الشرطة، بدأت الأصوات تتصاعد أكثر. كانت هناك امرأة عجوز، ربما في السبعين من عمرها، تقف في الخلف، تحمل لافتة صغيرة كتب عليها: "أنا فلسطين." كانت فلسطينية من اللد، طُردت مع عائلتها عام 1948، واستقرت في هولندا بعد عقود من التشرد. كانت تقف بثبات، رغم أن جسدها الهزيل بالكاد يتحمل البرد. اقترب منها زكريا، وسألها: "لماذا أنتِ هنا؟" نظرت إليه، وعيناها تلمعان بدموع لم تسقط. "لأنني لا أريد أن يموت أطفال غزة كما مات أطفالنا في النكبة." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعل زكريا يشعر بثقل التاريخ على كتفيه.
في تلك اللحظة، بدأت الشرطة تستخدم الغاز المسيل للدموع. كانت السحب البيضاء تتصاعد، تحرق العيون، لكن الحشد لم يتفرق. كانوا يهتفون بصوت أعلى، كأن الألم يزيد من عزيمتهم. زكريا، الذي كان يسعل من الغاز، شعر بيد خالد تمسك به، تسحبه إلى الخلف. "لا تستسلم الآن،" قال خالد، صوته مختنق لكنه قوي. "هذا ما يريدونه، أن نتراجع." لكن زكريا لم يكن بحاجة إلى التشجيع. كان يعرف أن هذه اللحظة ليست مجرد مظاهرة، بل معركة من أجل الكرامة.
بينما كان الحشد يقاوم، كانت آنا لا تزال تصور. كانت ترى في هذا المشهد شيئاً من الجمال القاسي، شيئاً يذكرها بقصص المقاومة التي قرأتها عن الحرب العالمية الثانية، عن الشعوب التي وقفت في وجه الفاشية. كانت تعرف أن هذه الصور، التي ترسلها إلى العالم، ليست مجرد وثائق، بل أسلحة في معركة الوعي. كانت تكتب تعليقاً على إحدى الصور: "هذا هو صوت الإنسانية، هذا هو صوت فلسطين." لكنها، وهي تنظر إلى زكريا وخالد والعجوز من اللد، شعرت أن هذه الكلمات لا تكفي. كان هناك شيء أعمق، شيء لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، شيء يعيشه فقط من يقف في هذه الشوارع.
في تلك الليلة، وبينما كانت الأخبار عن استقالة مارك روته تنتشر، كان زكريا يجلس في مقهى صغير قرب إحدى القنوات. كان المطر قد توقف، والمدينة استعادت هدوءها المؤقت. لكنه كان يعرف أن هذا الهدوء لن يدوم. كان يفكر في جده، في يافا، في غزة. كان يفكر في خالد، الذي وعد بأن ينظم مظاهرة أكبر غداً. كان يفكر في العجوز من اللد، التي أعطته درساً في الصمود. كان يفكر في آنا، التي أصبحت جزءاً من قصته، رغم أنها لم تولد في فلسطين. كان يفكر في كلمات تشيخوف: "الإنسان لا يصبح حراً إلا عندما يتحرر من خوفه." لكنه، وهو ينظر إلى اللافتة المبللة بجانبه، عرف أن الخوف لم يعد يسيطر عليه. كان هناك شيء أقوى: الأمل.
كان الفجر يقترب، والضوء يتسرب ببطء إلى السماء. نهض زكريا، حمل لافتته، ومشى نحو البيت. كان يعرف أن الغد سيحمل مظاهرة أخرى، صرخة أخرى، أملاً آخر. في قلبه، كان يحمل فلسطين، ليست كأرض فقط، بل كرمز للكرامة، للحرية، للإنسانية التي ترفض أن تموت. كان يحملها كما يحمل الإنسان حلمه، بقوة لا تعرف الاستسلام، وروح لا تعرف الانكسار.
كان زكريا يعرف أن هذه اللحظة في أمستردام ليست نهاية القصة، بل بداية فصل جديد. كان يعرف أن النضال الذي بدأه جده أحمد لم ينته، بل يتجدد في كل جيل، في كل صرخة، في كل لافتة. كان يعرف أن فلسطين ليست مجرد قضية، بل رمز لكل شعب يناضل من أجل كرامته. وهو يمشي في شوارع أمستردام، تحت سماء بدأت تتفتح بالضوء، شعر زكريا أن التاريخ ينظر إليه، ينتظره، يدعوه ليكون جزءاً من ملحمة لن تنتهي حتى تحقق العدالة.
الفصل الثالث: غزة، جرح العالم
في غزة، حيث يختنق الهواء برائحة البارود والموت، كانت مريم، طبيبة في الثلاثين من عمرها، تجري بين أنقاض مستشفى الشفاء الذي دُمر للمرة الثالثة في غضون أشهر. كانت تحمل طفلاً مصاباً، وجهه مغطى بالغبار، وعيناه تائهتان كمن فقد القدرة على فهم العالم. كانت الأنقاض من حولها تحكي قصة لا تحتاج إلى كلمات: جدران متصدعة، أسرّة ممزقة، أجهزة طبية محطمة كأنها ضحايا الحرب ذاتها. كانت مريم تسمع صوت القنابل بعيداً، لكنها لم تتوقف. كانت يداها، المرتجفتان من الإرهاق، تضمد جرح الطفل بحركات آلية، كأنها تحاول إنقاذ ما تبقى من إنسانيتها. "لماذا؟" سألت نفسها وهي تنظر إلى عيني الطفل، لكنها كانت تعرف الإجابة. لم تكن هذه حرباً، بل إبادة، محاولة منهجية لمحو شعب بأكمله. كانت الأرقام التي أعلنتها الأمم المتحدة – نصف مليون فلسطيني يعانون من التجويع المتعمد – مجرد أرقام على ورق، لكن الحقيقة كانت هنا، في هذه العيون، في هذه الجروح، في هذا الصمت المرعب الذي يعقب كل انفجار.
