|
رواية : صحراء السراب
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 20:59
المحور:
الادب والفن
مقدمة: منارة في الضباب
لم يتسارع التاريخ في عالمنا ،اليوم ، نحو هاويةٍ من العبث والانحطاط ؟ هل بسبب تكالب القوى الإمبريالية وأذرعها المحلية على خنق أحلام الشعوب؟ ومن أجل ذلك ، يصبح الكاتب المهموم بالوطن العربي كائنًا نادرًا، يحمل على كتفيه عبء الحقيقة في مواجهة دواماتٍ لا نهائية من التضييق والتهديد. إنه كمن يختار أن يصلب نفسه طواعية، مدركًا أن مصيره قد يكون أقسى من أساطير سورية القديمة التي تحكي عن أنبياء صُلبوا لأنهم تجرأوا على قول الحق، أو تلك الحكايات الأثرية التي أطلقت على ملوك سومر وبابل أسماء أنبياء ليصبحوا رموزًا للنضال ضد الظلم. الكاتب العربي الذي يختار هذا الطريق يعلم أن عمله غير مأجور، بل هو فعلٌ من أفعال الإيمان بالإنسانية، فعلٌ يضعه في مواجهة مراكز استعمارية لا ترحم، وبيادقها المحلية التي صنعتها في محميات الخليج، ومن عصابات الفاشية المتسترة بأقنعة دينية—من الإخوان المسلمين إلى القاعدة وداعش، إلى جعجع والكتائب، وصولاً إلى الصهاينة. هؤلاء، بتحالفاتهم المعقدة، يفرضون ديمقراطيةً زائفة، صيغةً سياسية لا تخدم سوى مصالح الاحتكارات المالية الأمريكية والغربية، تاركة الشعوب العربية تتخبط في ظلال التبعية والفقر.
في هذا السياق المظلم، تبرز رواية “ صحراء السراب “ كمنارةٍ تخترق الضباب، مستوحاة من رؤية رجلٍ مثل جورج قرم، الذي وقف إلى جانب قلةٍ من المفكرين مثل سمير أمين، ليرفض المسار الانحطاطي للتاريخ العربي، ذلك المسار الذي شهد فصولاً من الانتحار الحضاري والانحدار إلى قاعٍ لم تعرفه الأمة في أوج عزتها. لم يكن هذا الرجل مجرد مؤرخ أو عالم اقتصاد، بل كان شاعرًا للتاريخ، رسامًا لخرائط الروح العربية المحاصرة، مفكرًا لا يجامل أحدًا، مخلصًا للحقائق التي توصل إليها عبر سنوات من التأمل والنضال. رؤيته، التي تجسدت في شخصية يوسف الحلزوني، بطل الرواية، ليست مجرد نقدٍ للاقتصاد الريعي أو الإمبريالية، بل هي دعوةٌ للشعوب لكي تستيقظ، لكي ترى نفسها في مرآة الحقيقة، لكي تؤمن بقدرتها على صنع مصيرها.
صحراء السراب ، ليست رواية تقليدية. إنها ملحمةٌ إنسانية تمزج بين الواقعية السحرية والنقد الاجتماعي الحاد، بين الرمزية الكابوسية والشعرية الوطنية، لتقدم صورةً عن رجلٍ رأى التاريخ ليس كخطٍ مستقيم يقود إلى التقدم، بل كحلزونٍ يصعد عبر دورات النضال والخيانة. يوسف الحلزوني، الذي يبدأ حياته في قريةٍ على شاطئ الإسكندرية عام 1940، ينشأ محاطًا بقصص جده عن التاريخ والفن، وبحكايات والدته عن المنفى. في حديقة بيته، يكتشف حلزونًا يحمل على ظهره خريطةً متعرجة، كأنها دوامات الزمن، ومن هنا تبدأ رحلته الفكرية. في القاهرة، يتعلم القراءة النقدية، مستلهمًا أفكار الوحدة العربية. في باريس، يدرس المالية والقانون، لكنه يرفض أسطورة التقدم الغربي، ويكتب مقالاته الأولى عن الاقتصاد الريعي. عند عودته إلى بيروت، يواجه واقعًا مريرًا: اقتصادٌ ريعي يخنق الشعب، ونخبٌ متواطئة مع الإمبراطورية. يكتب كتابه الأول، *حلزون التاريخ*، داعيًا إلى مقاومة النظام العالمي، لكنه يواجه تهديداتٍ وظلالًا تتبعه في الشوارع.
في الفصول التالية، يواصل يوسف نضاله. في لييج عام 2010، يلقي محاضرةً في سيتي ميروار، داعيًا المهاجرين والعمال إلى الوعي، مؤكدًا أن الحلزون يصعد بالإيمان. كوزيرٍ للمالية، يحاول إصلاحاتٍ جريئة، لكنه يواجه مقاومةً شرسة من البنوك والنخب، مما يجبره على ترك منصبه. يكتب كتبًا أخرى — ظلال الإمبراطورية، مرآة الحقيقة، خطيئة الوعي — كلها دعواتٍ للشعوب لكي تتحرر من أغلال التبعية. حتى وفاته في 2024، يظل يوسف مؤمنًا بأن الحلزون يتحرك، حاملًا أحلام الأمة. بعد رحيله، ينتشر إرثه كالنار في الهشيم: في غزة، يؤسس الشباب "حلزون الأمل"؛ في بيروت، يناقش الطلاب أفكاره؛ في جنوب لبنان، يحيي المزارعون الأرض؛ وفي المنفى، يجد المهاجرون في كتبه أملًا.
هذه الرواية ليست مجرد قصة عن يوسف الحلزوني، بل هي تحذيرٌ من الطغيان، صراعٌ ضد اللامعقول، دعوةٌ للشعوب لكي تستيقظ وتصنع مصيرها. إنها مرآةٌ تعكس الواقع المرير، لكنها أيضًا تضيء طريق الأمل. السؤال الذي تتركه للقارئ هو: هل سنصعد مع الحلزون، أم سنظل في ظلال الإمبراطورية؟
…………..
الفصل الأول: ولادة الحلزون
في قريةٍ صغيرة على شاطئ الإسكندرية، حيث تلتقي أمواج البحر المتوسط بصخورٍ نخرتها الرياح والزمن، وُلد يوسف الحلزوني في صيف عام 1940. كانت السماء تلك الليلة صافية، والنجوم تتلألأ كأنها عيونٌ قديمة تهمس بأسرار الأزمنة. كان البيت الذي وُلد فيه يوسف متواضعًا لكنه يفوح برائحة الكتب القديمة، والموسيقى التي كان والده، داود، يعزفها على البيانو في الليالي الهادئة. كان داود فنانًا يرى العالم لوحةً من الألوان المتشابكة، يرسم وجوه الفلاحين والصيادين بنفس الشغف الذي كان يرسم به مناظر البحر. والدته، مريم، كانت امرأةً تحمل في عينيها حزنًا عميقًا، كأنها تحمل ذكريات شعبٍ مشردٍ عبر التاريخ. كان جده، وهو رسامٌ شهيرٌ في عصره، قد ترك إرثًا من اللوحات التي تزين جدران البيت—صورٌ لوجوه الفلاحين، العمال، والأطفال، كأنها مرايا تعكس روح الأمة.
في طفولته، كان يوسف يقضي ساعاتٍ طويلة في حديقة البيت، يراقب الحلزونات التي كانت تزحف ببطء على الأرض الرطبة بعد المطر. كان مفتونًا بحركتها البطيئة، بقوقعاتها المتعرجة التي بدت وكأنها تحمل خرائط الأزمنة. ذات يوم، بينما كان يتأمل حلزونًا صغيرًا يزحف على ورقة شجرة، اقترب منه جده وقال: "التاريخ، يا يوسف، مثل هذا الحلزون. لا يسير في خطٍ مستقيم، بل يدور في دوائر، يصعد ويهبط، يحمل على ظهره قصص الشعوب. إذا أردت أن تفهم العالم، راقب الحلزون." تلك الكلمات، التي بدت وقتها مجرد نصيحة عجوز، صارت لاحقًا نبوءةً شكلت حياة يوسف.
كان البيت مليئًا بالحكايات. كان جده يروي قصصًا عن أيامٍ مضت، عندما كان يسافر إلى مدنٍ بعيدة، يرسم وجوه الأمراء والفلاحين على حد سواء. كان يقول إن الفن الحقيقي لا يخدم القصور، بل يحكي قصص من يعيشون في الظلال. والد يوسف، داود، ورث هذا الشغف، لكنه أضاف إليه الموسيقى. في الليالي التي كانت الأسرة تجتمع فيها، كان داود يعزف مقطوعاتٍ كلاسيكية، وأحيانًا ألحانًا عربية تتراقص فيها أنغام العود مع إيقاعات البحر. كانت مريم، الأم، تجلس صامتة، تستمع، لكن عينيها كانتا ترويان قصصًا لم تُحكَ. كانت تنحدر من عائلةٍ هاجرت من بلاد الشام إلى مصر، تحمل ذكريات المنفى والشتات. في تلك الليالي، كان يوسف يشعر أن العالم أكبر بكثير مما يراه، وأن هناك قوىً خفية تتحكم بمصائر الشعوب.
في سن العاشرة، أُرسل يوسف إلى مدرسةٍ دينية في القاهرة، حيث تعلم القراءة والكتابة، وحفظ آياتٍ من الكتب المقدسة، لكنه كان أكثر اهتمامًا بالكتب التي كان المدرسون يمنعونها. كان يتسلل إلى مكتبة المدرسة ليلًا، يقرأ كتبًا عن التاريخ والاقتصاد، ويستمع في الشوارع إلى أحاديث الثورة التي كانت تهز مصر في الخمسينيات. كانت أفكار الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية تتردد في الأزقة، وكان يوسف يشعر أنها ليست مجرد كلمات، بل نارٌ تحترق في قلوب الناس. كان يرى في عيون زملائه—أبناء الفلاحين والعمال—حلمًا مشتركًا، حلمًا بوطنٍ لا يخنقه الظلم.
في تلك السنوات، بدأ يوسف يكتب يومياته. لم تكن يومياتٍ عادية، بل كانت تأملاتٍ في العالم من حوله. كتب ذات يوم: "العالم ليس عادلًا، لكنه ليس ميتًا. هناك شيءٌ يتحرك في الظلال، شيءٌ ينتظر أن يُولد." كان يشعر أن التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل قصةٌ حية، تتشكل بأيدي الناس. في إحدى الليالي، بينما كان يقرأ كتابًا عن الاقتصاد السياسي، شعر أن الأرقام ليست مجرد أرقام—كانت قصصًا عن عرق العمال، عن أحلام الفلاحين، عن دموع الأمهات.
