أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز















المزيد.....



رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 21:33
المحور: الادب والفن
    


مقدمة :


في شوارع لييج، حيث يختلط عطر الوافل المحمص برائحة المطر والمرارة، تقف المدينة كشاهدٍ صامت على عصرٍ نهشته السياسات النيوليبرالية، تلك الوحوش المبتسمة التي ارتدت أقنعة الديمقراطية لثلاثة عقود. كانت بلجيكا، بمصانعها القديمة وأسواقها المزدحمة، مرآةً لأوروبا التي استسلمت لسطوة الأوليغارشية المالية، تلك النخبة التي حوّلت الشعوب إلى أرقامٍ في جداولها، وبدّدت أحلامهم تحت شعارات التقدم والإصلاح. في قلب هذا العالم المتوحش، حيث يجري نهر الميز كشريانٍ يحمل ذكريات الأمل المسروق، تنبثق قصص ريجين وأندريه وفيدل وبيتر، أبطال رواية "مكعبات الوافل"، الذين يقاومون بضراوةٍ شاعرية نظاماً يسحق الإنسانية تحت أحذية المال.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت بلجيكا، على غرار ألمانيا ميركل وأخواتها الأوروبيات، رحلةً نحو التوحش النيوليبرالي، حيث كانت الحكومات تتفنن في صياغة قوانين تخدم الأقلية المالية على حساب الأغلبية الساحقة. كانت هذه الحكومات، بقيادة أحزاب مثل "ائتلاف أريزونا" في بلجيكا، ترفع شعارات الإصلاح بينما تمارس فاشيةً ناعمة، تقطع شرايين الضمان الاجتماعي، وتُغرق البلاد في ديونٍ لصالح الاحتكارات المالية. لم تكن هذه الحكومات تختلف كثيراً عن حكومات ميركل، التي اشتهرت بسياسات التقشف التي أفقرت الطبقة الوسطى وحوّلت العمال إلى عبيدٍ في مصانع الأوليغارشية. كانت الفكرة بسيطة: تحويل الاقتصاد إلى خادمٍ مطيع للنخبة، بينما يُترك الشعب يتخبط في مستنقع الفقر واليأس. في بلجيكا، كما في ألمانيا، أصبحت الدولة مسرحاً للعرائس، حيث تتحكم الاحتكارات المالية بخيوط البيادق السياسية، تخوّف الشعب يومياً بأكاذيب عن "أزمات اقتصادية" و"أعداء وهميين"، مثل روسيا، التي كانت، قبل أن ترفض الخضوع لنهب الروتشيلد، شريكاً اقتصادياً وفر النفط والغاز بأسعارٍ جعلت أوروبا تنافس العالم.

في ظل هذا التوحش، كانت ريجين، بطلة الفصل الأول، امرأة في الثامنة والستين، تجلس في شقتها المتواضعة في حي أوتريميوز، تحمل دفترها الجلدي المهترئ كأنه كنزٌ من أحلامٍ مجهضة. كانت ريجين، التي قضت ثلاثين عاماً تدير جمعية خيرية لدعم العمال المهاجرين، تحلم بتعلم العربية والسفر إلى مدن الشرق، حيث تخيلت نفسها تجلس في مقهى في القاهرة أو تتجول في شوارع البتراء. لكن الحكومة النيوليبرالية، التي رفعت سن التقاعد إلى 67 بحجة "الإنتاجية"، سرقت هذا الحلم. كانت ريجين تعاني من السكري وارتفاع ضغط الدم، لكنها أُجبرت على العمل حتى أنهكها المرض. كانت قوانين "ائتلاف أريزونا"، التي قلّصت تمويل الجمعيات غير الربحية، كالسكين في قلبها. عندما تقاعدت أخيراً، لم تجد سوى سرير المستشفى وأنابيب الأكسجين، وماتت تاركةً دفترها كوصيةٍ تحمل صرخة: "أريد أن أعيش." قصتها، كما تُروى في الفصل الأول، هي مرآة لملايين البلجيكيين الذين سُحقت أحلامهم تحت عجلات النظام النيوليبرالي.