كانت مريم قد ولدت في غزة، في مخيم الشاطئ، حيث كانت الأحلام تُصنع من الرمل والأمل. كانت والدتها، فاطمة، تحكي لها عن النكبة، عن القرية التي طُردوا منها عام 1948، عن البيت الذي تركوه خلفهم مع مفتاح صدئ أصبح رمزاً للعودة. لكن مريم، التي نشأت تحت الحصار، لم تكن بحاجة إلى قصص النكبة لتعرف معنى الظلم. كانت تعيشه كل يوم، في انقطاع الكهرباء، في نقص الدواء، في صوت القنابل الذي أصبح جزءاً من إيقاع الحياة. لكنها، رغم كل ذلك، اختارت أن تكون طبيبة، لأنها آمنت أن إنقاذ حياة واحدة هو فعل مقاومة. كانت تحمل في قلبها كلمات غسان كنفاني: "إن القضية ليست قضية فلسطين، بل قضية الإنسان." وفي كل مريض عالجته، في كل جرح ضمدته، كانت تشعر أنها تقاوم، ليس فقط من أجل فلسطين، بل من أجل الإنسانية.
كانت الشمس ترسل أشعتها الضعيفة عبر النوافذ المحطمة للمستشفى، لكنها لم تحمل معها أي دفء. كانت مريم تجلس للحظة، تحاول أن تستعيد أنفاسها، عندما سمعت صوتاً خافتاً من بعيد: "ماما... ماما..." كان صوت طفلة صغيرة، ربما في الخامسة من عمرها، تبحث عن أمها بين الأنقاض. ركضت مريم نحو الصوت، قلبها ينبض بسرعة، وعندما وجدت الطفلة، كانت تجلس بجانب جثة امرأة، وجهها مغطى بالدم. كانت الطفلة تمسك بيد أمها، تهزها بهدوء، كأنها تظن أنها نائمة. توقفت مريم للحظة، شعرت أن قلبها يتمزق، لكنها ابتلعت دموعها وأمسكت بالطفلة، تحاول تهدئتها. "سنعثر على مكان آمن،" قالت، لكنها كانت تعرف أن لا مكان آمن في غزة.
في تلك اللحظة، سمعت مريم صوت انفجار قريب، هز الأرض تحت قدميها. كانت القنابل لا تتوقف، كأنها رسائل من عالم يرفض أن يرى غزة إلا كمسرح للموت. حملت الطفلة، التي كانت لا تزال تهمس بكلمة "ماما"، وركضت نحو ملجأ مؤقت في قبو المستشفى. كان القبو مكتظاً بالجرحى، بالأمهات اللواتي يحتضن أطفالهن، بالرجال الذين ينظرون إلى الأرض كأنهم فقدوا كل شيء. كانت رائحة الدم والخوف تملأ المكان، لكن مريم لم تتوقف. وضعت الطفلة في زاوية، وأعطتها قطعة خبز صغيرة كانت تحملها في جيبها. "كلي، يا حبيبتي،" قالت، لكن الطفلة لم تأكل. كانت عيناها تائهتان، كأنها تبحث عن شيء لن تجده أبداً.
كانت مريم تعرف أن هذه اللحظات ليست جديدة. كانت غزة تعيش تحت الحصار منذ عقود، منذ أن بدأت إسرائيل تخنق القطاع، تحرمه من الماء، من الكهرباء، من الدواء. لكن ما كان يحدث الآن، في عام 2025، كان مختلفاً. كانت الإبادة قد بلغت ذروتها، مع قنابل تسقط بكثافة تفوق ما شهدته غزة في أي حرب سابقة. كانت الأرقام التي أعلنتها الأمم المتحدة – أكثر من ست قنابل نووية من المتفجرات أُسقطت على قطاع صغير – لا تعبر عن الحقيقة. الحقيقة كانت في هذه الطفلة، في هذا القبو، في هذه الأنقاض. كانت مريم تفكر في كلمات دوستويفسكي: "المعاناة هي الطريق الوحيد إلى الحقيقة." لكنها، وهي تنظر إلى الطفلة، تساءلت: أي حقيقة تستحق كل هذا الألم؟
في تلك اللحظة، دخل إلى القبو رجل يدعى أبو خالد، ممرض في الأربعين من عمره، كان يعمل مع مريم منذ سنوات. كان وجهه شاحباً، وعيناه تحملان نظرة رجل رأى أكثر مما يستطيع قلبه تحمله. "مريم،" قال، صوته مرتجف، "لقد دمروا المستودع الطبي. لا دواء بعد الآن." توقفت مريم للحظة، شعرت أن الأرض تنهار تحتها. كانت تعرف ماذا يعني ذلك: المزيد من الموتى، المزيد من الجرحى الذين لن يجدوا علاجاً، المزيد من الأطفال الذين سيموتون ببطء. لكنها لم تسمح لليأس أن يسيطر عليها. "سنواصل،" قالت، صوتها قوي رغم الإرهاق. "سنواصل حتى لو بأيدينا العارية."
كان أبو خالد ينظر إليها بإعجاب، لكنه كان يعرف أن هذه الكلمات، مهما كانت قوية، لا يمكنها أن توقف القنابل. كان قد فقد ابنه الأكبر في قصف عام 2021، ومنذ ذلك الحين، أصبح عمله في المستشفى نوعاً من التكفير عن ذنب لم يرتكبه. كان يرى في كل مريض ينقذه وجهاً لابنه، في كل جرح يضمده أملاً في أن يغفر له العالم. لكنه، مثل مريم، كان يعرف أن هذه ليست مجرد حرب، بل محاولة لمحو شعب بأكمله. كان يفكر في كلمات تشيخوف: "الإنسان لا يصبح حراً إلا عندما يتحرر من خوفه." لكنه، وهو ينظر إلى الجرحى من حوله، تساءل: كيف تتحرر من الخوف عندما يكون الموت هو الواقع الوحيد؟
في تلك اللحظة، سمعت مريم صوتاً من بعيد، صوت طائرة مسيرة تحوم فوق المستشفى. كانت تعرف هذا الصوت جيداً، صوت الموت الذي يأتي من السماء. أمسكت بالطفلة بسرعة، وضمتها إلى صدرها، وركضت نحو زاوية القبو. كان الجميع يصرخون، يبحثون عن مأوى، لكن لا مأوى في غزة. كان الانفجار الذي تلا ذلك قريباً جداً، هز الجدران، وسقط الغبار من السقف كمطر أسود. لكن مريم لم تتوقف. كانت تضم الطفلة، تهمس لها: "لا تخافي، يا حبيبتي، أنا معك." لكنها كانت تعرف أن هذه الكلمات، مهما كانت صادقة، لا يمكنها أن توقف الموت.
