|
رواية : عدسات مغموسة بالدم والحقيقة (رواية عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين في غزة )
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 14:53
المحور:
الادب والفن
مقدمة :
حيث تتسيد ، امبراطوريات اعلام غوبلز الغربية، التي اشترتها الاحتكارات المالية ،الحاكمة في الغرب، فان الحقيقة تتكسر على صخرة الدعاية، وتُطمس المعاني تحت أنقاض القنابل، تأتي رواية "عدسات مغموسة بالدم والحقيقة" كصرخةٍ تنبثق من رحم الألم، كضوءٍ يشقّ ظلام الظلم، كشهادةٍ تحمل وجه الشعب الفلسطيني، ذلك الشعب الذي يقاوم بمجرد أن يتنفس. إنها رواية لا تروي قصةً فحسب، بل تُعيد نسج الذاكرة، تُعيد تشكيل التاريخ، تُعيد إحياء الأصوات التي حاول الغزاة إسكاتها. إنها قصيدةٌ مكتوبة بدماء الشهداء، أنشودةٌ تُغنى بعدسات الكاميرات المغموسة بالحقيقة، تلك الحقيقة التي يخشاها الغزاة أكثر من جيوشٍ مسلحة، لأنها تذكّرهم، كما قال محمود درويش، أنهم عابرون، أن هذه الأرض ليست لهم، وأن كل صورة، كل كلمة، كل عمل أدبي أو فني يُنتج على هذه الأرض هو إعلانٌ بأن فلسطين باقية، وأن الغزاة، مهما امتلكوا من قوة، لن يستطيعوا محو الذاكرة.
تأتي هذه الرواية لتحكي قصة شهداء الحقيقة، أولئك الذين حملوا كاميراتهم وأقلامهم كأسلحة، وواجهوا بها آلة الحرب الصهيونية، تلك الآلة التي صنعتها الاحتكارات المالية الأمريكية، والتي تفوقت في وحشيتها على النازية بخمسة إلى عشرة أضعاف، كما تقول مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية. إنها روايةٌ عن 245 صحفيًا وصحفية فلسطينيين، منهم مريم أبو دقة، التي حملت كاميرتها حتى اللحظة الأخيرة، وثّقت الحياة وسط الموت، ودفعت حياتها ثمنًا للحقيقة. هؤلاء الشهداء، الذين فاق عددهم ثلاثة أضعاف الصحفيين الذين قُتلوا بالخطأ في الحرب العالمية الثانية، لم يكونوا مجرد أرقامًا في سجل الموت، بل كانوا أصواتًا، أعينًا، قلوبًا، حملوا على أكتافهم وزر التوثيق، وزر الحقيقة، وزر مقاومة الطمس الذي مارسته عصابات أوسلو، تلك التي خدمت الغزاة، وعصابات الإخوان المسلمين، التي شوهت الصراع بتصويره كحرب أديان، بعيدًا عن حقيقته التاريخية والمنطقية.
هذه الرواية مهداة إلى الشهيد الشيوعي غسان كنفاني، الذي رأته غولدا مائير لواءً مسلحًا، لأن قلمه كان يهزّ أركان الاحتلال أكثر من أي سلاح. غسان، الذي اغتيل في بيروت عام 1972، لم يكن مجرد كاتب، بل كان جيشًا بذاته، جيشًا من الكلمات التي لا تزال تحلّق في سماء العالم، من جامعات كولومبيا إلى لييج إلى السوربون، حيث يحمل الطلاب كتبه، يرددون كلماته، يجعلون من روايته فرقًا عسكرية في كل مدينة. إنها مهداة أيضًا إلى كل صحفي وصحفية، إلى كل من حمل كاميرا أو قلمًا أو صوتًا، وواجه به الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين في غزة، ذلك الهولوكوست الذي دمر ثلثي تل أبيب بفعل ضربات محور المقاومة، وجاء بنتائج عكسية، حيث لم يعد بعض الشعب الفلسطيني يعرف الحقيقة بسبب طمس الرواية الحقيقية على يد الخونة والمتواطئين.
في هذه الرواية، تختلط الأسماء الحقيقية بالوهمية، كما تختلط الحقيقة بالخيال، ليس لتشويه الواقع، بل لإعادة بنائه بأسلوب روائي يخدم الحبكة ويطور الشخصيات. مريم أبو دقة، التي قد تكون حقيقية أو رمزًا، تحمل كاميرتها كما تحمل الأم طفلها، توثّق قصص الأمهات الثكالى، الأطباء الذين يعملون تحت ضوء الهواتف، الأطفال الذين يرسمون حمامات على الجدران المدمرة. إنها تحمل ذاكرة شعبها، تلك الذاكرة التي يخشاها الغزاة، لأنها تذكّرهم أنهم ليسوا من هذه الأرض، أن أرض فلسطين كانت وستظل شاهدة على عبثهم. إنها رواية عن الخوف، لكن ليس خوف الشعب الفلسطيني، بل خوف الغزاة من الذكريات، من الصور، من الأصوات، من كل عمل أدبي أو فني يُعلن أن فلسطين باقية، وأن الغزاة عابرون، كما عبر الرومان، والصليبيون، والإنجليز، وكل من ظن أن الأرض يمكن أن تُسرق بالقوة.
تأتي هذه الرواية لتكون شهادة على وحشية كيانٍ نازي مارق، كيانٍ سجّل أرقامًا قياسية في الإجرام، تفوق ما قام به الإنجليز في تدمير دريسدن، وما ارتكبته النازية في أحلك لحظاتها. إنها رواية عن شعبٍ يقاوم، لا بالسلاح فحسب، بل بالكاميرا، بالقلم، بالصوت. إنها رواية عن مريم، التي قد تكون كل صحفي فلسطيني، عن أحمد الذي رسم حمامة على جدار مدمر، عن غيث الذي يحمل أمل أمه في عينيه. إنها رواية عن الحقيقة التي لا تموت، مهما حاول الغزاة إسكاتها. إنها قصيدةٌ مكتوبة بدماء الشهداء، أنشودةٌ تُغنى بعدسات مغموسة بالدم والحقيقة، تُعلن للعالم أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل هي ذاكرة، هي هوية، هي صوت لا يصمت.
في هذه الرواية، يمتزج الألم بالأمل، الواقع بالخيال، الحياة بالموت. إنها ليست مجرد قصة، بل هي وصيةٌ من شهداء الحقيقة إلى الأجيال القادمة. إنها دعوةٌ لكل من يحمل قلمًا أو كاميرا أو صوتًا، أن يواصل الدرب، أن يحمل الحقيقة كمشعلٍ في ظلام العالم. إنها روايةٌ عن الحب، حب الأرض، حب الشعب، حب الحقيقة. إنها روايةٌ عن الحمامة التي رسمها أحمد، والتي، رغم جناحها المكسور، تطير عاليًا، تحمل صوت فلسطين إلى العالم، لتقول: نحن هنا، نحن أحياء، وسنظل نقاوم، حتى ينهار آخر جدار من جدران الظلم.
الفصل الأول: الولادة في الركام
في غزة، حيث السماء لا تعرف سوى النار والدخان، ولدتُ أنا، مريم، في لحظة صمت غريبة، لحظة تتوقف فيها الأنفاس، وتتجمد الأصوات، وكأن العالم ينتظر إشارة من الموت ليواصل رقصته. لم تكن ولادتي في غرفة بيضاء معقمة، ولا في حضن ممرضة تملك ابتسامة مطمئنة، بل في زقاق ضيق، تحت سقف من الرصاص والبارود. كانت أمي، امرأة نسجتها الأرض من طين الصبر ودموع الفقدان، تصرخ ليس من ألم الولادة، بل من رعب أن يقطع صاروخ حبل الحياة قبل أن أتنفس أول نفس. كان ذلك في أكتوبر 2023، حين بدأت حرب الإبادة، كما نسميها هنا، حرب لم تكتفِ بسرقة الأرواح، بل سعت لمحو الحقيقة نفسها. اليوم، الإثنين، 25 أغسطس 2025، أقف في قلب مجمع ناصر الطبي بخان يونس، أحمل كاميرتي كما تحمل الأم طفلها، أوثق، أحكي، أقاوم، وأعلم أنني قد لا أرى غدًا.
كنتُ هناك، في الطابق العلوي من مبنى الياسين، حيث الجدران تحمل ندوب القصف القديم، والنوافذ تطل على مدينة تنزف. في يدي اليسرى كاميرا قديمة، عدستها ملطخة بغبار الركام، وفي يمناي هاتف أسجل عليه قصة أحمد، الشاب الذي فقد ساقيه في غارة سابقة، لكنه لا يزال يحلم بأن يصبح رسامًا. كان يجلس على كرسي متحرك، يرسم حمامة بقلم رصاص على جدار مدمر. "الألوان هي الحياة، مريم"، قال، وعيناه تلمعان كنجمتين في سماء غزة المظلمة. ابتسمتُ له، حاولت أن أزرع فيه أملًا، لكن قلبي كان يعرف أن الأمل في غزة عملة نادرة، تُسرق بسرعة صاروخ. كنت أوجه عدستي نحوه، ألتقط حركة يده الرقيقة وهي ترسم جناح الحمامة، حين سمعتُ ذلك الهدير، ذلك الصوت الذي يعرفه كل فلسطيني، صوت الطائرة الحربية التي تحمل الموت في أحشائها.