في سن الثامنة عشرة، سافر يوسف إلى باريس ليواصل دراسته. كانت المدينة في الخمسينيات تعج بالأفكار. كانت مقاهيها مليئة بالمفكرين الذين يناقشون كل شيء—من الثورة إلى الوجودية، من العدالة إلى الحرية. هناك، تعرف يوسف على أفكارٍ جديدة، أفكارٍ عن الصراع الطبقي، عن الاستعمار، عن الإمبراطوريات التي تحكم العالم من وراء ستار. لكنه لم يكن مجرد طالبٍ يستمع. كان يتحدى، يسأل، يرفض الأفكار التي بدت له وكأنها أغلالٌ فكرية. في إحدى المناقشات في مقهى على ضفاف السين، قال لأحد أساتذته: "إذا كان التقدم يعني استعباد شعوبٍ بأكملها، فأنا أرفض هذا التقدم." كانت كلماته تلك بداية تمرده الفكري.
في باريس، درس يوسف المالية العامة والقانون، لكنه لم يكن مهتمًا بالشهادات بقدر ما كان مهتمًا بفهم العالم. كان يرى في الأرقام لغةً، لغةً تحكي عن الظلم والاستغلال، ولكنها أيضًا تحمل بذور التغيير. في إحدى محاضراته، تحدث أستاذه عن "السوق الحر" كأنه إلهٌ لا يُخطئ. نهض يوسف وقال: "السوق ليس حرًا. إنه قيدٌ يخدم من يملكون المال، بينما يترك الباقين في الظلال." كلماته أثارت جدلًا في القاعة، لكنها جعلته يشعر أنه بدأ يجد صوته.
في تلك السنوات، بدأ يوسف يكتب أولى مقالاته. كانت مقالاتٍ قصيرة، لكنها كانت مليئة بالغضب والأمل. كتب عن العالم العربي، عن أحلام الوحدة التي كانت تتردد في شوارع القاهرة وبيروت ودمشق. كتب عن الاقتصاد الريعي، ذلك النظام الذي رآه كالسلسلة التي تكبل الأمة. "النفط ليس نعمة"، كتب في إحدى مقالاته، "بل نقمة عندما يجعلنا نعتمد على الآخرين بدلاً من أن نبني بأيدينا." كانت كلماته تلك، التي كتبها وهو في العشرين من عمره، بمثابة البذرة الأولى لفكره الذي سيصبح لاحقًا حلزون التاريخ.
لكن باريس لم تكن مجرد مكانٍ للتعلم. كانت أيضًا مكانًا للغربة. كان يوسف يشعر أحيانًا أنه غريبٌ في المدينة، غريبٌ بين زملائه الذين كانوا يحلمون بمناصب في البنوك والشركات الكبرى. هو لم يكن يحلم بالثروة، بل بالعدالة. في إحدى الليالي، بينما كان يسير على ضفاف السين، توقف عند جسرٍ قديم ونظر إلى الماء. رأى انعكاسه مختلطًا بانعكاس النجوم، وشعر أن هناك شيئًا أكبر منه يتحرك في داخله. كتب في يومياته تلك الليلة: "أنا لست مجرد رجل. أنا جزءٌ من حلزونٍ أكبر، حلزونٍ يحمل أحلام شعبي."
عندما عاد إلى بيروت في أوائل الستينيات، كان يوسف قد أصبح رجلًا مختلفًا. لم يعد الفتى الذي يراقب الحلزونات في الحديقة، بل أصبح رجلًا يحمل رؤيةً. انضم إلى وزارة المالية، آملًا أن يغير شيئًا من الداخل. لكنه سرعان ما اكتشف أن النظام أقوى من إرادة فردٍ واحد. كانت الأرقام التي يتعامل معها يوميًا ليست مجرد أرقام—كانت أغلالًا تكبل الشعب. كان الاقتصاد الريعي، ذلك الوحش الذي يتغذى على النفط والمساعدات الخارجية، يخنق أحلام الأمة. في مكتبه، المزدحم بالتقارير، شعر يوسف أحيانًا كأنه محاصرٌ في قفصٍ لا يرى جدرانه.
في إحدى الليالي، بينما كان يعمل على تقريرٍ عن ديون لبنان، شعر أن الأرقام تتحدث إليه. كانت تحكي قصصًا عن قرىً مهجورة، عن عمالٍ يعملون حتى الموت دون أن يروا ثمرة عملهم، عن أمهاتٍ يبكين أطفالهن الذين هاجروا بحثًا عن لقمة العيش. نهض من مكتبه وكتب في يومياته: "الأرقام ليست محايدة. إنها صرخات الشعب المكبوتة." تلك اللحظة كانت بداية تمرده الحقيقي.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يلتقي بأناسٍ يشاركونه أحلامه. كان هناك شابٌ يُدعى خالد، فلسطينيٌ منفي، يحمل في عينيه حزن الشتات وحلم العودة. كان هناك أيضًا أمين، عاملٌ من جنوب لبنان، يحكي عن قريته التي دمرها الفقر والحرب. هؤلاء الناس، بقصصهم البسيطة، جعلوا يوسف يدرك أن حلزون التاريخ لا يصعد إلا بأيدي من يؤمنون به.
في عام 1965، نشر يوسف كتابه الأول، حلزون التاريخ. لم يكن الكتاب مجرد دراسة اقتصادية، بل كان بمثابة صرخةٍ ضد النظام العالمي. فيه، تحدى فكرة التقدم الخطي التي روجت لها الإمبراطوريات. "التاريخ ليس طريقًا إلى جنةٍ وهمية"، كتب، "بل حلزونٌ يصعد بالنضال. كل هزيمة درس، وكل مقاومة خطوة نحو العدالة." كان الكتاب مزيجًا من التحليل الاقتصادي والشعرية، يتحدث عن العالم العربي ليس كمنطقة "متخلفة"، بل كبوتقة للنضال البشري.
لكن الكتاب لم يكن موضع ترحيب من الجميع. النخب المحلية، التي كانت تستفيد من الاقتصاد الريعي، رأت فيه تهديدًا. السفارات الأجنبية، التي كانت تراقب كل حركة في بيروت، وصفته بأنه "خطير". لكن بالنسبة للناس العاديين—العمال، الفلاحين، الطلاب—كان الكتاب بمثابة مشعلٍ يضيء الطريق. في إحدى الليالي، بينما كان يوسف يجلس في مقهى قديم في بيروت، اقترب منه شابٌ وقال: "كتابك جعلني أرى العالم بطريقة مختلفة. جعلني أؤمن أننا يمكن أن نصنع التاريخ." تلك الكلمات جعلت يوسف يشعر أن حلزونه بدأ يتحرك.
لكن مع النجاح جاءت التحديات. بدأ يوسف يتلقى رسائل تهديدٍ مجهولة. كان هناك من يراقبونه، ظلالٌ تتحرك في الشوارع المظلمة. في إحدى الليالي، بينما كان يسير إلى منزله، شعر أن هناك من يتبعه. توقف ونظر خلفه، لكنه لم يرَ سوى الظلام. لكنه كان يعلم أن الإمبراطورية لا تحب من يتحدونها. في تلك اللحظة، تذكر كلمات جده عن الحلزون، وشعر أن عليه أن يستمر، مهما كانت العواقب.
في السنوات التالية، بدأ يوسف يسافر إلى مدنٍ عربية أخرى—دمشق، الجزائر، بغداد. في كل مدينة، كان يلتقي بأناسٍ يشاركونه أحلامه. كان هناك علماء، عمال، شعراء، كلهم يحلمون بوطنٍ يتحرر من أغلال الريعية والاستعمار. في إحدى المحاضرات في دمشق، تحدث يوسف عن فكرته عن الحلزون. "التاريخ ليس قدرًا"، قال. "إنه قماشٌ ننسجه بأيدينا. كل خطوة نقاوم فيها، كل فكرة نزرعها، هي جزءٌ من صعود الحلزون." كانت كلماته تلك بمثابة دعوةٍ للنضال، دعوةٍ لم تكن موجهة فقط للعرب، بل لكل من يؤمن بالعدالة.
لكن مع كل خطوةٍ كان يخطوها يوسف، كانت الظلال تكبر من حوله. كان يعلم أن الإمبراطورية تراقبه، أن النخب المحلية تخاف من أفكاره. لكنه لم يتوقف. كان يشعر أن حلزون التاريخ بدأ يتحرك، وأنه، مهما كانت الصعوبات، لا يمكن أن يتوقف عن الصعود.
في إحدى الليالي، بينما كان يجلس في مكتبه، تلقى يوسف رسالةً من صديقٍ قديم في القاهرة. كانت الرسالة تحمل خبرًا عن ثورةٍ جديدة تتشكل في الشوارع. "الناس يتحدثون عن حلزونك"، كتب الصديق. "إنهم يرون فيه أملًا." قرأ يوسف الرسالة وابتسم. كان يعلم أن الطريق طويل، لكنه كان يؤمن أن الحلزون سيستمر في الصعود، مهما طال الزمن.
الفصل الثاني: ظلال الإمبراطورية
عندما عاد يوسف الحلزوني إلى بيروت في أوائل الستينيات، كان يحمل في قلبه أحلامًا كبيرة، لكنه وجد مدينةً ممزقةً بمخالب قوىً لا تُرى. كانت بيروت مزيجًا غريبًا من الأضواء الساطعة والظلال المظلمة، مدينةً تتراقص فيها الأحلام والخيانات على إيقاع واحد. الشوارع كانت تعج بالحياة—بائعو القهوة ينادون، الأطفال يلعبون بين الأزقة، والسياسيون يتبادلون الوعود في المقاهي—لكن تحت هذه الضجة، كان هناك صمتٌ ثقيل، صمت الشعب المكبل بأغلال نظامٍ لا يرحم. انضم يوسف إلى وزارة المالية، آملًا أن يكون جزءًا من تغييرٍ حقيقي. كان يعتقد أن الأرقام، التي درسها في باريس، يمكن أن تكون أدواتٍ للعدالة، لكن سرعان ما اكتشف أنها ليست سوى سلاسل تُستخدم لتقييد الأمة.
