أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : أصداء الخفاء















المزيد.....



رواية : أصداء الخفاء


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 21:12
المحور: الادب والفن
    


مقدمة :
تبدأ الرواية "أصداء الخفاء" برؤية نقدية وأدبية عميقة تكشف عن أبعاد الإعلام كأداة للتضليل والهيمنة، مركزة على قناة الجذميرة، التي تُقدم كاستمرار لتاريخ التلاعب الإعلامي الذي ورثته عن تقاليد المخابرات البريطانية، وتحديداً قناة "بي بي سي" التي اشتهرت بصناعة الفتن وتفتيت المجتمعات من خلال أساليب التضليل. يستخدم الروائي اشتقاقاً ذكياً لاسم "الجذميرة" من كلمة "جذمة"، مشيراً إلى أنها أداة استعمارية تهدف إلى تدمير الأمم العربية الأكثر حضارة ووعياً، مستخدمة كوادر محلية تابعة – أو "كومبرادور" – لخدمة مصالح القوى الإمبريالية. تُظهر الرواية الإعلام كآلة معقدة تراكم طبقات من التشويهات، تحول الحقائق إلى مسلمات تعيق النمو الفكري وتدفع المجتمعات نحو الاقتتال الداخلي بناءً على تنميطات طائفية وقومية ومناطقية لا أساس لها. يُبرز السرد هذه القناة كجزء من استراتيجية إمبريالية أمريكية-غربية، مدعومة بمحميات خليجية مثل قطر والسعودية والإمارات، التي تمول الإبادات الجماعية وتدمير الدول العربية مثل سوريا واليمن والعراق، بينما تخدم مصالح الكيان الصهيوني وشركات المجمعات العسكرية الصناعية مثل بوينغ ولوكهيد مارتن. يُقدم الراوي نقداً لاذعاً لهذه الديناميكيات، مشيراً إلى أن هذه المحميات أنفقت تريليونات الدولارات لتدمير الأمة العربية، بينما تُصور قضية غزة كشأن فلسطيني خاص، متجاهلة أن انتصارها هو انتصار للأجيال العربية ضد الغزاة.

تتتبع الرواية، عبر فصولها الثمانية، رحلة البحث عن الحقيقة في عالم الإعلام المضلل، من خلال شخصيات متعددة تعكس تناقضات هذا العالم. في الفصل الأول، يُقدم يوسف، الصحفي الشاب من دمشق عام 2003، كرمز للأمل والطموح. يجلس في مقهى النور، يحلم بأن يكون مثل إدوارد هيكل، ويبدأ في التشكيك في الجذميرة بعد لقائه بأبو سمير، الذي يحذره من أن القناة، رغم رائحتها الساحرة، تخفي جذوراً مسمومة. يظهر فيصل الإسخريوطي، نجم الجذميرة، في برنامج يحيى الغفاري، وهو يتحدث عن الإعلام كصوت للمقاومة، لكن شكوك يوسف تبدأ في النمو حول حقيقة هذه القناة التي تعمل من قلب قاعدة العديم. يزرع هذا الفصل بذور الصراع الأساسي: البحث عن الحقيقة في مواجهة التضليل الإعلامي، مع إشارة إلى الدور الاستعماري للقناة في خدمة أجندات غربية وخليجية.

في الفصل الثاني، ننتقل إلى الدوحة عام 2011، حيث يظهر فيصل الإسخريوطي في ذروة شهرته كمقدم لبرنامج "الاتجاه المعاكس". لكنه لم يعد ذلك الصحفي المتواضع الذي كان في دمشق؛ فقد أصبح أداة في يد القناة، التي تخضع لتعليمات خالد بن جاسر، وزير الخارجية القطري. يعاني فيصل من صراع داخلي، مدركاً أن برنامجه، الذي يُقدم كمنصة للحوار الحر، يخدم أجندات قطرية وأمريكية. يتذكر صديقه يحيى الغفاري، الذي قُتل بعد وصفه آل سعود بـ"قرن الشيطان"، ويشعر بالذنب لدوره في تسويق روايات تدعم جماعات متطرفة مثل جبهة النصرة. يبرز هذا الفصل الجذميرة كأداة لتأجيج الانقسامات في الربيع العربي، مع إشارة إلى علاقتها بقاعدة العديم والقوى الإمبريالية، مما يعزز النقد الأدبي للإعلام كسلاح للهيمنة.

في الفصل الثالث، ننتقل إلى قاعدة العديم عام 2012، حيث يثير العقيد مارك كيميت، ضابط المخابرات الأمريكية، عاصفة بتصريحه في مقابلة مع الجذميرة: "الجذميرة شريكة!"، مشيراً إلى عملها تحت مظلة القاعدة الأمريكية. يتسبب هذا التصريح في أزمة للقناة، التي تحاول احتواء ردود الفعل ببيانات تنفي التواطؤ، لكن الشارع العربي يبدأ في التشكيك في مصداقيتها. يتابع يوسف هذا الحدث من دمشق، ويبدأ في توثيق شكوكه، بينما يلتقي بخالد، الطالب الجامعي الذي كان معجباً بالجذميرة لكنه بدأ يتساءل عن دورها. يظهر كيميت كرمز للصراحة العسكرية التي تكشف تناقضات الإعلام، بينما يبرز الفصل الجذميرة كجزء من نظام إمبريالي يستخدم القوة الناعمة لإعادة تشكيل المنطقة، مما يعزز النقد السياسي للرواية.

في الفصل الرابع، ننتقل إلى القاهرة عام 2014، حيث يظهر إدوارد هيكل، المحلل السياسي الأسطوري، في شقته المطلة على النيل. يحضر هيكل لمقابلة مع قناة الميادين، حيث يهاجم الجذميرة، واصفاً إياها بأنها منصة تخدم أجندات غربية وقطرية، وتعمل تحت ظل قاعدة العديم. يتحدث عن دعم القناة لجماعات متطرفة مثل هيئة تحرير الشام، ويحذر من دورها في تفتيت الأمة. يتابع يوسف المقابلة من دمشق، ويتواصل مع هيكل، الذي ينصحه بالبحث عن الحقيقة. يكتب هيكل في يومياته عن إيمانه بأن الحقيقة ستجد طريقها، مثل النيل. يظهر هيكل كصوت النقد الفكري، بينما يعزز الفصل دور يوسف كصحفي يسعى لكشف الحقيقة، مما يعكس البعد الأدبي للرواية في تقديم شخصيات تمثل المقاومة الفكرية.

في الفصل الخامس، ننتقل إلى جنيف عام 2020، حيث يعيش هيثم منير، ناشط حقوق الإنسان السوري، في عزلة. يكتب منير مقالات نقدية ضد الجذميرة، متهماً إياها بالتواطؤ مع القوى الإمبريالية، مستشهداً بدفعها مليوني دولار لتوني بلير لإجراء مقابلة. يتواصل مع يوسف، مشجعاً إياه على مواصلة البحث عن الحقيقة، ويتحدث في مؤتمر عن دور الإعلام في تفتيت الأمة. يظهر منير كرمز للاستقلال الفكري، رافضاً الانحياز لأي طرف في الحرب السورية، ويعزز الفصل النقد الأدبي للرواية من خلال تقديم صوت نقي يقاوم التضليل، مع إبراز صعوبة مواجهة قوة إعلامية مثل الجذميرة.

في الفصل السادس، ننتقل إلى إدلب عام 2025، حيث يقود أبو محمود الجليلي هيئة تحرير الشام. يدرك الجليلي أن الجذميرة تستخدمه كأداة لخدمة أجندات قطر والغرب، ويتذكر اغتيال يحيى الغفاري، الذي أمر به، مما يكشف عن تناقضاته. يتابع يوسف من دمشق، متأثراً بقصة يحيى ومقالات منير وهيكل، ويكتب عن تحول الإسخريوطي من صديق ليحيى إلى مدافع عن الجليلي. يبرز هذا الفصل الجليلي كلاعب عملي في لعبة الحرب والإعلام، ويعكس صراع يوسف مع الحقيقة، مما يعزز النقد السياسي للرواية حول الإعلام كسلاح للهيمنة.

في الفصل السابع، يعود يوسف إلى دمشق عام 2025، حاملاً كتابه "أصداء الخفاء"، ويعمل مع منصة "الصدى" لكشف الحقيقة عن الجذميرة. يرفض دعوة للظهور في برنامج الإسخريوطي، ويلتقي بخالد، الذي انضم إلى "الصدى" بعد تخليه عن إعجابه بالجذميرة. يتحدث يوسف في محاضرات عن دور الإعلام في تفتيت الأمة، ويبدأ الشارع العربي في طرح الأسئلة. يعاني الإسخريوطي من صراع داخلي، متذكراً خيانته ليحيى. يبرز هذا الفصل إصرار يوسف على بناء صوت مستقل، ويعكس بداية استيقاظ الشارع العربي، مما يعزز البعد الأدبي للرواية في تقديم الأمل وسط اليأس.

في الفصل الثامن، يتأمل يوسف أمام مقهى النور المهجور، وقد نشر كتابه "أصداء الخفاء"، ويتلقى رسائل دعم من قراء. يواصل العمل مع "الصدى"، مدعوماً برسائل منير، بينما يعاني الإسخريوطي من الذنب، ويواصل الجليلي قيادته في إدلب. يكتب يوسف: "الحقيقة ليست في الشاشات، بل في الشوارع"، معبراً عن إيمانه بأن الحقيقة ستجد طريقها، مثل الياسمين في دمشق. يعزز هذا الفصل النقد الأدبي للرواية من خلال تقديم يوسف كرمز للأمل، ويؤكد على قوة الحقيقة في مواجهة التضليل.

تتميز الرواية بأسلوبها السردي العميق، الذي يمزج بين الواقعية والرمزية، مستخدمة شخصيات مثل يوسف وهيكل ومنير لتمثيل المقاومة الفكرية، بينما تكشف تناقضات شخصيات مثل الإسخريوطي والجليلي. تستخدم الرواية الإعلام كمرآة لعكس انقسامات الأمة، وتقدم نقداً لاذعاً للهيمنة الإمبريالية والمحميات الخليجية، مع إبراز الأمل في الأصوات المستقلة التي تحمل شعلة الحقيقة.


الفصل الاول

في أزقة دمشق القديمة، حيث يتسلل عطر الياسمين عبر الشقوق الضيقة للحجارة المتهالكة، كان هناك مقهى صغير يُدعى "النور". لم يكن هذا المقهى مجرد مكان لاحتساء القهوة أو التدخين الممنوع سرًا، بل كان ملتقى الأحلام والأفكار، حيث يتجمع الصحفيون الشباب، السياسيون المتقاعدون، والحالمون الذين يحملون في قلوبهم أمل تغيير العالم. كانت الجدران المتشققة للمقهى تحمل آثار الزمن، وكأن كل شق يروي قصة من قصص المدينة العريقة. الطاولات الخشبية، الملساء من كثرة الاستخدام، كانت محفورة بأسماء عشاق وشعارات ثورية قديمة، بعضها يعود إلى أيام الانتداب الفرنسي. في هذا المكان، حيث يمتزج دخان السجائر بأنغام فيروز القادمة من راديو قديم، جلس يوسف، صحفي شاب في أوائل العشرينيات، يحلم بأن يكون صوت الحقيقة في عالم مليء بالضجيج.

كان يوسف، ذو الشعر الأسود الكثيف والعينين اللتين تحملان نظرة قلق دائم، قد جاء إلى دمشق من قرية صغيرة في ريف السويداء. كان يحمل في حقيبته دفترًا مليئًا بالملاحظات، وقلمًا رخيصًا اشتراه من سوق الحميدية، وطموحًا كبيرًا بأن يصبح مثل إدوارد هيكل، المحلل السياسي الأسطوري الذي ارتبط اسمه بأيام العروبة والمقاومة. لكن يوسف لم يكن ساذجًا؛ كان يعرف أن العالم الذي يعيش فيه لم يعد عالم عبد الناصر، وأن الإعلام الذي كان يومًا صوت الأمة قد تحول إلى ساحة للصراعات الخفية. كان يجلس في زاوية المقهى، يراقب شاشة تلفاز صغيرة معلقة على الحائط، تعرض برنامجًا تلفزيونيًا محليًا يستضيف فيه المذيع يحيى الغفاري زميله فيصل الإسخريوطي، نجم قناة الجذميرة، التي كانت تُعرف بـ"صوت العديم الإعلامي".

كان فيصل الإسخريوطي في تلك الفترة، ديسمبر 2003، لا يزال في بداياته. لم يكن قد اكتسب بعد تلك الهالة المصقولة التي اشتهر بها لاحقًا، ولا تلك الجرأة المثيرة للجدل في برنامجه "الاتجاه المعاكس". كان مظهره بسيطًا، تقريبًا عاديًا، وجهه خالٍ من "بهارات الجذميرة" التي ستعمل لاحقًا على تجميل صورته أمام الكاميرات. كان يتحدث بحماسة عن دور الإعلام العربي في مواجهة الهيمنة الغربية، مستخدمًا عبارات مثل "صوت الشعب" و"كسر احتكار الإعلام الغربي". لكن يوسف، الذي كان يدون ملاحظاته في دفتره، شعر بشيء غامض في كلمات الإسخريوطي. كيف يمكن لقناة تنطلق من قلب قاعدة العديم، مركز العمليات الأمريكية في المنطقة، أن تكون صوت المقاومة؟ كانت هذه الفكرة تتردد في ذهنه وهو يراقب الشاشة، حيث كان يحيى الغفاري يبتسم بلباقة ويوجه أسئلة ودية لضيفه.

يحيى الغفاري، المذيع الدمشقي، كان رجلاً يحمل طيبة ظاهرية وذكاءً خفيًا. كان معروفًا في الأوساط الإعلامية بقدرته على استضافة شخصيات مثيرة للجدل دون أن يفقد توازنه. في تلك الفترة، كانت علاقته مع النظام السوري جيدة، بل وودية إلى حد ما، كما كانت علاقة الإسخريوطي نفسه. كان النظام، بقيادة الأسد الثاني لذي تولى السلطة قبل ثلاث سنوات فقط، يحاول تقديم صورة إصلاحية، وكانت الجذميرة، بتمويلها القطري، تُظهر تعاطفًا مع هذه الصورة. لكن يوسف، الذي كان يستمع إلى الحوار بعناية، لاحظ شيئًا آخر: كانت كلمات الإسخريوطي تحمل نبرة مزدوجة، كأنها تخفي شيئًا لم يُقل بعد. كان يتحدث عن المقاومة، لكن عينيه كانتا تنظران إلى الكاميرا بنوع من الحذر، وكأنه يعرف أن كلماته ليست ملكه بالكامل.