لم يكن لدي وقت لأفكر. القذيفة الأولى هزت المبنى، وكأن الأرض نفسها تقاوم، تصرخ، ترفض أن تُداس. ركضتُ نحو النافذة، ليس لأهرب، بل لأوثق. كنت أعلم أن مهمتي ليست البقاء على قيد الحياة، بل أن أكون عين الشعب، صوته، قلبه النابض تحت الركام. كانت الكاميرا ترتجف في يدي، لكنني واصلت التصوير، ألتقط صورًا للغبار الذي يملأ الهواء، للجدران التي تتهاوى، لأحمد الذي سقط من كرسيه وهو يصرخ: "مريم، لا تتوقفي!" لكن القذيفة الثانية لم تمنحني فرصة. انفجر العالم، تحولت الجدران إلى غبار، والأصوات إلى صمت. شعرت بالحرارة تحرق جلدي، ثم بالبرد، ثم باللا شيء. لكن دعني أعود إلى الوراء، إلى البداية، إلى اللحظة التي شكلتني، لأن قصتي ليست مجرد لحظة الموت، بل هي حياة من المقاومة.
كنتُ طفلة في غزة، أركض بين البيوت المتهالكة، أحمل دفتراً صغيراً أكتب فيه قصص الجيران. كانوا يضحكون، يقولون: "مريم، ماذا ستفعلين بهذه الكلمات؟ الكلمات لا تُطعم ولا تحمي من القنابل." لكنني كنت أعرف أن الكلمات سلاح، أقوى من الرصاص، لأنها تخلّد. كنت أقرأ لغسان كنفاني في الليالي التي تنقطع فيها الكهرباء، أضيء شمعة صغيرة وأغوص في كلماته عن الأرض التي تنزف، عن الناس الذين يقاومون بمجرد وجودهم. كنت أرى فيه نفسي، أو بالأحرى، ما أريد أن أكونه. كنت أحلم أن أكون صوتًا، لا مجرد صدى. كنت أتخيل نفسي أحمل قلمًا أو كاميرا، أحكي قصص شعبي، أجعل العالم يرى ما يحاول الكيان الصهيوني إخفاءه.
في تلك الأيام، كانت غزة مدينة تتنفس تحت الحصار. كنت أرى الطائرات تملأ السماء، لكنني كنت أرى أيضًا الأطفال يلعبون في الشوارع، يرسمون على الجدران، يضحكون وكأنهم يتحدون الموت. كنت أعرف أنني سأصبح صحفية، لأنني لم أستطع تحمل فكرة أن يموت الناس دون أن يُروى قصصهم. كانت أمي، تلك المرأة التي حملت غزة في قلبها، تقول لي: "مريم، احذري، الكاميرا أخطر من البندقية. الكاميرا تجعلك هدفًا." لكنني لم أستمع. كنت أريد أن أكون مثل غسان، مثل ماجد أبو شرار، مثل علي فودة، مثل كل أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة. كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يرى فينا ألوية مسلحة، كما قالت غولدا مائير عن غسان كنفاني. لكنني لم أكن أخاف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا الوحيد، وأن الكاميرا هي بندقيتي.
كبرتُ في غزة، تعلمت أن الحياة ليست سوى لحظات صغيرة من المقاومة. كنت أرى الأمهات يصنعن الخبز من بقايا الطحين، والأطباء يعملون تحت ضوء الهواتف لأن الكهرباء مقطوعة، والأطفال يبحثون عن ألعابهم تحت الأنقاض. كنت أرى شعبًا يرفض أن يموت، حتى وإن كان العالم يصمت. في تلك السنوات، قرأت لتولستوي، تعلمت منه أن الحياة هي صراع بين الروح والموت. قرأت لهمنغواي، فألهمني أن أكتب بصدق، بحدة، كالسيف. قرأت لتشيخوف، فعرفت أن القصص البسيطة هي الأعمق. لكن روحي كانت مع غسان كنفاني، مع عبد الرحمن منيف، مع ديستوفسكي الذي علمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. كنت أحلم أن أكتب رواية، لكنني اخترت الكاميرا، لأن الصورة تصرخ بصوت أعلى من الكلمات في زمن الحرب.
في صباح ذلك اليوم، كنت أشعر بثقل غريب في صدري. كنت منهكة، لم أنم منذ أيام. كنت أتجول بين المستشفيات والمخيمات، أوثق قصص الناس. كنت أرى الموت يرقص في كل زاوية، لكنني كنت أرفض أن أرقص معه. في الليلة السابقة، كتبت في منشوري الأخير: "حين ترى التراب يغطي أغلى ما لديك، وقتها ستدرك كم هي تافهة الحياة." لم أكن أعرف أنني أكتب وصيتي. تحدثت إلى غيث، ابني الوحيد، عبر الهاتف. كان صوته يرتجف، لكنه حاول أن يبدو قويًا. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني. لم أملك إجابة. كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح. لكنني كنت أعرف أن الموت قريب.
في مجمع ناصر الطبي، كنت أصور أحمد وهو يحكي قصته. كنت أرى في عينيه الأمل، رغم كل شيء. كان يرسم حمامة، جناحها مكسور، لكنه كان يبتسم. "هذه الحمامة ستطير يومًا، مريم"، قال. أردت أن أصدقه، لكنني كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط. ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعني نهاية كل شيء. القذيفة الأولى ضربت الطابق العلوي. ركضت مع زملائي، حسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه، نحو الموقع. كنا نعرف أن مهمتنا هي التوثيق، حتى لو كان الثمن حياتنا. كنت أصرخ: "استمروا، صوروا، لا تتوقفوا!" لكن القذيفة الثانية جاءت بسرعة، كأنها كانت تنتظرنا. سمعت صراخ حسام، ثم صمت. رأيت محمد يسقط، ومعاذ يحاول النهوض. لكنني لم أستطع الحركة. كانت ساقاي ثقيلتين، وكأن الأرض تمسك بي. شعرت بالحرارة، بالألم، ثم بالصمت.
في تلك اللحظة، تذكرت غيث. تذكرت أمي، التي كانت تحذرني من الكاميرا. تذكرت إبراهيم محمود، زميلي الذي قُتل قبل عام. تذكرت غسان كنفاني، الذي قال إن الأرض تنزف لكنها لا تموت. كنت أعرف أنني قد لا أخرج من تحت الركام، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة لن تموت. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا قبلي، وأنا الآن أنضم إليهم. لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
لكن دعني أخبرك عن غزة، عن مدينتي التي لا تعرف النوم. غزة ليست مجرد أرض، إنها قلب ينبض، رغم الحصار، رغم القنابل، رغم الصمت العالمي. كنت أعيش في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى إلى المستشفيات، والأطباء يعملون بلا كهرباء، والأطفال يرسمون على الجدران، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، نحن أحياء." كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، هي تهديد لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا، وأن الكاميرا هي صوتنا.
في تلك السنوات، رأيت العالم يصمت. رأيت الدول الغربية، بقيادة بايدن وترامب، تدعم الكيان الصهيوني. رأيت الاحتكارات المالية تصنع الحكومات، وتتحكم بالسياسات. رأيت التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون، تُستخدم لمراقبتنا، لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. لكنني رأيت أيضًا شعبي يقاوم. رأيت الأطفال يرسمون، والأمهات يصنعن الخبز، والصحفيين يواصلون التوثيق رغم الموت. كنت أعرف أنني جزء من هذه المقاومة، وأن كل صورة ألتقطها هي رصاصة في قلب الظلم.
في تلك اللحظة، تحت الركام، كنت أسمع أصواتًا بعيدة. صراخ الجرحى، بكاء الأطفال، صوت طواقم الدفاع المدني وهم يحاولون إنقاذنا. كنت أفكر في غيث، في أمي، في والدي الذي تبرعت له بكليتي قبل سنوات. كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
الفصل الثاني: ظلال الحقيقة
في غزة، حيث الزمن يتوقف عند كل انفجار، كنت أعيش في عالم من الظلال، عالم تتشابك فيه الحياة والموت كخيوط نسيج قديم، مهترئ، لكنه لا يزال متماسكًا بروح التحدي. كنت مريم، الصحفية التي تحمل كاميرتها كما يحمل المقاتل بندقيته، لكن سلاحي لم يكن ليقتل، بل ليحيي. كنت أوثق قصص الناس: الأم التي فقدت أطفالها الثلاثة في غارة، الطبيب الذي يعمل عشرين ساعة يوميًا دون كهرباء، الطفل الذي يبحث عن لعبته تحت الأنقاض. كنت أعرف أن مهمتي ليست مجرد مهنة، بل شهادة، مقاومة، وعدٌ لشعبي بأن صوته لن يُسكت، حتى لو كان الثمن حياتي. اليوم، 25 أغسطس 2025، وأنا محاصرة تحت ركام مجمع ناصر الطبي، أتذكر تلك السنوات التي شكلتني، تلك اللحظات التي جعلتني مريم، صوت الحقيقة في زمن الإبادة.
كنت أعمل مع "إندبندنت عربية"، أحمل كاميرتي كجزء من جسدي، أتجول بين شوارع غزة المدمرة، أبحث عن الحياة وسط الخراب. كانت غزة سجنًا مفتوحًا، محاطًا بالجدران والقنابل والحصار. كنت أرى السماء تملأها الطائرات الحربية، لكنني كنت أرى أيضًا الأطفال يلعبون في الزقاق، يرسمون على الجدران، يضحكون وكأنهم يتحدون الموت. كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا. لقد قتلوا 244 صحفيًا منذ أكتوبر 2023، عدد يفوق ثلاثة أضعاف الصحفيين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الثانية. كنت أسمع كلمات غولدا مائير تتردد في أذني: "غسان كنفاني كان لواءً مسلحًا." كنت أعرف أنني، بكاميرتي، كنت أيضًا لواءً في عيونهم. لكنني لم أكن أقاتل بالرصاص، بل بالحقيقة، تلك الحقيقة التي تجعلهم يرتجفون.