أندريه، بطل الفصل الثاني، هو صورة أخرى لهذا الظلم. عامل مصنع على ضفاف نهر الميز، قضى حياته يحمل أكياس الأسمنت منذ السابعة عشرة، يحلم بتقاعدٍ مبكر في الثامنة والخمسين، بشراء منزل ريفي في والونيا لزراعة الخضروات وتربية الدجاج. لكن السياسات النيوليبرالية، التي رفعت سن التقاعد وقلّصت الإعانات، جعلت هذا الحلم سراباً. كان أندريه يعاني من آلام الظهر والرئتين بسبب الغبار، لكنه استمر في العمل، مضطراً لدفع الإيجار وفواتير الكهرباء. عندما أصيب بسرطان البنكرياس في الرابعة والخمسين، اكتشفه متأخراً بسبب إهماله لصحته تحت ضغط العمل. مات أندريه بعد أشهر، تاركاً دفتر ملاحظات مليء برسومات بيته الريفي الذي لم يره أبداً. قصته، كما تُروى في الفصل الثاني، هي شهادة على كيف حولت الحكومات النيوليبرالية العمال إلى آلاتٍ تنهار تحت وطأة الاستغلال.

في الفصل الثالث، يظهر فيدل، مدرس التاريخ الشيوعي في الأربعين، كصوت المقاومة في لييج. يقف في ساحة القديس لامبرت، يخاطب حشداً من العمال وكبار السن، يندد بسياسات "ائتلاف أريزونا" التي أفقرت الشعب ودعمت تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. يحمل فيدل دفتري ريجين وأندريه، يستخدمهما كرمز للأحلام المسروقة، ويربط نضاله المحلي بقضية فلسطين، مندداً بصمت الحكومة المخزي. نشأ فيدل في عائلة فقيرة، ورأى والديه يكافحان تحت النظام النيوليبرالي، مما دفعه إلى النضال. في إحدى المظاهرات، تواجه الشرطة الحشد بالغاز المسيل للدموع، لكن فيدل يظل صلباً، يصرخ: "هذه شوارعنا!" قصته هي صرخة ضد الفاشية الناعمة التي تمارسها الحكومات النيوليبرالية، التي تُسكت المعارضة بالقمع والتشويه.

الفصل الرابع يركز على بيتر، الصحفي الشاب في الثلاثين، الذي يكتب في جريدة "صوت لييج" من مكتبه المتواضع. يؤمن بيتر أن الكلمات يمكن أن تغير العالم، فيكتب عن العمال المهمشين، كبار السن، والمهاجرين. يكتب عن ريجين وأندريه، مندداً بظلم الحكومة، ويسلط الضوء على صمتها تجاه تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. مقاله بعنوان "بلجيكا: شريكة في الجريمة" يثير غضب الحكومة، فيجلب له تهديدات. يعمل بيتر مع فيدل، يوثق المظاهرات، ويشارك في الاجتماعات السرية، لكنه يصر على أن دوره هو الكتابة. يشعر أن هناك من يتبعه، لكنه يواصل الكتابة، مدفوعاً بروح ريجين وأندريه. قصته هي شهادة على قوة الكلمة في مواجهة الإمبراطوريات الإعلامية التي تخدم الأوليغارشية.

الفصل الخامس، الذي يُفترض أنه الخاتمة، يصور مظاهرة ضخمة في ساحة القديس لامبرت، حيث يقود فيدل حشداً متنوعاً يحمل شعارات العدالة. بيتر يوثق الحدث، يكتب عن الغضب والأمل، عن الغاز والهراوات، وعن وحدة الحشد. تنتشر المظاهرات إلى مدن أخرى، وتبدأ الأحزاب المعارضة بالحديث عن إصلاحات. لكن فيدل وبيتر يعلمان أن النصر لم يتحقق بعد. يكتب بيتر مقالاً أخيراً بعنوان "لييج تقاوم"، يتحدث عن ريجين وأندريه، مؤكداً أن أحلامهما تعيش في الحشد. تنتهي الرواية بسؤال مفتوح: هل سينتصر الشعب، أم ستبقى الحكومة سيدة المسرح؟ لكن النار التي أشعلها فيدل وبيتر تستمر في الاشتعال.

هذه الحكومات النيوليبرالية، التي تتخذ إجراءات فاشية ناعمة، لم تكتفِ بإغراق بلجيكا بالديون وفرض سياسات التقشف، بل دمرت نظام الضمان الاجتماعي لتشتري طائرات إف-35، مختلقةً عدواً وهمياً هو روسيا، التي كانت سبباً في ازدهار أوروبا بنفطها وغازها الرخيص. رفضت روسيا أن تكون فريسةً لنهب الروتشيلد، فتحولت إلى "عدو" في رواية الإمبراطوريات الإعلامية. وفي الوقت نفسه، تواطأت هذه الحكومات في دعم الإبادة الجماعية في فلسطين، بدعم من الأحزاب العنصرية الفلامندية وحزب "الإصلاح" النيوليبرالي في والونيا، الذي يخفي فاشيته تحت قناع التقدم. في "مكعبات الوافل"، تصبح لييج رمزاً للمقاومة، حيث تتحول مكعبات الوافل الحلوة إلى كتلٍ من المرارة، تحمل أحلام ريجين وأندريه وصرخات فيدل وكلمات بيتر. الرواية، بأسلوبها الشاعري الساخر، هي مرثية للإنسانية المسحوقة، ونشيدٌ للأمل الذي يرفض أن يموت.