في تلك اللحظة، فتح الباب الخشبي للمقهى، ودخل رجل عجوز يرتدي معطفًا رماديًا طويلًا. كان أبو سمير، محلل سياسي سابق عمل في الستينيات مع إدوارد هيكل في القاهرة. كان أبو سمير شخصية معروفة في الأوساط الدمشقية، رجل يحمل في صوته مزيجًا من الحكمة والمرارة. جلس بجانب يوسف دون أن يُطلب منه، وطلب فنجان قهوة سادة. نظر إلى الشاشة، حيث كان الإسخريوطي يتحدث عن "ثورة الإعلام العربي"، وهز رأسه بسخرية خفيفة. "احذر يا ولدي"، قال أبو سمير بهمس، "الجذميرة مثل الياسمين الدمشقي، رائحتها ساحرة، لكن جذورها تخفي السم". كانت كلماته غامضة، لكنها حملت وزن التجربة. لم يكن يوسف يعرف بعد ماذا يعني أبو سمير، لكن تلك الجملة استقرت في ذهنه كحجر صغير في بحيرة هادئة، يثير دوائر من التساؤلات.

كان المقهى يعج بالأصوات: ضحكات الشباب، نقاشات سياسية محمومة، وصوت فيروز ينساب من الراديو: "يا رايح ع دمشق، سلم ع الشام". لكن يوسف كان منغمسًا في أفكاره. كتب في دفتره: "الجذميرة: صوت المقاومة أم أداة الهيمنة؟" كان يشعر أن هناك لغزًا أكبر مما يظهر على الشاشة. كان قد قرأ مقالات إدوارد هيكل في جريدة الأهرام، حيث حذر من أن الجذميرة ليست مجرد قناة إعلامية، بل منصة تخدم أجندات غربية تحت غطاء عربي. لكن يوسف، بطبعه المثالي، كان يريد أن يصدق أن هناك أملًا في الإعلام العربي، أن الجذميرة ربما تكون، كما تدعي، "صوت الشارع العربي".

بعد انتهاء البرنامج، نهض يحيى الغفاري من مقعده على الشاشة، وصافح الإسخريوطي بحرارة. كانت تلك لحظة بدت عادية، لكنها كانت تحمل في طياتها بذور المستقبل. يوسف، الذي كان يراقب بعناية، لاحظ كيف تبادل الرجلان نظرات لم تكن مجرد زمالة مهنية. كان هناك نوع من التواطؤ غير المعلن، كأن كليهما يعرف أن هناك قواعد للعبة لم يتم الكشف عنها بعد. لاحقًا، سيكتشف يوسف أن تلك اللحظة كانت نقطة تحول في مسار الإسخريوطي، الذي سيصبح لاحقًا رمزًا للتناقضات في عالم الإعلام العربي.

في تلك الأثناء، كان المقهى يمتلئ بالزبائن. دخل مجموعة من الطلاب الجامعيين، يحملون كتبًا وأفكارًا ثورية، يناقشون بصوت عالٍ أحداث الغزو الأمريكي للعراق الذي بدأ قبل أشهر. كانوا يتحدثون عن الجذميرة بإعجاب، مشيدين بتغطيتها للغزو، التي بدت لهم جريئة مقارنة بالإعلام الغربي. لكن أبو سمير، الذي كان يستمع إلى نقاشهم، هز رأسه مرة أخرى. "أنتم شباب، لا تزالون تؤمنون بالروايات الجميلة"، قال بنبرة هادئة ولكن حادة. "الجذميرة لا تعمل وحدها، إنها جزء من لعبة أكبر. انظروا إلى قاعدة العديم، إلى من يمولها، إلى من يوجهها".

كانت كلمات أبو سمير تثير فضول يوسف، لكنه لم يجرؤ على السؤال مباشرة. كان يعرف أن الرجل العجوز يحمل أسرارًا من أيام عمله في القاهرة، عندما كان إدوارد هيكل يقود حملات إعلامية لدعم القضايا العربية. لكن يوسف كان يشعر أن هناك شيئًا مختلفًا الآن. كان العالم قد تغير، والإعلام لم يعد أداة للوحدة، بل أصبح سلاحًا للانقسام. كتب في دفتره: "هل الإعلام خادم الشعب أم خادم السلطة؟" كانت هذه السطور بداية رحلته الطويلة لفهم الحقيقة.

في تلك الليلة، خرج يوسف من المقهى وتجول في شوارع دمشق. كانت المدينة هادئة، لكن الهدوء كان يحمل توترًا خفيًا. كانت أخبار الغزو الأمريكي للعراق لا تزال تهيمن على النقاشات، وكانت الجذميرة تحتل مكانة خاصة في قلوب العديد من السوريين. كانت تغطيتها لأحداث 11 سبتمبر والحرب في أفغانستان قد جعلتها رمزًا للإعلام العربي الجديد، قناة تتحدى السرديات الغربية. لكن يوسف، الذي بدأ يشك في كل شيء، كان يتساءل: هل هذه الجرأة حقيقية، أم أنها مجرد واجهة؟

عاد يوسف إلى شقته الصغيرة في حي المزة، حيث كان يعيش مع والدته العجوز. كانت والدته، أم يوسف، امرأة بسيطة لا تثق بالإعلام، وكانت دائمًا ما تقول له: "الكلام الجميل يخفي الكذب أحيانًا". وضع يوسف دفتره على الطاولة وفتح نافذة الشقة. كان الهواء البارد يحمل رائحة الياسمين من الحديقة القريبة. جلس على كرسي خشبي قديم وأخذ يفكر في كلمات أبو سمير. كان يشعر أن هناك لغزًا يجب حله، لكنه لم يكن يعرف من أين يبدأ.

في اليوم التالي، قرر يوسف زيارة مكتبة صغيرة في وسط دمشق، حيث كان يعرف أن بإمكانه العثور على مقالات إدوارد هيكل القديمة. كان قد سمع أن هيكل كتب عن الجذميرة في جريدة الأهرام عام 2003، محذرًا من أنها ليست مجرد قناة إعلامية، بل أداة لأجندات غربية. في المكتبة، وجد يوسف نسخة قديمة من المقال، بعنوان "الإعلام والسيطرة". كتب هيكل: "الجذميرة ليست صوت الشارع العربي، بل صوت من يريدون تفتيته. إنها منصة تُدار بتمويل قطري، لكنها تخضع لتوجيهات أمريكية وبريطانية". كانت هذه الكلمات بمثابة صاعقة بالنسبة ليوسف. بدأ يشعر أن ما رآه في المقهى لم يكن مجرد برنامج تلفزيوني، بل جزء من مسرحية أكبر.

عاد يوسف إلى المقهى في الأيام التالية، آملاً أن يلتقي أبو سمير مرة أخرى. كان يريد أن يسأله عن المزيد، عن كيفية عمل الجذميرة، عن علاقتها بقاعدة العديم، عن دور فيصل الإسخريوطي ويحيى الغفاري. لكن أبو سمير لم يظهر. بدلاً من ذلك، التقى يوسف بشاب آخر يُدعى خالد، وهو طالب جامعي مهتم بالسياسة. كان خالد من أشد المعجبين بالجذميرة، وكان يرى فيها أمل الشباب العربي. "إنهم يقولون الحقيقة التي لا تجرؤ القنوات الأخرى على قولها"، قال خالد بحماسة. لكن يوسف، الذي بدأ يرى الأمور بشكل مختلف، رد بهدوء: "الحقيقة لا تأتي من شاشة واحدة، يا خالد. الحقيقة تحتاج إلى بحث".

في تلك الفترة، كانت دمشق تعيش حالة من التوتر الخفي. كانت الأخبار عن الغزو الأمريكي للعراق تثير نقاشات ساخنة في المقاهي والجامعات. كان الناس يتحدثون عن دور محمية قطر، التي تستضيف قاعدة العديم، وعن الجذميرة، التي بدت وكأنها تحاول لعب دور مزدوج: صوت المقاومة من جهة، ومنصة تتماشى مع مصالح الغرب من جهة أخرى. يوسف، الذي كان يحاول فهم هذا التناقض، بدأ يجمع المعلومات. كان يقرأ كل ما يقع تحت يديه: مقالات هيكل، تقارير صحفية، وحتى شائعات تنتشر في الأسواق. كتب في دفتره: "الجذميرة: هل هي صوتنا أم صوتهم؟"

في إحدى الليالي، عاد يوسف إلى المقهى "النور"، وهذه المرة كان أبو سمير هناك. جلس الرجل العجوز في نفس الزاوية، يحتسي قهوته وينظر إلى الشاشة بنظرة ساخرة. اقترب يوسف بحذر وسأله: "يا أبو سمير، ماذا تقصد بأن الجذميرة تخفي السم؟" ابتسم أبو سمير ابتسامة باهتة وقال: "اسأل نفسك، يا يوسف، من يمولها؟ من يختار أخبارها؟ من يقرر من يظهر على شاشتها؟ الإعلام ليس مجرد كلمات، إنه سلاح. والجذميرة ليست استثناء". كانت هذه الكلمات كافية لتجعل يوسف يشعر أن هناك عالمًا خفيًا وراء الشاشات، عالمًا من الأجندات والمصالح التي لا يراها إلا من يبحث بعمق.

في الأيام التالية، بدأ يوسف يراقب الجذميرة عن كثب. كان يشاهد برامجها، يحلل كلمات مذيعيها، ويحاول فهم الرواية التي تقدمها. لاحظ أن القناة تركز على قضايا معينة، مثل الاحتجاجات في العراق أو التوترات في أفغانستان، بينما تتجاهل قضايا أخرى، مثل دور محمية قطر في استضافة قاعدة العديم. كان هذا الاختيار الانتقائي يثير شكوكه أكثر. كتب في دفتره: "الجذميرة لا تقول كل الحقيقة، بل جزءًا منها. لكن لماذا؟"

في إحدى الليالي، بينما كان يوسف يتجول في سوق الحميدية، سمع مجموعة من التجار يتحدثون عن الجذميرة. كان أحدهم، رجل كبير في السن يبيع التوابل، يقول: "الجذميرة مثل توابلي، تضيف نكهة للطعام، لكنها لا تغير حقيقته". ضحك الآخرون، لكن يوسف شعر أن هذه الجملة تلخص ما كان يحاول فهمه. كانت الجذميرة تضيف "نكهة" المقاومة إلى رواياتها، لكنها لا تغير الحقيقة الأساسية: أنها جزء من نظام أكبر.

عاد يوسف إلى شقته تلك الليلة، وهو يشعر بثقل المسؤولية. كان يعرف أن طريقه لن يكون سهلاً. كان يريد أن يكون صحفيًا حقيقيًا، لا مجرد تابع لقناة مثل الجذميرة. أخرج دفتره وكتب: "الحقيقة ليست في الكلمات التي تُقال، بل في تلك التي تُخفى". كانت هذه السطور بداية رحلته الطويلة، رحلة لكشف أصداء الخفاء التي تحيط بالإعلام العربي.

في الأسابيع التالية، بدأ يوسف يتواصل مع صحفيين آخرين في دمشق، يحاول جمع المعلومات عن الجذميرة وعن علاقتها بمحمية قطر وبقاعدة العديم. كان يسمع شائعات عن أن العديد من موظفي الجذميرة الأوائل كانوا من خريجي قناة بي بي سي العربية، التي أُغلقت في التسعينيات. كما سمع أن القناة تلقت تمويلًا ضخمًا من محمية قطر الصهيو أمريكية ، لكنها كانت تخضع لضغوط أمريكية وبريطانية. كانت هذه المعلومات تثير المزيد من الأسئلة في ذهنه. هل كانت الجذميرة حقًا صوت الشعب، أم أنها أداة في يد قوى أكبر؟

في إحدى الليالي، تلقى يوسف دعوة لحضور ندوة في جامعة دمشق، حيث كان من المقرر أن يتحدث أحد الأساتذة عن دور الإعلام في السياسة العالمية. خلال الندوة، تحدث الأستاذ عن مفهوم "الإمبريالية الناعمة"، وكيف تستخدم الدول الغربية وسائل الإعلام لفرض هيمنتها الثقافية والسياسية. ذكر الأستاذ الجذميرة كمثال، مشيرًا إلى أنها، رغم صورتها كصوت عربي، تخدم أحيانًا أجندات غربية. كانت هذه الكلمات تأكيدًا لشكوك يوسف، لكنها زادته إصرارًا على البحث عن الحقيقة.

في نهاية تلك السنة، ديسمبر 2003، كان يوسف قد بدأ يرى العالم بشكل مختلف. لم يعد يثق بالشاشات التي كان يراها في المقاهي، ولم يعد يصدق الكلمات الرنانة التي يسمعها من مذيعين مثل فيصل الإسخريوطي. كان يعرف أن رحلته لكشف الحقيقة ستكون طويلة وشاقة، لكنه كان مستعدًا. في تلك الليلة، جلس في شقته، وكتب في دفتره: "الجذميرة ليست النهاية، بل البداية. الحقيقة تنتظر من يجرؤ على البحث عنها". كانت هذه الكلمات بمثابة وعد لنفسه، وعد بأن يكون صوت الحقيقة، حتى لو كان عليه أن يواجه أصداء الخفاء وحده.

الفصل الثاني


في غرفة تحرير قناة الجذميرة المكيفة ببرودة اصطناعية، جلس فيصل الإسخريوطي أمام مرآة كبيرة، يتأمل وجهه الذي تغير كثيرًا منذ أيامه الأولى في دمشق. كان عام 2011، وكانت الدوحة، عاصمة قطر، تعيش فورة من النشاط الإعلامي. الجذميرة، التي أصبحت الآن رمزًا للإعلام العربي الجديد، كانت في ذروة تأثيرها، خاصة مع اندلاع ما عُرف بالربيع العربي. لكن فيصل، الذي كان يُعد لبرنامجه "الاتجاه المعاكس"، لم يكن يشعر بالحماسة التي كان يظهرها أمام الكاميرات. كان وجهه، المصقول الآن بـ"بهارات الجذميرة" – كما كان يُطلق عليها ساخرًا في نفسه – يعكس رجلاً تحول من صحفي طموح إلى أداة في لعبة أكبر بكثير مما كان يتخيل. كانت عيناه، التي كانت يومًا مليئة بالحماسة في استوديوهات دمشق، تحملان الآن نظرة متعبة، كأنها تخفي سرًا لا يستطيع البوح به.