عندما هدأت الأصوات، خرجت مريم من القبو، حاملة الطفلة التي كانت لا تزال صامتة. كان المستشفى قد تحول إلى كومة من الأنقاض، والجرحى كانوا يصرخون من الألم. كانت مريم تشعر أنها على وشك الانهيار، لكنها لم تسمح لنفسها بذلك. كانت تعرف أن كل لحظة تمر هي لحظة يمكن أن تنقذ فيها حياة. بدأت تساعد أبو خالد في نقل الجرحى، في البحث عن أي دواء قد يكون نجا من القصف. كانت يداها ترتجفان، لكنها لم تتوقف. كانت تفكر في كلمات سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية." لكن أي حرية هذه التي تُعاش تحت القنابل؟
في تلك اللحظة، سمعت مريم صوتاً مألوفاً من بعيد. كان صوت أبو محمد، رجل عجوز كان يعمل حارساً في المستشفى. كان يصرخ: "مريم! مريم! هناك ناجون تحت الأنقاض!" ركضت مريم نحوه، وجدته يحفر بيديه العاريتين بين الحجارة. كان يحاول إنقاذ امرأة شابة، ربما في العشرين من عمرها، كانت لا تزال على قيد الحياة، لكن ساقها عالقة تحت كتلة خرسانية. عملت مريم وأبو محمد معاً، يحفران بكل قوتهما، حتى تمكنا من إخراجها. كانت المرأة تتنفس بصعوبة، لكنها كانت حية. "شكراً،" همست، وعيناها مليئتان بالدموع. لكن مريم لم تكن بحاجة إلى الشكر. كانت هذه اللحظة، لحظة إنقاذ حياة، هي ما يبقيها صامدة.
لكن اليوم لم ينته. كانت القنابل لا تزال تسقط، والجرحى يتزايدون، والدواء ينفد. كانت مريم تعرف أن هذا ليس مجرد يوم آخر في غزة، بل جزء من مشروع إبادة بدأ قبل قرن، منذ وعد بلفور، منذ النكبة، منذ الحصار. كانت تفكر في كلمات غوغول، الذي كتب عن سخافة النظام البيروقراطي الذي يدمر الإنسان. لكن هنا، في غزة، لم يكن النظام بيروقراطياً فقط، بل كان قاتلاً، مدعوماً بلوبيات السلاح والاحتكارات المالية التي ترى في دماء الفلسطينيين أرباحاً.
في تلك الليلة، وبينما كانت مريم تجلس في القبو، تحيط بها الطفلة وأبو خالد وأبو محمد، سمعت صوتاً من بعيد، صوتاً لم تتوقعه. كان صوت راديو صغير، يبث أخباراً من أمستردام. كان المذيع يتحدث عن مظاهرات عارمة، عن استقالة رئيس الوزراء الهولندي، عن حشود تهتف "فلسطين حرة." توقفت مريم للحظة، شعرت بدفء غريب في قلبها. كانت تعرف أن هذه الأصوات، التي تصل من آلاف الأميال، هي جزء من نضالها. كانت تعرف أن زكريا، وآنا، وخالد، والعجوز من اللد، جميعهم جزء من هذه القصة. كانت تعرف أن فلسطين ليست وحدها، لأن الإنسانية، رغم كل شيء، لا تزال حية.
كانت الطفلة، التي كانت لا تزال صامتة، تمسك بيد مريم. نظرت إليها مريم، ورأت في عينيها شيئاً من الأمل، رغم كل الألم. "سنبقى أحياء،" همست لها، "سنبقى أحياء لأن العالم يسمعنا." لكنها، في قرارة نفسها، كانت تعرف أن هذا الأمل يحتاج إلى أكثر من كلمات. كان يحتاج إلى نضال، إلى مقاومة، إلى إيمان لا ينكسر. وهي، مريم، كانت مستعدة لذلك. كانت مستعدة لأن تكون جزءاً من هذه الملحمة، ملحمة شعب يرفض أن يُمحى، ملحمة إنسانية ترفض أن تموت.
كان الفجر يقترب، والقنابل لا تزال تسقط. لكن مريم، وهي تحمل الطفلة وتساعد أبو خالد في تضميد جرح آخر، كانت تعرف أن كل لحظة تمر هي لحظة مقاومة. كانت تعرف أن فلسطين، من النهر إلى البحر، ليست مجرد أرض، بل رمز للكرامة، للحرية، للإنسانية التي ترفض أن تستسلم. وفي تلك اللحظة، تحت سماء غزة المحترقة، شعرت مريم أنها ليست وحدها، لأن العالم، في مكان ما، يهتف معها.
الفصل الرابع : باريس، صوت التمرد
في باريس، حيث كانت أضواء شارع الشانزليزيه تخترق ضباب الشتاء، كانت الحشود تملأ الشوارع كأنها نهر بشري يتدفق بغضب وأمل. كانت الأصوات تتصاعد، تهتف "فلسطين حرة!" بقوة تهز الجدران، كأنها تحاول إيقاظ مدينة ظلت لعقود تتجاهل صرخة شعب. اللافتات، المرفوعة عالياً، كانت تحمل كلمات الحرية بلغات متعددة، لكنها جميعاً كانت تنبض بنفس الروح: رفض الظلم، رفض التواطؤ، رفض الصمت. وسط هذا الحشد، وقفت ليلى، طالبة فلسطينية-فرنسية في الخامسة والعشرين، ترتدي كوفية تحيط بعنقها كعلم يرفرف في مهب الريح. كانت تحمل صورة لجدتها، التي طُردت من القدس عام 1967، صورة بالأبيض والأسود تظهر امرأة بابتسامة خجولة ونظرة تحمل ألف حكاية. كانت ليلى تقف في الصف الأول، صوتها يعلو مع كل هتاف، كأنها تحاول إيصال صوت جدتها إلى العالم. بجانبها، وقفت كلير، صحفية شابة في الثلاثين، تعمل في صحيفة "لوموند"، تحمل دفتر ملاحظات صغيراً تسجل فيه تفاصيل المشهد. لم تكن كلير مجرد مراقبة، بل كانت جزءاً من هذا النضال، بعد أن أدركت أن الكتابة عن الظلم ليست كافية، بل يجب أن تكون صوتاً له.