...........

الفصل الاول : ريجين، أحلام تذوي تحت أضواء لييج




في غرفة صغيرة في قلب لييج، كانت ريجين تجلس على كرسيها الخشبي القديم، تحدق في دفتر ملاحظاتها المهترئ. الضوء الخافت المنبعث من مصباح مكتبي قديم كان يرسم ظلالاً متماوجة على الجدران المتهالكة، كأنها تحكي قصصاً لم تُروَ بعد. الدفتر، بغلافه الجلدي البني الذي بدأ يتقشر، كان كنزها الوحيد، شاهدٌ على أحلامها التي طالما أجّلتها. كتبت فيه قبل عشرين عاماً، عندما كانت في الأربعين من عمرها، مليئة بالحماس والأمل. كانت تحلم بتعلم العربية، بلغتها الغنية التي تخيلتها تنساب كشعرٍ في شوارع دمشق أو مراكش. كانت تتخيل نفسها تجلس في مقهى في القاهرة، تسمع أصوات الباعة المتجولين، وتكتب يومياتها بلغة جديدة، لغة تحمل في طياتها تاريخاً وحياة. لكن اليوم، في الثامنة والستين من عمرها، كانت يداها ترتجفان وهي تفتح الدفتر، كأنها تخشى أن تلمس أحلاماً لم تعد ملكها.

"كيف وصلت إلى هنا؟" تساءلت ريجين، وصوتها يرتجف كورقة شجرة في رياح الخريف الباردة. كانت تجلس في شقتها الصغيرة في حي أوتريميوز، حيث رائحة الرطوبة تملأ الجدران، وصوت المطر يطرق النوافذ كضيفٍ غير مرغوب. لم تكن الشقة فاخرة، لكنها كانت ملجأها، المكان الذي شهد سنواتها الأخيرة كرئيسة جمعية خيرية صغيرة في لييج. تلك الجمعية، التي أسستها بنفسها قبل ثلاثين عاماً، كانت مركزاً لدعم العمال المهاجرين، أولئك الذين وصلوا إلى بلجيكا بحثاً عن حياة أفضل، لكنهم وجدوا أنفسهم عالقين في شبكة من البيروقراطية والتمييز. كانت ريجين تحب عملها، كانت تجد فيه معنى لحياتها. لكن قوانين "ائتلاف أريزونا"، تلك الحكومة النيوليبرالية التي حكمت بلجيكا كقاطع طريق لا يرحم، غيرت كل شيء.

منذ ثلاثة عقود، كانت ريجين شابة مليئة بالطاقة، تقود حملات لدعم حقوق العمال، تنظم فعاليات ثقافية، وتكتب خطابات إلى السياسيين تطالبهم بالعدالة. كانت مكتبها الصغير في وسط لييج مليئاً بالضحكات والحياة. كان هناك دائماً فنجان قهوة على المكتب، وصور لأطفال المهاجرين الذين ساعدتهم معلقة على الحائط. كانت تحب أن تستمع إلى قصصهم، قصص الأمل والخيبة، قصص الأمهات اللواتي تركن عائلاتهن في المغرب أو تركيا ليمنحن أبناءهن فرصة أفضل. لكن مع مرور الزمن، بدأت الأمور تتغير. بدأت الحكومات النيوليبرالية، التي سيطرت على بلجيكا منذ الثمانينيات، تقلص ميزانيات الجمعيات غير الربحية. "الثقافة مضيعة للوقت"، كان هذا شعار الحكومة غير المعلن. "الشعب مجرد أرقام في جدول بيانات"، هكذا كانوا يفكرون.

كانت ريجين تعاني من السكري منذ سنوات، وارتفاع ضغط الدم أصبح رفيقها الدائم. كانت تأخذ أدويتها بانتظام، لكن الإرهاق النفسي والجسدي بدأ يتراكم. كانت تؤمن أن التقاعد في الستين سيمنحها فرصة للراحة، للعناية بصحتها، وربما لتحقيق أحلامها القديمة. كانت تخطط للسفر إلى الأردن، حيث سمعت عن البتراء وجمالها الساحر. كانت تحلم بزيارة القدس، لتتجول في شوارعها القديمة وتستمع إلى الأذان يصدح من المساجد. لكن قوانين "ائتلاف أريزونا" كانت لها رأي آخر. في عام 2015، أصدرت الحكومة قراراً برفع سن التقاعد إلى 67، بحجة أن الاقتصاد لا يتحمل "الأعباء" التي يمثلها كبار السن. "يجب أن تكوني منتجة!"، هكذا قالوا لها، وكأن ثلاثين عاماً من العمل الخيري لم تكن كافية.