في تلك الغرفة، المزينة بشاشات تلفزيونية تعرض تقارير الجذميرة عن الاحتجاجات في تونس ومصر وسوريا، كان فيصل يحاول أن يتذكر متى بدأ هذا التحول. كان يتذكر أيامه في دمشق، عام 2003، عندما استضافه يحيى الغفاري في برنامج تلفزيوني محلي. كانت تلك الأيام أبسط، عندما كان لا يزال يؤمن أن الإعلام يمكن أن يكون صوت الشعب. لكنه الآن، وهو يجلس في قلب الدوحة، محاطًا بأجهزة متطورة وتعليمات من مديري القناة، شعر أن شيئًا ما قد ضاع. كان يعرف أن الجذميرة، التي بدأت كمشروع طموح بتمويل قطري، أصبحت الآن جزءًا من لعبة جيوسياسية معقدة. كانت قاعدة العديم، التي تقع على بعد أميال قليلة من مبنى القناة، تذكره باستمرار بأن حريته كمذيع ليست مطلقة.

كان فيصل قد تخلى عن بساطته القديمة. لم يعد ذلك الشاب الذي ظهر على شاشة التلفزيون السوري بملابس متواضعة وابتسامة خجولة. الآن، كان يرتدي بدلات أنيقة، وكانت كلماته مدروسة بعناية، ليس من قبله، بل من فريق من المحررين والمنتجين الذين كانوا يعملون تحت إشراف خالد بن جاسر، وزير الخارجية القطري. كان خالد بن جاسر، الذي كان يُعرف بنفوذه الواسع في الدوحة، قد أعطى تعليمات واضحة للجذميرة: يجب أن تكون القناة صوت الربيع العربي، ولكن بطريقة تخدم الأهداف القطرية الصهيو امريكية ، التي كانت بدورها تتماشى مع الأجندات الأمريكية. كان فيصل يعرف هذا، لكنه لم يكن يريد أن يفكر فيه كثيرًا. كان يفضل أن يركز على برنامجه، على الجدل الذي يثيره، على الشهرة التي بدأت تحيط به.

في تلك الغرفة، بينما كان يستعد لتسجيل حلقة جديدة من "الاتجاه المعاكس"، كان فيصل يشعر بصراع داخلي عميق. كان يعرف أن برنامجه، الذي يُقدم كمنصة للحوار الحر، لم يكن حرًا بالمعنى الحقيقي. كان هناك خطوط حمراء غير معلنة: لا يمكن انتقاد قطر، ولا يمكن مناقشة دور قاعدة العديم، ولا يمكن التشكيك في الروايات التي تدعم الاحتجاجات في سوريا ومصر وليبيا. كان فيصل يعرف أن هذه الخطوط لم تُفرض عليه مباشرة، بل كانت تُملى بطريقة غير مباشرة، من خلال تلميحات من المنتجين أو تعليمات خفية من الإدارة. لكنه كان يبرر لنفسه: "هذه هي طبيعة الإعلام. لا أحد يستطيع أن يكون حرًا تمامًا".

في تلك الليلة، بعد أن أنهى تسجيل الحلقة، التي كانت تدور حول الأزمة السورية، عاد فيصل إلى شقته الفاخرة في الدوحة. كانت الشقة، المطلة على كورنيش الخليج، تحمل كل علامات الرفاهية: أثاث إيطالي، شاشة تلفزيون ضخمة، وإطلالة على الأبراج الزجاجية التي كانت ترمز إلى طموح قطر. لكن فيصل، وهو يجلس على الأريكة، شعر بفراغ غريب. كان قد هاجم النظام السوري في حلقته بشراسة، متهمًا إياه بقمع الشعب، لكنه كان يعرف أن هذا الهجوم لم يكن نابعًا من قناعته الشخصية. كان يعرف أن قطر، من خلال خالد بن جاسر، قررت معاداة سوريا بعد أن كانت حليفة لها في الماضي. كان هذا التحول، الذي بدأ عام 2011، جزءًا من استراتيجية أوسع، كما صرح بن جاسر لاحقًا في مقابلة مع قناة غربية: "كل شيء كان يتم بمعرفة الأمريكيين".

في تلك اللحظة، وهو يحدق في الخليج من نافذته، بدأ فيصل يتذكر يحيى الغفاري، صديقه القديم الذي استضافه في دمشق قبل ثماني سنوات. كان يحيى رجلاً مختلفًا، صحفيًا يؤمن بأن الإعلام يمكن أن يكون جسرًا بين الناس والحقيقة. لكن مصير يحيى كان مأساويًا. كان قد شارك في فيلم وثائقي يكشف عن فساد آل سعود، واصفًا إياهم بـ"قرن الشيطان". هذا الوصف، الذي تردد في أوساط شعبية، جعله هدفًا لجماعة متطرفة تُعرف لاحقًا بهيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمود الجليلي. كان فيصل قد سمع أن يحيى تعرض للتعذيب قبل أن يُقتل، وهذا الخبر هزه بعمق، لكنه لم يستطع أن يعترف بذلك علنًا.

في تلك الليلة، حلم فيصل بيحيى الغفاري. في الحلم، كان يحيى يقف في شارع مظلم في دمشق، وجهه شاحب وملطخ بالدم. صرخ يحيى: "خنتنا يا فيصل! كنت صديقي، والآن تدعم قاتلي!" كان صوت يحيى يتردد في أذني فيصل، كأنه صدى من الماضي. استيقظ فيصل مفزوعًا، يده ترتجف وهو يمسح العرق عن جبينه. نهض من السرير وتوجه إلى الحمام، حيث غسل وجهه بالماء البارد. نظر إلى المرآة، ورأى وجهه الذي لم يعد يعرفه. "هذه هي اللعبة"، قال لنفسه، محاولًا تهدئة ضميره. "إما أن تلعب، أو تُلعب".

في اليوم التالي، عاد فيصل إلى غرفة التحرير، حيث كان فريق الإنتاج يناقش الحلقة القادمة. كان الموضوع هو الأزمة السورية مرة أخرى، لكن هذه المرة كان هناك ضيفان: أحدهما من المعارضة السورية، والآخر مناصر للنظام. كان فيصل يعرف أن الحلقة ستكون متوترة، لكنه كان يعرف أيضًا أن النتيجة محسومة مسبقًا. كانت تعليمات الجذميرة واضحة: يجب أن يظهر النظام السوري كالعدو الأكبر، بينما يجب تقديم المعارضة كصوت الشعب. لم يكن فيصل يؤمن بهذه الرواية تمامًا، لكنه كان يعرف أن دوره هو تقديمها بطريقة تجذب المشاهدين. كان يعرف أن برنامجه، رغم ادعائه الحيادية، كان مصممًا لتعزيز الانقسامات، تمامًا كما حذر إدوارد هيكل في مقالاته.

خلال التحضير للحلقة، اقترب منه أحد المنتجين، شاب طموح يُدعى أحمد. كان أحمد من الجيل الجديد من الصحفيين، الذين نشأوا على أحلام الجذميرة وشهرتها. "يا أستاذ فيصل"، قال أحمد بحماسة، "هذه الحلقة ستكون قوية. سنفضح النظام السوري أمام العالم!" نظر فيصل إلى أحمد بابتسامة باهتة وقال: "نعم، سنفعل ذلك". لكنه في داخله كان يشعر بالضيق. كان يعرف أن "فضح" النظام لم يكن الهدف الحقيقي، بل كان جزءًا من استراتيجية أكبر، استراتيجية تخدم مصالح قطر والقوى الغربية التي تقف وراءها.

في تلك الأثناء، كانت الأخبار عن دعم قطر للمعارضة السورية المسلحة تتسرب إلى الأوساط الإعلامية. كان فيصل قد سمع شائعات عن شحنات أسلحة تُرسل إلى جماعات مثل جبهة النصرة، التي أصبحت لاحقًا هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمود الجليلي. لم يكن فيصل متأكدًا من صحة هذه الشائعات، لكنه كان يعرف أن قطر، من خلال خالد بن جاسر، كانت تلعب دورًا كبيرًا في الحرب السورية. كان يتذكر كيف كان النظام السوري، في أيامه الأولى في دمشق، يُعامل كحليف لقطر. لكن الآن، بعد أن أصبحت قطر جزءًا من التحالف الأمريكي ضد سوريا، تغير كل شيء. وكان فيصل، بطريقة أو بأخرى، جزءًا من هذا التغيير.

خلال تسجيل الحلقة، كان فيصل في أوجه. كان يوجه الأسئلة بحدة، يثير الجدل بمهارة، ويترك الضيفين يتصارعان أمام الكاميرات. لكن في داخله، كان يشعر بالانفصال. كان يشعر أن كلماته ليست له، أن دوره ليس أكثر من ممثل في مسرحية كتبها آخرون. بعد انتهاء الحلقة، تلقى اتصالاً من أحد المسؤولين في الجذميرة، يهنئه على "الأداء الرائع". لكن فيصل لم يشعر بالفخر. كان يشعر أن شيئًا ما في داخله قد كسر.

في الأيام التالية، بدأ فيصل يتلقى رسائل من أصدقاء قديمين في دمشق. كان بعضهم يتهمه بالخيانة، بأنه تخلى عن مبادئه القديمة. كانوا يذكرونه بأيامه مع يحيى الغفاري، عندما كانا يحلمان بإعلام عربي مستقل. لكن فيصل كان يتجاهل هذه الرسائل. كان يقول لنفسه إن العالم قد تغير، وأن الإعلام لم يعد مكانًا للمثاليات. لكنه في قرارة نفسه كان يعرف أن هذه مجرد أعذار.

في إحدى الليالي، بينما كان فيصل يتجول في شوارع الدوحة، مر بمبنى الجذميرة المضيء. توقف للحظة، ونظر إلى الشعار اللامع على واجهة المبنى. كان يتذكر كيف بدأت الجذميرة كمشروع طموح، قناة وعدت بأن تكون صوت الشعب العربي. لكن الآن، بعد سنوات من العمل فيها، كان يعرف أن هذا الوعد كان فارغًا. كانت الجذميرة، كما قال إدوارد هيكل ذات مرة، "أداة لتفتيت الشارع العربي". لكنه لم يستطع أن يعترف بهذا علنًا. كان قد أصبح جزءًا من الماكينة، وكان يعرف أن الخروج منها لن يكون سهلاً.

في تلك الليلة، عاد فيصل إلى شقته وفتح زجاجة نبيذ أحضرها من رحلة إلى أوروبا. جلس على الأريكة، وأخذ يفكر في المستقبل. كان يعرف أن الحرب السورية ستتصاعد، وأن الجذميرة ستواصل لعب دورها في تأجيجها. كان يعرف أن دوره كمذيع سيصبح أكثر تعقيدًا، وأن التناقضات التي يعيشها ستزداد وضوحًا. لكنه لم يكن مستعدًا بعد لمواجهة هذه الحقيقة. أغلق التلفزيون، وأطفأ الأنوار، وحاول النوم. لكن صوت يحيى الغفاري ظل يتردد في ذهنه: "خنتنا يا فيصل، خنتنا".

الفصل الثالث

في قاعدة العديم، المترامية الأطراف على مشارف الدوحة، حيث كانت الطائرات الأمريكية تدوي كالرعد في سماء الصحراء، جلس العقيد مارك كيميت في مكتب زجاجي مزود بأحدث التقنيات العسكرية. كان عام 2012، وكانت قاعدة العديم، ذلك الحصن الإمبريالي الذي يُعد مركز العمليات الأمريكية في الشرق الأوسط، تعج بالحركة. شاشات كبيرة تعرض خرائط تفاعلية للعراق وسوريا واليمن، وأجهزة اتصالات تنقل أوامر مشفرة إلى قادة ميدانيين في أماكن بعيدة. كان كيميت، ضابط المخابرات الأمريكية الذي قضى عقدين في خدمة الجيش، يشعر بنوع من الرضا الممزوج بالتعب. لقد أنهى لتوه مقابلة مع قناة الجذميرة، تلك القناة التي كانت تُعرف بـ"صوت العديم الإعلامي"، والتي تقع على بعد أميال قليلة من القاعدة. كانت المقابلة قصيرة، لكن كلماته فيها كانت كفيلة بإشعال عاصفة.

في المقابلة، التي استمرت دقيقة واحدة فقط، سأله مذيع الجذميرة – لم يكن فيصل الإسخريوطي، بل وجهًا آخر أقل شهرة – عن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في مواجهة الفلسطينيين. كان السؤال محملًا بنبرة استفزازية، كما لو أن المذيع يحاول استدراج رد قوي لجذب المشاهدين. لكن كيميت، الذي كان معتادًا على مثل هذه الألعاب الإعلامية، رد بنبرة هادئة ولكن حادة: "ماذا يساوي الدعم الأمريكي لإسرائيل بدون قاعدة العديم، التي تنطلق منها عمليات القتل في غزة والعراق واليمن؟ وإذا كانت أمريكا تدعم، فالجذميرة شريكة!" كانت هذه الكلمات، التي نطق بها دون تردد، كالصاعقة. لم يكن كيميت ينوي إثارة جدل، لكنه كان يعرف أن الحقيقة، عندما تُقال بصراحة، غالبًا ما تكون مدمرة.

عندما عاد كيميت إلى مكتبه في القاعدة، كان الهاتف يرن بالفعل. كان المتصل مسؤولًا قطريًا رفيع المستوى، يتحدث بنبرة غاضبة: "لماذا قلت هذا؟ نحن نحاول الحفاظ على صورتنا كداعمين للقضية الفلسطينية!" كيميت، الذي كان يجلس على كرسي دوار وينظر إلى شاشة تعرض صورًا جوية لدمشق، رد بسخرية أورويلية: "الحقيقة لا تهم، يا سيدي. ما يهم هو من يتحكم بالرواية". لم يكن كيميت من النوع الذي يهتم كثيرًا بردود الفعل. كان يعرف أن دوره في قاعدة العديم كان أكبر من مجرد إجراء مقابلات إعلامية. كان جزءًا من آلة عسكرية وسياسية ضخمة، آلة لا تتوقف عند حدود الدبلوماسية أو الإعلام.

في الدوحة، كانت إدارة الجذميرة في حالة من الذعر. كانت كلمات كيميت قد انتشرت بسرعة، وكانت نسخ من المقابلة تُعاد تداولها على الإنترنت، رغم محاولات القناة حذف الفيديو. كان المسؤولون في القناة يعرفون أن هذا التصريح يمثل إحراجًا كبيرًا. الجذميرة، التي بنت صورتها كصوت المقاومة العربية، كانت الآن متهمة بالتواطؤ مع القوى الإمبريالية التي تدعمها قاعدة العديم. في غرفة الاجتماعات الرئيسية للقناة، كان المديرون يناقشون الأزمة بحدة. "كيف سمحنا لهذا أن يحدث؟" صرخ أحد المديرين، وهو رجل في الأربعينيات يرتدي بدلة باهظة الثمن. "كان يجب أن نراجع الأسئلة مسبقًا!" لكن المدير التنفيذي، وهو رجل هادئ ذو لحية مشذبة، رد بنبرة عملية: "لا يمكننا التراجع الآن. سنصدر بيانًا ينفي التواطؤ، وسنواصل التغطية كالمعتاد".