كانت ليلى قد ولدت في باريس، لكن جذورها كانت تمتد إلى القدس، حيث عاشت جدتها قبل أن تُطرد مع عائلتها إلى الأردن. كانت قصص جدتها، التي كانت تحكيها لها عبر مكالمات الفيديو، تشكل جزءاً من هويتها. كانت جدتها تخبرها عن الحديقة الصغيرة خلف بيتهم في القدس، عن شجرة التين التي كانت تظلل الفناء، عن الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع قبل أن تأتي العصابات الصهيونية وتغير كل شيء. لكن أكثر ما كان يبقى في ذهن ليلى هو كلمات جدتها: "الأرض ليست مجرد تراب، يا ليلى، إنها ذاكرتنا." تلك الكلمات كانت ترن في أذنيها الآن، وهي تقف في شوارع باريس، تهتف من أجل فلسطين، من أجل جدتها، من أجل نفسها.
كانت كلير، التي تقف بجانبها، تكتب بسرعة، تحاول التقاط جوهر هذه اللحظة. كانت قد بدأت حياتها المهنية كصحفية تغطي الأحداث السياسية، لكن تغطيتها للمظاهرات الفلسطينية غيرت شيئاً في داخلها. كانت ترى في هذه الحشود شيئاً يذكرها بانتفاضة الطلاب عام 1968، التي قرأت عنها في كتب التاريخ. كانت تعرف أن تلك الانتفاضة، التي هزت باريس، كانت صرخة ضد الظلم، ضد النظام، ضد الصمت. واليوم، كانت ترى نفس الروح في هذه الشوارع، في وجوه الشباب الذين يرفضون أن يكونوا مجرد أرقام في تقارير الأخبار. كانت تكتب: "هذه ليست مظاهرة، بل ثورة وعي، ثورة إنسانية." لكنها، وهي تنظر إلى ليلى، شعرت أن كلماتها لا تكفي لتصف هذا الشعور، شعور الانتماء إلى قضية أكبر منها.
كانت الشرطة الفرنسية قد بدأت تتقدم، تحمل دروعاً وهراوات، وخراطيم المياه جاهزة للاستخدام. كانت ليلى تقف بثبات، لا تخاف، رغم أنها رأت كيف استخدمت الشرطة العنف في مظاهرات سابقة. كانت تعرف أن هذا العنف ليس جديداً، فقد سمعت من جدتها عن العنف الذي واجهه الفلسطينيون في القدس، في اللد، في يافا. لكنها كانت تؤمن أن كل هتاف، كل خطوة، هي جزء من المقاومة. "هذه قضيتي،" قالت لكلير، صوتها قوي رغم البرد الذي يخترق عظامها، "لكنها أيضاً قضيتك، لأن الظلم لا يفرق بيننا." نظرت كلير إليها، ورأت في عينيها شيئاً من روح سارتر، الذي كتب عن المسؤولية الإنسانية في مواجهة الظلم. لم تجب، لكنها أومأت برأسها، كأنها تقول: "أنا معك."
في تلك اللحظة، سمعت ليلى صوتاً مألوفاً من بعيد. كان صوت أمير، شاب فلسطيني-فرنسي في السابعة والعشرين، يقود الحشد بمكبر صوت. كان أمير معروفاً في الأوساط النشطة في باريس، صوته قوي، وروحه مشتعلة بنار النضال. كان قد فقد والده في انتفاضة الأقصى عام 2000، ومنذ ذلك الحين، أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة إليه ليست مجرد قضية وطن، بل قضية وجود. كان يهتف: "فلسطين لنا! من النهر إلى البحر!" وكانت الأصوات تتبعه كالصدى، تملأ الشوارع، تصل إلى السماء. اقترب أمير من ليلى، ورأى الصورة التي تحملها. "جدتك؟" سأل، وابتسامة خفيفة على وجهه. أومأت ليلى، وعيناها تلمعان بالدموع. "إنها هنا معنا،" قالت، وصوتها مرتجف لكنه قوي. أومأ أمير، وكأنه يفهم، ثم عاد إلى مكبر الصوت، يواصل قيادة الحشد.
كانت الشرطة قد بدأت تستخدم الغاز المسيل للدموع، والسحب البيضاء كانت تتصاعد، تحرق العيون، لكن الحشد لم يتفرق. كانوا يهتفون بصوت أعلى، كأن الألم يزيد من عزيمتهم. كانت ليلى تسعل من الغاز، لكنها لم تتراجع. كانت تفكر في جدتها، التي مشت في قافلة اللاجئين عام 1967، تحمل مفتاح بيتها كأنه رمز الأمل. كانت تفكر في غزة، حيث كانت الأخبار تتحدث عن قنابل تسقط كالمطر، عن أطفال يموتون تحت الأنقاض. كانت تفكر في مريم، الطبيبة التي سمعت عنها في تقرير إخباري، التي تعمل في ظروف لا يمكن تخيلها لإنقاذ الأرواح. "إذا تحملت مريم ذلك،" فكرت ليلى، "فأنا أستطيع أن أتحمل هذا."
كانت كلير لا تزال تكتب، تحاول التقاط كل تفصيل: صوت أمير، هتافات الحشد، رائحة الغاز، وجوه المتظاهرين التي تحمل خليطاً من الغضب والأمل. كانت تكتب: "هذه ليست مجرد مظاهرة، بل لحظة تاريخية، لحظة يقف فيها الشعب الفرنسي مع الشعب الفلسطيني، يرفض التواطؤ، يطالب بالعدالة." لكنها، وهي تنظر إلى ليلى وأمير، شعرت أن كلماتها لا تكفي. كان هناك شيء أعمق، شيء يعيشه فقط من يقف في هذه الشوارع، من يشعر بثقل التاريخ وخفة الأمل في آن واحد.