في إحدى الليالي، قبل عام، كنت أجلس مع إبراهيم محمود، زميلي الصحفي الذي كان يرافقني دائمًا. كنا في شقة صغيرة في مخيم الشاطئ، نتحدث تحت ضوء شمعة، لأن الكهرباء كانت مقطوعة كالعادة. كان إبراهيم يحمل كاميرا قديمة، عدستها مشروخة، لكنه كان يقول إنها ترى أكثر مما ترى العيون. "مريم"، قال لي، "الحقيقة هي أخطر أسلحتنا، لأنها تجعلهم يخافون من أنفسهم." كان يبتسم، عيناه تلمعان بنور الأمل، رغم الإنهاك الذي كان يعتصرنا. تحدثنا عن غسان كنفاني، عن ماجد أبو شرار، عن علي فودة، عن كل أولئك الذين قُتلوا لأنهم حملوا الكلمة كسلاح. كنت أشعر أننا نعيش في ظلال أرواحهم، أننا نواصل دربهم، حتى لو كان الثمن حياتنا.
في اليوم التالي، قُتل إبراهيم في غارة إسرائيلية. كنت هناك، على بعد أمتار، أصور الأنقاض حين سمعت الانفجار. ركضت نحوه، لكنني وجدته ملقى على الأرض، كاميرته بجانبه، عدستها مكسورة نهائيًا. لم أبكِ، لأنني كنت أعرف أن الدموع لن تعيده. لكنني أمسكت بكاميرته، وواصلت. كنت أعرف أن هذا ما كان يريده إبراهيم: أن نواصل، أن لا نتوقف، أن نكون صوت من لا صوت له. منذ ذلك اليوم، حملت كاميرتين، واحدة لي، وواحدة له، وكأنني أحمل روحه معي.
كنت أعرف أن التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون ومايكروسوفت، كانت جزءًا من هذه الحرب. بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل منشور أكتبه، كان يُراقب، يُحلل، يُستخدم لتحديد مكاني. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات، جيشًا لا يعرف الرحمة. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
في تلك السنوات، تعلمت من تولستوي أن الحياة ليست سوى لحظات صغيرة من المقاومة، لحظات تتحدى الموت بالوجود. تعلمت من همنغواي أن الكتابة يجب أن تكون حادة، صلبة، كالسيف الذي يقطع الظلم. تعلمت من تشيخوف أن القصص البسيطة، قصص الناس العاديين، هي التي تحمل أعمق المعاني. لكن روحي كانت مع غسان كنفاني، الذي علمني أن الكلمة يمكن أن تكون أقوى من الرصاص، ومع عبد الرحمن منيف، الذي أراني كيف تتشكل الهوية من الأرض والذاكرة. كنت أقرأ ديستوفسكي في الليالي الباردة، أجد في كلماته عن الصراع بين الروح واليأس انعكاسًا لما نعيشه في غزة. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
كنت أتذكر قصة والدي، الذي كان يعاني من فشل كلوي قبل سنوات. حين قررت التبرع بكليتي له، رفضت أن يتحدث أحد عن الأمر. لم أكن أريد الضوء الإعلامي، لم أكن أريد أن أكون بطلة في عيون الناس. كنت أريد فقط أن أرى والدي يعيش، يتنفس، يبتسم. لكن تلك التجربة علّمتني شيئًا: أن التضحية ليست فعلًا بطوليًا، بل فعلًا إنسانيًا، فعلًا يجعلنا أقرب إلى أنفسنا. كنت أحمل هذا الدرس معي في كل مرة أخرج فيها لتصوير غارة، في كل مرة أواجه فيها الموت. كنت أعرف أنني أضحي، ليس من أجل البطولة، بل من أجل شعبي، من أجل الحقيقة.
في الأشهر التي سبقت هذا اليوم، كنت أعيش في دوامة من الإنهاك والأمل. كنت أتجول بين المستشفيات والمخيمات، أوثق قصص الناس. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى، والأطباء يعملون بلا كهرباء، والأطفال يرسمون على الجدران. كنت أرى الموت يرقص في كل زاوية، لكنني كنت أرى أيضًا الحياة تتحدى. في إحدى الليالي، قابلت فتاة صغيرة تدعى ليلى، كانت تبحث عن والدتها تحت الأنقاض. كانت تحمل دمية ممزقة، وتقول: "أمي هنا، أعرف أنها هنا." ساعدتها في البحث، لكننا لم نجد سوى الغبار والصمت. في تلك اللحظة، شعرت أن قلبي يتمزق، لكنني واصلت التصوير. كنت أعرف أن قصة ليلى يجب أن تصل إلى العالم، أن العالم يجب أن يرى ما نعيشه.
في صباح ذلك اليوم، 25 أغسطس 2025، استيقظت قبل الفجر. كنت أشعر بثقل غريب في صدري، كأنني أحمل غزة بأكملها على كتفي. تحدثت إلى غيث عبر الهاتف، ابني الوحيد الذي أرسلته إلى أقاربي في الضفة، بعيدًا عن النار. كان صوته يرتجف، لكنه حاول أن يبدو قويًا. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني. لم أملك إجابة. كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح. لكنني كنت أعرف أن الموت قريب. كتبت في منشوري الأخير: "حين ترى التراب يغطي أغلى ما لديك، وقتها ستدرك كم هي تافهة الحياة." لم أكن أعرف أنني أكتب وصيتي.
في مجمع ناصر الطبي، كنت أصور أحمد، الشاب الذي فقد ساقيه، وهو يرسم حمامة على جدار مدمر. كنت أرى في عينيه الأمل، رغم كل شيء. "هذه الحمامة ستطير يومًا، مريم"، قال. أردت أن أصدقه، لكنني كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط. ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعني نهاية كل شيء. القذيفة الأولى ضربت الطابق العلوي. ركضت مع زملائي، حسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه، نحو الموقع. كنا نعرف أن مهمتنا هي التوثيق، حتى لو كان الثمن حياتنا. كنت أصرخ: "استمروا، صوروا، لا تتوقفوا!" لكن القذيفة الثانية جاءت بسرعة، كأنها كانت تنتظرنا. سمعت صراخ حسام، ثم صمت. رأيت محمد يسقط، ومعاذ يحاول النهوض. لكنني لم أستطع الحركة. كانت ساقاي ثقيلتين، وكأن الأرض تمسك بي.
في تلك اللحظة، تذكرت غيث. تذكرت أمي، التي كانت تحذرني من الكاميرا. تذكرت إبراهيم، الذي قُتل قبل عام. تذكرت غسان كنفاني، الذي قال إن الأرض تنزف لكنها لا تموت. كنت أعرف أنني قد لا أخرج من تحت الركام، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة لن تموت. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا قبلي، وأنا الآن أنضم إليهم. لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
تحت الركام، كنت أسمع أصواتًا بعيدة. صراخ الجرحى، بكاء الأطفال، صوت طواقم الدفاع المدني وهم يحاولون إنقاذنا. كنت أفكر في والدي، الذي أعطيته كليتي. كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
الفصل الثالث: الرقص مع الموت
في غزة، حيث السماء لا تعرف سوى لغة القنابل، كنت أعيش على حافة الحياة، أرقص مع الموت كل يوم، لكنني أرفض أن أسقط في أحضانه. كنت مريم، الصحفية التي تحمل كاميرتها كما تحمل الأم طفلها، أوثق، أحكي، أقاوم، وأعلم أن كل صورة ألتقطها قد تكون الأخيرة. اليوم، 25 أغسطس 2025، وأنا محاصرة تحت ركام مجمع ناصر الطبي بخان يونس، أتذكر اليوم الذي سبق هذه اللحظة، اليوم الذي كنت أشعر فيه بالإنهاك، بالخوف، لكن أيضًا بالعزيمة التي لا تنكسر. كنت أعرف أنني أعيش في زمن الإبادة، زمن يسعى فيه الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، لمحو الحقيقة، لكنني كنت مصممة على أن أكون صوت شعبي، حتى لو كان الثمن حياتي.
في الليلة التي سبقت استشهادي، كنت جالسة في غرفتي الصغيرة في مخيم الشاطئ، تحت ضوء شمعة ذائبة، أكتب ملاحظاتي عن اليوم. كنت قد قضيت أسابيع دون نوم كافٍ، أتجول بين المستشفيات والمخيمات، أوثق قصص الناس. كنت أرى الموت يتربص في كل زاوية، لكنه لم يكن يخيفني بقدر ما كان يحفزني. كنت أشعر أنني أحمل مسؤولية أكبر من نفسي، مسؤولية شعب بأكمله، شعب يقاوم بمجرد أن يتنفس. كتبت في منشوري الأخير على هاتفي: "حين ترى التراب يغطي أغلى ما لديك، وقتها ستدرك كم هي تافهة الحياة، وكم هي عظيمة الحقيقة." لم أكن أعرف أنني أكتب وصيتي، لكن قلبي كان يشعر بثقل غريب، كأن الأرض نفسها تحذرني من الغد.
في تلك الليلة، تحدثت إلى غيث، ابني الوحيد، عبر الهاتف. كنت قد أرسلته إلى أقاربي في الضفة الغربية، بعيدًا عن نيران غزة، على أمل أن ألتقيه يومًا ما حين تنتهي الحرب. كان صوته يرتجف، لكنه حاول أن يبدو قويًا، كما يفعل الأطفال الذين يكبرون قبل أوانهم في هذه الأرض. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني، وكان سؤاله يحمل براءة طفل وألم رجل. لم أملك إجابة، فكل الإجابات كانت قد سُرقت منا منذ زمن. كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح، لكن صوته كان يحمل نبرة خوف خفية. أغلقت الهاتف، وشعرت بدمعة واحدة تنزلق على خدي، لكنني مسحتها بسرعة. لم يكن هناك وقت للبكاء. كنت أعرف أن الغد قد يحمل الموت، لكنني كنت أعرف أيضًا أنني سأواجهه وكاميرتي في يدي.