لكن في الشارع العربي، كان الوضع مختلفًا. كانت منصات التواصل الاجتماعي، التي بدأت تنتشر بقوة في تلك الفترة، تعج بردود الفعل على تصريح كيميت. كتب أحد الناشطين: "الجذميرة تدعي المقاومة، لكنها تعمل من قلب قاعدة العديم. وجهان لعملة واحدة!" آخرون كانوا أكثر حدة، متهمين القناة بالخيانة العلنية. كان هذا التصريح قد كشف عن تناقض طالما حاولت الجذميرة إخفاءه: كيف يمكن لقناة تعمل تحت مظلة دولة تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة أن تدعي أنها صوت المقاومة؟ كانت هذه اللحظة نقطة تحول، ليس فقط للجذميرة، بل للطريقة التي ينظر بها الجمهور العربي إلى الإعلام.

في قاعدة العديم، لم يكن كيميت قلقًا من ردود الفعل. كان يعرف أن دوره في المنطقة أكبر من مجرد تصريحات إعلامية. كان جزءًا من استراتيجية أمريكية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط، استراتيجية كانت قطر، والجذميرة بالتبعية، جزءًا منها. كان يتذكر كيف بدأت العلاقة بين الولايات المتحدة وقطر تتطور في التسعينيات، عندما قررت قطر استضافة قاعدة العديم كجزء من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها الإقليمي. كانت الجذميرة، التي تأسست عام 1996، جزءًا من هذا المشروع. كان كيميت قد قرأ تقارير المخابرات التي تحدثت عن التمويل القطري للقناة، وعن كيفية استخدامها كأداة للقوة الناعمة، ليس فقط لتعزيز صورة قطر، بل لخدمة الأجندات الأمريكية والبريطانية في المنطقة.

في تلك الأثناء، كان يوسف، الصحفي الشاب من دمشق، يتابع الأحداث من بعيد. كان قد سمع عن تصريح كيميت من خلال صديق في الجامعة، أرسل له رابطًا للفيديو عبر الإنترنت. جلس يوسف في شقته الصغيرة في حي المزة، أمام جهاز كمبيوتر قديم، وشاهد المقطع مرات عديدة. كانت كلمات كيميت تتردد في ذهنه: "الجذميرة شريكة!" كان يوسف قد بدأ بالفعل يشك في دور الجذميرة منذ لقائه بأبو سمير في مقهى النور عام 2003. لكن هذا التصريح كان بمثابة تأكيد لشكوكه. فتح دفتره، الذي كان قد امتلأ بالملاحظات عن الجذميرة، وكتب: "إذا كانت الجذميرة شريكة، فمن هو العدو الحقيقي؟"

عاد يوسف إلى مقهى النور في اليوم التالي، آملاً أن يجد أبو سمير ليناقش معه ما حدث. لكن أبو سمير لم يكن هناك. بدلاً من ذلك، التقى بخالد، الطالب الجامعي الذي كان معجبًا بالجذميرة. كان خالد يبدو مرتبكًا. "سمعت عن تصريح كيميت"، قال خالد بنبرة محبطة. "كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ الجذميرة دائمًا تدافع عن القضية الفلسطينية!" رد يوسف بهدوء: "الصورة ليست دائمًا كما تبدو، يا خالد. عليك أن تسأل: من يدفع؟ من يوجه؟" لم يكن خالد مقتنعًا تمامًا، لكنه بدأ يشعر أن هناك شيئًا أكبر مما يراه.

في الدوحة، كانت الجذميرة تحاول احتواء الأزمة. أصدرت بيانًا قالت فيه إن كلمات كيميت "أُخرجت من سياقها"، وأن القناة ملتزمة بدعم القضايا العربية. لكن البيان لم يكن كافيًا لتهدئة الجمهور. كانت منصات التواصل الاجتماعي مليئة بالتعليقات الساخرة والغاضبة. كتب أحد المستخدمين: "الجذميرة تدعي المقاومة، لكنها تعمل من قلب قاعدة العديم. من يخدع من؟" آخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك، متهمين القناة بالعمالة المباشرة للغرب. كانت هذه اللحظة واحدة من تلك اللحظات النادرة التي كشفت فيها الحقيقة عن نفسها، ولو للحظة.

في قاعدة العديم، كان كيميت يواصل عمله كالمعتاد. كان يعرف أن تصريحه قد تسبب بمشكلة للجذميرة، لكنه لم يكن مهتمًا كثيرًا. كان يركز على المهمة الأكبر: إدارة العمليات العسكرية في المنطقة، بما في ذلك دعم المعارضة السورية المسلحة. كان يعرف أن قطر، من خلال خالد بن جاسر، كانت تلعب دورًا رئيسيًا في تمويل هذه المعارضة، وأن الجذميرة كانت جزءًا من هذه الاستراتيجية. كانت القناة تُستخدم لتضخيم روايات المعارضة، ولتشكيل الرأي العام العربي بطريقة تخدم الأهداف الأمريكية. لكن كيميت، بعقليته العسكرية، لم يكن يهتم كثيرًا بالتفاصيل. كان يرى الجذميرة كأداة، تمامًا كما كان يرى قاعدة العديم أداة.

في دمشق، كان يوسف يواصل بحثه عن الحقيقة. كان قد بدأ يتواصل مع صحفيين آخرين، بعضهم من داخل سوريا وآخرون من الخارج. كان يحاول جمع معلومات عن دور الجذميرة في الأزمة السورية، وعن علاقتها بقاعدة العديم. كان قد قرأ مقالات إدوارد هيكل، التي حذرت منذ سنوات من أن الجذميرة ليست صوت الشارع العربي، بل أداة لتفتيته. كانت هذه المقالات تؤكد شكوكه، لكنها كانت أيضًا تثير المزيد من الأسئلة. كيف يمكن لقناة تحمل شعار المقاومة أن تكون جزءًا من نظام إمبريالي؟ وكيف يمكن لشخص مثل فيصل الإسخريوطي، الذي كان يومًا صديقًا ليحيى الغفاري، أن يتحول إلى داعم لجماعات مثل هيئة تحرير الشام؟

في إحدى الليالي، جلس يوسف في شقته وفتح جهاز الكمبيوتر. كان قد بدأ يكتب مقالاً عن الجذميرة، لكنه كان يعرف أن نشره سيكون محفوفًا بالمخاطر. كان يعرف أن الإعلام في سوريا، وفي العالم العربي عمومًا، لم يكن مكانًا للأصوات المستقلة. لكنه كان مصممًا على مواصلة البحث. كتب في دفتره: "الحقيقة ليست في الشاشات، بل في الشجاعة لكشفها". كانت هذه الكلمات بمثابة تذكير لنفسه بأن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان الطريق الوحيد الذي يستحق السير فيه.


الفصل الرابع :

في شقته المطلة على النيل، جلس إدوارد هيكل محاطًا بكتبه ومذكراته، يحضر لمقابلة مع قناة الميادين. كان عام 2014، والقاهرة كانت تعيش تحت وطأة تغيرات سياسية متسارعة بعد ثورة 2011 وما تبعها من اضطرابات. كان هيكل، المحلل السياسي الأسطوري الذي ارتبط اسمه بأيام عبد الناصر والعروبة، يشعر بثقل السنوات. كانت عيناه، المختبئتان خلف نظارة سميكة، تحملان نظرة رجل رأى الكثير، وكتب الكثير، لكنه لا يزال يبحث عن طريقة لفهم العالم الجديد الذي أصبح أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. كان مكتبه مليئًا بالوثائق والصحف القديمة، وبعضها يعود إلى الستينيات، عندما كان يقود حملات إعلامية لدعم القضايا العربية. لكنه الآن، في هذا العام، كان يشعر أن الإعلام الذي عرفه قد تغير، وأن قناة مثل الجذميرة، التي تُعرف بـ"صوت العديم الإعلامي"، أصبحت رمزًا لتفتيت الأمة بدلاً من توحيدها.

كان هيكل يحضر للمقابلة بعناية. كان قد كتب ملاحظاته على ورقة صغيرة، بخط يده الذي بدأ يرتجف قليلاً بسبب السن. كتب: "الجذميرة ليست صوت الشارع العربي، بل أداة لتفتيته. إنها جيش يرفع راية العروبة، لكنه يخدم أعداءها". كانت هذه الكلمات خلاصة سنوات من التأمل والتحليل. كان هيكل قد بدأ يراقب الجذميرة منذ تأسيسها عام 1996، عندما كانت تُقدم كمشروع إعلامي طموح يهدف إلى كسر احتكار الإعلام الغربي. لكنه، بعينيه الثاقبتين، رأى منذ البداية أن القناة ليست مجرد مشروع قطري، بل جزء من استراتيجية أكبر، استراتيجية ترتبط بقاعدة العديم وبالمصالح الأمريكية والبريطانية في المنطقة.

كانت شقة هيكل، المطلة على مياه النيل الهادئة، ملاذه الأخير. كانت الجدران مزينة بصور قديمة له مع عبد الناصر، ومع زعماء آخرين من عصر العروبة. كان هناك أيضًا صورة لاجتماع في القاهرة عام 1967، بعد هزيمة النكسة، حيث كان هيكل يجلس مع مجموعة من الصحفيين، يناقشون كيفية استعادة الكرامة العربية. لكنه الآن، في 2014، كان يشعر أن تلك الأحلام قد تبخرت. كان الإعلام العربي، الذي كان يومًا أداة للوحدة، قد تحول إلى سلاح للانقسام. كانت الجذميرة، بتغطيتها للربيع العربي، قد لعبت دورًا رئيسيًا في تأجيج الصراعات في مصر وسوريا وليبيا. كان هيكل يرى أن القناة، تحت قيادة شخصيات مثل خالد بن جاسر، كانت تستخدم لدعم جماعات متطرفة في سوريا، بينما تدعي في الوقت ذاته أنها صوت الشعب.

في تلك اللحظة، رن هاتف هيكل. كان المتصل يوسف، الصحفي الشاب من دمشق، الذي كان قد بدأ يكتب إليه منذ أشهر، يطلب نصائحه ويشاركه شكوكه حول الجذميرة. كان يوسف قد قرأ مقالات هيكل القديمة في الأهرام، وكان معجبًا بقدرته على كشف الحقائق وراء الروايات الإعلامية. "يا أستاذ إدوارد"، قال يوسف بنبرة مليئة بالحماسة والقلق، "سمعت عن تصريح العقيد كيميت. قال إن الجذميرة شريكة في دعم إسرائيل. كيف يمكننا مواجهة هذا التضليل؟" توقف هيكل للحظة، ونظر إلى النيل من نافذته. ثم أجاب بنبرة هادئة ولكن حازمة: "ابحث عن الحقيقة، يا يوسف، حتى لو كانت مدفونة تحت أنقاض الروايات. الجذميرة ليست سوى أداة، والحقيقة ليست في شاشاتها، بل في الشجاعة لكشفها".

كانت هذه الكلمات بمثابة شعلة أضاءت طريق يوسف. كان يوسف، الذي كان لا يزال في أوائل الثلاثينيات، قد بدأ رحلته الصحفية في دمشق، حيث التقى بأبو سمير في مقهى النور عام 2003. منذ ذلك الحين، كان يحاول فهم اللغز الذي يحيط بالجذميرة. كان قد سمع عن تصريح كيميت، الذي كشف عن العلاقة بين القناة وقاعدة العديم، وكان قد قرأ مقالات هيكل التي حذرت منذ سنوات من أن الجذميرة تخدم أجندات غربية. لكن المكالمة مع هيكل كانت مختلفة. كانت كلماته تحمل وزن التجربة، وكأنه يمرر شعلة من جيل إلى جيل.

في شقته، عاد هيكل إلى كتابة يومياته. كان يكتب كل يوم، وكأنه يحاول توثيق العالم الذي يراه يتغير أمام عينيه. كتب: "الجذميرة ليست مجرد قناة، إنها سلاح في يد من يريدون إعادة تشكيل المنطقة. لقد رأيت هذا من قبل، في الستينيات، عندما حاولت القوى الغربية تقسيم العالم العربي. لكن الآن، الأدوات أكثر ذكاءً، والأقنعة أكثر إحكامًا". كان هيكل يتذكر أيام عمله مع عبد الناصر، عندما كان الإعلام العربي يحاول بناء وحدة في مواجهة الاستعمار. كان يتذكر كيف كان الصحفيون في تلك الفترة يعملون بحماسة، يؤمنون بأن كلماتهم يمكن أن تغير التاريخ. لكنه الآن، في 2014، كان يرى أن الإعلام قد تحول إلى أداة للتدمير.

في اليوم التالي، توجه هيكل إلى استوديو الميادين في القاهرة. كانت المقابلة مقررة أن تكون حول دور الإعلام في الربيع العربي، لكن هيكل كان مصممًا على التركيز على الجذميرة. جلس أمام الكاميرا، وكان وجهه يحمل مزيجًا من الحزم والحزن. بدأ الحديث ببطء، كما اعتاد دائمًا، لكنه سرعان ما تحول إلى هجوم حاد على الجذميرة. "هذه القناة"، قال بنبرة واثقة، "ليست صوت الشعب العربي. إنها منصة تُدار بتمويل قطري، لكنها تخدم أجندات أمريكية وبريطانية. انظروا إلى قاعدة العديم، التي تقع على بعد أميال من مبناها. هل يمكن لقناة تعمل تحت ظل هذه القاعدة أن تكون صوت المقاومة؟" كانت كلماته تتردد في الاستوديو، وكان المذيع، وهو شاب يحترم هيكل ولكنه يخشى من حدة كلامه، يحاول توجيه الحديث إلى مواضيع أقل حساسية. لكن هيكل لم يكن من النوع الذي يتراجع.

خلال المقابلة، تحدث هيكل عن كيفية استخدام الجذميرة لدعم جماعات متطرفة في سوريا، مثل جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمود الجليلي. كان يعرف أن هذا الموضوع حساس، لكنه كان مصممًا على قول الحقيقة. "الجذميرة"، قال، "تقدم هذه الجماعات كأبطال، بينما تتجاهل حقيقة أنها تتلقى أسلحة وتمويلًا من دول مثل قطر، التي تعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة". كانت هذه الكلمات بمثابة قنبلة في الأوساط الإعلامية. كان هيكل يعرف أن الجذميرة سترد، ربما ببيان يتهمه بالتحيز أو بفقدان الصلة بالواقع، لكنه لم يكن يهتم. كان يرى أن دوره، كصحفي ومحلل، هو كشف الحقيقة، بغض النظر عن العواقب.