في تلك اللحظة، ظهرت شخصية جديدة في الحشد. كانت سارة، امرأة فرنسية في الأربعين، كانت يوماً مناصرة للقضية الفلسطينية في الجامعة، لكنها ابتعدت عن النضال بعد أن تزوجت وأصبحت أماً. لكن الأخبار عن الإبادة في غزة، عن الأطفال الذين يموتون تحت القنابل، أعادتها إلى الشوارع. كانت تحمل لافتة كتب عليها: "أوقفوا الإبادة!" وكانت تقف بجانب ليلى، تهتف معها، كأنها تحاول تعويض سنوات الصمت. اقتربت من ليلى، وسألتها: "كيف تتحملين كل هذا؟" نظرت إليها ليلى، وعيناها تلمعان بالإيمان. "لأنني لا أحمل هذا وحدي،" قالت، "نحن نحمله معاً." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعل سارة تشعر بأنها جزء من شيء أكبر منها.
في تلك الليلة، وبينما كانت الأخبار تنتشر عن استدعاء السفير الأمريكي تشارلز كوشنر، كانت ليلى وكلير وأمير وسارة يجلسون في مقهى صغير قرب الشانزليزيه. كان الحشد قد بدأ يتفرق، لكن الأمل لم يتفرق. كانوا يتحدثون عن المظاهرات في أمستردام، في روما، في دبلن. كانوا يتحدثون عن زكريا، عن مريم، عن الأطفال في غزة. كانوا يتحدثون عن عالم يمكن أن يكون أفضل، إذا ما استمر النضال. كانت ليلى تفكر في كلمات سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية." وفي تلك اللحظة، شعرت أن هذه الحرية ليست مجرد فكرة، بل ممارسة، فعل يتجسد في كل هتاف، في كل لافتة، في كل خطوة.
كان الفجر يقترب، والضوء يتسرب ببطء إلى سماء باريس. نهضت ليلى، حملت صورة جدتها، ومشيت نحو البيت. كانت تعرف أن الغد سيحمل مظاهرة أخرى، صرخة أخرى، أملاً آخر. في قلبها، كانت تحمل فلسطين، ليست كأرض فقط، بل كرمز للكرامة، للحرية، للإنسانية التي ترفض أن تموت. كانت تحملها كما يحمل الإنسان حلمه، بقوة لا تعرف الاستسلام، وروح لا تعرف الانكسار.
الفصل الخامس: نحو عالم جديد
في شوارع روما، حيث كانت أحجار الكولوسيوم تشهد على قرون من التاريخ، كانت الحشود تتدفق كأنها موجة إنسانية لا تقاوم، تهتف بصوت واحد: "فلسطين حرة!" كانت الأصوات تملأ الهواء، تخترق ضباب الصباح، تحمل في طياتها غضباً قديماً وأملاً جديداً. اللافتات، المرفوعة عالياً، كانت تتراقص في مهب الريح، بعضها مكتوب بالإيطالية، وبعضها بالعربية، وبعضها بلغات أخرى، لكن الرسالة كانت واحدة: لا للإبادة، نعم للعدالة. وسط هذا الحشد، وقف لورنزو، شاب إيطالي في الثلاثين من عمره، يحمل لافتة كتب عليها: "كفى ظلماً!" كان لورنزو، ابن عائلة عمالية من نابولي، قد انضم إلى الحركة الفلسطينية بعد سنوات من القراءة عن النكبة، عن الحصار على غزة، عن الظلم الذي يمتد لقرن كامل. بجانبه، وقفت سلمى، فلسطينية من مخيم عايدة في بيت لحم، وصلت إلى إيطاليا كطالبة قبل خمس سنوات. كانت تحمل صورة لأخيها الصغير، الذي قُتل في قصف على غزة عام 2021، وكانت عيناها تلمعان بخليط من الألم والإصرار. كان صوتها، وهي تهتف، يحمل قوة لا تعرف الاستسلام، كأنها تحاول إيصال صوت أخيها إلى العالم.
كان لورنزو قد نشأ في حي فقير في نابولي، حيث كانت الحياة صراعاً يومياً ضد الفقر والتهميش. كان والده، عامل ميناء، يحكي له عن المقاومة الإيطالية ضد الفاشية في الأربعينيات، عن الرجال والنساء الذين وقفوا في وجه النازية، رافضين أن ينحنوا. تلك القصص، التي كانت تُروى حول مائدة العشاء، شكلت وعي لورنزو، جعلته يرى في القضية الفلسطينية امتداداً لنضال شعبه. كان يرى في غزة، في القدس، في الضفة الغربية، نفس الروح التي قاومت الفاشية في إيطاليا. "هذا ليس عن فلسطين فقط،" قال لسلمى وهما يسيران بين الحشود، "هذا عن كل شعب يناضل من أجل كرامته." نظرت إليه سلمى، ورأت في عينيه شيئاً من الإيمان الذي كانت تحمله جدتها، التي كانت تحكي لها عن المقاومة في بيت لحم. "نعم،" قالت، صوتها هادئ لكنه عميق، "لكن فلسطين هي قلب هذا النضال."
كانت روما، بمبانيها القديمة وشوارعها المرصوفة بالحجارة، مسرحاً لمشهد لم تشهده منذ عقود. كانت الحشود تملأ الميادين، من ساحة فينيسيا إلى ساحة الشعب، كأن المدينة بأكملها قد استيقظت من سباتها. الشرطة الإيطالية، بزيها الأزرق الداكن، اصطفت في صفوف كثيفة، تحاول تفريق الحشد، لكن المتظاهرين، بوجوههم المتنوعة – إيطاليون، فلسطينيون، مهاجرون من إفريقيا وآسيا – شكلوا سلسلة بشرية، أيديهم متشابكة كأنها جسد واحد. كانوا يعلمون أن هذه ليست مجرد مظاهرة، بل لحظة تاريخية، نقطة تحول يقف فيها العالم على مفترق طرق. في تلك الليلة، وبينما كانت الأصوات تتصاعد كالمد العارم، وصلت الأنباء: النواب في البرلمان الإيطالي واجهوا رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني بانتقادات حادة، متهمين إياها بالتواطؤ مع كيان يمارس الإبادة. لم تكن هذه نهاية النضال، لكنها كانت إشارة إلى أن الشعب الإيطالي لم يعد يقبل الصمت.