في مكتبه الصغير، المزدحم بالملفات والتقارير، كان يوسف يشعر أحيانًا كأنه محاصرٌ في متاهةٍ لا نهائية. كانت الأرقام التي يتعامل معها يوميًا تحكي قصصًا عن ديونٍ تراكمت على ظهور العمال، عن ثرواتٍ تتدفق إلى جيوب النخب، عن قرىً مهجورة لأن أهلها اضطروا للهجرة بحثًا عن لقمة العيش. كان الاقتصاد الريعي، ذلك الوحش الذي يتغذى على النفط وتحويلات المهاجرين والمساعدات الأجنبية، يخنق لبنان والعالم العربي بأسره. كل تقريرٍ كان يوقّعه يوسف كان يحمل رائحة الخيانة—خيانة الشعب لصالح نظامٍ يخدم الأقلية. في إحدى الليالي، بينما كان يعمل على ميزانية الدولة، رفع عينيه عن الأوراق ونظر إلى النافذة. كانت المدينة نائمة، لكن يوسف شعر أن هناك شيئًا يتحرك في الظلال، شيئًا يراقبه.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يرى الحلم نفسه كل ليلة. كان يجد نفسه في قاعةٍ ضخمة، جدرانها مغطاة بالذهب، وفي وسطها مجلسٌ من الرجال ذوي الأقنعة الذهبية. كانوا يجلسون حول طاولةٍ طويلة، ينظرون إليه بعيونٍ خالية من الحياة. "لماذا تتحدى نظامنا؟" كانوا يسألون بصوتٍ واحد، كأنه صدى يتردد في الكون. "المال هو الإله، والسوق هو معبده. أنت، يا يوسف، تهدد هذا النظام بحديثك عن العدالة والإنتاج." في الحلم، كان يوسف يقف صلبًا، يرد بصوتٍ هادئ لكنه حاد: "المال ليس إلهًا، بل أداة. والشعوب ليست عبيدًا، بل صانعة التاريخ." كان يستيقظ من حلمه وقلبه يخفق، ليجد قلمه ينزف حبرًا أسود على الورق، كأنه دم التاريخ نفسه.
هذا الحلم لم يكن مجرد كابوس. كان انعكاسًا للواقع الذي كان يعيشه يوسف. في الوزارة، كان يواجه مقاومةً من كل جانب. كان هناك زملاء يهمسون في الغرف المغلقة، يتحدثون عن "الاستقرار" و"مصلحة الدولة"، لكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن مصالح النخب. كان هناك مستشارون أجانب يزورون الوزارة، يحملون تقارير من بنوكٍ عالمية، يطالبون بسياساتٍ تزيد من الديون وتضعف الشعب. كان يوسف يشعر أحيانًا كأنه يقاتل وحشًا لا يُرى، وحشًا يتحكم بكل شيء من خلف الستار.
في إحدى الجلسات، اقترح يوسف خطةً لتحويل الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي. كان يحلم بمصانع تنتج، بمزارع تزدهر، بمدارس تعلم الأطفال كيف يبنون المستقبل بأيديهم. لكن اقتراحه قوبل بالسخرية. "هذا غير واقعي"، قال أحد الوزراء، وهو يدخن سيجارًا باهظ الثمن. "نحن بحاجة إلى النفط والمساعدات. هكذا يعمل العالم." رد يوسف بحدة: "العالم يعمل هكذا لأنكم تسمحون له بذلك. إنكم تبيعون أحلام شعبكم مقابل حفنة من الدولارات." تلك الكلمات جعلت الغرفة تصمت، لكن يوسف شعر أن الظلال من حوله أصبحت أكثر كثافة.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يكتب كتابه الثاني، ظلال الإمبراطورية. كان الكتاب استمرارًا لأفكاره عن حلزون التاريخ، لكنه كان أكثر حدة، أكثر غضبًا. فيه، تحدى فكرة أن العالم العربي "متخلف"، مؤكدًا أنه ليس كذلك، بل هو ضحية نظامٍ عالمي مصمم لإبقائه تحت السيطرة. "الاقتصاد الريعي"، كتب، "ليس مصادفة. إنه سلاحٌ صيغته الإمبراطوريات وصانته النخب المحلية. إنه يخنق الإبداع، يقتل الأمل، ويجعلنا نؤمن أننا لا نستطيع إلا أن نمد أيدينا للفتات." كان الكتاب بمثابة صرخةٍ ضد الظلم، دعوةٍ للشعوب لكي تستيقظ وتصنع مصيرها بنفسها.
لكن الكتاب لم يكن موضع ترحيب من الجميع. كانت هناك أصواتٌ في بيروت بدأت تهمس عن يوسف، تصفه بأنه "مثير للقلاقل"، "حالمٌ غير واقعي". تلقى رسائل تهديدٍ مكتوبة بخطوطٍ مجهولة، تحذره من "التدخل في أمورٍ أكبر منه". في إحدى الليالي، بينما كان يسير في شوارع بيروت، شعر أن هناك من يتبعه. كانت الشوارع مظلمة، والريح تحمل همساتٍ غريبة. توقف يوسف ونظر خلفه، لكنه لم يرَ سوى الظلال. لكنه كان يعلم أن الإمبراطورية لا تسامح من يتحدونها.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يلتقي بأناسٍ يشاركونه رؤيته. كان هناك خالد، الشاب الفلسطيني الذي التقاه في القاهرة، والذي أصبح الآن مناضلًا في جنوب لبنان. كان خالد يحمل في عينيه حلم العودة، لكنه كان أيضًا يؤمن بأفكار يوسف عن الاقتصاد الإنتاجي. "إذا أردنا أن نحرر أرضنا"، قال خالد ذات يوم، "يجب أن نحرر أنفسنا أولًا من أغلال التبعية." كان هناك أيضًا أمين، العامل من جنوب لبنان، الذي كان يحكي عن قريته التي دمرها الفقر والحرب. "نحن لا نريد مساعدات"، قال أمين، "نريد أن نبني بأيدينا." هؤلاء الناس، بقصصهم البسيطة، جعلوا يوسف يشعر أن حلزونه ليس مجرد فكرة، بل حقيقةٌ تتحرك في قلوب الناس.
في عام 1967، هزت هزيمة العالم العربي في الحرب يوسف بعمق. كان يرى في تلك الهزيمة ليس مجرد خسارة عسكرية، بل دليلًا على ضعف النظام الريعي. كتب في يومياته: "لقد خسرنا لأننا نسينا أنفسنا. نسينا أننا قادرون على البناء، على الإبداع، على المقاومة." في تلك الفترة، بدأ يوسف يسافر إلى مدنٍ عربية أخرى، يحاضر في الجامعات والمراكز الثقافية. في الجزائر، تحدث عن الحاجة إلى اقتصادٍ يخدم الشعب، لا النخب. في دمشق، دعا إلى وحدةٍ عربية تقوم على العدالة، لا على الشعارات. في بغداد، حذر من مخاطر الاعتماد على النفط، الذي رآه كالسم الذي يقتل ببطء.
لكن مع كل محاضرة، كانت الظلال تكبر. كان هناك من يراقبونه، من يسجلون كلماته، من يحاولون تشويه صورته. في إحدى المحاضرات في بيروت، اقترب منه رجلٌ ببدلةٍ أنيقة وقال: "كلماتك خطرة، يا سيد يوسف. إنها تهدد الاستقرار." رد يوسف بسخريةٍ مريرة: "الاستقرار الذي تتحدث عنه هو استقرار القيد. أنا أتحدث عن استقرار الحرية." تلك الكلمات جعلت الرجل يصمت، لكن يوسف شعر أن الظلال أصبحت أقرب.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يشعر بالوحدة. كان يعلم أن أفكاره تجعل منه غريبًا في عالمٍ يفضل الصمت على الحقيقة. لكنه لم يكن وحيدًا تمامًا. كان هناك أصدقاء مثل خالد وأمين، وكان هناك طلابٌ بدأوا يقرأون كتبه ويحضرون محاضراته. في إحدى الليالي، تلقى يوسف رسالةً من طالبةٍ شابة في الجامعة. كتبت: "كتابك، *حلزون التاريخ*، جعلني أرى العالم بطريقةٍ مختلفة. جعلني أؤمن أننا يمكن أن نغير مصيرنا." تلك الرسالة جعلت يوسف يبتسم، لكنه شعر أيضًا بثقل المسؤولية. كان يعلم أن كلماته ليست مجرد كلمات—كانت بذورًا يجب أن تنمو.
في عام 1970، قرر يوسف أن يترك عمله في الوزارة. لم يعد يستطيع تحمل الشعور بأنه جزءٌ من نظامٍ يخنق الشعب. قرر أن يواصل نضاله من خلال الكتابة والتدريس. بدأ يحاضر في الجامعات، يلتقي بالطلاب، يزرع فيهم أفكارًا عن العدالة والتحرر. لكنه كان يعلم أن الطريق طويل، وأن الإمبراطورية لن تسامح من يتحدونها. في إحدى الليالي، بينما كان يجلس في مكتبه، كتب في يومياته: "الظلال تحيط بي، لكنني لن أتوقف. الحلزون يصعد، وأنا معه."
في تلك الفترة، بدأ يوسف يرى بوادر أمل. كانت هناك حركاتٌ مقاومة تتشكل في جنوب لبنان، في فلسطين، في أماكن أخرى من العالم العربي. كان الناس يبدأون يستيقظون، يرفضون الخضوع لنظامٍ يسرق أحلامهم. في إحدى المرات، التقى يوسف بقائدٍ من حركة مقاومة في جنوب لبنان. كان الرجل يتحدث عن المقاومة العسكرية، لكن يوسف قال له: "المقاومة ليست فقط بالسلاح. إنها بالوعي. إذا لم نحرر عقولنا من أغلال الريعية، فلن نحرر أرضنا." كان الرجل يستمع بصمت، لكنه أومأ برأسه، كأنه يدرك أن يوسف يرى شيئًا أعمق.
في تلك السنوات، بدأ يوسف يشعر أن حلزون التاريخ بدأ يتحرك. لكنه كان يعلم أن الصعود لن يكون سهلًا. كانت الإمبراطورية قوية، والنخب المحلية متواطئة، والشعب لا يزال يعاني تحت وطأة الفقر والظلم. لكنه كان يؤمن أن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، هي جزءٌ من الصعود. في إحدى الليالي، بينما كان ينظر إلى سماء بيروت المضيئة بالنجوم، شعر أن الحلزون يتحرك داخله، وأن الظلال، مهما كانت كثيفة، لن تستطيع إيقافه.
في النهاية، كان يوسف يعلم أن نضاله لن يكتمل في يومٍ أو سنة. لكنه كان يؤمن أن البذور التي يزرعها ستزهر يومًا. كتب في يومياته: "الإمبراطورية قوية، لكن الشعوب أقوى. الحلزون يصعد، ونحن معه." تلك الكلمات، التي كتبها في ليلةٍ هادئة في بيروت، كانت بمثابة وعدٍ لنفسه ولشعبه—وعدٌ بأن النضال سيستمر، مهما كانت العواقب.
الفصل الثالث: مرآة الحقيقة
في صيف عام 2010، وصل يوسف الحلزوني إلى مدينة لييج البلجيكية، مدينةٍ غريبة الأطوار، حيث تمتزج رائحة الفولاذ الصناعي بحنين المباني القديمة. كان قد دُعي لإلقاء محاضرة في مكانٍ يُدعى سيتي ميروار، وهو فضاءٌ غريب تحول من حماماتٍ عمومية إلى معبدٍ للفكر والتأمل، قاعاته مغطاة بجدرانٍ زجاجية تعكس وجوه الحاضرين كأنها مرايا الروح. لم يكن يوسف قادمًا كعالم اقتصادٍ أو وزيرٍ سابق، بل كشاعرٍ للتاريخ، رجلٍ يحمل في قلبه خريطةً للحلزون الذي آمن أنه سيصعد يومًا، حاملًا أحلام الأمة العربية المحاصرة. كانت المدينة باردة، لكن يوسف شعر بدفءٍ داخلي، دفء الرجل الذي يعلم أن كلماته قد تكون بذورًا في أرضٍ جرداء، تنتظر المطر لتنبت.