في دمشق، كان يوسف يشاهد المقابلة على شاشة تلفاز صغيرة في شقته. كان يشعر بالإعجاب بهيكل، لكنه كان يشعر أيضًا بالقلق. كان يعرف أن التحدث بهذه الصراحة في عالم الإعلام الحديث قد يكون خطيرًا. كتب في دفتره: "إدوارد هيكل يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله. لكن هل سيستمع أحد؟" كان يوسف قد بدأ يكتب مقالاته الخاصة، ينشرها في منصات صغيرة مستقلة، لكنه كان يعرف أن تأثيره محدود. كان يحلم بأن يكون مثل هيكل، لكنه كان يعرف أن الطريق طويل ومليء بالعقبات.

في الدوحة، كانت إدارة الجذميرة تستعد للرد على هيكل. في غرفة الاجتماعات، كان المدير التنفيذي يصرخ: "لا يمكننا أن نسمح لهيكل بتشويه سمعتنا!" اقترح أحد المحررين إجراء مقابلة مع فيصل الإسخريوطي للرد على اتهامات هيكل، لكن المدير رفض الفكرة. "الإسخريوطي مثير للجدل أكثر من اللازم"، قال. "سنصدر بيانًا ننفي فيه هذه الاتهامات، وسنواصل التغطية كالمعتاد". لكن في الواقع، كان الجميع في القناة يعرفون أن هيكل لم يكن مخطئًا تمامًا. كانت الجذميرة، رغم ادعائها الحيادية، تخدم أجندات محددة، سواء كانت قطرية أو غربية.

في القاهرة، عاد هيكل إلى شقته بعد المقابلة. كان يشعر بالإرهاق، لكنه كان راضيًا. كان يعرف أن كلماته قد تصل إلى أشخاص مثل يوسف، الذين يحملون أمل التغيير. جلس على كرسيه المفضل، وفتح دفتر يومياته. كتب: "الإعلام اليوم ليس أداة للحقيقة، بل سلاح في يد من يملكون القوة. لكن الحقيقة، مهما كانت مدفونة، ستجد طريقها دائمًا". كانت هذه الكلمات تعكس إيمانه العميق بأن الحقيقة، رغم كل شيء، لا يمكن إخفاؤها إلى الأبد.

في الأيام التالية، بدأت الجذميرة حملة للرد على هيكل. أصدرت بيانًا قالت فيه إن اتهاماته "لا أساس لها من الصحة"، وأن القناة ملتزمة بدعم القضايا العربية. لكن البيان لم يكن مقنعًا للكثيرين. كانت منصات التواصل الاجتماعي مليئة بالتعليقات التي تدعم هيكل، وكان هناك من بدأ يتساءل عن دور الجذميرة في الأزمة السورية. كتب أحد الناشطين: "هيكل قال الحقيقة التي نخاف من سماعها. الجذميرة ليست صوتنا، بل صوت من يدفعون لها".

في دمشق، كان يوسف يواصل بحثه. كان قد بدأ يتواصل مع صحفيين آخرين، بعضهم من سوريا وآخرون من الخارج. كان يحاول جمع معلومات عن دور الجذميرة في دعم جماعات مثل هيئة تحرير الشام، التي كان يقودها أبو محمود الجليلي. كان يعرف أن هذه الجماعات، التي كانت تُقدم كـ"ثوار" على شاشة الجذميرة، كانت في الواقع مسؤولة عن أعمال عنف وتطرف. كان يوسف يشعر أن مهمته ليست فقط كشف الحقيقة، بل إيجاد طريقة لإيصالها إلى الناس.

في القاهرة، كان هيكل يتلقى رسائل من صحفيين وناشطين، يشكرونه على شجاعته. كان يعرف أن كلماته قد أثرت في البعض، لكنه كان يعرف أيضًا أن التغيير الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد كلمات. كان يأمل أن يجد شباب مثل يوسف طريقهم لمواجهة التضليل الإعلامي. في إحدى الليالي، جلس هيكل على شرفة شقته، ينظر إلى النيل. كان النهر هادئًا، لكنه كان يعرف أن تحت سطحه تتحرك تيارات قوية. كتب في يومياته: "الحقيقة مثل النيل، تبدو هادئة، لكنها لا تتوقف أبدًا". كانت هذه الكلمات تعكس إيمانه بأن الأمل لا يزال موجودًا، حتى في عالم مليء بالخفاء.

الفصل الخامس


في شقة متواضعة في جنيف، حيث كانت النوافذ تطل على بحيرة ليمان الهادئة، جلس هيثم منير أمام جهاز كمبيوتر قديم، يكتب مقالاً جديداً بعنوان "الجذميرة: قناع المقاومة". كان عام 2020، وقد مرت تسع سنوات منذ بداية الأزمة السورية، التي قلبها الإعلام، وعلى رأسه قناة الجذميرة، إلى مسرح للصراعات الإقليمية والدولية. كانت الشقة، بجدرانها البيضاء البسيطة وأثاثها المتواضع، تعكس حياة منير كرجل اختار العزلة عن عالم السياسة الصاخب. كان هيثم منير، ناشط حقوق الإنسان السوري الذي اشتهر برفضه دعم أي طرف في الحرب السورية، يعيش في جنيف منذ سنوات، بعيداً عن دمشق التي أحبها وتركها مضطراً. كان جهاز الكمبيوتر، الذي اشتراه مستعملًا من متجر محلي، يصدر صوتاً مزعجاً أثناء الكتابة، لكن منير لم يهتم. كان تركيزه منصباً على الكلمات التي يدونها، كل كلمة تحمل وزناً من الحقيقة التي حاول جاهدًا كشفها.

كان منير قد سمع مؤخراً عن تقرير يتحدث عن دفع الجذميرة مليوني دولار لتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، لإجراء مقابلة مع أسعد الشيهاني، أحد أبرز مذيعي القناة. كان هذا الخبر قد أثار غضبه، ليس فقط لأن بلير كان أحد مهندسي غزو العراق عام 2003، بل لأنه كشف عن تناقض صارخ في خطاب الجذميرة. كيف يمكن لقناة تدعي دعم القضايا العربية أن تدفع ملايين الدولارات لمجرم حرب؟ كتب منير في مقاله: "الجذميرة ليست صوت المقاومة، بل قناع يخفي تواطؤاً مع القوى الإمبريالية. دفعها لتوني بلير ليس سوى دليل آخر على أنها ليست صوت الشارع العربي، بل صوت من يدفعون لها". كانت كلماته حادة، لكنها لم تكن جديدة. كان منير قد قضى سنوات يحذر من دور الجذميرة في تأجيج الصراعات، لكنه كان يعرف أن صوته، في عالم يهيمن عليه الإعلام الممول، كان يشبه صيحة في الصحراء.

كانت حياة منير مليئة بالتناقضات. كان ناشطاً لحقوق الإنسان، لكنه رفض الانحياز لأي طرف في الحرب السورية، سواء كان النظام أو المعارضة المسلحة. كان يؤمن بأن الحل الوحيد للأزمة السورية هو الحوار، لكنه كان متهماً من الجميع: النظام رآه خائناً، والمعارضة رأته متخاذلاً، وحتى بعض زملائه في مجال حقوق الإنسان اتهموه بالسلبية. لكن منير لم يهتم بهذه الاتهامات. كان يرى أن دوره هو الكشف عن الحقيقة، حتى لو كانت مرة. في شقته الصغيرة، كان يحتفظ بملفات مليئة بالوثائق والتقارير عن الحرب السورية، وعن دور الإعلام في تشكيل الرأي العام. كان لديه ملف خاص عن الجذميرة، مليء بالمقالات والتحليلات التي تكشف عن علاقتها بقاعدة العديم وبمصالح قطر والغرب.

في تلك الليلة، وبينما كان يكتب مقاله، تلقى منير رسالة بريد إلكتروني من يوسف، الصحفي الشاب من دمشق. كان يوسف قد بدأ يكتب إلى منير منذ سنوات، يشاركه شكوكه حول الجذميرة ويطلب نصائحه. في رسالته الأخيرة، كتب يوسف: "يا أستاذ هيثم، سمعت عن دفع الجذميرة لتوني بلير. كيف يمكننا مواجهة هذا النوع من التضليل؟ أشعر أننا نصارع شبحاً". قرأ منير الرسالة بعناية، وابتسم ابتسامة باهتة. كان يرى في يوسف نفسه عندما كان شاباً، مليئاً بالحماسة والرغبة في تغيير العالم. رد منير برسالة قصيرة: "لا تصدق كل ما تراه، يا يوسف. الجذميرة ليست مرآة، بل قناع. ابحث عن الحقيقة في التفاصيل الصغيرة، في الأصوات التي لا تُسمع على الشاشات".

كان منير يعرف أن نصيحته ليست سهلة التنفيذ. كان يعرف أن الجذميرة، بتمويلها الضخم ونفوذها الواسع، كانت قادرة على تشكيل الرأي العام بطريقة لا تستطيع الأصوات المستقلة مثل صوته منافستها. لكنه كان يؤمن أن الحقيقة، مهما كانت ضعيفة في البداية، لها قوة لا تُقاوم. كان قد قرأ مقالات إدوارد هيكل، التي حذرت منذ سنوات من أن الجذميرة تخدم أجندات غربية، وكان قد شاهد مقابلته على قناة الميادين عام 2014، عندما وصف القناة بأنها "أداة لتفتيت الشارع العربي". كان منير يرى أن هيكل كان محقاً، لكنه كان يعرف أيضاً أن التحدي الحقيقي ليس فقط كشف الحقيقة، بل إيصالها إلى الناس.

في شقته، كان منير يحتفظ بصورة قديمة لدمشق، التقطها في التسعينيات عندما كان لا يزال يعيش هناك. كانت الصورة تُظهر سوق الحميدية في يوم مشمس، حيث كان الناس يتجولون ويتحدثون بحرية. كان ينظر إلى الصورة أحياناً، ويشعر بحنين إلى تلك الأيام البسيطة، قبل أن تتحول سوريا إلى ساحة حرب. كان يتذكر كيف كان يجلس في مقاهي دمشق، مثل مقهى النور، ويناقش مع أصدقائه مستقبل العالم العربي. لكنه الآن، في جنيف، كان يشعر بالعزلة. كان يعرف أن صوته، رغم أهميته، لا يصل إلا إلى قلة قليلة.

في تلك الأثناء، كانت الجذميرة تواصل تغطيتها للأزمة السورية، مقدمة صورة مثالية للمعارضة المسلحة، بما في ذلك جماعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمود الجليلي. كانت القناة تستضيف شخصيات مثل فيصل الإسخريوطي، الذي أصبح رمزاً للجدل في برنامجه "الاتجاه المعاكس". لكن منير، الذي كان يتابع هذه التغطية من بعيد، كان يرى أن الجذميرة لم تكن تقدم الحقيقة، بل نسخة مشوهة منها. كان يعرف أن القناة، بتمويل من خالد بن جاسر وتحت مظلة قاعدة العديم، كانت جزءاً من استراتيجية أكبر تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

في إحدى الليالي، قرر منير أن يأخذ استراحة من الكتابة. خرج من شقته وتجول في شوارع جنيف الهادئة. كانت المدينة، بمبانيها الأنيقة وشوارعها النظيفة، تبدو كعالم آخر مقارنة بدمشق التي تركها. لكنه لم يشعر بالراحة. كان يحمل في قلبه ثقل الحرب السورية، وثقل التناقضات التي رآها في عالم الإعلام. توقف عند مقهى صغير، وطلب فنجان قهوة. جلس في زاوية، يراقب الناس من حوله. كانوا يتحدثون بلغات مختلفة، يضحكون، ويبدون غافلين عن العالم الذي كان يشغل بال منير. فتح هاتفه، وقرأ خبراً عن تقرير جديد يكشف عن دعم قطر لجماعات متطرفة في سوريا. لم يفاجئه الخبر، لكنه زاد من إصراره على مواصلة الكتابة.

عاد منير إلى شقته، واستأنف كتابة مقاله. كتب عن كيفية استخدام الجذميرة لتشكيل الرأي العام، عن كيفية تقديمها لجماعات مثل هيئة تحرير الشام كأبطال، بينما تتجاهل حقيقة أن هذه الجماعات كانت مسؤولة عن أعمال عنف وتطرف. كتب عن تصريح العقيد مارك كيميت عام 2012، الذي قال فيه إن الجذميرة شريكة في دعم إسرائيل من خلال قاعدة العديم. كتب عن مقالات إدوارد هيكل، التي وصفت الجذميرة بأنها أداة لتفتيت الشارع العربي. كانت كلماته مليئة بالغضب، لكنها كانت أيضاً مدعومة بالحقائق والوثائق التي جمعها على مر السنين.

في اليوم التالي، تلقى منير دعوة لحضور مؤتمر في جنيف حول دور الإعلام في الصراعات. كان المؤتمر يضم صحفيين وناشطين من جميع أنحاء العالم، وكان منير مدعواً للتحدث عن تجربته في سوريا. وافق على الحضور، لكنه كان يعرف أن كلماته ستثير جدلاً. في المؤتمر، وقف منير أمام الجمهور، وتحدث بنبرة هادئة ولكن حازمة. "الإعلام اليوم"، قال، "لم يعد أداة لنقل الحقيقة، بل سلاح في يد من يملكون القوة. الجذميرة مثال واضح على ذلك. إنها تدعي المقاومة، لكنها تعمل من قلب قاعدة العديم، وتدعم جماعات تدمر شعوبنا". كانت كلماته تتردد في القاعة، وكان الجمهور يستمع بانتباه. لكن منير كان يعرف أن التغيير الحقيقي لن يأتي من كلمات في مؤتمر، بل من عمل طويل وشاق.

بعد المؤتمر، تلقى منير رسالة أخرى من يوسف. كان يوسف قد بدأ يكتب مقالاته الخاصة، ينشرها في منصات صغيرة مستقلة. كتب يوسف: "يا أستاذ هيثم، قرأت مقالك الأخير. أنت تلهمني، لكنني أشعر بالعجز. كيف يمكننا مواجهة قناة مثل الجذميرة؟" رد منير برسالة طويلة هذه المرة. كتب: "يا يوسف، لا تشعر بالعجز. الحقيقة ليست في القوة، بل في الإصرار. استمر في الكتابة، في البحث، في طرح الأسئلة. الجذميرة قد تكون قوية اليوم، لكن الحقيقة أقوى على المدى الطويل". كانت هذه الكلمات تعكس إيمان منير بأن الأمل لا يزال موجوداً، حتى في عالم مليء بالتضليل.