تذكرت ريجين تلك السنوات، حين كانت تجلس في مكتبها، تكتب التقارير بيدين مرتجفتين. كانت تشعر بألم في صدرها، لكنها كانت تخفيه عن الجميع. كانت تخشى أن يظن زملاؤها أنها ضعيفة، أو أن الحكومة ستستغل مرضها لتقليص دعم الجمعية. في إحدى الليالي، بعد يوم طويل من الاجتماعات، فتحت دفترها وكتبت: "أريد أن أتعلم العربية. أريد أن أسافر. أريد أن أعيش." لكن الكلمات بدت كأحلام طفلة، بعيدة المنال. كانت تعرف أن جسدها لم يعد يتحمل الضغط، لكنها لم تستطع التوقف. كانت الجمعية تعتمد عليها، والعمال المهاجرون يعتمدون عليها، وكانت تشعر أن توقفها يعني خيانة كل ما آمنت به.

في عام 2020، بدأت الأمور تسوء أكثر. بدأت الحكومة تقلص إعانات البطالة لكبار السن، معتبرة إياهم "عبئاً" على الاقتصاد. كانت الصحف تكتب عن "49 ألف كبير سن يهددون بالطرد من إعانات البطالة"، لكنها لم تذكر أن الشركات ترفض توظيفهم، لأن تكاليف التأمين الصحي لهم كانت باهظة. كانت ريجين ترى هذه الأخبار وتشعر بالغضب يعتصر قلبها. كانت تعرف أشخاصاً مثلها، أصدقاء وزملاء قضوا حياتهم في العمل، ليجدوا أنفسهم في الخمسينيات والستينيات بلا وظيفة ولا دعم. كانت تشعر أن الحكومة تريد التخلص منهم، كما لو كانوا مجرد أرقام يمكن حذفها من جدول.

في إحدى الليالي، وبينما كانت ريجين تجلس في شقتها، سمعت طرقاً على الباب. كان فيدل، الشاب الشيوعي الذي تعرفت عليه في إحدى المظاهرات. كان في الأربعين من عمره، مدرس تاريخ في مدرسة ثانوية، لكنه كان أكثر من ذلك: كان صوت الغضب في لييج. كان ينظم المظاهرات، يكتب الخطب، ويوزع المنشورات. "ريجين"، قال وهو يدخل، "نحن بحاجة إليك في المظاهرة القادمة. الحكومة تخطط لتقليص المزيد من الإعانات!"

نظرت إليه ريجين بعيون متعبة. "فيدل، أنا مريضة. لا أستطيع الاستمرار." لكن فيدل لم يستسلم. "أنتِ رمز، ريجين. قصتك ستلهم الآخرين." لكنها هزت رأسها بحزن. "رمز؟ أنا مجرد امرأة عجوز تحلم بحياة لم تعشها."

في تلك اللحظة، شعرت ريجين بألم حاد في صدرها. كانت تعرف أنها لن تستطيع الاستمرار طويلاً. لكنها لم تخبر فيدل. بدلاً من ذلك، أعطته ابتسامة باهتة وقالت: "سأحاول." لكن في قرارة نفسها، كانت تعرف أنها لن تشارك في المظاهرة. كانت تعرف أن جسدها قد استسلم.

في عام 2023، وبعد سنوات من الإرهاق، تقاعدت ريجين أخيراً. لكن التقاعد لم يكن كما تخيلته. لم يكن هناك سفر، ولا دروس عربية، ولا زيارات للأسواق البعيدة. كان هناك فقط سرير في المستشفى، وأنابيب الأكسجين، وأدوية لا تنتهي. كانت أمراضها قد تفاقمت، والسكري أصبح وحشاً لا يرحم. في إحدى الليالي، وبينما كانت ترقد في المستشفى، فتحت دفترها للمرة الأخيرة. كتبت بخط مرتجف: "لماذا لم يتركوني أستريح؟"

في اليوم التالي، توفيت ريجين. كان المطر يهطل على شوارع لييج، كأنه يبكي حلمها المجهض. في جنازتها، وقف فيدل وبيتر، الشاب الصحفي الذي كان يكتب عنها في مقالاته. كانا يعرفان أن قصتها ليست مجرد قصة امرأة عجوز. كانت قصة شعبٍ بأكمله، شعبٍ سحقته حكومة لا ترى فيه سوى أرقام.