في صباح الإثنين، استيقظت قبل الفجر. كان الهواء ثقيلًا، مشبعًا برائحة البارود والغبار. ارتديت سترتي الصحفية، التي كانت تحمل آثار قصف سابق، وأمسكت بكاميرتي. كنت أشعر بإنهاك يعتصر جسدي، لكن روحي كانت مشتعلة. توجهت إلى مجمع ناصر الطبي بخان يونس، حيث كنت أعمل على توثيق قصة أحمد، الشاب الذي فقد ساقيه في غارة سابقة. كان أحمد يجلس على كرسيه المتحرك، يرسم حمامة بقلم رصاص على جدار مدمر. كانت يداه ترتجفان، لكنه كان يبتسم، وكأن ابتسامته تحدٍ للعالم. "الألوان هي الحياة، مريم"، قال لي، وعيناه تلمعان بنور لا يعرف اليأس. وجهت عدستي نحوه، ألتقط حركة يده الرقيقة وهي ترسم جناح الحمامة، أحاول أن أخلّد لحظة الأمل هذه وسط الخراب. كنت أعرف أن هذه الصورة قد تكون آخر ما ألتقطه، لكنني كنت أؤمن أنها ستحمل صوت أحمد إلى العالم.
ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعرفه كل فلسطيني، صوت الطائرة الحربية التي تحمل الموت في أحشائها. لم يكن لدي وقت لأفكر. القذيفة الأولى هزت المبنى، وكأن الأرض نفسها تصرخ، ترفض أن تُداس. ركضت نحو النافذة، ليس لأهرب، بل لأوثق. كنت أعلم أن مهمتي ليست البقاء على قيد الحياة، بل أن أكون عين الشعب، صوته، قلبه النابض تحت الركام. كانت الكاميرا ترتجف في يدي، لكنني واصلت التصوير، ألتقط صورًا للغبار الذي يملأ الهواء، للجدران التي تتهاوى، لأحمد الذي سقط من كرسيه وهو يصرخ: "مريم، لا تتوقفي!" لكن القذيفة الثانية لم تمنحني فرصة. انفجر العالم، تحولت الجدران إلى غبار، والأصوات إلى صمت. شعرت بالحرارة تحرق جلدي، ثم بالبرد، ثم باللا شيء.
لكن دعني أعود إلى الوراء، إلى الأيام التي سبقت هذه اللحظة، إلى اللحظات التي جعلتني أختار هذا الدرب. كنت أعيش في غزة، مدينة لا تعرف النوم، مدينة تنزف لكنها ترفض أن تموت. كنت أتجول في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى إلى المستشفيات، والأطباء يعملون تحت ضوء الهواتف لأن الكهرباء مقطوعة، والأطفال يرسمون على الجدران، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، نحن أحياء." كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، هي تهديد لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا، وأن الكاميرا هي صوتنا.
في إحدى الليالي، قبل أشهر، كنت أجلس مع ولاء فروانة، زميلتي الصحفية، في مقهى صغير في غزة. كان المقهى شبه فارغ، لأن الناس لم يعودوا يملكون المال أو الوقت للجلوس. كانت ولاء تحكي لي عن أحلامها، عن رغبتها في كتابة رواية عن غزة، رواية تحكي قصص الناس العاديين، الذين يقاومون بمجرد أن يعيشوا. "مريم"، قالت لي، "نحن لا نكتب فقط، نحن نحارب. كل صورة تلتقطينها، كل قصة تحكينها، هي رصاصة في قلب الظلم." كنت أنظر إليها، أرى في عينيها نفس النار التي أحملها في قلبي. كنت أعرف أننا، الصحفيين الفلسطينيين، لسنا مجرد شهود، بل مقاتلين، نقاتل بالكلمة، بالصورة، بالحقيقة.
في تلك الأيام، كنت أقرأ لغسان كنفاني، لعبد الرحمن منيف، لتولستوي، لهمنغواي، لتشيخوف، لديستوفسكي. كنت أجد في كلماتهم عزاءً، قوة، إلهامًا. كان غسان يعلمني أن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكان منيف يذكرني أن الهوية تتشكل من الذاكرة والألم. كان تولستوي يحدثني عن الصراع بين الروح والموت، وكان همنغواي يعلمني أن أكتب بحدة، بصدق. كان تشيخوف يذكرني أن القصص البسيطة هي الأعمق، وكان ديستوفسكي يعلمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
كنت أتذكر قصة والدي، الذي كان يعاني من فشل كلوي. حين قررت التبرع بكليتي له، رفضت أن يتحدث أحد عن الأمر. لم أكن أريد أن أكون بطلة في عيون الناس، كنت أريد فقط أن أرى والدي يعيش. لكن تلك التجربة علّمتني أن التضحية هي فعل إنساني، فعل يجعلنا أقرب إلى أنفسنا. كنت أحمل هذا الدرس معي في كل مرة أخرج فيها لتصوير غارة، في كل مرة أواجه فيها الموت. كنت أعرف أنني أضحي، ليس من أجل البطولة، بل من أجل شعبي، من أجل الحقيقة.
في الأشهر الأخيرة، كنت أشعر أن الحرب أصبحت أكثر وحشية. كنت أعرف أن التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون، كانت جزءًا من هذه الحرب. بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
في صباح ذلك اليوم، كنت في مجمع ناصر الطبي، أصور أحمد وهو يحكي قصته. كنت أرى في عينيه الأمل، رغم كل شيء. كان يرسم حمامة، جناحها مكسور، لكنه كان يبتسم. "هذه الحمامة ستطير يومًا، مريم"، قال. أردت أن أصدقه، لكنني كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط. ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعني نهاية كل شيء. القذيفة الأولى ضربت الطابق العلوي. ركضت مع زملائي، حسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه، نحو الموقع. كنا نعرف أن مهمتنا هي التوثيق، حتى لو كان الثمن حياتنا. كنت أصرخ: "استمروا، صوروا، لا تتوقفوا!" لكن القذيفة الثانية جاءت بسرعة، كأنها كانت تنتظرنا. سمعت صراخ حسام، ثم صمت. رأيت محمد يسقط، ومعاذ يحاول النهوض. لكنني لم أستطع الحركة. كانت ساقاي ثقيلتين، وكأن الأرض تمسك بي.
في تلك اللحظة، تذكرت غيث. تذكرت أمي، التي كانت تحذرني من الكاميرا. تذكرت إبراهيم، الذي قُتل قبل عام. تذكرت غسان كنفاني، الذي قال إن الأرض تنزف لكنها لا تموت. كنت أعرف أنني قد لا أخرج من تحت الركام، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة لن تموت. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا قبلي، وأنا الآن أنضم إليهم. لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
تحت الركام، كنت أسمع أصواتًا بعيدة. صراخ الجرحى، بكاء الأطفال، صوت طواقم الدفاع المدني وهم يحاولون إنقاذنا. كنت أفكر في والدي، الذي أعطيته كليتي. كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
الفصل الرابع: أصوات تحت الأنقاض
تحت ركام مجمع ناصر الطبي، حيث الظلام يبتلع الضوء والصمت يخنق الأصوات، كنتُ أنا، مريم، محاصرة بين أنقاض الحياة والموت. كان الهواء ثقيلًا، مشبعًا برائحة البارود والدم، وكنت أشعر بثقل الجدران المتهالكة فوق صدري، لكن عقلي كان لا يزال يعمل، يتذكر، يحكي، يقاوم. كنت أسمع أصواتًا بعيدة، صراخ الجرحى، بكاء الأطفال، همهمات طواقم الدفاع المدني وهم يحاولون فتح ممر إلى الحياة. لكنني كنت أعرف، في أعماق قلبي، أنني لن أخرج. كنت أعرف أن هذه اللحظة، 25 أغسطس 2025، هي نهايتي، لكنها ليست نهاية قصتي. كنت مريم، الصحفية التي حملت كاميرتها كسلاح، التي وثّقت الحقيقة حتى الرمق الأخير، وكنت أعرف أن الحقيقة، مثل شعبي، لا تموت.
في تلك اللحظات، بينما كنت محاصرة تحت الركام، كانت ذاكرتي تطير كحمامة جريحة، تعود إلى الوراء، إلى السنوات التي شكلتني، إلى اللحظات التي جعلتني أختار هذا الدرب. تذكرت غيث، ابني الوحيد، الذي أرسلته إلى الضفة الغربية، بعيدًا عن نيران غزة. تذكرت صوته عبر الهاتف في الليلة الماضية، يرتجف لكنه يحاول أن يبدو قويًا. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني، وكنت أتمنى لو كان لدي إجابة، لكن كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح، لكنني كنت أشعر بثقل الوداع في كلماتي. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أتخيل وجهه، عينيه الصغيرتين اللتين تحملان براءة العالم وألم فلسطين. كنت أتمنى لو أستطيع أن أعانقه مرة أخرى، أن أخبره أنني لم أمت عبثًا، أنني قاتلت من أجله، من أجل أن يعيش في عالم أفضل.
تذكرت أمي، تلك المرأة التي كانت تحذرني دائمًا من الكاميرا. "مريم، الكاميرا أخطر من البندقية"، كانت تقول، وعيناها مليئتان بالخوف والحب. لكنني لم أستمع. كنت أعرف أن الكاميرا هي سلاحي، أنها عيني التي ترى ما يحاول العالم تجاهله. تذكرت والدي، الذي تبرعت له بكليتي قبل سنوات. كنت أرفض أن يتحدث أحد عن الأمر، لأنني لم أكن أريد أن أكون بطلة في عيون الناس. كنت أريد فقط أن أرى والدي يعيش، يتنفس، يبتسم. تلك التجربة علّمتني أن التضحية ليست فعلًا بطوليًا، بل فعلًا إنسانيًا، فعلًا يجعلنا أقرب إلى أنفسنا. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أشعر أنني أضحي مرة أخرى، ليس من أجل البطولة، بل من أجل شعبي، من أجل الحقيقة.