في الأسابيع التالية، واصل منير كتابته. كان يكتب مقالات، ويشارك في مناقشات عبر الإنترنت، ويتواصل مع صحفيين مثل يوسف. كان يعرف أن عمله لن يغير العالم بين عشية وضحاها، لكنه كان يؤمن بأن كل كلمة يكتبها هي خطوة نحو الحقيقة. في إحدى الليالي، جلس منير في شقته، ونظر إلى الصورة القديمة لدمشق. كتب في مذكراته: "الحقيقة مثل الياسمين في دمشق، قد تُخفى تحت أنقاض الحرب، لكن رائحتها تبقى". كانت هذه الكلمات تعكس إيمانه العميق بأن الحقيقة، مهما كانت مدفونة، ستجد طريقها دائماً.

الفصل السادس



في مدينة إدلب، حيث كانت الحرب قد تركت ندوباً عميقة على كل زاوية، جلس أبو محمود الجليلي في مكتب مؤقت في مبنى مهجور كان يوماً مدرسة ابتدائية. كان عام 2025، وقد تحولت إدلب إلى معقل لهيئة تحرير الشام، الجماعة التي يقودها الجليلي، والتي كانت تُعرف سابقاً بجبهة النصرة. كانت الجدران المتشققة للمكتب تحمل آثار القذائف، والنوافذ المكسورة تطل على شوارع خاوية إلا من أصوات الطائرات بدون طيار التي تحوم في السماء. كان الجليلي، رجل في الأربعينيات ذو لحية مشذبة وعينين باردتين كالصقيع، يجلس على كرسي بلاستيكي قديم، يشاهد على شاشة هاتف محمول حلقة جديدة من برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي يقدمه فيصل الإسخريوطي على قناة الجذميرة، صوت العديم الإعلامي. كان الإسخريوطي، بصوته الجهوري وبدلته الأنيقة، يمدح الجليلي كـ"قائد ثورة"، واصفاً إياه بأنه رمز المقاومة ضد النظام السوري. لكن الجليلي، وهو يراقب الشاشة، لم يبدُ متأثراً بهذا المديح. كان يعرف أن كلمات الإسخريوطي ليست سوى جزء من لعبة أكبر، لعبة يديرها خالد بن جاسر وأسياده في قطر والغرب.

كان الجليلي رجلاً قليل الكلام، لكنه كان يمتلك ذكاءً حاداً جعله يتسلق سلم القيادة في عالم الفوضى السورية. كان قد بدأ حياته كمقاتل في صفوف جماعات متطرفة، لكنه تعلم بسرعة أن الحرب لا تُكسب بالسلاح وحده، بل بالروايات. كان يعرف أن الجذميرة، التي كانت تُقدم جماعته كأبطال، لم تكن تدعمها من أجل مبادئ، بل كجزء من استراتيجية قطر لتوسيع نفوذها في المنطقة. كان قد التقى بمسؤولين قطريين في السنوات السابقة، وكان يعرف أن الدعم المالي والعسكري الذي تتلقاه جماعته كان يأتي بتنسيق مع قاعدة العديم، تلك القاعدة التي كانت مركز العمليات الأمريكية في الشرق الأوسط. لكن الجليلي لم يكن يهتم كثيراً بالتفاصيل. كان يرى نفسه كلاعب في شطرنج معقدة، حيث كل طرف يستخدم الآخر لتحقيق أهدافه.

في تلك اللحظة، دخل المكتب مقاتل شاب يحمل هاتفاً آخر، يعرض مقطعاً قديماً ليحيى الغفاري، المذيع الدمشقي الذي كان صديقاً لفيصل الإسخريوطي في أيام دمشق الهادئة. كان المقطع من مقابلة أجراها يحيى عام 2003، عندما استضاف الإسخريوطي في برنامج تلفزيوني محلي. في المقطع، كان يحيى يتحدث بحماسة عن دور الإعلام العربي في مواجهة الهيمنة الغربية، بينما كان الإسخريوطي يبتسم بخجل ويوافق بكلمات عامة. نظر الجليلي إلى الشاشة، ثم إلى المقاتل الشاب، الذي قال بسخرية: "هل كان هذا صديقك، يا فيصل؟" كان المقاتل يعرف أن يحيى الغفاري قد اغتيل عام 2013 على يد جبهة النصرة، الجماعة التي كان الجليلي أحد قادتها آنذاك. لم يرد الجليلي، لكنه أشار بيده للمقاتل أن يغادر. كان يعرف أن الماضي مليء بالتناقضات، وأن الإسخريوطي، الذي يمدحه الآن على شاشة الجذميرة، كان يوماً صديقاً ليحيى، الرجل الذي أمر الجليلي نفسه بقتله.

كانت تلك اللحظة تعكس عمق التناقضات في عالم الحرب والإعلام. كان الجليلي يعرف أن الجذميرة، رغم ادعائها المقاومة، كانت جزءاً من نظام إمبريالي أكبر. كان قد سمع عن تصريح العقيد مارك كيميت عام 2012، الذي قال إن الجذميرة شريكة في دعم إسرائيل من خلال قاعدة العديم. كان قد قرأ مقالات إدوارد هيكل، التي وصفت الجذميرة بأنها أداة لتفتيت الشارع العربي. وحتى هيثم منير، الناشط السوري الذي كان يعيش في جنيف، كتب مقالات حادة ضد القناة، متهماً إياها بدعم جماعات مثل هيئة تحرير الشام. لكن الجليلي لم يكن يهتم كثيراً بهذه الانتقادات. كان يرى نفسه كرجل عملي، يستخدم الدعم القطري والإعلامي لتحقيق أهدافه الخاصة، حتى لو كانت هذه الأهداف تتعارض مع مبادئ المقاومة التي يدعيها.

في إدلب، كانت الحياة قاسية. كانت المدينة تحت الحصار، والمواد الغذائية شحيحة. كان الناس يعيشون في خوف دائم من القصف الجوي، سواء من الطائرات الروسية أو السورية. لكن الجليلي كان يحاول تقديم صورة مختلفة. كان يعرف أن الجذميرة، من خلال برامج مثل "الاتجاه المعاكس"، كانت تساعده في بناء صورة "الثائر البطل". كان يعرف أن هذه الصورة كانت ضرورية للحفاظ على دعم الجماهير، حتى لو كانت مبنية على أنصاف الحقائق. في إحدى المرات، تلقى دعوة من الجذميرة لإجراء مقابلة مباشرة. رفض الدعوة، ليس لأنه كان يخشى الكاميرات، بل لأنه كان يفضل أن يبقى في الظل. كان يعرف أن ظهوره على الشاشة قد يكشف عن تناقضاته، خاصة بعد أن أصبح اسمه مرتبطاً بأعمال عنف وتطرف.

في تلك الأثناء، في دمشق، كان يوسف، الصحفي الشاب، يتابع الأحداث من بعيد. كان قد بدأ يكتب مقالاته الخاصة، ينشرها في منصات مستقلة صغيرة، محاولاً كشف الحقيقة عن الجذميرة ودورها في الأزمة السورية. كان قد قرأ مقالات هيثم منير، وسمع مقابلة إدوارد هيكل على قناة الميادين، وكان قد شاهد مقطع العقيد كيميت الذي كشف عن علاقة الجذميرة بقاعدة العديم. لكن ما أثّر فيه أكثر كان المقطع القديم ليحيى الغفاري، الذي رآه على الإنترنت. كان يوسف يعرف أن يحيى كان صديقاً للإسخريوطي، وأن اغتياله على يد جبهة النصرة كان نقطة تحول في حياة الإسخريوطي. كتب يوسف في دفتره: "كيف يمكن لفيصل الإسخريوطي أن يمدح الجليلي، الرجل الذي أمر بقتل صديقه؟ هل هي الشهرة؟ المال؟ أم أنه فقد ضميره؟"

في إدلب، كان الجليلي يواصل إدارة عملياته. كان يعرف أن الحرب في سوريا لم تكن مجرد صراع محلي، بل كانت ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى. كان يعرف أن قطر، من خلال خالد بن جاسر، كانت تستخدمه كأداة لمواجهة النظام السوري وحلفائه. لكنه كان يعرف أيضاً أن هذا الدعم لن يدوم إلى الأبد. كان قد سمع عن خطط قطر لإعادة تسويق هيئة تحرير الشام كجماعة "معتدلة"، وكان يعرف أن الجذميرة ستلعب دوراً رئيسياً في هذه العملية. لكنه لم يكن يثق بالجذميرة تماماً. كان يعرف أن القناة، رغم مديحها له، كانت تخدم أجندات أخرى، أجندات لا تهتم بالشعب السوري بقدر ما تهتم بالمصالح الإقليمية والدولية.

في إحدى الليالي، جلس الجليلي مع مجموعة من قادته في المكتب المؤقت. كانوا يناقشون الوضع العسكري في إدلب، والخطوات التالية في مواجهة الحصار. لكن الحديث سرعان ما تحول إلى الإعلام. قال أحد القادة، وهو رجل شاب ذو وجه متعب: "الجذميرة تجعلنا نظهّر كأبطال، لكن هل يمكننا الوثوق بهم؟" رد الجليلي بنبرة باردة: "لا يوجد وثوق في هذه اللعبة. الجذميرة تستخدمنا، ونحن نستخدمها. المهم هو من يفوز في النهاية". كانت هذه الكلمات تعكس نظرته الواقعية للوضع. كان يعرف أن الإعلام، مثل الحرب، كان ساحة للمناورات، حيث لا يوجد أصدقاء دائمون، فقط مصالح مؤقتة.

في الدوحة، كان فيصل الإسخريوطي يستعد لحلقة جديدة من برنامجه. كان قد تلقى تعليمات من إدارة الجذميرة بالتركيز على إدلب، وتقديم الجليلي كرمز للمقاومة. لكنه كان يشعر بصراع داخلي. كان يتذكر يحيى الغفاري، صديقه الذي قُتل على يد جماعة الجليلي. كان يتذكر كيف كانا يجلسان معاً في مقهى النور في دمشق، يحلمان بإعلام عربي مستقل. لكنه الآن، وهو يقف أمام الكاميرات، كان يشعر أنه فقد جزءاً من نفسه. كان يعرف أن مديحه للجليلي كان جزءاً من أجندة القناة، وأن هذه الأجندة لم تكن تخدم الشعب السوري بقدر ما تخدم مصالح قطر والغرب. لكنه لم يكن قادراً على التراجع. كانت الشهرة، والمال، والضغوط من إدارة القناة، كلها عوامل جعلته يواصل اللعبة.

في دمشق، كان يوسف يواصل بحثه عن الحقيقة. كان قد بدأ يتواصل مع ناشطين وصحفيين آخرين، يحاول جمع معلومات عن دور الجذميرة في دعم جماعات مثل هيئة تحرير الشام. كان قد قرأ تقارير عن تمويل قطر للجماعات المتطرفة، وعن دور قاعدة العديم في تنسيق هذا الدعم. كان يعرف أن الجذميرة كانت تلعب دوراً رئيسياً في تسويق هذه الجماعات كثوار، بينما تتجاهل حقيقة أنها كانت مسؤولة عن أعمال عنف وتطرف. كتب يوسف في دفتره: "الجذميرة ليست مجرد قناة، إنها سلاح. والإسخريوطي ليس مجرد مذيع، إنه ممثل في مسرحية كتبها آخرون".

في إدلب، كان الجليلي يواصل إدارة معركته. كان يعرف أن الحرب في سوريا لم تكن ستنتهي قريباً، وأن الدعم القطري والإعلامي كان ضرورياً لبقائه. لكنه كان يعرف أيضاً أن هذا الدعم كان مشروطاً. كان قد سمع عن خطط لإعادة تسويق جماعته كقوة "معتدلة"، وكان يعرف أن الجذميرة ستكون في قلب هذه العملية. لكنه لم يكن قلقاً. كان يرى نفسه كرجل يعرف كيف يلعب اللعبة، حتى لو كانت اللعبة مليئة بالتناقضات. في تلك الليلة، أطفأ الجليلي هاتفه، ونظر إلى السماء من النافذة المكسورة. كانت الطائرات بدون طيار لا تزال تحوم، لكنه كان يشعر بنوع من الهدوء. كان يعرف أن الحرب، مثل الإعلام، كانت لعبة صبر، وأنه كان مستعداً للعبها إلى النهاية.


الفصل السابع :

عاد يوسف إلى دمشق في صيف عام 2025، بعد سنوات من التجوال بين المدن العربية والأوروبية، بحثاً عن الحقيقة التي ظل يطاردها منذ أيامه الأولى كصحفي شاب في مقهى النور. كانت دمشق، التي عرفها في طفولته، قد تغيرت كثيراً. كانت الحرب قد تركت آثارها على كل ركن، من الجدران المتصدعة في الأحياء القديمة إلى الوجوه المتعبة لسكانها. لكن المدينة، رغم جروحها، كانت لا تزال تحمل رائحة الياسمين التي كانت تتسلل إلى الشوارع الضيقة، كأنها تذكير بأن الحياة، حتى في أحلك اللحظات، تجد طريقها للاستمرار. كان يوسف، الذي أصبح الآن في منتصف الثلاثينيات، قد نضج كثيراً. لم يعد ذلك الشاب الحالم الذي كان يكتب ملاحظاته في دفتر رخيص في مقهى النور. كان الآن صحفياً متمرساً، يعمل في منصة إعلامية مستقلة صغيرة أسسها مع مجموعة من الزملاء، يحاولون من خلالها كشف الحقائق في عالم يهيمن عليه التضليل. كانت المنصة، التي أطلقوا عليها اسم "الصدى"، تحاول تقديم صوت مختلف، صوت لا يخضع لأجندات القنوات الكبرى مثل الجذميرة، التي كانت لا تزال تُعرف بـ"صوت العديم الإعلامي".

كانت رحلة يوسف طويلة وشاقة. بعد لقائه بأبو سمير في مقهى النور عام 2003، بدأ يشك في دور الجذميرة، وتصريح العقيد مارك كيميت عام 2012، الذي كشف عن شراكة القناة مع قاعدة العديم، عزز شكوكه. كانت مقالات إدوارد هيكل، التي وصفت الجذميرة بأنها أداة لتفتيت الشارع العربي، قد ألهمته، وكانت رسائل هيثم منير من جنيف قد أعطته دفعة لمواصلة البحث. لكن ما أثر فيه أكثر كان قصة يحيى الغفاري، المذيع الدمشقي الذي كان صديقاً لفيصل الإسخريوطي، والذي اغتيل على يد جبهة النصرة بقيادة أبو محمود الجليلي. كانت هذه القصة، التي اكتشفها يوسف من خلال مقاطع قديمة وروايات زملاء، رمزاً للتناقضات التي حاول فهمها. كيف يمكن للإسخريوطي، الذي كان يوماً صديقاً ليحيى، أن يصبح مدافعاً عن الجليلي على شاشة الجذميرة؟ كانت هذه الأسئلة تطارده، وكانت الدافع وراء قراره العودة إلى دمشق لبناء منصة إعلامية مستقلة.