كانت سلمى، وهي تسير بين الحشود، تتذكر كلمات جدتها: "الأرض ليست مجرد تراب، يا سلمى، إنها ذاكرتنا، هويتنا." تلك الكلمات، التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، كانت ترن في أذنيها كلما رأت صورة لغزة على شاشة التلفاز، كلما سمعت عن قنبلة تسقط على مدرسة أو مستشفى. لكنها اليوم، في شوارع روما، شعرت أن تلك الكلمات لم تعد مجرد ذكرى، بل وصية تتحقق. كان العالم يتحرك، ببطء ربما، لكن بحزم. في أمستردام، في باريس، في دبلن، كانت الأصوات تتصاعد، كأن الضمير الإنساني، الذي ظل نائماً لعقود، بدأ يستيقظ من سباته العميق. كانت سلمى تفكر في زكريا، الذي سمعت عنه من نشطاء في أمستردام، وفي مريم، الطبيبة التي تقاوم في غزة، وفي ليلى، التي تقود الحشود في باريس. كانت تشعر أن هؤلاء جميعاً جزء من قصتها، من نضالها.
كان لورنزو، بجانبها، يحمل هاتفه، يصور المشهد، يرسل الصور إلى أصدقائه في نابولي، إلى العالم. كان قد بدأ رحلته مع القضية الفلسطينية قبل ثلاث سنوات، عندما حضر محاضرة في الجامعة عن النكبة. كانت المحاضرة تتحدث عن الأرقام – 750 ألف فلسطيني طُردوا، 500 قرية دُمرت – لكن ما هزه لم يكن الأرقام، بل القصص. قصة رجل عجوز فقد بيته في يافا. قصة طفلة تبحث عن أمها تحت الأنقاض. قصة شعب يرفض أن يُمحى. منذ تلك اللحظة، أصبح لورنزو جزءاً من الحركة، يقرأ كتب غسان كنفاني، يشاهد أفلاماً وثائقية، ينضم إلى المظاهرات. لكن اليوم، وهو يقف بجانب سلمى، شعر أن هذه اللحظة ليست مجرد مظاهرة، بل ثورة وعي، ثورة إنسانية.
كانت الشرطة قد بدأت تتقدم، تحمل دروعاً وهراوات، وخراطيم المياه جاهزة للاستخدام. كانت سلمى تقف بثبات، لا تخاف، رغم أنها رأت كيف استخدمت الشرطة العنف في مظاهرات سابقة. كانت تعرف أن هذا العنف ليس جديداً، فقد سمعت من جدتها عن العنف الذي واجهه الفلسطينيون في بيت لحم، في القدس، في غزة. لكنها كانت تؤمن أن كل هتاف، كل خطوة، هي جزء من المقاومة. "هذه قضيتي،" قالت للورنزو، صوتها قوي رغم البرد الذي يخترق عظامها، "لكنها أيضاً قضيتك، لأن الظلم لا يفرق بيننا." نظر إليها لورنزو، ورأى في عينيها شيئاً من روح المقاومة الإيطالية التي كان والده يحكي عنها. لم يجب، لكن أومأ برأسه، كأنه يقول: "أنا معك."
في تلك اللحظة، ظهرت شخصية جديدة في الحشد. كان اسمه أحمد، شاب فلسطيني في السابعة والعشرين، وصل إلى إيطاليا كلاجئ قبل ثلاث سنوات. كان أحمد مختلفاً عن سلمى. بينما كانت سلمى هادئة، متأملة، تحمل ذاكرة شعب في قلبها، كان أحمد ناراً مشتعلة، صوتاً لا يهدأ. كان يقف في مقدمة الحشد، يهتف بصوت يهز الأرض: "فلسطين لنا! من النهر إلى البحر!" كانت عيناه تلمعان بحماس الشباب، لكن خلف هذا الحماس كان هناك ألم عميق. كان قد فقد أخته في قصف على غزة عام 2014، ومنذ ذلك الحين، أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة إليه ليست مجرد قضية وطن، بل قضية حياة أو موت. كان يرى في كل مظاهرة، في كل هتاف، فرصة لإبقاء ذكرى أخته حية.
اقترب أحمد من سلمى، ورأى الصورة التي تحملها. "أخوك؟" سأل، وابتسامة خفيفة على وجهه. أومأت سلمى، وعيناها تلمعان بالدموع. "إنه هنا معنا،" قالت، وصوتها مرتجف لكنه قوي. أومأ أحمد، وكأنه يفهم، ثم عاد إلى مقدمة الحشد، يواصل قيادة الهتافات. كان لورنزو ينظر إليه بإعجاب، يرى فيه شيئاً من روح المقاومة التي قرأ عنها في كتب التاريخ. كان يفكر في كلمات غسان كنفاني: "إن القضية ليست قضية فلسطين، بل قضية الإنسان." وفي هذه اللحظة، شعر أن كنفاني كان معهم، يكتب بقلمه الثوري، يوثق لحظة قد تغير مجرى التاريخ.
كانت الشرطة قد بدأت تستخدم الغاز المسيل للدموع، والسحب البيضاء كانت تتصاعد، تحرق العيون، لكن الحشد لم يتفرق. كانوا يهتفون بصوت أعلى، كأن الألم يزيد من عزيمتهم. كانت سلمى تسعل من الغاز، لكنها لم تتراجع. كانت تفكر في أخيها، الذي كان يحلم بأن يصبح مهندساً، لكنه مات تحت الأنقاض. كانت تفكر في مريم، الطبيبة التي تقاوم في غزة، وفي زكريا، الذي يقود الحشود في أمستردام، وفي ليلى، التي تهتف في باريس. كانت تفكر في كلمات دوستويفسكي: "المعاناة هي الطريق الوحيد إلى الحقيقة." وفي هذه اللحظة، شعرت أن الحقيقة ليست بعيدة، بل هي هنا، في هذه الشوارع، في هذه الأصوات، في هذا النضال الذي لا ينتهي.