تذكرت إبراهيم محمود، زميلي الصحفي الذي كان يرافقني دائمًا. كنت أرى وجهه الآن، يبتسم كما كان يفعل في تلك الليلة قبل عام، حين جلسنا تحت ضوء شمعة في مخيم الشاطئ. "مريم"، قال لي، "الحقيقة هي أخطر أسلحتنا، لأنها تجعلهم يخافون من أنفسهم." في اليوم التالي، قُتل إبراهيم في غارة إسرائيلية. وجدته ملقى على الأرض، كاميرته بجانبه، عدستها مكسورة. لم أبكِ، لأنني كنت أعرف أن الدموع لن تعيده. لكنني أمسكت بكاميرته، وواصلت. منذ ذلك اليوم، حملت كاميرتين، واحدة لي، وواحدة له، وكأنني أحمل روحه معي. الآن، تحت الركام، كنت أتساءل إن كان إبراهيم يراني، إن كان يبتسم، إن كان يعرف أنني واصلت دربه حتى النهاية.
تذكرت غسان كنفاني، الذي قُتل في بيروت عام 1972. كنت أقرأ كلماته في الليالي الباردة، أجد فيها عزاءً وقوة. كان يقول إن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكنت أؤمن بهذا. كنت أتذكر ماجد أبو شرار، وعلي فودة، والشاعر ناصر، كلهم دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا منذ أكتوبر 2023، عدد يفوق ثلاثة أضعاف الصحفيين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الثانية. كنت أعرف أنني الآن أنضم إليهم، لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
في تلك اللحظات، بينما كنت محاصرة تحت الركام، كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أتذكر كلمات ولاء وهي تنعيني في خيالي: "مريم، خلوقة، متواضعة، نشيطة، الله يتقبلك ويهنيكي بالجنة." كنت أتخيل أحمد البطة يكتب: "مريم خسارة ثقيلة، واحدة من أشجع من نقلوا الصورة في الميدان." لكنني لم أكن أريد النعي، لم أكن أريد المديح. كنت أريد فقط أن تواصل الحقيقة طريقها، أن تصل صوري، قصصي، أصواتي، إلى العالم.
كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد على الجدار المدمر في مجمع ناصر الطبي. كنت أتخيلها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط، لكنني كنت أؤمن أن هذه الحمامة ستنجو. كنت أتذكر آخر صورة التقطتها، قبل نصف ساعة من القذيفة. كنت منهكة، أنظر إلى الكاميرا، أنشد للجنة، وأضع رمز الحمامة في قصتي الأخيرة. كنت أشعر أنني أودع العالم، لكنني لم أكن أعرف أن الوداع سيكون بهذه السرعة.
في تلك السنوات، كنت أعيش في غزة، مدينة لا تعرف النوم، مدينة تنزف لكنها ترفض أن تموت. كنت أتجول في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى إلى المستشفيات، والأطباء يعملون تحت ضوء الهواتف لأن الكهرباء مقطوعة، والأطفال يرسمون على الجدران، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، نحن أحياء." كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، هي تهديد لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا، وأن الكاميرا هي صوتنا.
كنت أعرف أن التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون، كانت جزءًا من هذه الحرب. بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
في إحدى الليالي، قبل أشهر، كنت أجلس مع ولاء فروانة في مقهى صغير في غزة. كان المقهى شبه فارغ، لأن الناس لم يعودوا يملكون المال أو الوقت للجلوس. كانت ولاء تحكي لي عن أحلامها، عن رغبتها في كتابة رواية عن غزة، رواية تحكي قصص الناس العاديين، الذين يقاومون بمجرد أن يعيشوا. "مريم"، قالت لي، "نحن لا نكتب فقط، نحن نحارب. كل صورة تلتقطينها، كل قصة تحكينها، هي رصاصة في قلب الظلم." كنت أنظر إليها، أرى في عينيها نفس النار التي أحملها في قلبي. كنت أعرف أننا، الصحفيين الفلسطينيين، لسنا مجرد شهود، بل مقاتلين، نقاتل بالكلمة، بالصورة، بالحقيقة.
كنت أقرأ لغسان كنفاني، لعبد الرحمن منيف، لتولستوي، لهمنغواي، لتشيخوف، لديستوفسكي. كنت أجد في كلماتهم عزاءً، قوة، إلهامًا. كان غسان يعلمني أن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكان منيف يذكرني أن الهوية تتشكل من الذاكرة والألم. كان تولستوي يحدثني عن الصراع بين الروح والموت، وكان همنغواي يعلمني أن أكتب بحدة، بصدق. كان تشيخوف يذكرني أن القصص البسيطة هي الأعمق، وكان ديستوفسكي يعلمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
في تلك اللحظات، تحت الركام، كنت أسمع صوت طواقم الدفاع المدني يقترب. كنت أسمع صوت عماد عبد الحكيم الشاعر، سائق مركبة الإطفاء، يصرخ لزملائه: "استمروا، هناك أحياء!" لكنني كنت أعرف أن الوقت ينفد. كنت أشعر بالبرد يتسلل إلى جسدي، بالألم يتلاشى تدريجيًا، بالحياة تنسحب مني. لكنني لم أكن خائفة. كنت أفكر في غيث، في أمي، في والدي، في إبراهيم، في غسان، في كل أولئك الذين سبقوني. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
الفصل الخامس: الحرب على الحقيقة
تحت ركام مجمع ناصر الطبي، حيث يختلط الغبار بالدم والصمت بالصراخ، كنت أنا، مريم، محاصرة في قفص من الأنقاض، أتنفس بصعوبة، لكن روحي كانت لا تزال تقاوم. كنت أسمع أصوات طواقم الدفاع المدني بعيدة، كأنها أصداء من عالم آخر، تحاول فتح ممر إلى الحياة. لكنني كنت أعرف، في أعماق قلبي، أنني لن أخرج. كان جسدي محطمًا، لكن عقلي كان يطير، يتذكر، يحكي، يقاوم. كنت أعرف أن هذه اللحظة، 25 أغسطس 2025، هي نهايتي، لكنها ليست نهاية الحقيقة. كنت مريم، الصحفية التي حملت كاميرتها كسلاح، التي وثّقت قصص شعبها حتى الرمق الأخير، وكنت أؤمن أن الحقيقة، مثل فلسطين، لا تموت، بل تولد من جديد في كل صورة، في كل كلمة، في كل نفس يتحدى الموت.
في تلك اللحظات، بينما كنت محاصرة تحت الركام، كنت أفكر في الحرب التي لم تكن فقط على الأجساد، بل على الحقيقة نفسها. الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، لم يكتفِ بقتل الناس، بل سعى لقتل صوتهم، لمحو قصصهم، لإسكات كل من يحمل كاميرا أو قلمًا. كنت أعرف أنني، بكاميرتي، كنت هدفًا، لأنني كنت صوتًا لشعبي، عينًا ترى ما يحاولون إخفاءه. كنت أعرف أن قتل 244 صحفيًا منذ أكتوبر 2023 لم يكن صدفة، بل جزءًا من خطة ممنهجة لإسكات الحقيقة. كنت أسمع كلمات غولدا مائير تتردد في أذني: "غسان كنفاني كان لواءً مسلحًا." كنت أعرف أنني، بكاميرتي، كنت أيضًا لواءً في عيونهم، لكنني لم أكن أقاتل بالرصاص، بل بالصورة، بالكلمة، بالحقيقة التي تجعلهم يرتجفون.
كنت أتذكر السنوات التي قضيتها في غزة، مدينة لا تعرف النوم، مدينة تنزف لكنها ترفض أن تموت. كنت أتجول في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى إلى المستشفيات، والأطباء يعملون تحت ضوء الهواتف لأن الكهرباء مقطوعة، والأطفال يرسمون على الجدران، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، نحن أحياء." كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، هي تهديد لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا، وأن الكاميرا هي صوتنا.
في تلك السنوات، رأيت العالم يصمت. رأيت الدول الغربية، بقيادة بايدن وترامب، تدعم الكيان الصهيوني، تقدم له السلاح والمال والغطاء السياسي. رأيت الاحتكارات المالية تصنع الحكومات، تتحكم بالسياسات، تملي القرارات. رأيت التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون ومايكروسوفت، تُستخدم لمراقبتنا، لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أعرف أن بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحويلنا إلى أرقام، إلى أهداف، إلى أسماء على قوائم الموت. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات، جيشًا لا يعرف الرحمة. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
كنت أتذكر إبراهيم محمود، زميلي الصحفي الذي قُتل قبل عام. كنت أرى وجهه الآن، يبتسم كما كان يفعل في تلك الليلة في مخيم الشاطئ. "مريم"، قال لي، "الحقيقة هي أخطر أسلحتنا، لأنها تجعلهم يخافون من أنفسهم." كنت أتذكر كيف وجدته ملقى على الأرض، كاميرته بجانبه، عدستها مكسورة. لم أبكِ، لأنني كنت أعرف أن الدموع لن تعيده. لكنني أمسكت بكاميرته، وواصلت. منذ ذلك اليوم، حملت كاميرتين، واحدة لي، وواحدة له، وكأنني أحمل روحه معي. الآن، تحت الركام، كنت أتساءل إن كان إبراهيم يراني، إن كان يبتسم، إن كان يعرف أنني واصلت دربه حتى النهاية.