لكن ريجين، حتى في موتها، تركت أثراً. كان دفترها، الذي وجده فيدل في شقتها، بمثابة وصية. كانت كلماتها الأخيرة دعوة للنضال، للتمرد، لرفض نظام يسرق الأحلام. وفي ساحة القديس لامبرت، حيث كان فيدل يخاطب الحشود بعد أشهر من وفاتها، كان يحمل ذلك الدفتر، يقرأ منه بصوت مرتفع: "أريد أن أعيش."

كانت تلك الكلمات شعلة أضاءت شوارع لييج، شعلة ستنتقل من يد إلى يد، من قلب إلى قلب، حتى يسقط "ائتلاف أريزونا"، أو حتى يستعيد الشعب حقه في الحلم.



الفصل الثاني : أندريه، الرجل الذي هزمه البنكرياس



في مصنع صغير على ضفاف نهر الميز، كان أندريه يقضي أيامه يحمل أكياس الأسمنت الثقيلة، وصوت الآلات الصاخبة يملأ أذنيه كنشيدٍ لا ينتهي. كان المصنع قديماً، جدرانه مشبعة برائحة الغبار والزيت، ونوافذه المكسورة تسمح للرياح الباردة بالتسلل إلى الداخل. منذ السابعة عشرة، كان أندريه يعمل هنا، جسده النحيل يتحمل عبء العمل الشاق الذي كان يقتل الأحلام ببطء. كان يرتدي سترة زرقاء مهترئة، ويداه المتصلبتان تحملان ندوباً من سنوات العمل الطويلة. لكنه لم يشتكِ أبداً. كان يؤمن أن العمل هو طريقه إلى حياة أفضل، إلى بيت صغير في ريف والونيا حيث يزرع الخضروات ويربي الدجاج. كان يحلم بالتقاعد في الثامنة والخمسين، براتب كامل يمكنه من الراحة أخيراً، من الاستيقاظ مع شروق الشمس والاستماع إلى صوت الطيور بدلاً من هدير الآلات. لكن ذلك الحلم، مثل كثير من أحلام جيله، كان كالسراب في صحراء النيوليبرالية التي فرضتها حكومة "ائتلاف أريزونا".

كان أندريه رجلاً هادئاً، لا يتحدث كثيراً، لكن عينيه كانتا تحملان قصصاً لم يروها لأحد. في شبابه، كان يرقص في ساحات لييج مع أصدقائه، يضحكون ويحلمون بحياة مليئة بالإمكانيات. كانوا يجلسون في مقهى صغير في الحي القديم، يتشاركون أحلاماً بسيطة: منزل، عائلة، ربما رحلة إلى البحر. لكن الحياة، كما اكتشف أندريه، لم تكن عادلة. بدأ يعمل في المصنع بعد أن ترك المدرسة مبكراً، مضطراً لدعم والديه المسنين. كان والده عامل مناجم سابقاً، وأمه كانت تعمل في تنظيف المنازل حتى أنهكها المرض. كان أندريه يرى فيهما صورة مصغرة لما قد يصبح عليه إذا لم يحارب من أجل حلمه.

في العشرينيات من عمره، كان أندريه يعمل لساعات طويلة، يحمل أكياس الأسمنت من الفجر حتى الغسق. كان يشعر بالإرهاق، لكنه كان يقول لنفسه: "هذا مؤقت. سأوفر المال، سأتقاعد مبكراً، سأعيش." كان يحتفظ بدفتر صغير في جيبه، يكتب فيه خططه: شراء أرض في الريف، زراعة الطماطم والبطاطس، بناء حظيرة صغيرة للدجاج. كان يحلم بأيام هادئة، حيث لا يوقظه صوت المنبه، بل صوت الديك. لكن مع مرور السنوات، بدأ ذلك الحلم يتلاشى. بدأت الحكومات النيوليبرالية، التي سيطرت على بلجيكا منذ الثمانينيات، تفرض قوانين جديدة. كانوا يقولون إن الاقتصاد يحتاج إلى "إنتاجية أكبر"، وأن العمال يجب أن يعملوا لفترة أطول. رفعوا سن التقاعد تدريجياً، من 60 إلى 65، ثم إلى 67. كان أندريه يسمع هذه الأخبار في المصنع، يرى زملاءه يتمتمون بالغضب، لكنهم كانوا جميعاً عالقين. لا أحد يستطيع التمرد. كانوا بحاجة إلى المال، بحاجة إلى العمل.