عندما دخل سيتي ميروار، استقبله منظمون من المركز الثقافي العربي في المدينة، وجوههم مزيج من الفضول والترقب. لم يكن جمهوره من النخب الأكاديمية التي اعتاد التحدث إليها في باريس أو بيروت، بل كانوا أناسًا عاديين—عمالٌ مهاجرون، طلابٌ يبحثون عن معنى، نساءٌ يحملن في عيونهن قصص المنفى. كانوا يجلسون في قاعةٍ مضاءة بنورٍ خافت، جدرانها الزجاجية تعكس وجوههم كأنها لوحةٌ حية. وقف يوسف أمامهم، رجلٌ في السبعين من عمره، شعره الأبيض يتوهج تحت الضوء، وعيناه تحملان حكمة الأزمنة. بدأ حديثه بصوتٍ هادئ، لكنه كان يحمل قوة الريح التي تهز الأشجار القديمة. "الاقتصاد الريعي"، قال، "ليس مجرد نظامٍ اقتصادي. إنه سجنٌ نفسي، يجعلنا نؤمن أننا عاجزون، أننا لا نستطيع إلا أن نمد أيدينا لنأخذ الفتات من موائد الإمبراطوريات."
كلماته لم تكن مجرد تحليلٍ اقتصادي. كانت مرآةً تعكس الواقع العربي الممزق. تحدث عن العالم العربي، عن أمةٍ كانت يومًا مركزًا للحضارة، لكنها الآن محاصرة بأغلال النفط، التحويلات، والمساعدات الأجنبية. "هذا النظام"، قال، "ليس مصادفة. إنه تصميمٌ صيغته قوى الاستعمار وحافظت عليه نخبٌ متواطئة. إنه يخنق الإبداع، يقتل الأمل، ويجعلنا نؤمن أن مصيرنا هو التبعية." لكنه لم يتوقف عند النقد. كان صوته يحمل نغمة الأمل، كأنه يزرع بذورًا في قلوب الحاضرين. "لكن الحلزون يصعد"، قال، "وكل خطوة نقاوم فيها، كل فكرة نزرعها، هي جزءٌ من هذا الصعود."
في تلك القاعة، كان الجمهور يستمع بصمتٍ عميق. كان هناك رجلٌ مسن، مهاجرٌ من المغرب، يومئ برأسه كأنه يتذكر أيامًا كان فيها يحلم بوطنٍ حر. كانت هناك امرأةٌ شابة، فلسطينية، عيناها تلمعان بالدموع وهي تستمع إلى كلمات يوسف عن غزة، تلك الجرح النازف في قلب العروبة. "غزة"، قال يوسف، "ليست مجرد مكان. إنها رمزٌ لنضالنا، لصمودنا، لإيماننا بأن الحلزون سيصعد مهما كانت العواقب." تحدث عن تراجع الوحدة العربية، عن كيف أن الإبادة والخيانة مزقتا حلم الأمة، لكنه أصر على أن الأمل لم يمت. "في كل جرح"، قال، "تكمن بذرة مقاومة. وفي كل مقاومة، تكمن بذرة مستقبل."
كلماته كانت كالريح التي تحمل رائحة الأرض بعد المطر. كانت تعكس الواقع المرير، لكنها أيضًا كانت تدعو إلى اليقظة. في تلك القاعة، شعر الحاضرون أن الحلزون بدأ يتحرك داخلهم، يصعد ببطء لكنه لا يتوقف. كان هناك شابٌ يُدعى خالد، فلسطينيٌ منفي، جلس في الصف الأخير، يحمل في عينيه حزن الشتات وحلم العودة. عندما انتهت المحاضرة، اقترب من يوسف وسأله: "كيف نصعد الحلزون، يا أستاذ؟ النظام قوي، والظلال تحيط بنا." نظر يوسف إليه، وضع يده على كتفه، وقال: "بالوعي. عندما ندرك أن ثروتنا ليست في النفط أو المساعدات، بل في أيدينا وعقولنا، عندها يبدأ الحلزون بالصعود."
تلك الليلة، بعد المحاضرة، جلس يوسف في مقهى صغير قرب سيتي ميروار. كانت المدينة هادئة، والريح الباردة تحمل همسات المنفى. كان يجلس بمفرده، لكنه لم يشعر بالوحدة. كان يشعر أن كلماته قد وصلت إلى قلوب الحاضرين، أنها قد زرعت شيئًا سيستمر في النمو. في تلك اللحظة، تذكر جده وهو يتحدث عن الحلزون في حديقة الإسكندرية. شعر أن جده كان معه، يبتسم من بعيد، كأنه يقول: "واصل، يا يوسف. الحلزون يتحرك."
في الأيام التالية، استمر يوسف في التفكير في تلك المحاضرة. كان يعلم أن كلماته ليست مجرد كلمات، بل كانت دعوةً للنضال. كتب في يومياته: "المرآة لا تكذب. إنها تعكس ما نحن عليه، لكنها أيضًا تُظهر ما يمكن أن نكونه." كان يرى في سيتي ميروار رمزًا لما يسعى إليه—مكانًا يتحول من الظلام إلى النور، من العبودية إلى التأمل. لكنه كان يعلم أن الطريق لن يكون سهلًا. كانت الظلال لا تزال تحيط به، ظلال الإمبراطورية التي تراقب كل خطوة يخطوها.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يتلقى دعواتٍ من مدنٍ أخرى في أوروبا. كان هناك اهتمامٌ متزايد بأفكاره، خاصة بين المهاجرين العرب الذين كانوا يبحثون عن معنى في عالمٍ يرفضهم. في باريس، تحدث في مؤتمرٍ استضافته صحيفةٌ عالمية، حيث انتقد الاقتصاد الريعي بقوة أكبر. "النفط ليس نعمة"، قال، "بل نقمة عندما يجعلنا نعتمد على الآخرين بدلاً من أن نبني بأيدينا." تحدث عن "الكسل التكنولوجي" الذي يعاني منه العالم العربي، مقارنًا إياه بديناميكية دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. كانت كلماته تلك بمثابة صرخةٍ ضد النظام العالمي، دعوةً للعالم العربي لكي يصوغ طريقه الخاص.
لكن مع كل محاضرة، كانت الظلال تكبر. كان هناك من يراقبونه، من يسجلون كلماته، من يحاولون تشويه صورته. في إحدى المرات، تلقى يوسف رسالةً مجهولة تحذره من "التدخل في أمورٍ أكبر منه". لكنه لم يهتم. كان يعلم أن الإمبراطورية لا تحب من يتحدونها، لكنه كان يؤمن أن الحقيقة أقوى من التهديدات. في إحدى الليالي، بينما كان يسير في شوارع لييج، شعر أن هناك من يتبعه. كانت الشوارع مظلمة، والريح تحمل همساتٍ غريبة. توقف ونظر خلفه، لكنه لم يرَ سوى الظلال. لكنه كان يعلم أن الظلال ليست مجرد ظلال—كانت عيون الإمبراطورية تراقبه.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يكتب كتابًا جديدًا، مرآة الحقيقة. كان الكتاب استمرارًا لأفكاره عن حلزون التاريخ، لكنه كان أكثر تركيزًا على الوعي. "الوعي"، كتب، "هو السلاح الأقوى. عندما ندرك أننا لسنا عاجزين، أننا قادرون على البناء والإبداع، عندها نكسر أغلال الريعية." كان الكتاب بمثابة دعوةٍ للشعوب العربية لكي تستيقظ، لكي ترفض أسطورة التفوق الغربي، لكي تصوغ مستقبلها بنفسها. لكنه كان أيضًا تحذيرًا من مرونة الإمبراطورية. "الإمبراطورية ليست مجرد جيوش وبنوك"، كتب. "إنها أيضًا أفكار، أساطير، أكاذيب تجعلنا نؤمن أننا أقل."
في إحدى الليالي، بينما كان يوسف يجلس في غرفته في لييج، تلقى رسالةً من صديقٍ قديم في بيروت. كانت الرسالة تحمل أخبارًا عن حركةٍ مقاومة جديدة تتشكل في جنوب لبنان. "الناس يتحدثون عن أفكارك"، كتب الصديق. "إنهم يرون في حلزونك أملًا." قرأ يوسف الرسالة وابتسم. كان يعلم أن الطريق طويل، لكنه كان يؤمن أن البذور التي زرعها ستنمو يومًا. في تلك اللحظة، تذكر كلمات جده عن الحلزون، وشعر أن الحلزون يتحرك، ليس فقط في قلبه، بل في قلوب الناس من حوله.
في الأيام التالية، بدأ يوسف يلتقي بمزيدٍ من الأشخاص الذين تأثروا بأفكاره. كان هناك طلابٌ شباب في لييج، يحلمون بوطنٍ عربي يتحرر من التبعية. كان هناك عمالٌ مهاجرون، يتحدثون عن قراهم التي دمرها الفقر والحرب. كان هناك نساءٌ يحملن في قلوبهن أحلامًا لأطفالهن. هؤلاء الناس، بقصصهم البسيطة، جعلوا يوسف يشعر أن حلزونه ليس مجرد فكرة، بل حقيقةٌ تتحرك في الواقع.
في إحدى المرات، التقى يوسف بامرأةٍ عجوز في سيتي ميروار. كانت تنحدر من سوريا، وكانت تحمل في يدها صورةً قديمة لعائلتها. اقتربت منه بعد المحاضرة وقالت: "كلماتك جعلتني أتذكر أيامًا كنا فيها نحلم بوحدةٍ عربية. هل لا يزال هناك أمل؟" نظر يوسف إليها، وابتسم ابتسامةً هادئة. "الأمل موجود"، قال. "إنه في قلوبنا، في أيدينا، في إيماننا بأننا قادرون على تغيير المصير." تلك الكلمات جعلت المرأة تبتسم، وكأنها رأت في عيني يوسف مرآةً تعكس أحلامها القديمة.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يشعر بثقل المسؤولية. كان يعلم أن كلماته ليست مجرد كلمات، بل كانت أمانةً يجب أن يحملها. كان يعلم أن الإمبراطورية لن تسامح من يتحدونها، لكنه كان يؤمن أن الحقيقة أقوى من الخوف. في إحدى الليالي، بينما كان ينظر إلى سماء لييج المضيئة بالنجوم، شعر أن الحلزون يتحرك داخله، وأن الظلال، مهما كانت كثيفة، لن تستطيع إيقافه. كتب في يومياته: "المرآة لا تكذب. إنها تُظهر الحقيقة، لكنها أيضًا تُظهر الأمل. الحلزون يصعد، ونحن معه."