تذكرت غسان كنفاني، الذي قُتل في بيروت عام 1972. كنت أقرأ كلماته في الليالي الباردة، أجد فيها عزاءً وقوة. كان يقول إن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكنت أؤمن بهذا. كنت أتذكر ماجد أبو شرار، وعلي فودة، والشاعر ناصر، كلهم دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا منذ أكتوبر 2023، عدد يفوق ثلاثة أضعاف الصحفيين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الثانية. كنت أعرف أنني الآن أنضم إليهم، لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
في تلك اللحظات، كنت أفكر في غيث، ابني الوحيد. كنت أتخيل وجهه، عينيه الصغيرتين اللتين تحملان براءة العالم وألم فلسطين. كنت أتمنى لو أستطيع أن أعانقه مرة أخرى، أن أخبره أنني لم أمت عبثًا. كنت أفكر في أمي، التي كانت تحذرني من الكاميرا، وفي والدي، الذي تبرعت له بكليتي. كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أتخيل كلماتهم وهم ينعونني: "مريم، خلوقة، متواضعة، نشيطة، الله يتقبلك ويهنيكي بالجنة." لكنني لم أكن أريد النعي، لم أكن أريد المديح. كنت أريد فقط أن تواصل الحقيقة طريقها، أن تصل صوري، قصصي، أصواتي، إلى العالم.
كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد على الجدار المدمر في مجمع ناصر الطبي. كنت أتخيلها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط، لكنني كنت أؤمن أن هذه الحمامة ستنجو. كنت أتذكر آخر صورة التقطتها، قبل نصف ساعة من القذيفة. كنت منهكة، أنظر إلى الكاميرا، أنشد للجنة، وأضع رمز الحمامة في قصتي الأخيرة. كنت أشعر أنني أودع العالم، لكنني لم أكن أعرف أن الوداع سيكون بهذه السرعة.
في تلك السنوات، كنت أعيش في غزة، مدينة لا تعرف النوم، مدينة تنزف لكنها ترفض أن تموت. كنت أتجول في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى، والأطباء يعملون بلا كهرباء، والأطفال يرسمون على الجدران. كنت أعرف أن الكيان الصهيوني يمنع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، يفرض الرقابة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أهدافهم بدقة. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، كانت تهديدًا لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الكاميرا أقوى من الصاروخ، لأنها تخلّد الحقيقة.
في إحدى الليالي، قبل أشهر، كنت أجلس مع ولاء فروانة في مقهى صغير في غزة. كان المقهى شبه فارغ، لأن الناس لم يعودوا يملكون المال أو الوقت للجلوس. كانت ولاء تحكي لي عن أحلامها، عن رغبتها في كتابة رواية عن غزة، رواية تحكي قصص الناس العاديين، الذين يقاومون بمجرد أن يعيشوا. "مريم"، قالت لي، "نحن لا نكتب فقط، نحن نحارب. كل صورة تلتقطينها، كل قصة تحكينها، هي رصاصة في قلب الظلم." كنت أنظر إليها، أرى في عينيها نفس النار التي أحملها في قلبي. كنت أعرف أننا، الصحفيين الفلسطينيين، لسنا مجرد شهود، بل مقاتلين، نقاتل بالكلمة، بالصورة، بالحقيقة.
كنت أقرأ لغسان كنفاني، لعبد الرحمن منيف، لتولستوي، لهمنغواي، لتشيخوف، لديستوفسكي. كنت أجد في كلماتهم عزاءً، قوة، إلهامًا. كان غسان يعلمني أن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكان منيف يذكرني أن الهوية تتشكل من الذاكرة والألم. كان تولستوي يحدثني عن الصراع بين الروح والموت، وكان همنغواي يعلمني أن أكتب بحدة، بصدق. كان تشيخوف يذكرني أن القصص البسيطة هي الأعمق، وكان ديستوفسكي يعلمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
في تلك اللحظات، تحت الركام، كنت أسمع صوت طواقم الدفاع المدني يقترب. كنت أسمع صوت عماد عبد الحكيم الشاعر، سائق مركبة الإطفاء، يصرخ لزملائه: "استمروا، هناك أحياء!" لكنني كنت أعرف أن الوقت ينفد. كنت أشعر بالبرد يتسلل إلى جسدي، بالألم يتلاشى تدريجيًا، بالحياة تنسحب مني. لكنني لم أكن خائفة. كنت أفكر في غيث، في أمي، في والدي، في إبراهيم، في غسان، في كل أولئك الذين سبقوني. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
كنت أفكر في السنوات التي قضيتها في غزة، في اللحظات التي شكلتني. كنت أتذكر اليوم الذي تبرعت فيه بكليتي لوالدي. كنت أرفض أن يتحدث أحد عن الأمر، لأنني لم أكن أريد أن أكون بطلة. كنت أريد فقط أن أرى والدي يعيش. تلك التجربة علّمتني أن التضحية هي فعل إنساني، فعل يجعلنا أقرب إلى أنفسنا. كنت أحمل هذا الدرس معي في كل مرة أخرج فيها لتصوير غارة، في كل مرة أواجه فيها الموت. كنت أعرف أنني أضحي، ليس من أجل البطولة، بل من أجل شعبي، من أجل الحقيقة.
كنت أتذكر إحدى الليالي، قبل أشهر، حين كنت أجلس مع أحمد البطة في شقة صغيرة في غزة. كان يحكي لي عن أحلامه، عن رغبته في السفر إلى العالم، في رؤية مدن لا تعرف القنابل. لكنني كنت أعرف أن أحمد، مثلي، لن يغادر غزة. كنا نعيش لأجلها، نموت لأجلها. "مريم"، قال لي، "نحن لا نصور فقط، نحن نكتب تاريخ شعبنا." كنت أنظر إليه، أرى في عينيه نفس العزيمة التي أحملها. كنت أعرف أننا، الصحفيين الفلسطينيين، لسنا مجرد شهود، بل مقاتلين، نقاتل بالكلمة، بالصورة، بالحقيقة.
في تلك اللحظات، تحت الركام, كنت أسمع صوت طواقم الدفاع المدني يتلاشى تدريجيًا. كنت أشعر بالبرد يتسلل إلى عظامي، بالحياة تنسحب مني. لكنني لم أكن خائفة. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
الفصل السادس: رسالة إلى غيث
تحت ركام مجمع ناصر الطبي، حيث الظلام يبتلع كل شيء والأنفاس تتلاشى في صدري، كنت أنا، مريم، محاصرة بين أنقاض الحياة والموت. كان الهواء ثقيلًا، مشبعًا برائحة البارود والدم، وكنت أشعر بثقل الجدران المتهالكة فوق جسدي المحطم. لكن قلبي كان لا يزال ينبض، وعقلي كان يطير، يحكي، يقاوم. كنت أسمع أصوات طواقم الدفاع المدني بعيدة، كأنها أصداء من عالم آخر، تحاول فتح ممر إلى الحياة. لكنني كنت أعرف، في أعماق روحي، أنني لن أخرج. كنت أعرف أن هذه اللحظة، 25 أغسطس 2025، هي نهايتي، لكنها ليست نهاية قصتي. كنت مريم، الصحفية التي حملت كاميرتها كسلاح، التي وثّقت الحقيقة حتى الرمق الأخير، وكنت أؤمن أن الحقيقة، مثل فلسطين، لا تموت، بل تولد من جديد في كل صورة، في كل كلمة، في كل نفس يتحدى الموت.
في تلك اللحظات، بينما كنت محاصرة تحت الركام، كنت أفكر في غيث، ابني الوحيد، الذي أرسلته إلى الضفة الغربية، بعيدًا عن نيران غزة. كنت أتخيل وجهه، عينيه الصغيرتين اللتين تحملان براءة العالم وألم فلسطين. كنت أتذكر صوته عبر الهاتف في الليلة الماضية، يرتجف لكنه يحاول أن يبدو قويًا. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني، وكنت أتمنى لو كان لدي إجابة، لكن كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح، لكنني كنت أشعر بثقل الوداع في كلماتي. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أريد أن أكتب له رسالة، رسالة لا تُكتب بالحبر، بل بالروح، رسالة تحمل كل ما أردت أن أقوله له، كل ما أردت أن يعرفه عني، عن غزة، عن الحقيقة التي قاتلت من أجلها.
غيث، يا ابني، إذا قرأت هذه الكلمات يومًا، اعلم أنني لم أمت عبثًا. كنت أقاتل من أجلك، من أجل أن تعيش في عالم أفضل، عالم لا تعرف فيه السماء لغة القنابل، عالم لا يُسرق فيه الأمل من عيون الأطفال. كنت أوثق الحقيقة، لأنني أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا الوحيد، أقوى من الصواريخ، أعمق من الجراح. كنت أحمل كاميرتي كما تحمل الأم طفلها، لأنني أردت أن أكون صوت من لا صوت له، عين من لا عين له. كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يسعى لإسكاتنا، لمحو قصصنا، لقتل الحقيقة. لكنهم لا يعرفون أن الحقيقة لا تموت، أنها تنبت من تحت الركام، كما تنبت زهرة في أرض قاحلة.
تذكرت اليوم الذي ولدت فيه، غيث، في زقاق ضيق في غزة، تحت سماء مشتعلة بالنار والدخان. كانت أمي، جدتك، تصرخ ليس من ألم الولادة، بل من خوفها أن يسقط صاروخ على رأسنا قبل أن أرى النور. كان ذلك في أكتوبر 2023، حين بدأت حرب الإبادة، كما نسميها هنا، حرب لم تكتفِ بسرقة الأرواح، بل سعت لمحو الذاكرة، لإسكات الصوت. لكنني ولدت، غيث، وكأن ولادتي كانت تحديًا، وكأن صرختي الأولى كانت إعلانًا أنني سأكون صوتًا لشعبي. وعندما ولدت أنت، يا غيث، رأيت في عينيك نفس التحدي، نفس النور، نفس الإصرار على الحياة. كنت أعرف أنك ستكبر في عالم قاسٍ، لكنني كنت أؤمن أنك ستحمل النور الذي حملته أنا، الذي حمله غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وعلي فودة، وكل أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة.