في الثلاثينيات من عمره، بدأ أندريه يشعر بآلام في ظهره. كان يتجاهلها في البداية، يقول إنها جزء من العمل. لكنه لاحظ أن جسده لم يعد كما كان. كانت رئتاه تمتلئان بالغبار يومياً، وكان السعال يوقظه في الليل. ذهب إلى الطبيب، الذي نصحه بالراحة، لكن كيف يمكن لعامل مثل أندريه أن يرتاح؟ كان راتبه بالكاد يكفي لدفع الإيجار وفواتير الكهرباء. كان يعيش في شقة صغيرة في حي شعبي في لييج، حيث الجدران رقيقة والجيران يتشاجرون كل ليلة. كان يحلم بالهروب من هذا الحي، لكنه كان يعرف أن ذلك مستحيل ما دام يعمل في المصنع.

في إحدى الليالي، وبينما كان يجلس في المقهى المفضل لديه، التقى بفيدل، الشيوعي الشاب الذي كان يتحدث عن العدالة الاجتماعية بلهب لا ينطفئ. كان فيدل يرتدي معطفاً قديماً، وشعره الأسود المجعد يتطاير وهو يتحدث بحماس. "أندريه"، قال فيدل، "هذا النظام يقتلنا. يجب أن نتحد، يجب أن ننظم مظاهرات، يجب أن نطالب بحقوقنا!" كان أندريه يستمع، لكنه كان متشككاً. "ماذا يمكن أن تفعل المظاهرات؟" سأل. "الحكومة لا تستمع إلينا. إنهم يريدوننا أن نعمل حتى نموت." لكن فيدل هز رأسه. "إذا لم نحارب، سيموت أحلامنا قبلنا."

كانت كلمات فيدل تتردد في ذهن أندريه، لكنه لم يكن مقتنعاً تماماً. كان يفضل العمل بهدوء، الادخار، والانتظار حتى يصل إلى سن التقاعد. لكنه لم يكن يعرف أن الزمن لن يمنحه تلك الفرصة. في الرابعة والخمسين من عمره، بدأ يشعر بألم حاد في بطنه. كان الألم يأتي ويذهب، لكنه كان يزداد سوءاً مع الوقت. في البداية، ظن أنه إرهاق أو مشكلة في المعدة. لكنه قرر زيارة الطبيب بعد أن بدأ يفقد الوزن بسرعة. جلس في غرفة الفحص الباردة، يستمع إلى الطبيب وهو يقول بصوت هادئ: "أندريه، إنه سرطان البنكرياس. للأسف، اكتشفناه متأخراً."

كانت الكلمات كالمطرقة على رأسه. سرطان البنكرياس. لم يكن يعرف الكثير عن المرض، لكنه عرف أنه خطير. سأل الطبيب: "كم من الوقت يتبقى لي؟" أجاب الطبيب بحذر: "ربما سنة، ربما أقل." خرج أندريه من المستشفى، يمشي في شوارع لييج الباردة، والمطر يبلل وجهه. كان يشعر بالغضب، ليس من المرض، بل من النظام الذي أجبره على العمل حتى أنهك جسده. "لو تقاعدت في الخمسين"، فكر، "ربما كنت سأعيش." لكنه كان يعرف أن ذلك مستحيل. كانت حكومة "ائتلاف أريزونا" قد قررت أن العمال مثل أندريه يجب أن يعملوا حتى ينهاروا، لأن الروبوتات أصبحت أرخص وأكثر كفاءة.

في الأشهر التالية، تدهورت حالة أندريه بسرعة. كان يقضي أيامه في المستشفى، يخضع للعلاج الكيميائي الذي جعله أضعف. كان يحلم أحياناً ببيته الريفي، بالطماطم الحمراء التي تنمو في الحديقة، بالدجاج الذي يركض في الفناء. لكنه كان يعرف أن هذه الأحلام لن تتحقق. في إحدى الليالي، وبينما كان يرقد في سريره، زاره فيدل. كان فيدل يحمل باقة زهور رخيصة، لكنه بدا متعباً، كأن السنوات قد أضافت إلى عمره. "أندريه"، قال فيدل، "سنواصل النضال من أجلك، من أجل الجميع." لكن أندريه ابتسم بضعف. "لقد تأخرتم، يا فيدل."

في لحظاته الأخيرة، تذكر أندريه أيام الشباب، حين كان يرقص في ساحات لييج، يضحك مع أصدقائه، يحلم بحياة أفضل. كان يتذكر صوت والدته وهي تغني أغنية شعبية قديمة، وصوت والده وهو يحكي قصصاً عن المناجم. لكنه مات وحيداً، تاركاً وراءه حلماً بسيطاً لم يتحقق: بيت ريفي ودجاجة تتجول في الحديقة.