في النهاية، كانت محاضرة يوسف في سيتي ميروار بمثابة نقطة تحول. لم تكن مجرد محاضرة، بل كانت دعوةً لليقظة، للنضال، للإيمان بأن الشعوب قادرة على صنع مصيرها. عندما غادر لييج، كان يحمل في قلبه شعورًا بالأمل، شعورًا بأن الحلزون بدأ يتحرك، ليس فقط في قلبه، بل في قلوب الناس الذين استمعوا إليه. كان يعلم أن الطريق طويل، لكنه كان يؤمن أن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، هي جزءٌ من صعود الحلزون.
الفصل الرابع: خطيئة الوعي
عندما عُين يوسف الحلزوني وزيرًا للمالية في حكومة لبنانية هشة في أواخر التسعينيات، كان ذلك بمثابة إعلان حرب صامتة ضد نظامٍ عالميٍ يقوم على التبعية والخضوع. لم يكن تعيينه مجرد قرارٍ سياسي عابر، بل كان تحديًا لأغلال الاقتصاد الريعي التي كانت تكبل لبنان والعالم العربي بأسره. كانت بيروت في تلك الفترة مدينةً تعيش على حافة الهاوية، شوارعها تملؤها أصوات التجار والباعة المتجولين، لكن تحت هذه الضجة كان هناك صمتٌ ثقيل، صمت الشعب الذي يعاني تحت وطأة الديون والفقر. دخل يوسف مكتبه في الوزارة، وهو يحمل في قلبه أحلامًا كبيرة، لكنه سرعان ما اكتشف أن الجدران من حوله ليست مجرد جدران، بل كانت مرايا تعكس وجه نظامٍ مصمم للحفاظ على الوضع الراهن. كان المكتب مزدحمًا بالملفات، بالتقارير التي تحكي عن ديونٍ متراكمة، عن ثرواتٍ تتدفق إلى جيوب النخب، عن شعبٍ يتضور جوعًا بينما النخب تعيش في قصورٍ من زجاج وذهب.
كان يوسف يعلم أن مهمته لن تكون سهلة. كان قد قضى سنواتٍ يكتب ويحاضر عن حلزون التاريخ، عن ضرورة تحرير العالم العربي من أغلال الريعية، لكنه الآن يواجه الاختبار الحقيقي: هل يمكن لأفكاره أن تتحول إلى واقع؟ بدأ يوسف عمله بطموحٍ كبير. اقترح إصلاحاتٍ جريئة—خفض أسعار الفائدة التي كانت تخنق الاقتصاد، فرض ضرائب عادلة على الأثرياء، تحويل الاقتصاد من ريعي يعتمد على النفط والمساعدات إلى اقتصادٍ إنتاجي يعتمد على العمل والإبداع. كان يحلم بمصانع تنتج، بمزارع تزدهر، بمدارس تعلم الأطفال كيف يبنون المستقبل بأيديهم. لكن كل اقتراحٍ قدمه قوبل بمقاومةٍ شرسة. كان هناك زملاء في الوزارة ينظرون إليه كما لو كان غريبًا، رجلًا يتحدث بلغةٍ لا يفهمونها. كان هناك مستشارون أجانب يزورون المكتب، يحملون تقارير من بنوكٍ عالمية، يطالبون بسياساتٍ تزيد من الديون وتضعف الشعب.
في إحدى الجلسات، وقف يوسف أمام مجلس الوزراء وقال: "لا يمكننا أن نستمر في بيع أحلام شعبنا مقابل قروضٍ من الخارج. يجب أن نبني اقتصادًا يخدم الناس، لا النخب." كانت كلماته تلك بمثابة صاعقة. صمتت الغرفة، وتبادل الوزراء النظرات. أحدهم، رجلٌ بدين يدخن سيجارًا باهظ الثمن، قال بسخرية: "هذا غير واقعي، يا سيد يوسف. العالم يعمل هكذا. النفط والمساعدات هي مصدر قوتنا." رد يوسف بحدة: "قوتنا ليست في النفط، بل في شعبنا. إذا استمررنا في هذا الطريق، سنظل عبيدًا للإمبراطورية." تلك الكلمات جعلت الغرفة تغلي، لكن يوسف شعر أن الظلال من حوله أصبحت أكثر كثافة.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يشعر كأنه محاصر في متاهةٍ لا نهائية. كل قرارٍ يحاول اتخاذه كان يواجه بحواجز—مستشارون يرفضون، بنوك تتحكم، نخب محلية تخاف من التغيير. كان يشعر أحيانًا كأنه يقاتل وحشًا لا يُرى، وحشًا يتحكم بكل شيء من خلف الستار. في إحدى الليالي، بينما كان يعمل على ميزانية الدولة، رفع عينيه عن الأوراق ونظر إلى النافذة. كانت بيروت نائمة، لكن يوسف شعر أن هناك شيئًا يتحرك في الظلال، شيئًا يراقبه. كتب في يومياته تلك الليلة: "أحيانًا، أشعر أنني أقاتل شبحًا. لكنني أرى في عيون الناس—العامل، الفلاح، الطالب—نورًا يجعلني أستمر."
في إحدى الجلسات مع ممثلي بنكٍ دولي، وجد يوسف نفسه في مشهدٍ غريب، كأنه خارج من حلمٍ ساخر. كان الرجال يرتدون بدلاتٍ لامعة، وجوههم خالية من التعبير، كأنهم تماثيل من شمع. تحدثوا عن "الاستقرار" و"النمو الاقتصادي"، لكنهم في الحقيقة كانوا يطالبون بسياساتٍ تزيد من ديون لبنان وتضعف شعبه. "الاستقرار هو الأولوية"، قال أحدهم بصوتٍ ميكانيكي. رد يوسف بسخريةٍ مريرة: "الاستقرار الذي تتحدثون عنه هو استقرار القيد. أنتم تريدوننا عبيدًا لديونكم، بينما شعبي يتضور جوعًا." صمت الرجال، لكن يوسف شعر أن عيونهم تخترقه، كأنها تحذره من عواقب كلماته.
تلك الليلة، عندما عاد يوسف إلى منزله، وجد رسالةً مجهولة على مكتبه. كانت مكتوبة بخطٍ مرتب، لكن الكلمات كانت باردة كالثلج: "كلماتك خطرة، يا سيد يوسف. توقف قبل أن تفقد كل شيء." لم يكن يوسف خائفًا، لكنه كان يعلم أن الإمبراطورية لا تسامح من يتحدونها. في اليوم التالي، التقى بصديقه القديم خالد، المناضل الفلسطيني، في مقهى صغير في بيروت. حكى له عن الرسالة، لكن خالد ابتسم وقال: "إذا كانوا يهددونك، فهذا يعني أنك على الطريق الصحيح. الظلال تخاف من النور." تلك الكلمات جعلت يوسف يشعر بالقوة، لكنه كان يعلم أن الطريق أمامه مليء بالمخاطر.
في الأشهر التالية، واجه يوسف مقاومةً متزايدة. كانت البنوك ترفض إصلاحاته، والنخب المحلية تتهمه بالتطرف، والسفارات الأجنبية ترسل مستشارين يحذرونه من "التدخل في أمورٍ أكبر منه". لكنه لم يتوقف. كان يؤمن أن الوعي هو السلاح الأقوى، وأن الشعب، إذا استيقظ، يمكن أن يكسر أغلال الريعية. بدأ يلتقي بالناس في الشوارع، في الأسواق، في القرى. كان يتحدث إليهم عن حلزون التاريخ، عن أهمية بناء اقتصادٍ يخدم الجميع، لا الأقلية. في إحدى القرى في جنوب لبنان، التقى برجلٍ عجوز يُدعى أمين، كان يعمل في الحقول طوال حياته. قال أمين: "نحن لا نريد مساعدات. نريد أن نبني بأيدينا." تلك الكلمات جعلت يوسف يشعر أن حلزونه يتحرك، ليس فقط في كتبه، بل في قلوب الناس.
في تلك الفترة، بدأ يوسف يكتب كتابًا جديدًا، خطيئة الوعي. كان الكتاب بمثابة صرخةٍ ضد النظام العالمي، دعوةٍ للشعوب لكي تستيقظ وترفض أسطورة التفوق الغربي. "الوعي"، كتب، "هو الخطيئة التي تخافها الإمبراطورية. عندما ندرك أننا لسنا عاجزين، أننا قادرون على البناء والإبداع، عندها نكسر أغلال الريعية." كان الكتاب أيضًا تحذيرًا من مرونة الإمبراطورية. "الإمبراطورية ليست مجرد جيوش وبنوك"، كتب. "إنها أيضًا أفكار، أساطير، أكاذيب تجعلنا نؤمن أننا أقل."
لكن الكتاب لم يكن موضع ترحيب من الجميع. كانت هناك أصواتٌ في بيروت بدأت تهمس عن يوسف، تصفه بأنه "مثير للقلاقل"، "حالمٌ غير واقعي". تلقى رسائل تهديدٍ أخرى، بعضها مكتوب بخطوطٍ مرتبة، وبعضها بخطوطٍ متعجلة كأنها كتبت في غضب. في إحدى الليالي، بينما كان يسير في شوارع بيروت، شعر أن هناك من يتبعه. كانت الشوارع مظلمة، والريح الريح تحمل همساتٍ غريبة. توقف ونظر خلفه، لكنه لم يرَ سوى الظلال. لكنه كان يعلم أن الظلال ليست مجرد ظلال—كانت عيون الإمبراطورية تراقبه.
في إحدى المرات، التقى يوسف بقائدٍ من حركة مقاومة في جنوب لبنان. كان الرجل يتحدث عن المقاومة العسكرية، لكن يوسف قال له: "المقاومة ليست فقط بالسلاح. إنها بالوعي. إذا لم نحرر عقولنا من أغلال الريعية، فلن نحرر أرضنا." كان الرجل يستمع بصمت، لكنه أومأ برأسه، كأنه يدرك أن يوسف يرى شيئًا أعمق. تلك اللحظة جعلت يوسف يشعر أن أفكاره بدأت تصل، لكنه كان يعلم أن الطريق طويل.
في النهاية، اضطر يوسف لترك منصبه. لم يكن بإمكانه الاستمرار في نظامٍ يرفض التغيير. لكنه لم يستسلم. قرر أن يواصل نضاله من خلال الكتابة والتدريس، زارعًا بذور الوعي في قلوب الناس. كتب في يومياته: "الإمبراطورية قوية، لكن الشعوب أقوى. الحلزون يصعد، وأنا معه." تلك الكلمات، التي كتبها في ليلةٍ هادئة في بيروت، كانت بمثابة وعدٍ لنفسه ولشعبه—وعدٌ بأن النضال سيستمر، مهما كانت العواقب.