غيث، تذكر أنني لم أكن مجرد صحفية. كنت صوتًا، قلبًا، حلمًا. كنت أحمل كاميرتي كما يحمل المقاتل سلاحه، لكن سلاحي لم يكن ليقتل، بل ليحيي. كنت أوثق قصص الناس: الأم التي فقدت أطفالها الثلاثة في غارة، الطبيب الذي يعمل عشرين ساعة يوميًا دون كهرباء، الطفل الذي يبحث عن لعبته تحت الأنقاض. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، هي رصاصة في قلب الظلم. كنت أعرف أن الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، يرى فينا ألوية مسلحة، كما قالت غولدا مائير عن غسان كنفاني. لكنني لم أكن أخاف. كنت أؤمن أن الحقيقة هي سلاحنا، وأن الكاميرا هي صوتنا.
تذكرت اليوم الذي قابلت فيه أحمد، الشاب الذي فقد ساقيه في غارة سابقة. كنت أصوره وهو يرسم حمامة على جدار مدمر في مجمع ناصر الطبي. كان يقول: "الألوان هي الحياة، مريم." كنت أرى في عينيه الأمل، رغم كل شيء. كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط، لكنني أردت أن أصدقه. في تلك اللحظة، قبل القذيفة، كنت أوجه عدستي نحوه، ألتقط حركة يده الرقيقة وهي ترسم جناح الحمامة. ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعني نهاية كل شيء. القذيفة الأولى هزت المبنى، وكأن الأرض نفسها تصرخ، ترفض أن تُداس. ركضت مع زملائي، حسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه، نحو الموقع. كنا نعرف أن مهمتنا هي التوثيق، حتى لو كان الثمن حياتنا. كنت أصرخ: "استمروا، صوروا، لا تتوقفوا!" لكن القذيفة الثانية جاءت بسرعة، كأنها كانت تنتظرنا. سمعت صراخ حسام، ثم صمت. رأيت محمد يسقط، ومعاذ يحاول النهوض. لكنني لم أستطع الحركة. كانت ساقاي ثقيلتين، وكأن الأرض تمسك بي.
غيث، يا ابني، اعلم أنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير. كنت أفكر فيك، في عينيك، في ضحكتك. كنت أفكر في أمي، التي كانت تحذرني من الكاميرا. كنت أفكر في والدي، الذي تبرعت له بكليتي. كنت أفكر في إبراهيم محمود، الذي قُتل قبل عام، وفي غسان كنفاني، الذي قال إن الأرض تنزف لكنها لا تموت. كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم.
غيث، تذكر أنني قرأت لغسان كنفاني، لعبد الرحمن منيف، لتولستوي، لهمنغواي، لتشيخوف، لديستوفسكي. كنت أجد في كلماتهم عزاءً، قوة، إلهامًا. كان غسان يعلمني أن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكان منيف يذكرني أن الهوية تتشكل من الذاكرة والألم. كان تولستوي يحدثني عن الصراع بين الروح والموت، وكان همنغواي يعلمني أن أكتب بحدة، بصدق. كان تشيخوف يذكرني أن القصص البسيطة هي الأعمق، وكان ديستوفسكي يعلمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
غيث، اعلم أن الحرب التي خضناها لم تكن فقط على الأجساد، بل على الحقيقة. الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، سعى لإسكاتنا، لمحو قصصنا، لقتل الحقيقة. لكنهم لا يعرفون أن الحقيقة لا تموت. كنت أعرف أن التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون، كانت جزءًا من هذه الحرب. بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
غيث، تذكر أنني لم أكن أقاتل من أجل نفسي، بل من أجلك، من أجل شعبي، من أجل كل طفل في غزة يحلم بالحياة. كنت أعرف أنني قد لا أعود إليك، لكنني كنت أؤمن أن الحقيقة تستحق التضحية. احمل الكاميرا، يا غيث، أو القلم، أو حتى صوتك، وأخبر العالم بما يحدث. أخبرهم عن غزة، عن شعبنا، عن الحمامات التي تسقط لكنها تترك أجنحتها في السماء. أخبرهم أننا لا نموت، أننا نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حلم.
في تلك اللحظات، تحت الركام، كنت أسمع صوت طواقم الدفاع المدني يقترب. كنت أسمع صوت عماد عبد الحكيم الشاعر، سائق مركبة الإطفاء، يصرخ لزملائه: "استمروا، هناك أحياء!" لكنني كنت أعرف أن الوقت ينفد. كنت أشعر بالبرد يتسلل إلى عظامي، بالألم يتلاشى تدريجيًا، بالحياة تنسحب مني. لكنني لم أكن خائفة. كنت أفكر فيك، يا غيث، في عينيك، في ضحكتك. كنت أفكر في أمي، في والدي، في إبراهيم، في غسان، في كل أولئك الذين سبقوني. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج. لأننا، شعب فلسطين، لا نموت. نحن نولد من جديد، في كل صورة، في كل كلمة، في كل حمامة تطير.
غيث، يا ابني، إذا قرأت هذه الرسالة يومًا، اعلم أنني أحببتك أكثر من الحياة نفسها. اعلم أنني قاتلت من أجلك، من أجل أن تعيش في عالم يعرف الحرية. احمل اسمي، يا غيث، وواصل دربي. كن صوتًا لمن لا صوت له، عينًا لمن لا عين له. وتذكر دائمًا: الحقيقة لا تموت، والحمامة ستظل تطير.
الفصل السابع: الحمامة التي طارت
تحت ركام مجمع ناصر الطبي، حيث الظلام يبتلع الضوء والصمت يخنق الأمل، كنت أنا، مريم، محاصرة في قفص من الأنقاض، أتنفس بصعوبة، لكن روحي كانت لا تزال تتحدى. كان الهواء ثقيلًا، مشبعًا برائحة البارود والدم، وكنت أشعر بثقل الجدران المتهالكة فوق جسدي المحطم. كنت أسمع أصوات طواقم الدفاع المدني بعيدة، كأنها أصداء من عالم آخر، تحاول فتح ممر إلى الحياة. لكنني كنت أعرف، في أعماق قلبي، أنني لن أخرج. كنت أعرف أن هذه اللحظة، 25 أغسطس 2025، هذا الإثنين الذي يحمل رائحة الموت، هي نهايتي. لكنها لم تكن نهاية قصتي. كنت مريم، الصحفية التي حملت كاميرتها كسلاح، التي وثّقت الحقيقة حتى الرمق الأخير، وكنت أؤمن أن الحقيقة، مثل فلسطين، لا تموت، بل تولد من جديد في كل صورة، في كل كلمة، في كل نفس يتحدى الموت.
في تلك اللحظات، بينما كنت محاصرة تحت الركام، كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد على الجدار المدمر في مجمع ناصر الطبي. كنت أتخيلها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أن الحمامات في غزة لا تطير، بل تسقط، لكنني كنت أؤمن أن هذه الحمامة ستنجو. كنت أتذكر آخر صورة التقطتها، قبل نصف ساعة من القذيفة. كنت منهكة، أنظر إلى الكاميرا، أنشد للجنة، وأضع رمز الحمامة في قصتي الأخيرة. كنت أشعر أنني أودع العالم، لكنني لم أكن أعرف أن الوداع سيكون بهذه السرعة. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أرى تلك الحمامة في خيالي، أجنحتها مكسورة لكنها تتحدى الجاذبية، تطير عاليًا، تحمل صوتي، صوت شعبي، إلى سماء لا تعرف القنابل.
كنت أفكر في غيث، ابني الوحيد، الذي أرسلته إلى الضفة الغربية، بعيدًا عن نيران غزة. كنت أتخيل وجهه، عينيه الصغيرتين اللتين تحملان براءة العالم وألم فلسطين. كنت أتذكر صوته عبر الهاتف في الليلة الماضية، يرتجف لكنه يحاول أن يبدو قويًا. "أمي، متى ستنتهي الحرب؟" سألني، وكنت أتمنى لو كان لدي إجابة. كل ما قلته: "غيث، أنت قلبي. إذا لم أعد، سمِّ ابنتك باسمي." ضحك، ظن أنني أمزح، لكنني كنت أشعر بثقل الوداع في كلماتي. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أريد أن أخبره أنني لم أمت عبثًا، أنني قاتلت من أجله، من أجل أن يعيش في عالم أفضل، عالم يعرف الحرية.
كنت أفكر في أمي، تلك المرأة التي كانت تحذرني من الكاميرا. "مريم، الكاميرا أخطر من البندقية"، كانت تقول، وعيناها مليئتان بالخوف والحب. لكنني لم أستمع. كنت أعرف أن الكاميرا هي سلاحي، أنها عيني التي ترى ما يحاول العالم تجاهله. كنت أفكر في والدي، الذي تبرعت له بكليتي قبل سنوات. كنت أرفض أن يتحدث أحد عن الأمر، لأنني لم أكن أريد أن أكون بطلة في عيون الناس. كنت أريد فقط أن أرى والدي يعيش، يتنفس، يبتسم. تلك التجربة علّمتني أن التضحية ليست فعلًا بطوليًا، بل فعلًا إنسانيًا، فعلًا يجعلنا أقرب إلى أنفسنا. الآن، وأنا تحت الركام، كنت أشعر أنني أضحي مرة أخرى، ليس من أجل البطولة، بل من أجل شعبي، من أجل الحقيقة.