بعد وفاته، انتشر خبر موته في الحي. كان العمال في المصنع يتحدثون عنه بهدوء، يتذكرون رجلاً لم يشتكِ أبداً، لكنه حمل أحمالاً أثقل مما يستطيع. في جنازته، وقف فيدل وبيتر، الصحفي الشاب الذي بدأ يكتب عن قصص العمال المنسية. كان بيتر يحمل دفتر أندريه الصغير، الذي وجده في جيبه. كانت الصفحات مليئة بخطط لبيت ريفي، برسومات لأشجار الطماطم والدجاج. قرأ بيتر تلك الصفحات، وشعر بالغضب يعتصر قلبه. كتب مقالاً عن أندريه، عن رجل قضى حياته في العمل، لكنه لم يحصل على فرصة ليعيش.

في ساحة القديس لامبرت، وبعد أشهر من وفاة أندريه، كان فيدل يقف أمام حشد من العمال، يحمل دفتر أندريه كما حمل دفتر ريجين. "هذه ليست مجرد قصص"، صرخ، "هذه حياتنا! يجب أن ننهي هذا الظلم!" كانت كلماته تلتهب في الهواء، كشعلة تنتظر الريح لتنتشر. وفي تلك اللحظة، بدأ حلم أندريه يعيش من جديد، محمولاً على أكتاف جيلٍ لم يستسلم بعد.



الفصل الثالث : فيدل، صوت الغضب في شوارع لييج




في ساحة القديس لامبرت، وقف فيدل كتمثالٍ حيّ، صوته يرتفع كالرعد وسط حشدٍ من العمال وكبار السن، وجوههم محفورة بخطوط الإرهاق والغضب. كانت شمس لييج الخريفية الباهتة تلقي ظلالاً طويلة على الأرض الحجرية، ونهر الميز يجري في الخلفية كشاهدٍ صامت على أحزان المدينة. كان فيدل، في الأربعين من عمره، رجلاً ذا هيئة متواضعة: معطفٌ رمادي مهترئ، شعرٌ أسود مجعد، وعينان تحملان لهباً لا ينطفئ. كان مدرس تاريخ في مدرسة ثانوية متواضعة في حي أوتريميوز، لكنه كان أكثر من ذلك. كان صوت المقاومة، النار التي ترفض أن تخمد في وجه حكومة "ائتلاف أريزونا" التي سحقت أحلام شعبٍ بأكمله. "إنهم يسرقون أحلامنا!" صرخ، وهو يشير بيده إلى مبنى البرلمان البعيد، حيث كان السياسيون يجلسون في مكاتبهم المكيفة، يوقعون على قوانين تجرد المواطنين من كرامتهم. "يبيعون أسلحة لإسرائيل بينما شعب فلسطين يُذبح، ويطردون كبار السن من إعاناتهم ليملأوا جيوب الشركات!"

كانت كلماته تنفذ إلى قلوب الحشد، تثير فيهم خليطاً من الأمل والغضب. كانوا عمالاً فقدوا وظائفهم لصالح الروبوتات، وكبار سنٍ طُردوا من إعانات البطالة، وشباباً يائسين من مستقبلٍ يبدو مسدوداً. في يده، كان فيدل يحمل دفتر ريجين، ذلك الدفتر الجلدي الذي وجده في شقتها بعد وفاتها. كان قد قرأ كلماتها مراتٍ عديدة: "أريد أن أعيش." تلك الكلمات، البسيطة في ظاهرها، كانت صرخة ضد نظامٍ لا يرى في الناس سوى أرقام. كان يرفعه أحياناً أمام الحشد، يقرأ منه بصوتٍ يرتجف من العاطفة، كأنه يستحضر روح ريجين لتقف معهم. وكان يحمل أيضاً دفتر أندريه، المليء برسومات الحديقة الريفية التي لم يرها أبداً. كانت هذه الدفاتر، بالنسبة إليه، أكثر من مجرد ورق. كانت وصايا، شهادات على حيواتٍ سُرقت.

كان فيدل يتذكر أول لقاء له بريجين، قبل عشر سنوات، في إحدى الجمعيات الخيرية التي كانت تديرها. كانت امرأة في الخمسينيات، شعرها الأبيض يتطاير كالغيوم، وعيناها مليئتان بالأمل رغم إرهاقها. كان قد ذهب إليها لتنظيم حملة دعم للمهاجرين، ووجدها تجلس في مكتبها الصغير، محاطة بصور الأطفال الذين ساعدتهم. كانت تتحدث ببطء، كأنها تختار كلماتها بعناية، لكن عندما تحدثت عن العدالة، كان صوتها يحمل قوة جبل. "فيدل"، قالت له ذات يوم، "لا تتوقف عن النضال. إذا توقفنا، سينتصرون." تلك الكلمات ظلت محفورة في ذهنه، حتى بعد أن رأى جسدها ينهار تحت وطأة المرض والإرهاق.