الفصل الخامس: إرث النبي
في صيف عام 2024، كانت بيروت تغرق في حرارةٍ ثقيلة، كأن المدينة تحمل على كتفيها أوزار التاريخ. كان يوسف الحلزوني، الآن في الرابعة والثمانين من عمره، يجلس في شقته الصغيرة المطلة على البحر، محاطًا بالكتب التي كتبها على مدار عقود. كانت الجدران مغطاة بأرففٍ مكتظة، كل كتابٍ عليها يحمل جزءًا من روحه—*حلزون التاريخ*، *ظلال الإمبراطورية*، *مرآة الحقيقة*، *خطيئة الوعي*. كانت الكتب بمثابة مناراتٍ مضيئة في عالمٍ غارقٍ في الظلام، تحكي قصة رجلٍ آمن أن التاريخ ليس قدرًا مفروضًا، بل قماشًا يمكن للشعوب أن تنسجه بأيديها. لكنه كان يشعر، في تلك الأيام الأخيرة من حياته، بثقل السنوات. كان جسده قد ضعف، لكن عينيه لا تزالان تحملان بريق الأمل، وقلبه لا يزال ينبض بنبض الحلزون الذي آمن به طوال حياته.
في تلك الأيام، كان يوسف يقضي ساعاتٍ طويلة ينظر إلى البحر من شرفة شقته. كان البحر يذكره بطفولته في الإسكندرية، بأيامٍ كان يراقب فيها الحلزونات في الحديقة، بكلمات جده التي ظلت ترن في أذنيه: "التاريخ حلزون، يا يوسف. إنه يصعد ويهبط، لكنه لا يتوقف." كان يشعر أن حياته كلها كانت محاولةً لفهم هذا الحلزون، لدفعه للصعود، لزرع بذور الأمل في قلوب الناس. لكنه كان يعلم أيضًا أن الظلال لا تزال تحيط به—ظلال الإمبراطورية التي حاربها طوال حياته، ظلال النخب التي رفضت أفكاره، ظلال الخيانات التي مزقت العالم العربي.
في إحدى الليالي، بينما كان يجلس في مكتبه، شعر يوسف بألمٍ خفيف في صدره. لم يكن خائفًا، لكنه كان يعلم أن الوقت يقترب. أمسك قلمه، ذلك القلم الذي كتب به أكثر من سبعين كتابًا، وبدأ يكتب في يومياته: "المستقبل لا يكتب في دفاتر الإمبراطوريات، بل في قلوب من يجرؤون على الحلم وراءها." كانت تلك الكلمات بمثابة وصيته، وعدٍ للأجيال القادمة بأن النضال سيستمر، حتى لو لم يكن هو هنا ليراه. في تلك اللحظة، تذكر محاضرته في سيتي ميروار، تلك القاعة الزجاجية في لييج حيث وقف قبل سنوات، يتحدث إلى جمهورٍ من العمال والمهاجرين والطلاب، يزرع فيهم بذور الوعي. شعر أن صوته لا يزال يتردد في تلك القاعة، كأنه شبحٌ يرفض أن يتلاشى.
في الأيام الأخيرة من حياته، بدأ يوسف يتلقى رسائل من أناسٍ لم يلتقِ بهم من قبل. كانت هناك رسالة من طالبةٍ شابة في القاهرة، كتبت: "كتبك جعلتني أؤمن أننا قادرون على تغيير مصيرنا." كانت هناك رسالة من عاملٍ في جنوب لبنان، قال: "أفكارك عن الحلزون جعلتني أرى أن عملي في الحقل ليس مجرد عمل، بل جزءٌ من نضالٍ أكبر." كانت هناك رسالة من امرأةٍ فلسطينية في غزة، كتبت: "في وسط الدمار، كلماتك تذكرنا أن الحلزون لا يتوقف." تلك الرسائل جعلت يوسف يبتسم، لكنه شعر أيضًا بثقل المسؤولية. كان يعلم أن كلماته لم تكن مجرد كلمات، بل كانت بذورًا يجب أن تنمو.
في إحدى الليالي، زاره خالد، المناضل الفلسطيني الذي كان صديقه منذ أيام الشباب. كان خالد الآن رجلًا مسنًا، لكنه لا يزال يحمل في عينيه حلم العودة. جلسا معًا على الشرفة، ينظران إلى البحر، وتحدثا عن الأيام الخوالي. "هل تعتقد أننا اقتربنا من صعود الحلزون؟" سأل خالد. نظر يوسف إليه، وابتسم ابتسامةً هادئة. "الحلزون يتحرك، يا خالد"، قال. "قد لا نرى القمة في حياتنا، لكن كل خطوةٍ نخطوها، كل فكرةٍ نزرعها، هي جزءٌ من الصعود." صمت خالد للحظة، ثم أومأ برأسه، كأنه يدرك أن يوسف لم يكن يتحدث فقط عن أفكار، بل عن إيمان.
في تلك الفترة، كان يوسف يشعر أن الظلال من حوله أصبحت أكثر كثافة. كان يتلقى أخبارًا عن تفاقم الأزمات في العالم العربي—الحروب، الإبادة في غزة، انهيار الاقتصادات، تراجع حلم الوحدة العربية. لكنه لم ييأس. كان يؤمن أن كل أزمةٍ هي درس، وأن الحلزون يصعد حتى في أحلك اللحظات. في إحدى الليالي، كتب في يومياته: "الظلال قوية، لكن النور أقوى. كل جرحٍ في أمتنا هو بذرة مقاومة، وكل مقاومة هي خطوة نحو المستقبل."
في صباح يوم 14 أغسطس 2024، استيقظ يوسف مبكرًا كعادته. شعر بألمٍ خفيف في صدره، لكنه لم يهتم. جلس على الشرفة، ينظر إلى البحر، وفي ذهنه حلمٌ غريب رآه في تلك الليلة. كان قد رأى حلزونًا عملاقًا يصعد إلى السماء، يحمل على ظهره مدنًا عربية مزدهرة، خالية من أغلال الريعية. رأى الناس يعملون معًا، يبنون مصانع، يزرعون حقولًا، يعلمون أطفالهم كيف يحلمون. استيقظ من الحلم وهو يبتسم، كأنه رأى المستقبل الذي ناضل من أجله طوال حياته. في ذلك الصباح، أمسك قلمه وكتب جملته الأخيرة: "الحلزون يصعد، ونحن معه."
في تلك الليلة، رحل يوسف الحلزوني بهدوء، كأنه نجمٌ تلاشى في سماء بيروت. لكنه لم يمت. كان صوته لا يزال يتردد في الشوارع، في القاعات، في قلوب الناس. كتبه، التي ترجمت إلى لغاتٍ عدة، أصبحت مناراتٍ للأجيال الجديدة. في غزة، حمل الشباب كلماته كمشاعل، يذكرون أنفسهم بأن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل بالوعي. في بيروت، قرأ الطلاب كتبه في الجامعات، يناقشون أفكاره عن الحلزون والعدالة. في القرى المهجورة في جنوب لبنان، تحدث الناس عن رجلٍ آمن أن بإمكانهم بناء مستقبلٍ أفضل بأيديهم.
في الأيام التالية لوفاته، بدأت رسائل التعزية تصل من كل مكان. كتب أحد الطلاب: "كنت لنا منارة، يا أستاذ يوسف. كلماتك ستظل تضيء طريقنا." كتبت امرأةٌ من دمشق: "في زمن الظلام، كنت نورًا." كتب مناضلٌ من فلسطين: "حلزونك يتحرك، وسيستمر في الصعود." تلك الرسائل جعلت عائلة يوسف تدرك أن إرثه لم يمت. كان قد زرع بذورًا في قلوب الناس، بذورًا ستنمو يومًا إلى أشجارٍ عظيمة.
في إحدى الليالي، بعد وفاته، تجمع مجموعة من الشباب في سيتي ميروار في لييج، حيث ألقى يوسف محاضرته قبل سنوات. نظموا أمسيةً تكريمية له، قرأوا فيها مقاطع من كتبه، وتحدثوا عن أفكاره. كانت القاعة الزجاجية مضاءة بنورٍ خافت، وكأنها تعكس روح يوسف. وقف شابٌ في العشرين من عمره، يحمل كتاب *حلزون التاريخ*، وقال: "يوسف الحلزوني لم يكن مجرد رجل. كان حلزونًا يحمل على ظهره أحلام أمتنا. ونحن، اليوم، سنواصل صعوده." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يصفقون، كأنهم يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يراقبهم من بعيد.
في الأشهر التالية، بدأ إرث يوسف يتجلى في أماكن لم يتوقعها. في غزة، أسس شبابٌ مجموعةً للنقاش تُدعى "حلزون الأمل"، مستوحاة من أفكاره. في بيروت، بدأ طلاب الجامعات ينظمون حلقات دراسية حول كتبه، يناقشون كيف يمكن تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصادٍ إنتاجي. في قرى جنوب لبنان، بدأ الناس يتحدثون عن إحياء الأراضي الزراعية، مستلهمين فكرة يوسف عن الاعتماد على الذات. حتى في المنفى، في مدن أوروبا وأمريكا، بدأ المهاجرون العرب يقرأون كتبه، يجدون فيها أملًا في عالمٍ يرفضهم.
في إحدى الليالي، تجمع مجموعة من الشباب في مقهى صغير في بيروت، يتحدثون عن يوسف. كان هناك شابٌ يُدعى أمين، حفيد العامل الذي التقى به يوسف قبل عقود. قال أمين: "جدي كان يقول إن يوسف الحلزوني كان يرى المستقبل. كان يؤمن أننا قادرون على تغييره." ثم رفع كتاب *مرآة الحقيقة* وقال: "هذا ليس مجرد كتاب. إنه خريطة للحلزون." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يبتسمون، كأنهم يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يرشدهم من خلال كلماته.
في النهاية، كان إرث يوسف الحلزوني أكبر من حياته. لم يكن مجرد رجل، بل كان رؤية. كان حلزونًا يحمل على ظهره أحلام أمة، يصعد ببطء لكنه لا يتوقف. كان صوته دعوةً لليقظة، للنضال، للإيمان بأن الشعوب قادرة على صنع مصيرها. في غزة، في بيروت، في المنافي البعيدة، ظلت كلماته تتردد: "المستقبل لا يكتب في دفاتر الإمبراطوريات، بل في قلوب من يجرؤون على الحلم وراءها." ومع كل خطوةٍ يخطوها الشباب، مع كل فكرةٍ يزرعونها، كان الحلزون يصعد، حاملًا معه أمل أمةٍ ترفض أن تنكسر.