كنت أفكر في إبراهيم محمود، زميلي الصحفي الذي قُتل قبل عام. كنت أرى وجهه الآن، يبتسم كما كان يفعل في تلك الليلة في مخيم الشاطئ. "مريم"، قال لي، "الحقيقة هي أخطر أسلحتنا، لأنها تجعلهم يخافون من أنفسهم." كنت أتذكر كيف وجدته ملقى على الأرض، كاميرته بجانبه، عدستها مكسورة. لم أبكِ، لأنني كنت أعرف أن الدموع لن تعيده. لكنني أمسكت بكاميرته، وواصلت. منذ ذلك اليوم، حملت كاميرتين، واحدة لي، وواحدة له، وكأنني أحمل روحه معي. الآن، تحت الركام، كنت أتساءل إن كان إبراهيم يراني، إن كان يبتسم، إن كان يعرف أنني واصلت دربه حتى النهاية.
كنت أفكر في غسان كنفاني، الذي قُتل في بيروت عام 1972. كنت أقرأ كلماته في الليالي الباردة، أجد فيها عزاءً وقوة. كان يقول إن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكنت أؤمن بهذا. كنت أتذكر ماجد أبو شرار، وعلي فودة، والشاعر ناصر، كلهم دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة. كنت أعرف أنني لست الوحيدة. 244 صحفيًا قُتلوا منذ أكتوبر 2023، عدد يفوق ثلاثة أضعاف الصحفيين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الثانية. كنت أعرف أنني الآن أنضم إليهم، لكنني لم أكن خائفة. كنت أشعر بالسلام، لأنني أديت مهمتي. كنت صوتًا لشعبي، حتى الرمق الأخير.
كنت أفكر في زملائي، ولاء فروانة وأحمد البطة، الذين سيواصلون المهمة بعدي. كنت أتخيل كلماتهم وهم ينعونني: "مريم، خلوقة، متواضعة، نشيطة، الله يتقبلك ويهنيكي بالجنة." لكنني لم أكن أريد النعي، لم أكن أريد المديح. كنت أريد فقط أن تواصل الحقيقة طريقها، أن تصل صوري، قصصي، أصواتي، إلى العالم. كنت أفكر في الحرب التي خضناها، ليس فقط على الأجساد، بل على الحقيقة. الكيان الصهيوني، بدعم من الاحتكارات المالية الأمريكية، سعى لإسكاتنا، لمحو قصصنا، لقتل الحقيقة. لكنهم لا يعرفون أن الحقيقة لا تموت. كنت أعرف أن التطبيقات الأمريكية، مثل غوغل وميتا وأمازون، كانت جزءًا من هذه الحرب. بياناتنا، تحركاتنا، حتى أنفاسنا، كانت تحت مراقبتهم. الذكاء الاصطناعي، الذي يروجون له كأداة للتقدم، كان يُستخدم لتحديد أهداف القصف بدقة مرعبة. كنت أشعر أحيانًا أنني أقاتل جيشًا غير مرئي، جيشًا من الأرقام والخوارزميات. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الحقيقة أقوى من أي خوارزمية، أن الصورة التي ألتقطها يمكن أن تصرخ بصوت أعلى من القنابل.
كنت أتذكر السنوات التي قضيتها في غزة، مدينة لا تعرف النوم، مدينة تنزف لكنها ترفض أن تموت. كنت أتجول في شوارعها، أحمل كاميرتي، أوثق الحياة وسط الموت. كنت أرى الأمهات يحملن أطفالهن الجرحى إلى المستشفيات، والأطباء يعملون تحت ضوء الهواتف لأن الكهرباء مقطوعة، والأطفال يرسمون على الجدران، وكأنهم يقولون للعالم: "نحن هنا، نحن أحياء." كنت أعرف أن الكيان الصهيوني يمنع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، يفرض الرقابة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أهدافهم بدقة. كنت أعرف أن كل صورة ألتقطها، كل كلمة أكتبها، كانت تهديدًا لهم. لكنني لم أتوقف. كنت أؤمن أن الكاميرا أقوى من الصاروخ، لأنها تخلّد الحقيقة.
كنت أقرأ لغسان كنفاني، لعبد الرحمن منيف، لتولستوي، لهمنغواي، لتشيخوف، لديستوفسكي. كنت أجد في كلماتهم عزاءً، قوة، إلهامًا. كان غسان يعلمني أن الأرض تنزف لكنها لا تموت، وكان منيف يذكرني أن الهوية تتشكل من الذاكرة والألم. كان تولستوي يحدثني عن الصراع بين الروح والموت، وكان همنغواي يعلمني أن أكتب بحدة، بصدق. كان تشيخوف يذكرني أن القصص البسيطة هي الأعمق، وكان ديستوفسكي يعلمني أن الإنسان يجد معنى حتى في أحلك اللحظات. لكنني لم أكن أقرأ فقط، كنت أعيش هذه الكلمات، أحولها إلى صور، إلى قصص، إلى شهادات.
كنت أتذكر اليوم الذي قابلت فيه أحمد، الشاب الذي فقد ساقيه في غارة سابقة. كنت أصوره وهو يرسم حمامة على جدار مدمر. كان يقول: "الألوان هي الحياة، مريم." كنت أرى في عينيه الأمل، رغم كل شيء. في تلك اللحظة، قبل القذيفة، كنت أوجه عدستي نحوه، ألتقط حركة يده الرقيقة وهي ترسم جناح الحمامة. ثم جاء الصوت، ذلك الهدير الذي يعني نهاية كل شيء. القذيفة الأولى هزت المبنى، وكأن الأرض نفسها تصرخ، ترفض أن تُداس. ركضت مع زملائي، حسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه، نحو الموقع. كنا نعرف أن مهمتنا هي التوثيق، حتى لو كان الثمن حياتنا. كنت أصرخ: "استمروا، صوروا، لا تتوقفوا!" لكن القذيفة الثانية جاءت بسرعة، كأنها كانت تنتظرنا. سمعت صراخ حسام، ثم صمت. رأيت محمد يسقط، ومعاذ يحاول النهوض. لكنني لم أستطع الحركة. كانت ساقاي ثقيلتين، وكأن الأرض تمسك بي.
في تلك اللحظات، تحت الركام، كنت أسمع صوت طواقم الدفاع المدني يقترب. كنت أسمع صوت عماد عبد الحكيم الشاعر، سائق مركبة الإطفاء، يصرخ لزملائه: "استمروا، هناك أحياء!" لكنني كنت أعرف أن الوقت ينفد. كنت أشعر بالبرد يتسلل إلى عظامي، بالألم يتلاشى تدريجيًا، بالحياة تنسحب مني. لكنني لم أكن خائفة. كنت أفكر في غيث، في أمي، في والدي، في إبراهيم، في غسان، في كل أولئك الذين سبقوني. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنني لن أخرج، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة ستخرج.
في النهاية، لم أكن مجرد صحفية. كنت صوتًا، قلبًا، حلمًا. كنت مريم، التي حملت كاميرتها حتى اللحظة الأخيرة. كنت أعرف أنني قد أموت، لكنني كنت أعرف أيضًا أن الحقيقة لن تموت. كنت أفكر في الحمامة التي رسمها أحمد، وتخيلتها تطير، تحمل قصتنا إلى العالم. كنت أعرف أنها طارت، في صوري، في كلماتي، في قصصي. طارت في قلوب كل من قرأ عن غزة، عن شعبي، عن معاناتنا. أنا مريم، وهذه قصتي. لكنها ليست النهاية. الحقيقة لا تموت، والحمامة ستظل تطير.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية : صرخة من النهر إلى البحر ( رواية عن الهولوكوست الأمري
...
-
رواية الجوع ( عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين
...
-
رواية : بكاء تحت الركام (عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد
...
-
ملخص خلفيات حرب الاستخبارات الأميركية السرية لإسقاط الدولة ا
...
-
رواية : آيات الفوضى الخلاقة
-
رواية : خرائط الجميز العجيبة
-
رواية: انفاق الزيتون الدامي
-
السلاح أو الموت: مسرحية المقاومة في زمن نتنياهو النازي الجدي
...
-
نقابات بلجيكا تقاوم لوبيات السلاح والإبادة الجماعية
-
يوم الأحد الوجودي: سخرية التاريخ من أوهام الكيان
-
رواية مشاعل الهامش
-
ترامب وزيلينسكي: مهرج ودمية يرقصان لارضاء بوتين
-
قمة ترامب وبوتين – كوميديا سوداء في زمن الدولة العميقة وأورو
...
-
رواية خيوط العنكبوت: من الباب العالي إلى هولوكوست غزة
-
كعبة ليونيل والتر ( رواية عن هولوكوست صهيو امريكي في غزة )
-
اولاد ابو العبد (رواية عن هولوكوست في غزة )
-
الجثمان النابض - (رواية عن الهولوكوست الفلسطيني في فلسطين وف
...
-
قمة ألاسكا - عندما يلتقي بوتين وترامب لتقسيم العالم على كأس
...
-
الرداء المرصع بالنجوم..رواية عن الهولوكوست في غزة
-
مملكة الظلمات: بين التطبيل للقضية الفلسطينية وتمويل مذابحها
المزيد.....
-
الموت يغيب الفنانة العراقية سليمة خضير
-
ألفريد هوبير مع القرآن.. رحلة مستشرق ألماني بين الأكاديميا و
...
-
بعد رفضه سفير الاحتلال الجديد.. -إسرائيل- تخفض التمثيل الدبل
...
-
بعد رفضه سفير الاحتلال الجديد.. -إسرائيل- تخفض التمثيل الدبل
...
-
صفحة قائد الثورة باللغة العبرية: الكيان الصهيوني هو الكيان ا
...
-
أول ظهور للفنانة أنغام بعد رحلة العلاج
-
في احتفال بقاعة صاحب حداد الإعلان عن نتائج منافسة الأفلام ال
...
-
صناع أفلام عالميين-أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
-
محمد رمضان في بيروت وهيفاء وهبي تشعل أجواء الحفل بالرقص والغ
...
-
-بيت العبيد- بالسنغال ذاكرة حيّة لتجارة الرقيق عبر الأطلسي
المزيد.....
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
المزيد.....
|