في تلك اللحظة، ظهرت امرأة عجوز في الحشد، ربما في السبعين من عمرها، تحمل لافتة صغيرة كتب عليها: "أنا فلسطين." كانت فلسطينية من حيفا، طُردت مع عائلتها عام 1948، واستقرت في إيطاليا بعد عقود من التشرد. كانت تقف بثبات، رغم أن جسدها الهزيل بالكاد يتحمل البرد. اقتربت من سلمى، وسألتها: "لماذا أنتِ هنا؟" نظرت إليها سلمى، وعيناها تلمعان بالدموع. "لأنني لا أريد أن يموت أطفال غزة كما مات أخي." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعل العجوز تبتسم بحزن. "أنتِ مثلي،" قالت، "نحمل نفس الجرح."
في تلك الليلة، وبينما كانت الأخبار عن انتقادات النواب لميلوني تنتشر، كان لورنزو وسلمى وأحمد يجلسون في مقهى صغير قرب ساحة فينيسيا. كان الحشد قد بدأ يتفرق، لكن الأمل لم يتفرق. كانوا يتحدثون عن المظاهرات في أمستردام، في باريس، في دبلن. كانوا يتحدثون عن زكريا، عن مريم، عن ليلى. كانوا يتحدثون عن عالم يمكن أن يكون أفضل، إذا ما استمر النضال. كانت سلمى تفكر في كلمات سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية." وفي تلك اللحظة، شعرت أن هذه الحرية ليست مجرد فكرة، بل ممارسة، فعل يتجسد في كل هتاف، في كل لافتة، في كل خطوة.
كان الفجر يقترب، والضوء يتسرب ببطء إلى سماء روما. نهضت سلمى، حملت صورة أخيها، ومشيت نحو البيت. كانت تعرف أن الغد سيحمل مظاهرة أخرى، صرخة أخرى، أملاً آخر. في قلبها، كانت تحمل فلسطين، ليست كأرض فقط، بل كرمز للكرامة، للحرية، للإنسانية التي ترفض أن تموت. كانت تحملها كما يحمل الإنسان حلمه، بقوة لا تعرف الاستسلام، وروح لا تعرف الانكسار.
مادة صحفية مواكبة للرواية
حركة فلسطين حرة: صرخة الإنسانية عبر الزمن
في شوارع أمستردام المزدحمة، حيث توقفت القطارات وتجمعت الحشود الهادرة بهتافات "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، يقف العالم على مفترق طرق. اليوم، عام 2025، تتردد أصداء هذه الصرخة في أرجاء الغرب، تهز عروش السلطة وتكشف هشاشة النظام الذي بنته الاحتكارات المالية والعسكرية. لكن لنعد بالزمن إلى الوراء، إلى لحظة تأسيس هذا الصراع، إلى عام 1917، عندما أطلق وعد بلفور شرارة الظلم التاريخي، وعدٌ كتب في غرف مغلقة في لندن، بعيداً عن أهل الأرض الفلسطينية، ليمنح ما لا يملك لمن لا يستحق. تلك اللحظة، التي بدت بعيدة، ما زالت تعيش في وجدان الشعب الفلسطيني، كجرح نازف يرفض أن يلتئم. اليوم، في هولندا، أجبر هذا الوجدان الشعبي، الذي تجسد في ملايين المتظاهرين، وزير خارجية هولندا ،كاسبار فيلد كامب، وممثلي حزبه على الاستقالة، عاجزاً عن مواجهة إرادة شعب يرفض التواطؤ مع إبادة جماعية، ومحتجا على رفض الحكومة التي ينتمي إليها ، أن تتخذ عقوبات على الكيان النازي الصهيوني ، متجاهلة الإرادة الشعبية الهولندية .
استرجاع: نكبة 1948
لنرجع إلى عام 1948، حيث شهدت فلسطين النكبة، اللحظة التي طُرد فيها مئات الآلاف من أهلها من ديارهم، ليصبحوا لاجئين في أرضهم وخارجها. قرى دُمرت، عائلات شُتتت، وأرض سُرقت تحت غطاء الشرعية الاستعمارية. تلك الجريمة، التي بدأت كمشروع صهيوني مدعوم من قوى إمبريالية، تتردد اليوم في غزة، حيث تُسقط إسرائيل ما يعادل ست قنابل نووية من المتفجرات على قطاع صغير، أصغر من برلين، لتقتل الأطفال والعزل بلا رحمة. هذا الاسترجاع ليس مجرد ذكرى، بل تذكير بأن الإبادة الجماعية في غزة ليست حدثاً عابراً، بل امتداداً لمشروع استعماري بدأ قبل قرن من الزمان.
العودة إلى الحاضر: فرنسا وصوت الشعب
في باريس اليوم، يقف إيمانويل ماكرون تحت ضغط شعبي يخنق تواطؤه السابق. استدعاء تشارلز كوشنر، سفير الولايات المتحدة، الذي يمثل امتداداً لسياسات ترامب الفاشية، ليس مجرد خطوة دبلوماسية. إنه استجابة لإرادة شعب فرنسي يرفض أن يكون بلده ملعباً لنظام يدعم النازية الجديدة في تل أبيب. لكن دعونا نعود إلى عام 1968، عندما هزت انتفاضة الطلاب الفرنسيين باريس، مطالبين بالحرية والعدالة. تلك الروح الثورية، التي استلهمها سارتر في كتاباته عن التمرد والمسؤولية، تعود اليوم في هتافات الشباب الفرنسي الذي يرى في فلسطين مرآة لنضالهم ضد الظلم.