الخاتمة: صعود الحلزون
في شوارع بيروت المزدحمة، حيث تمتزج أصوات الباعة المتجولين برائحة البحر وأنفاس التاريخ، ظل شبح يوسف الحلزوني يتجول كأنه نسمةٌ خفية، يهمس في قلوب الناس، يذكرهم بأن الحلزون لا يتوقف عن الصعود. كانت وفاته في صيف 2024 ليست نهاية، بل بدايةً لرحلةٍ جديدة، رحلةٍ تحمل أفكاره عبر الأزمنة والأماكن، من القرى المهجورة في جنوب لبنان إلى مخيمات اللاجئين في فلسطين، من قاعات الجامعات في القاهرة إلى مقاهي المنفى في أوروبا. لم يكن يوسف مجرد رجل، بل كان رؤية، خريطةً للحلزون الذي آمن أنه سيحمل الأمة العربية نحو مستقبلٍ أكثر عدلاً، مستقبلٍ لا تكبله أغلال الريعية ولا ظلال الإمبراطورية. كانت حياته، كما كتب في يومياته الأخيرة، بمثابة وعدٍ للشعوب: "المستقبل لا يكتب في دفاتر الإمبراطوريات، بل في قلوب من يجرؤون على الحلم وراءها."
في الأشهر التي تلت وفاته، بدأ إرث يوسف يتجلى بطرقٍ لم يتوقعها حتى هو نفسه. في غزة، حيث كانت السماء تمطر نارًا والأرض تنزف دمًا، أسس شبابٌ مجموعةً أسموها "حلزون الأمل"، مستلهمين من كتبه. كانوا يجتمعون في خيامٍ مهترئة، يقرأون مقاطع من *حلزون التاريخ* و*مرآة الحقيقة*، يناقشون كيف يمكن للوعي أن يكون سلاحًا أقوى من القنابل. كانوا يؤمنون، كما آمن يوسف، أن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل بالفكر، بالإيمان بأن الشعب قادر على صنع مصيره. في إحدى الليالي، وقف شابٌ يُدعى محمود، يحمل كتاب خطيئة الوعي، وقال لرفاقه: "يوسف الحلزوني علمنا أن الظلال ليست أبدية. إذا استيقظنا، يمكننا أن نكسرها." تلك الكلمات، التي ترددت في خيمةٍ مضاءة بشمعةٍ واحدة، كانت بمثابة شعلةٍ أضاءت قلوب الحاضرين.
في بيروت، بدأ طلاب الجامعات ينظمون حلقات دراسية حول أفكار يوسف. كانوا يجتمعون في قاعاتٍ صغيرة، يناقشون كيف يمكن تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصادٍ إنتاجي، كيف يمكن للشعب أن يستعيد سيادته. كانت هناك طالبةٌ شابة تُدعى ليلى، كانت قد قرأت كل كتب يوسف، وكانت تحمل في قلبها حلمًا بوطنٍ لا يخنقه الفقر. في إحدى الحلقات، وقفت وقالت: "يوسف الحلزوني لم يكن يكتب لنا فقط عن الاقتصاد. كان يكتب عن كرامتنا، عن حقنا في أن نحلم." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يصفقون، كأنهم يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يرشدهم من خلال كلماته.
في قرى جنوب لبنان، بدأ الناس يتحدثون عن إحياء الأراضي الزراعية، مستلهمين فكرة يوسف عن الاعتماد على الذات. كان هناك مزارعٌ يُدعى حسن، حفيد أمين، العامل الذي التقى به يوسف قبل عقود. كان حسن يحمل في قلبه كلمات يوسف عن الحلزون، وكان يؤمن أن الأرض، إذا عُملت بأيدي الشعب، يمكن أن تكون مصدر قوة. في إحدى الأمسيات، جمع حسن أهل قريته وقال: "يوسف الحلزوني علمنا أن ثروتنا ليست في النفط أو المساعدات، بل في أيدينا. لنزرع أرضنا، لنبني مستقبلنا." بدأ أهل القرية يعملون معًا، يزرعون الحقول، يبنون بيوتًا صغيرة، كأنهم يحيون حلم يوسف.
حتى في المنفى، في مدن أوروبا وأمريكا، بدأ المهاجرون العرب يقرأون كتب يوسف، يجدون فيها أملًا في عالمٍ يرفضهم. في باريس، نظم مجموعة من المهاجرين أمسيةً تكريمية له، قرأوا فيها مقاطع من كتبه وتحدثوا عن أفكاره. كان هناك شابٌ يُدعى أحمد، كان قد هاجر من سوريا، وقال في الأمسية: "يوسف الحلزوني علمني أن المنفى ليس نهاية. إنه بدايةٌ لنضالٍ جديد. حلزونه يصعد، حتى في المنفى." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يرشدهم من خلال كلماته.
في تلك الأيام، بدأت أفكار يوسف تنتشر كالنار في الهشيم. كانت كتبه تُقرأ في الجامعات، في المقاهي، في البيوت المتواضعة. كانت كلماته تُناقش في الشوارع، في المخيمات، في الأزقة. كان الناس يتحدثون عن الحلزون، عن الوعي، عن الحاجة إلى تحرير العالم العربي من أغلال الريعية. لكن مع هذا الانتشار، كانت الظلال لا تزال تحيط بإرث يوسف. كانت هناك أصواتٌ تهمس في الغرف المغلقة، تصف أفكاره بأنها "خطرة"، "غير واقعية". كانت هناك محاولات لتشويه إرثه، لتصويره كحالمٍ يعيش في عالمٍ من الأوهام. لكن تلك الأصوات لم تستطع إخماد نور يوسف. كان إرثه أقوى من الظلال، لأنه كان متجذرًا في قلوب الناس.
في إحدى الليالي، تجمع مجموعة من الشباب في سيتي ميروار في لييج، حيث ألقى يوسف محاضرته قبل سنوات. كانت القاعة الزجاجية مضاءة بنورٍ خافت، وكأنها تعكس روح يوسف. قرأوا مقاطع من كتبه، وتحدثوا عن أفكاره. وقف شابٌ في العشرين من عمره، يحمل كتاب *حلزون التاريخ*، وقال: "يوسف الحلزوني لم يكن مجرد رجل. كان حلزونًا يحمل على ظهره أحلام أمتنا. ونحن، اليوم، سنواصل صعوده." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يصفقون، كأنهم يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يراقبهم من بعيد.
في غزة، ظل "حلزون الأمل" ينمو. بدأ الشباب ينظمون ورش عملٍ صغيرة، يعلمون فيها الأطفال كيف يزرعون، كيف يبنون، كيف يحلمون. كانوا يؤمنون، كما آمن يوسف، أن التعليم هو السلاح الأقوى، أن الوعي هو الطريق إلى الحرية. في إحدى الورش، وقفت فتاةٌ صغيرة تُدعى سلمى، تحمل كتاب : مرآة الحقيقة، وقالت: "يوسف الحلزوني علمنا أن نرى أنفسنا في المرآة، ليس كضحايا، بل كصانعي المستقبل." تلك الكلمات، التي خرجت من فم طفلةٍ لم تتجاوز العاشرة، جعلت الحاضرين يشعرون أن إرث يوسف سيستمر لأجيال.
في بيروت، بدأت حركةٌ جديدة تتشكل، حركةٌ تدعو إلى تحويل الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي. كان الشباب يجتمعون في المقاهي، يناقشون أفكار يوسف، يحلمون بوطنٍ يعتمد على نفسه. كان هناك شابٌ يُدعى زياد، كان قد قرأ كل كتب يوسف، وقال في إحدى الجلسات: "يوسف الحلزوني علمنا أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام. إنه قصة شعب، قصة كرامته." بدأ زياد ورفاقه يعملون على مشاريع صغيرة—مصانع صغيرة، مزارع تعاونية، ورش عمل لتعليم الشباب. كانوا يؤمنون أن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، هي جزء من صعود الحلزون.
في القرى المهجورة في جنوب لبنان، بدأ الناس يتحدثون عن يوسف كأنه أسطورة. كانوا يروون قصصًا عن رجلٍ جاء إلى قريتهم قبل عقود، تحدث عن الاعتماد على الذات، عن قوة الشعب. كان هناك مزارعٌ يُدعى علي، كان قد التقى بيوسف في شبابه. في إحدى الأمسيات، جمع أهل قريته وقال: "يوسف الحلزوني لم يكن يكتب لنفسه. كان يكتب لنا، لأطفالنا، لمستقبلنا." بدأ أهل القرية يعملون معًا، يزرعون الأرض، يبنون بيوتًا جديدة، كأنهم يحيون حلم يوسف.
حتى في المنفى، ظل إرث يوسف ينمو. في لندن، نظم مجموعة من المهاجرين العرب معرضًا لكتبه، عرضوا فيه أفكاره عن الحلزون والوعي. كانت هناك امرأةٌ تُدعى مريم، كانت قد هاجرت من العراق، وقالت في المعرض: "يوسف الحلزوني علمني أن المنفى ليس نهاية. إنه بدايةٌ لنضالٍ جديد." بدأت مريم ورفاقها ينظمون ورش عملٍ للمهاجرين، يعلمونهم كيف يحافظون على هويتهم، كيف يحلمون بوطنٍ أفضل.
في تلك الأيام، بدأت أفكار يوسف تنتشر خارج العالم العربي. كانت كتبه تُقرأ في أمريكا اللاتينية، في إفريقيا، في آسيا. كان الناس في تلك الأماكن يرون في أفكاره عن الحلزون والوعي انعكاسًا لنضالاتهم الخاصة. في إحدى الجامعات في البرازيل، نظم طلابٌ مؤتمرًا عن أفكار يوسف، تحدثوا فيه عن كيف يمكن للشعوب أن تتحرر من أغلال الريعية والاستعمار. كان هناك أستاذٌ يُدعى كارلوس، قال في المؤتمر: "يوسف الحلزوني لم يكن يكتب فقط للعرب. كان يكتب لكل شعبٍ يحلم بالحرية."
لكن مع هذا الانتشار، كانت هناك محاولاتٌ لإخماد إرث يوسف. كانت هناك أصواتٌ في الغرف المغلقة، في مكاتب البنوك، في أروقة السياسة، تحاول تشويه صورته. كانوا يقولون إنه كان حالمًا غير واقعي، رجلًا يعيش في عالمٍ من الأوهام. لكن تلك الأصوات لم تستطع إيقاف الحلزون. كان إرث يوسف متجذرًا في قلوب الناس، في إيمانهم بأن التاريخ ليس قدرًا، بل قماشًا يمكن نسجه بأيديهم.
في إحدى الليالي، تجمع مجموعة من الشباب في مقهى صغير في بيروت. كانوا يتحدثون عن يوسف، عن كتبه، عن أفكاره. كان هناك شابٌ يُدعى أمين، حفيد العامل الذي التقى به يوسف قبل عقود. قال أمين: "جدي كان يقول إن يوسف الحلزوني كان يرى المستقبل. كان يؤمن أننا قادرون على تغييره." ثم رفع كتاب مرآة الحقيقة وقال: "هذا ليس مجرد كتاب. إنه خريطة للحلزون." تلك الكلمات جعلت الحاضرين يبتسمون، كأنهم يشعرون أن يوسف لا يزال معهم، يرشدهم من خلال كلماته.