في شقته الصغيرة في حي المزة، جلس يوسف أمام جهاز كمبيوتر محمول، يراجع مقالاً جديداً كتبه عن الجذميرة. كان المقال بعنوان "أصداء الخفاء: كيف تُستخدم الجذميرة لتفتيت الأمة"، وكان يستند إلى سنوات من البحث والتوثيق. كتب يوسف عن تصريح كيميت، وعن مقالات هيكل، وعن تقارير منير، وعن الدور الذي لعبته الجذميرة في دعم جماعات متطرفة مثل هيئة تحرير الشام. كتب عن كيفية استخدام القناة لتشكيل الرأي العام، مقدمة صورة مشوهة للحرب السورية، حيث تُقدم جماعات مثل الجليلي كأبطال، بينما تتجاهل حقيقة أن هذه الجماعات كانت مسؤولة عن أعمال عنف وتطرف. كان المقال حاداً، لكنه كان مدعوماً بالوثائق والأدلة، بما في ذلك تقارير عن تمويل قطر للمعارضة المسلحة، وعن دور قاعدة العديم في تنسيق هذا الدعم.

كان يوسف يعرف أن نشر هذا المقال سيكون محفوفاً بالمخاطر. كانت الجذميرة لا تزال قوة إعلامية ضخمة، وكانت لها شبكة واسعة من المؤيدين والممولين. لكنه كان مصمماً على مواصلة العمل. كان قد تلقى دعوة من الجذميرة نفسها للظهور في برنامج "الاتجاه المعاكس" مع فيصل الإسخريوطي، لمناقشة الأزمة السورية. كانت الدعوة مغرية، لأنها كانت ستعطيه منصة كبيرة للوصول إلى ملايين المشاهدين. لكنه رفض الدعوة بسرعة. كتب في رسالته إلى القناة: "لا أريد أن أكون جزءاً من مسرحيتكم". كان يعرف أن الظهور على شاشة الجذميرة سيجبره على الخضوع لقواعدها، وسيجعله جزءاً من الرواية التي تحاول القناة فرضها.

في الأيام التالية، بدأ يوسف يلتقي بأصدقاء وزملاء في دمشق. كان يحاول بناء شبكة من الصحفيين والناشطين الذين يشاركونه رؤيته. كان يعرف أن منصته "الصدى" بحاجة إلى دعم، سواء من الناحية المالية أو المعنوية. في إحدى الليالي، التقى بخالد، الطالب الجامعي الذي كان معجباً بالجذميرة في السابق. كان خالد قد تغير كثيراً. لم يعد ذلك الشاب الحماسي الذي كان يدافع عن القناة. كان قد بدأ يقرأ مقالات هيثم منير وإدوارد هيكل، وكان قد شاهد مقطع كيميت. "كنت مخطئاً بشأن الجذميرة"، قال خالد بنبرة مليئة بالندم. "كنت أظنها صوتنا، لكنها كانت صوتهم". ابتسم يوسف وقال: "لا تعتذر، يا خالد. المهم أنك بدأت ترى الحقيقة. انضم إلينا، ساعدنا في بناء صوت حقيقي".

في الشوارع الدمشقية، كانت الأحاديث تدور حول الأزمة السورية، وعن دور الإعلام في تشكيلها. كان الناس يتحدثون عن تصريح كيميت، وعن مقالات هيكل، وعن تقارير منير. كان هناك إحساس متزايد بأن الجذميرة لم تكن سوى جزء من لعبة أكبر. في إحدى المرات، سمع يوسف مجموعة من الشباب في سوق الحميدية يتحدثون عن الجذميرة بسخرية. "إنهم يقولون إنهم مع الشعب"، قال أحدهم، "لكنهم يعملون من قاعدة العديم. من يخدعون؟" كانت هذه الأحاديث تمنح يوسف أملاً. كان يرى أن الشارع العربي، رغم كل شيء، بدأ يستيقظ.

في تلك الفترة، قرر يوسف أن يكتب كتاباً بعنوان "أصداء الخفاء". كان يريد أن يكون الكتاب توثيقاً لرحلته في البحث عن الحقيقة، منذ أيامه في مقهى النور إلى عودته إلى دمشق. كان يريد أن يكشف فيه عن دور الجذميرة في تفتيت الأمة، وعن التناقضات التي تحيط بشخصيات مثل فيصل الإسخريوطي وأبو محمود الجليلي. بدأ يعمل على الكتاب في أوقات فراغه، يدون ملاحظاته ويجمع الوثائق. كان يعرف أن الكتاب قد لا يصل إلى جمهور واسع، لكنه كان يؤمن بأن كل كلمة يكتبها هي خطوة نحو الحقيقة.

في إحدى الليالي، تلقى يوسف رسالة من هيثم منير. كان منير قد قرأ أحد مقالات يوسف على منصة "الصدى"، وكتب له: "يا يوسف، أنت تقوم بعمل عظيم. لا تتوقف. الحقيقة تحتاج إلى أصوات مثل صوتك". كانت هذه الرسالة بمثابة دفعة معنوية كبيرة ليوسف. كان يعرف أن منير، رغم عزلته في جنيف، كان صوتاً مهماً في مواجهة التضليل. رد يوسف برسالة قصيرة: "شكراً، يا أستاذ هيثم. سأواصل، مهما كان الثمن".

في الدوحة، كانت الجذميرة تواصل عملها كالمعتاد. كان فيصل الإسخريوطي لا يزال يقدم برنامجه "الاتجاه المعاكس"، وكانت القناة لا تزال تُقدم جماعات مثل هيئة تحرير الشام كأبطال. لكن يوسف، من دمشق، كان يرى أن هذه الرواية بدأت تفقد بريقها. كان الناس في الشارع العربي، من القاهرة إلى بغداد، يبدأون في طرح الأسئلة. كانوا يتساءلون عن دور قطر، وعن قاعدة العديم، وعن الجذميرة. كانوا يقرأون مقالات هيكل ومنير، وكانوا يتابعون منصات مثل "الصدى". كان يوسف يشعر أن هناك أملاً، حتى لو كان ضعيفاً.

في إحدى الليالي، خرج يوسف ليتجول في شوارع دمشق. كان الهواء بارداً، ورائحة الياسمين تملأ الجو. توقف عند مقهى النور، الذي كان مغلقاً منذ سنوات. وقف على الرصيف المقابل، ينظر إلى الباب الصدئ. كان يتذكر أيامه الأولى هناك، عندما التقى بأبو سمير وسمع كلماته عن الجذميرة: "رائحتها ساحرة، لكن جذورها مسمومة". كتب يوسف في دفتره: "الحقيقة تأتي من الشارع، من الناس، من الأصوات التي لا تُسمع على الشاشات". كانت هذه الكلمات تعكس إيمانه بأن الأمل لا يزال موجوداً، حتى في عالم مليء بالخفاء.


الفصل الثامن

كان مقهى النور مغلقاً، والباب الخشبي الصدئ الذي كان يوماً مدخلاً لأحلام الصحفيين الشباب ونقاشاتهم الحماسية تحول إلى شاهد صامت على سنوات الحرب والتغيير في دمشق. جلس يوسف على الرصيف المقابل، ينظر إلى الواجهة المهجورة التي كانت يوماً مليئة بالحياة. كان عام 2025، وكانت دمشق، رغم جروحها العميقة، تحاول استعادة شيء من أنفاسها. كانت الشوارع لا تزال تحمل آثار القصف، لكن رائحة الياسمين كانت تتسلل من الحدائق القريبة، كأنها تذكير بأن المدينة، مهما عانت، لا تزال تقاوم. كان يوسف، الذي أصبح الآن في الثامنة والثلاثين من عمره، قد أنهى كتابه "أصداء الخفاء"، وهو عمل استغرق سنوات من البحث والكتابة. كان الكتاب توثيقاً لر حلته منذ أيامه الأولى في مقهى النور، عندما التقى بأبو سمير وسمع تحذيراته عن الجذميرة، إلى لحظته الحالية كصحفي مستقل يحاول كشف الحقيقة في عالم مليء بالتضليل. لكنه، وهو جالس على الرصيف، شعر أن الحقيقة لا تزال بعيدة المنال، كأنها شبح يراوغه كلما اقترب منه.

كان يوسف قد نشر كتابه من خلال منصته "الصدى"، التي أصبحت الآن ملتقى للصحفيين والناشطين الذين يسعون لتقديم صوت مستقل في مواجهة الإعلام الممول. لم يكن الكتاب قد حقق انتشاراً واسعاً بعد، لكنه كان يتلقى رسائل من قراء في سوريا ومصر ولبنان، يشكرونه على شجاعته. كتب في الكتاب عن تصريح العقيد مارك كيميت عام 2012، الذي كشف عن شراكة الجذميرة مع قاعدة العديم، وعن مقالات إدوارد هيكل التي وصفت القناة بأنها أداة لتفتيت الشارع العربي، وعن تقارير هيثم منير التي كشفت عن دعم الجذميرة لجماعات متطرفة مثل هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمود الجليلي. لكنه كتب أيضاً عن يحيى الغفاري، المذيع الدمشقي الذي كان صديقاً لفيصل الإسخريوطي، والذي اغتيل على يد جبهة النصرة. كان يوسف يرى في قصة يحيى رمزاً للخيانة والتناقضات التي حاول فهمها طوال حياته.

في تلك الليلة، وبينما كان يوسف جالساً على الرصيف، سمع صوت فيروز ينساب من راديو قديم في متجر قريب: "يا رايح ع دمشق، سلم ع الشام". كانت الأغنية تحمل ذكريات أيامه الأولى، عندما كان يجلس في مقهى النور، يحلم بأن يكون صوت الحقيقة. ابتسم يوسف ابتسامة خافتة، لكنه شعر بثقل المسؤولية. كان يعرف أن كتابه، رغم أهميته، لم يكن سوى خطوة صغيرة في معركة أكبر. كان الإعلام، بقوته الهائلة، لا يزال يهيمن على عقول الناس. كانت الجذميرة، رغم كل الانتقادات التي واجهتها، لا تزال قوة إعلامية ضخمة، مدعومة بتمويل قطري وتحت مظلة قاعدة العديم. كان فيصل الإسخريوطي لا يزال يقدم برنامجه "الاتجاه المعاكس"، وكانت القناة لا تزال تُقدم جماعات مثل هيئة تحرير الشام كأبطال، رغم أن الشارع العربي بدأ يستيقظ للحقيقة.

في الأيام التالية، بدأ يوسف يتلقى دعوات لإلقاء محاضرات في جامعات ومراكز ثقافية في دمشق وبيروت. كان الناس يريدون سماع قصته، قصة صحفي شاب رفض أن يكون جزءاً من آلة الإعلام الممول. في إحدى المحاضرات، تحدث يوسف عن كيفية استخدام الجذميرة لتشكيل الرأي العام، وعن كيفية تقديمها لروايات تخدم أجندات قطر والغرب. "الجذميرة ليست مجرد قناة"، قال بنبرة هادئة ولكن حازمة، "إنها سلاح يُستخدم لتفتيت الأمة. لكن الحقيقة، مهما كانت مدفونة، ستجد طريقها دائماً". كانت كلماته تتردد في القاعة، وكان الجمهور، وهو مزيج من الشباب والمثقفين، يستمع بانتباه. كان يوسف يشعر أن صوته، رغم ضعفه مقارنة بقوة الجذميرة، كان يصل إلى قلوب الناس.

في إحدى الليالي، تلقى يوسف رسالة من خالد، الطالب الجامعي الذي كان معجباً بالجذميرة في السابق. كان خالد قد انضم إلى فريق "الصدى"، وكان يعمل على كتابة تقارير عن الأزمة السورية. كتب خالد: "يا يوسف، قرأت كتابك. إنه يعطيني أملاً. لكن كيف يمكننا أن نواصل في مواجهة قوة مثل الجذميرة؟" رد يوسف برسالة قصيرة: "بالصبر والإصرار، يا خالد. الحقيقة ليست في القوة، بل في الشجاعة". كانت هذه الكلمات تعكس إيمان يوسف العميق بأن الأمل لا يزال موجوداً، حتى في عالم مليء بالخفاء.

في الدوحة، كانت الجذميرة تواصل عملها كالمعتاد. كان فيصل الإسخريوطي، الذي أصبح الآن في الخمسينيات من عمره، لا يزال يقدم برنامجه، لكنه كان يشعر بثقل السنوات. كان يعرف أن دوره كمذيع قد جعله رمزاً للتناقضات. كان يتذكر يحيى الغفاري، صديقه الذي قُتل على يد جبهة النصرة، وكان يتذكر كيف تحول هو نفسه من صحفي طموح إلى أداة في يد أجندات أكبر. في إحدى الليالي، وبعد تسجيل حلقة جديدة، جلس الإسخريوطي في شقته الفاخرة، ينظر إلى الخليج من نافذته. كان يشعر بفراغ داخلي، كأنه فقد جزءاً من نفسه. فتح هاتفه، ورأى مقالاً جديداً على منصة "الصدى"، بعنوان "أصداء الخفاء". قرأ المقال، وعرف أنه كتب عنه. كان المقال يتحدث عن تناقضاته، عن خيانته لصديقه يحيى، وعن دوره في تسويق جماعات مثل هيئة تحرير الشام. أغلق الهاتف، وشعر بثقل الذنب. لكنه لم يكن قادراً على التغيير. كان قد أصبح جزءاً من الماكينة، وكان يعرف أن الخروج منها سيكلفه كل شيء.

في إدلب، كان أبو محمود الجليلي يواصل قيادة جماعته في مواجهة الحصار. كان يعرف أن الجذميرة، التي كانت لا تزال تُقدمه كبطل، كانت تستخدمه كأداة في لعبة أكبر. لكنه لم يكن قلقاً. كان يرى نفسه كرجل عملي، يستخدم الدعم القطري والإعلامي لتحقيق أهدافه. في إحدى الليالي، جلس في مكتبه المؤقت، وشاهد حلقة جديدة من "الاتجاه المعاكس". كان الإسخريوطي يتحدث بحماسة عن "الثورة" في إدلب، لكن الجليلي كان يعرف أن هذه الكلمات كانت فارغة. كان يعرف أن الحرب، مثل الإعلام، كانت لعبة مصالح، وأنه كان مجرد لاعب فيها.

في جنيف، كان هيثم منير يواصل كتابته. كان قد قرأ كتاب يوسف "أصداء الخفاء"، وكتب له رسالة يهنئه فيها على شجاعته. كتب منير: "يا يوسف، كتابك هو صوت الحقيقة في زمن الخفاء. لا تتوقف". كان منير يعرف أن عمله، مثل عمل يوسف، كان جزءاً من معركة طويلة. كان يعرف أن الجذميرة، رغم كل الانتقادات، كانت لا تزال قوة إعلامية ضخمة. لكنه كان يؤمن بأن الحقيقة، مهما كانت ضعيفة في البداية، ستجد طريقها.