استرجاع: غزة والنازية الجديدة
نعود إلى غزة في أوائل القرن الحادي والعشرين، حين بدأ الحصار الإسرائيلي يخنق القطاع، مقدمة لما نشهده اليوم من إبادة جماعية. أكثر من نصف مليون فلسطيني يعانون من التجويع المتعمد، وفق معايير الأمم المتحدة، في جريمة تفوق في بشاعتها النازية التاريخية بخمسة إلى عشرة أضعاف. هذا الاسترجاع يكشف أن ما يحدث ليس حرباً، بل محاولة لمحو شعب بأكمله، بمساندة لوبيات السلاح والاحتكارات المالية التي ترى في دماء الفلسطينيين أرباحاً.
أوروبا: من التاريخ إلى الحاضر
في إيطاليا، حيث يواجه النواب رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني بانتقادات حادة، يتردد صدى التاريخ. لنرجع إلى أيام المقاومة الإيطالية ضد الفاشية في الأربعينيات، عندما وقف الشعب ضد الظلم. اليوم، يبصق النواب رمزياً في وجه التواطؤ مع كيان يمارس الإبادة. في أيرلندا، التي عانت من الإمبريالية البريطانية في القرن التاسع عشر، يتجلى التضامن مع فلسطين. لنعد إلى أيام المجاعة الأيرلندية عام 1845، حين تُرك الشعب للموت جوعاً تحت نير الاستعمار. هذا التاريخ يجعل الأيرلنديين أكثر فهماً لمعاناة الفلسطينيين، لأن الظلم واحد، سواء في دبلن أو غزة.
في إسبانيا، يتردد صدى ثورة 1936 ضد الفاشية في المظاهرات العارمة اليوم، حيث يطالب الشعب بوقف دعم إسرائيل. وفي بلجيكا، حيث تتصاعد أصوات ضد رئيس الحكومة، نسترجع روح المقاومة البلجيكية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، لنجد أن التاريخ يعيد نفسه في رفض الفاشية الجديدة.
الولايات المتحدة: صراع الماضي والحاضر
في أمريكا، يضع مؤتمر الحزب الديمقراطي معايير لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل. لنعد إلى ستينيات القرن العشرين، حين هزت حركات الحقوق المدنية أمريكا، مطالبة بالعدالة والمساواة. اليوم، يرفض تيار جديد في الحزب تمويل قتل الأطفال في غزة، في تحدٍ للوبي السلاح الذي يستفيد من الحروب. خطاب إدارة ترامب، الذي يسمي جرائمها "منظمة غزة الإنسانية"، يذكرنا بخطابات الدعاية النازية في الثلاثينيات، التي حاولت تجميل الوحشية بأقنعة زائفة.
نحو عالم جديد
هل بدأت حركة "فلسطين حرة" تصنع عالماً جديداً؟ الإجابة تكمن في هذه الاسترجاعات التاريخية التي تكشف أن النضال الفلسطيني ليس وليد اللحظة، بل امتداد لقرن من المقاومة. هذه الحركة، التي تستلهم روح العبقرية الثورية الشيوعية في تمردها على الاغتراب والظلم، تحمل مشروعاً لتحرير الإنسانية من قبضة الفاشية. فلسطين، من النهر إلى البحر، ليست مجرد أرض، بل رمز للكرامة، للحرية، لعالم لا يسمح لأمثال ترامب وبايدن وكوشنر بالإفلات من العدالة. في هذا النضال، يكمن الأمل بإنسانية خالية من ظلال النازية الجديدة، عالم تتشكل ملامحه في شوارع الغرب، حاملاً صدى فلسطين كصوت للضمير الإنساني.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية الجوع ( عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين
...
-
رواية : بكاء تحت الركام (عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد
...
-
ملخص خلفيات حرب الاستخبارات الأميركية السرية لإسقاط الدولة ا
...
-
رواية : آيات الفوضى الخلاقة
-
رواية : خرائط الجميز العجيبة
-
رواية: انفاق الزيتون الدامي
-
السلاح أو الموت: مسرحية المقاومة في زمن نتنياهو النازي الجدي
...
-
نقابات بلجيكا تقاوم لوبيات السلاح والإبادة الجماعية
-
يوم الأحد الوجودي: سخرية التاريخ من أوهام الكيان
-
رواية مشاعل الهامش
-
ترامب وزيلينسكي: مهرج ودمية يرقصان لارضاء بوتين
-
قمة ترامب وبوتين – كوميديا سوداء في زمن الدولة العميقة وأورو
...
-
رواية خيوط العنكبوت: من الباب العالي إلى هولوكوست غزة
-
كعبة ليونيل والتر ( رواية عن هولوكوست صهيو امريكي في غزة )
-
اولاد ابو العبد (رواية عن هولوكوست في غزة )
-
الجثمان النابض - (رواية عن الهولوكوست الفلسطيني في فلسطين وف
...
-
قمة ألاسكا - عندما يلتقي بوتين وترامب لتقسيم العالم على كأس
...
-
الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة
-
مملكة الظلمات: بين التطبيل للقضية الفلسطينية وتمويل مذابحها
-
المركب السكران في بحر الثقافة العربية: رحلة أحمد صالح سلوم ب
...
المزيد.....
-
الموت يغيب الفنانة العراقية سليمة خضير
-
ألفريد هوبير مع القرآن.. رحلة مستشرق ألماني بين الأكاديميا و
...
-
بعد رفضه سفير الاحتلال الجديد.. -إسرائيل- تخفض التمثيل الدبل
...
-
بعد رفضه سفير الاحتلال الجديد.. -إسرائيل- تخفض التمثيل الدبل
...
-
صفحة قائد الثورة باللغة العبرية: الكيان الصهيوني هو الكيان ا
...
-
أول ظهور للفنانة أنغام بعد رحلة العلاج
-
في احتفال بقاعة صاحب حداد الإعلان عن نتائج منافسة الأفلام ال
...
-
صناع أفلام عالميين-أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
-
محمد رمضان في بيروت وهيفاء وهبي تشعل أجواء الحفل بالرقص والغ
...
-
-بيت العبيد- بالسنغال ذاكرة حيّة لتجارة الرقيق عبر الأطلسي
المزيد.....
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
المزيد.....
|