في النهاية، كانت رواية : سراب الصحراء ، أكثر من مجرد قصة عن رجل. كانت ملحمةً إنسانية، تحذيرًا من الطغيان، صراعًا ضد اللامعقول، دعوةً للشعوب لكي تستيقظ وتصنع مصيرها. يوسف الحلزوني لم يكن مجرد رجل، بل كان حلزونًا يحمل على ظهره أحلام أمة. كان صوته منارةً في الضباب، يضيء الطريق لمن يجرؤون على الحلم. والآن، كانت الكرة في ملعب الشعوب: هل ستصعد مع الحلزون، أم ستظل في ظلال الإمبراطورية؟ كان الحلزون يتحرك، ببطء لكنه لا يتوقف، حاملًا معه أمل أمةٍ ترفض أن تنكسر.
………..……
ملخص رواية: صحراء السراب
رواية : سراب الصحراء ، هي ملحمة فكرية وإنسانية مستوحاة من حياة وأفكار جورج قرم، تجمع بين الواقعية السحرية، النقد الاجتماعي، الرمزية السياسية، والشعرية الوطنية، لترسم صورة رجلٍ تحدى نظامًا عالميًا يخنق الشعوب تحت عباءة التقدم. بطل الرواية، يوسف الحلزوني، هو تجسيدٌ للوعي والمقاومة، رجلٌ يرى التاريخ كحلزونٍ يصعد عبر دورات النضال والخيانة، وليس كخطٍ مستقيم يقود إلى جنةٍ وهمية. من خلال حياته، التي تمتد من طفولته في الإسكندرية إلى وفاته في بيروت عام 2024، تروي الرواية قصة أمةٍ عربية تسعى لتحرير نفسها من أغلال الاقتصاد الريعي وظلال الإمبراطورية الأمريكية الفاشية ، عبر الوعي والإيمان بقدرة الشعب على صنع مصير تبدأ الرواية في الفصل الأول، "ولادة الحلزون"، بطفولة يوسف في قريةٍ ساحلية على شاطئ الإسكندرية عام 1940. في بيتٍ يفوح برائحة الكتب والموسيقى، نشأ يوسف محاطًا بقصص جده عن التاريخ والفن، وبحكايات والدته عن المنفى والشتات. في حديقة البيت، اكتشف يوسف حلزونًا غريبًا، يحمل على ظهره خريطةً متعرجة، كأنها دوامات الزمن. قال له جده: "التاريخ حلزون، يا يوسف. يصعد ويهبط، ولا يتقدم إلا بشجاعة من يحملونه." تلك الكلمات شكلت رؤيته للعالم. في مدرسة دينية بالقاهرة، تعلم يوسف القراءة النقدية، مستلهمًا أفكار الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية التي كانت تهز الشوارع في الخمسينيات. في باريس، حيث أكمل دراسته في المالية والقانون، أصبح كائنًا مزدوجًا: ابن الأمة يحلم بالتحرر، وعالمٌ يرى الأرقام كقصائد مكتوبة بدماء الشعوب. هناك، بدأ يتحدى أسطورة التقدم الغربي، وكتب مقالاته الأولى عن الاقتصاد الريعي، ذلك النظام الذي يخنق الأمة بالاعتماد على النفط والمساعدات. عند عودته إلى بيروت في الستينيات، انضم إلى وزارة المالية، آملًا أن يغير النظام من الداخل، لكنه اكتشف أن الأرقام ليست محايدة، بل أغلالٌ تكبل الشعب. في تلك الفترة، كتب كتابه الأول، حلزون التاريخ، الذي تحدى فكرة التقدم الخطي، مؤكدًا أن التاريخ حلزونٌ يصعد بالنضال، وأن كل هزيمة درس، وكل مقاومة خطوة نحو العدالة.
في الفصل الثاني، "ظلال الإمبراطورية"، يواجه يوسف واقعًا مريرًا في بيروت الممزقة بالطائفية والإمبريالية. في مكتبه الوزاري، شعر كأنه محاصر في متاهةٍ بيروقراطية، حيث كل قرارٍ يوقّعه يحمل رائحة الخيانة للشعب. كان الاقتصاد الريعي، الذي يتغذى على النفط وتحويلات المهاجرين، يخنق الأمل. في حلمٍ متكرر، رأى يوسف نفسه أمام مجلسٍ من الرجال ذوي الأقنعة الذهبية، يسألونه: "لماذا تتحدى نظامنا؟" فأجاب: "المال ليس إلهًا، والشعوب هي صانعة التاريخ." هذا الحلم كان انعكاسًا لواقعه، حيث واجه مقاومةً من النخب المحلية والبنوك الدولية. كتب يوسف كتابه الثاني، ظلال الإمبراطورية، محذرًا من نظامٍ عالمي مصمم لإبقاء العالم العربي تحت السيطرة. لكنه واجه تهديداتٍ مجهولة، ظلالًا تتبعه في شوارع بيروت المظلمة. رغم ذلك، التقى بأناسٍ مثل خالد، المناضل الفلسطيني، وأمين، العامل من جنوب لبنان، الذين ألهموه ليستمر. سافر إلى مدنٍ عربية، يحاضر عن الوعي والمقاومة، مؤكدًا أن الحلزون يتحرك بالإيمان. هزيمة 1967 عززت إيمانه بأن الخسارة ليست نهاية، بل درسٌ في طريق الصعود.
في الفصل الثالث، "مرآة الحقيقة"، يسافر يوسف إلى لييج عام 2010، ليلقي محاضرة في سيتي ميروار، فضاءٍ غريب تحول من حماماتٍ عمومية إلى معبدٍ للفكر. أمام جمهورٍ من العمال والمهاجرين والطلاب، تحدث عن الاقتصاد الريعي كسجنٍ نفسي يجعل الشعوب تؤمن بعجزها. "في كل جرح بذرة مقاومة"، قال، مشيرًا إلى غزة كرمزٍ للصمود. كلماته كانت مرآةً تعكس الواقع المرير، لكنها أيضًا زرعت الأمل. التقى بشابٍ فلسطيني يُدعى خالد، سأله: "كيف نصعد الحلزون؟" فأجاب يوسف: "بالوعي." كتب يوسف كتابه : مرآة الحقيقة ، داعيًا الشعوب إلى رفض أسطورة التفوق الغربي. رغم التهديدات التي تلقاها، شعر أن صوته بدأ يتردد في قلوب الناس، كأن الحلزون بدأ يتحرك.
في الفصل الرابع، "خطيئة الوعي"، يصبح يوسف وزيرًا للمالية في حكومةٍ لبنانية هشة. حاول إدخال إصلاحاتٍ جريئة—خفض الفوائد، فرض ضرائب عادلة، تحويل الاقتصاد إلى إنتاجي—لكنه واجه مقاومةً شرسة من البنوك الأمريكية والنخب والسفارات السعودية والقطرية والغربية . في جلسةٍ مع ممثلي بنكٍ دولي، قال بسخرية: "استقراركم هو استقرار القيد." كتب كتابه : خطيئة الوعي، مؤكدًا أن الوعي هو السلاح الأقوى ضد الإمبراطورية. لكنه تلقى تهديداتٍ مجهولة، وظلالٌ تتبعه في الشوارع. التقى بأناسٍ مثل أمين، العامل الذي ألهمه بإيمانه بالعمل، لكنه اضطر لترك منصبه، مدركًا أن النظام يرفض التغيير. واصل نضاله عبر الكتابة والتدريس، زارعًا بذور الوعي.
في الفصل الخامس، "إرث النبي"، يرحل يوسف في بيروت عام 2024، تاركًا إرثًا من الكتب وقلوبٍ مشتعلة. في حلمه الأخير، رأى حلزونًا عملاقًا يحمل مدنًا مزدهرة. كتب جملته الأخيرة: "الحلزون يصعد، ونحن معه." بعد وفاته، انتشر إرثه كالنار في الهشيم. في غزة، أسس الشباب "حلزون الأمل"، يقاومون بالوعي. في بيروت، ناقش الطلاب أفكاره، وحلموا بوطنٍ إنتاجي. في جنوب لبنان، بدأ المزارعون يحيون الأرض، مستلهمين فكرته عن الاعتماد على الذات. حتى في المنفى، قرأ المهاجرون كتبه، وجدوا فيها أملًا. إرث يوسف تجاوز العالم العربي، حيث ناقش طلابٌ في البرازيل أفكاره عن الحرية. رغم محاولات تشويه صورته، ظل صوته منارةً، يذكر الشعوب بقدرتها على صنع المستقبل.
صحراء السراب ، ليست مجرد قصة عن يوسف الحلزوني، بل دعوةٌ للشعوب للاستيقاظ، لرفض الخضوع، للإيمان بأن التاريخ حلزونٌ يصعد بالنضال. إنها ملحمةٌ إنسانية تحذر من الطغيان، وتتحدى اللامعقول، وتزرع الأمل في قلوب من يجرؤون على الحلم. السؤال الذي تتركه الرواية للقارئ هو: هل سنصعد مع الحلزون، أم سنظل في ظلال الإمبراطورية؟
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية : دموع الأرض المحلقة
-
رواية : أصداء الخفاء
-
رواية: عشرة أعوام من الرماد
-
رواية :رأس ابو العلاء المهشم !
-
رواية: إمبراطورية سامر السريع
-
رواية: أصداء الأفق المحطم
-
رواية : ارض النبض الكربلائي العجيب
-
رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز
-
رواية : رقصة الدم على رمال النفط
-
رواية: سنغافورة السراب
-
رواية: أنقاض الإمبراطورية: غزة تُحرر أمريكا
-
نهاية عصر الصهيونية: كيف تحولت أمريكا من عبدة اللوبي إلى ثوا
...
-
رواية: أسرى الشرق المفقود
-
سيرك الخيانة برعاية الروتشيلد
-
رواية : دون كيشوت الفرات والنيل
-
رواية :سلاسل العقل، أغلال القلب
-
مسرحية العدو الأمريكي والصهيوني الكوميدية
-
رواية لحن من الظلال..مع مقدمة نقدية تاريخية
-
رواية: الخاتم والنار
-
كيف تتحول الى إمبراطورية إعلامية تسخر من مردوخ
المزيد.....
-
آنا وينتور تدلي برأيها الحقيقي في فيلم -الشيطان يرتدي برادا-
...
-
فاطمة الشقراء... من كازان إلى القاهرة
-
هل يعود مسلسل (عدنان ولينا) من جديد؟!
-
فيلم -متلبسا بالسرقة-.. دارين آرنوفسكي يجرب حظه في الكوميديا
...
-
طالبان وتقنين الشعر.. بين الإبداع والرقابة
-
خطأ بالترجمة يسبب أزمة لإنتر ميلان ومهاجمه مارتينيز
-
فيلم -هند رجب- صرخة ضمير مدويّة قد تحرك العالم لوقف الحرب عل
...
-
خالد كمال درويش: والآن، من يستقبلنا بابتسامته الملازمة!
-
فنانون عالميون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسب
...
-
الترجمة بين الثقافة والتاريخ في المعهد الثقافي الفرنسي
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|