في القاهرة، كان إدوارد هيكل قد توفي منذ سنوات، لكن كلماته كانت لا تزال تتردد في أذهان من قرأوا مقالاته أو شاهدوا مقابلاته. كان هيكل قد حذر منذ البداية من أن الجذميرة ليست صوت الشارع العربي، بل أداة لتفتيته. كانت كلماته، التي كتبها في يومياته، بمثابة وصية للأجيال الجديدة: "الحقيقة ليست في الكلمات، بل في الشجاعة للبحث عنها". كان يوسف يحمل هذه الكلمات في قلبه، وكان يرى فيها دافعاً لمواصلة عمله.

في دمشق، واصل يوسف عمله مع فريق "الصدى". كان الفريق ينمو ببطء، مع انضمام صحفيين وناشطين جدد. كانوا ينشرون تقارير ومقالات عن الحرب السورية، وعن دور الإعلام في تشكيلها. كانوا يحاولون كشف الحقيقة عن الجذميرة، وعن قاعدة العديم، وعن الأجندات التي تقف وراءهما. كان العمل شاقاً، والتمويل محدوداً، لكن يوسف كان يشعر أن كل خطوة كانت تستحق العناء. في إحدى الليالي، جلس في شقته، وكتب في دفتره: "الحقيقة ليست في الشاشات، بل في الشوارع، في الناس، في الأصوات التي لا تُسمع". كانت هذه الكلمات تعكس إيمانه بأن الأمل لا يزال موجوداً، حتى في عالم مليء بالخفاء.

في تلك الليلة، خرج يوسف ليتجول في شوارع دمشق. كان الهواء بارداً، والشوارع هادئة. توقف عند سوق الحميدية، حيث كان الناس يتحدثون عن الحياة اليومية، عن الأمل في مستقبل أفضل. سمع صوت فيروز من متجر قريب، وشعر بنوع من الراحة. كتب في الصفحة الأخيرة من كتابه: "الحقيقة ليست في الكلمات، بل في الشجاعة للبحث عنها". كانت هذه الكلمات بمثابة وعد لنفسه، وعد بأن يواصل المعركة، مهما كانت الصعوبات. كان يعرف أن الجذميرة، وقاعدة العديم، وكل الأجندات الخفية، لن تتوقف بسهولة. لكنه كان يؤمن بأن الحقيقة، مثل الياسمين في دمشق، ستجد طريقها دائماً، حتى لو كانت مدفونة تحت أنقاض الخفاء.



……….

ملخص للرواية


يبدأ الفصل الأول في دمشق عام 2003، في مقهى النور، وهو ملتقى للصحفيين والمثقفين الذين يحلمون بتغيير العالم. يوسف، صحفي شاب من ريف السويداء، يجلس في زاوية المقهى، يدون ملاحظاته عن الإعلام العربي، وهو يحلم بأن يكون مثل إدوارد هيكل، رمز الصحافة العروبية. يراقب يوسف برنامجاً تلفزيونياً يستضيف فيه يحيى الغفاري، مذيع دمشقي، فيصل الإسخريوطي، نجم قناة الجذميرة الناشئ. يتحدث الإسخريوطي بحماسة عن دور الإعلام في مواجهة الهيمنة الغربية، لكن يوسف يشعر بشكوك حول مصداقية القناة التي تعمل من قلب قاعدة العديم، مركز العمليات الأمريكية في قطر. في المقهى، يلتقي يوسف بأبو سمير، محلل سياسي مخضرم عمل مع هيكل في الستينيات، يحذره من الجذميرة، واصفاً إياها بأنها مثل الياسمين الدمشقي: رائحتها ساحرة، لكن جذورها تخفي السم. هذا اللقاء يزرع في ذهن يوسف بذور الشك، ويدفعه للبحث عن الحقيقة وراء الروايات الإعلامية. يكتب يوسف في دفتره تساؤلات عن دور الجذميرة وعلاقتها بالقوى الغربية، ويبدأ رحلته كصحفي يسعى لكشف الحقيقة في عالم مليء بالضجيج.

في الفصل الثاني، ننتقل إلى الدوحة عام 2011، حيث يجلس فيصل الإسخريوطي في غرفة تحرير الجذميرة، يستعد لحلقة جديدة من برنامجه "الاتجاه المعاكس". لم يعد فيصل ذلك الصحفي المتواضع الذي ظهر في دمشق عام 2003؛ فقد تحول إلى نجم إعلامي، لكنه يشعر بصراع داخلي. يعرف أن القناة، التي تُقدم كصوت الربيع العربي، تخضع لتعليمات خالد بن جاسر، وزير الخارجية القطري، وهو ينفذ كل شيء صهيوني وامريكي بلا أدنى نقاش ، وتتماشى مع الأجندات الأمريكية. يتذكر فيصل أيامه مع يحيى الغفاري، صديقه الدمشقي الذي كان يؤمن بالإعلام كجسر للحقيقة، لكنه يعرف أيضاً أن يحيى قُتل على يد جبهة النصرة بعد وصفه آل سعود بـ"قرن الشيطان". يشعر فيصل بالذنب، لكنه يبرر لنفسه أن هذه هي طبيعة الإعلام، حيث لا أحد حر تماماً. يحلم بيحيى في كوابيس تطارده، متهماً إياه بالخيانة، لكنه يواصل دوره كمذيع، عاجزاً عن الخروج من الماكينة الإعلامية التي أصبح جزءاً منها. تظهر الجذميرة في هذا الفصل كأداة لتأجيج الانقسامات في المنطقة، مدعومة بتمويل قطري وتحت مظلة قاعدة العديم.

في الفصل الثالث، ننتقل إلى قاعدة العديم عام 2012، حيث يظهر العقيد مارك كيميت، ضابط المخابرات الأمريكية، بعد مقابلة مثيرة للجدل مع الجذميرة. في المقابلة، التي استمرت دقيقة واحدة، يرد كيميت على سؤال عن دعم أمريكا لإسرائيل بتصريح صادم: "الجذميرة شريكة!"، مشيراً إلى عمل القناة من قلب قاعدة العديم. يثير هذا التصريح عاصفة في الأوساط الإعلامية، حيث تحاول الجذميرة احتواء الأزمة ببيانات تنفي التواطؤ، لكن الشارع العربي يبدأ في طرح الأسئلة. يتابع يوسف هذا الحدث من دمشق، ويكتب في دفتره: "إذا كانت الجذميرة شريكة، فمن هو العدو الحقيقي؟" يلتقي بخالد، الطالب الجامعي الذي كان معجباً بالجذميرة، لكنه بدأ يشك فيها بعد تصريح كيميت. في قاعدة العديم، يواصل كيميت عمله غير مبالٍ بردود الفعل، مدركاً أن الجذميرة جزء من استراتيجية أمريكية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. يظهر هذا الفصل الجذميرة كجزء من نظام إمبريالي، حيث تُستخدم لدعم أجندات تخدم مصالح قطر والغرب، بينما تدعي المقاومة.

في الفصل الرابع، ننتقل إلى القاهرة عام 2014، حيث يظهر إدوارد هيكل، المحلل السياسي الأسطوري، في شقته المطلة على النيل، يحضر لمقابلة مع قناة الميادين. يرى هيكل، الذي كان رمزاً للصحافة العروبية، أن الإعلام العربي تحول إلى سلاح للانقسام. في المقابلة، يهاجم الجذميرة، واصفاً إياها بأنها منصة تخدم أجندات أمريكية وبريطانية، مدعومة بتمويل قطري وتعمل تحت ظل قاعدة العديم. يتحدث عن دعم القناة لجماعات متطرفة في سوريا، مثل هيئة تحرير الشام، ويحذر من دورها في تفتيت الأمة. في دمشق، يتابع يوسف المقابلة، ويجد في كلمات هيكل تأكيداً لشكوكه. يتواصل مع هيكل عبر الهاتف، يطلب نصيحته، فيرد هيكل: "ابحث عن الحقيقة، حتى لو كانت مدفونة". يواصل هيكل كتابة يومياته، مؤمناً بأن الحقيقة، مثل النيل، ستبقى دائماً. يظهر هذا الفصل هيكل كصوت الحقيقة في زمن التضليل، ويبرز إصرار يوسف على مواصلة البحث عن الحقيقة.

في الفصل الخامس، ننتقل إلى جنيف عام 2020، حيث يعيش هيثم منير، ناشط حقوق الإنسان السوري، في عزلة، يكتب مقالاته عن الجذميرة. يعيش منير في شقة متواضعة، محاطاً بوثائق وتقارير عن الحرب السورية، ويكتب مقالاً بعنوان "الجذميرة: قناع المقاومة". يكشف عن دفع القناة مليوني دولار لتوني بلير لإجراء مقابلة، متهماً إياها بالتواطؤ مع القوى الإمبريالية. يتواصل منير مع يوسف، مشجعاً إياه على مواصلة البحث عن الحقيقة. يتحدث منير في مؤتمر في جنيف عن دور الإعلام في الصراعات، محذراً من الجذميرة كسلاح لتفتيت الأمة. يظهر منير كصوت مستقل يرفض الانحياز لأي طرف، ويبرز إيمانه بأن الحقيقة، مثل الياسمين في دمشق، ستجد طريقها رغم الأنقاض.

في الفصل السادس، ننتقل إلى إدلب عام 2025، حيث يقود أبو محمود الجليلي هيئة تحرير الشام في معقلها الأخير. يشاهد الجليلي برنامج "الاتجاه المعاكس"، حيث يمدحه الإسخريوطي كرمز للمقاومة، لكنه يعرف أن هذا المديح جزء من لعبة أكبر. يدرك الجليلي أن الجذميرة تستخدمه لخدمة أجندات قطر والغرب، وأن دعمه المالي والعسكري يأتي بتنسيق مع قاعدة العديم. يتذكر اغتيال يحيى الغفاري، الذي أمر به، ويرى فيه رمزاً للتناقضات التي تحيط بحياته. في دمشق، يواصل يوسف بحثه، متأثراً بقصة يحيى ومقالات منير وهيكل. يكتب عن تناقضات الإسخريوطي، متسائلاً عن كيفية تحول صحفي طموح إلى أداة في يد القناة. يظهر هذا الفصل الجليلي كلاعب عملي في لعبة الحرب والإعلام، ويبرز صراع يوسف المستمر مع الحقيقة.

في الفصل السابع، يعود يوسف إلى دمشق عام 2025، حاملاً كتابه "أصداء الخفاء". يعمل مع فريق "الصدى"، منصة إعلامية مستقلة يحاول من خلالها كشف الحقيقة عن الجذميرة ودورها في الأزمة السورية. يكتب عن تصريح كيميت، ومقالات هيكل، وتقارير منير، وعن قصة يحيى الغفاري. يرفض دعوة للظهور في برنامج الإسخريوطي، مدركاً أنها ستجبره على الخضوع لأجندة القناة. يلتقي بخالد، الذي تخلى عن إعجابه بالجذميرة وانضم إلى "الصدى". يتحدث يوسف في محاضرات عن دور الإعلام في تفتيت الأمة، ويبدأ الشارع العربي في طرح الأسئلة عن الجذميرة وقاعدة العديم. يواصل فيصل الإسخريوطي برنامجه، لكنه يعاني من صراع داخلي، متذكراً خيانته ليحيى. يظهر هذا الفصل إصرار يوسف على بناء صوت مستقل، ويبرز بداية استيقاظ الشارع العربي.

في الفصل الثامن، يجلس يوسف أمام مقهى النور المهجور، يتأمل رحلته. كتابه "أصداء الخفاء" يحقق انتشاراً محدوداً، لكنه يتلقى رسائل دعم من قراء. يتحدث في محاضرات، ويواصل العمل مع "الصدى"، مدعوماً برسائل من هيثم منير. في الدوحة، يواصل الإسخريوطي برنامجه، لكنه يشعر بالذنب عند قراءة مقال عنه في "الصدى". في إدلب، يواصل الجليلي قيادة جماعته، مدركاً أن الجذميرة تستخدمه لخدمة أجندات أكبر. يتذكر يوسف كلمات أبو سمير وهيكل ومنير، ويكتب في دفتره: "الحقيقة ليست في الشاشات، بل في الشوارع". يظهر هذا الفصل يوسف كرمز للأمل في مواجهة التضليل، ويبرز إيمانه بأن الحقيقة، مثل الياسمين، ستجد طريقها رغم الأنقاض.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية: عشرة أعوام من الرماد
- رواية :رأس ابو العلاء المهشم !
- رواية: إمبراطورية سامر السريع
- رواية: أصداء الأفق المحطم
- رواية : ارض النبض الكربلائي العجيب
- رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز
- رواية : رقصة الدم على رمال النفط
- رواية: سنغافورة السراب
- رواية: أنقاض الإمبراطورية: غزة تُحرر أمريكا
- نهاية عصر الصهيونية: كيف تحولت أمريكا من عبدة اللوبي إلى ثوا ...
- رواية: أسرى الشرق المفقود
- سيرك الخيانة برعاية الروتشيلد
- رواية : دون كيشوت الفرات والنيل
- رواية :سلاسل العقل، أغلال القلب
- مسرحية العدو الأمريكي والصهيوني الكوميدية
- رواية لحن من الظلال..مع مقدمة نقدية تاريخية
- رواية: الخاتم والنار
- كيف تتحول الى إمبراطورية إعلامية تسخر من مردوخ
- رواية : عدسات مغموسة بالدم والحقيقة (رواية عن الهولوكوست الأ ...
- رواية : صرخة من النهر إلى البحر ( رواية عن الهولوكوست الأمري ...


المزيد.....




- فنانون عالميون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسب ...
- الترجمة بين الثقافة والتاريخ في المعهد الثقافي الفرنسي
- مسرحية -سيرك- تحصد 3 جوائز بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي
- لماذا شاع في ثقافة العرب استحالة ترجمة الشعر؟
- سلوم حداد.. تصريحات الممثل السوري حول نطق الفنانين المصريين ...
- جدل الفصحى.. الممثل السوري سلوم حداد يعتذر للمصريين بعد تصري ...
- السقا يفجر مفاجأة للجميع .. فيلم مافيا الجزء الثاني قريبًا “ ...
- تضارب الروايات حول اشتعال النيران في أسطول الحرية
- بسبب غزة.. 1800 فنان يتعهدون بمقاطعة مؤسسات الكيان السينمائي ...
- سوق المناخليّة.. حكاية حيّ يتنفس التاريخ


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : أصداء الخفاء