وكان يتذكر أندريه، الرجل الهادئ الذي التقاه في مقهى على ضفاف النهر. كان أندريه يجلس هناك، يحتسي قهوته ببطء، يحكي عن حلمه ببيت ريفي. كان يتحدث بصوت خافت، كأنه يخشى أن يسمعه العالم. "أريد أن أعيش حياة هادئة"، قال ذات مرة، "لكن الحكومة تريدنا أن نعمل حتى نموت." كان فيدل يحاول إقناعه بالانضمام إلى المظاهرات، لكنه كان يرى في عيني أندريه خوفاً عميقاً، خوف الرجل الذي يعرف أن النظام أقوى منه. عندما مات أندريه، شعر فيدل بذنبٍ لم يستطع تفسيره. شعر أنه كان يجب أن يفعل المزيد، أن ينقذه من مصنع الأسمنت الذي أكل جسده.

لكن فيدل لم يكن من النوع الذي يستسلم. كان قد نشأ في عائلة فقيرة في حي شعبي في لييج، حيث كان والده عامل بناء وأمه خياطة. كان يرى والديه يكافحان يومياً، يعملان حتى ساعات متأخرة من الليل ليوفروا له ولأخوته حياة أفضل. لكنه رأى أيضاً كيف أنهك النظام والديه، كيف جعلهما يبدوان أكبر من عمرهما الحقيقي. عندما كان في العشرين، قرأ كتباً عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وشعر أنها تعبر عن غضبه. بدأ ينظم المظاهرات في الجامعة، يكتب المنشورات، ويتحدث إلى زملائه عن ضرورة التغيير. لكن الآن، في الأربعين، كان يعرف أن النضال أصعب مما تخيل. كان يواجه حكومة لا ترحم، وشعباً منهكاً، ونظاماً عالمياً يعبد الأرباح على حساب الكرامة.

كان فيدل يرى في كل مظاهرة فرصة لإيقاظ الشعب. كان يقف في ساحة القديس لامبرت، يخاطب الحشود بصوتٍ يصدح كالجرس في صباحٍ هادئ. "هل تريدون أن تعيشوا مثل ريجين، تموتون قبل أن تحققوا أحلامكم؟ هل تريدون أن تنتهوا مثل أندريه، تعملون حتى يقتلكم المرض؟" كانت كلماته تلمس شيئاً عميقاً في الناس، شيئاً كانوا قد نسوه: الأمل. لكنه كان يعرف أن الأمل وحده لا يكفي. كان يحتاج إلى خطة، إلى حركة، إلى ثورة.

في إحدى الليالي، وبينما كان يجلس في شقته الصغيرة، كان يقرأ تقريراً في إحدى الصحف المحلية. كان العنوان صارخاً: "بلجيكا تواصل تصدير الأسلحة إلى إسرائيل دون عقوبات." شعر فيدل بالغضب يغلي في داخله. كيف يمكن لحكومة تدعي الديمقراطية أن تدعم نظاماً يقتل شعباً بأكمله؟ كان يعرف أن "ائتلاف أريزونا"، بقيادة سياسيين مثل لوييه ميشيل وشارل ميشيل، لا يهتمون بالعدالة. كانوا يرون في تصدير الأسلحة مصدراً للربح، وفي فلسطين مجرد اسم على الخريطة. قرر فيدل أن يجعل هذه القضية جزءاً من نضاله. كتب منشوراً جديداً، دعا فيه إلى مظاهرة كبرى ضد تصدير الأسلحة، وضد سياسات الحكومة النيوليبرالية التي تدمر حياة البلجيكيين والفلسطينيين على حد سواء.

في الأيام التالية، بدأ فيدل يجتمع مع مجموعة من النشطاء. كان من بينهم بيتر، الصحفي الشاب الذي كان يكتب عن قصص العمال المنسية. كان بيتر هادئاً، لكنه كان يحمل في داخله ناراً خفية. كان يؤمن أن الكلمات يمكن أن تغير العالم، وكان يكتب مقالاته بعناية، كأنه ينحت تمثالاً. في إحدى الجلسات، قال بيتر لفيدل: "يجب أن نجعل الناس يرون الصلة بين ظلمهم وظلم الشعب الفلسطيني. إنه نفس النظام، نفس الجشع." وافق فيدل، لكنه كان يعرف أن إقناع الناس ليس بالأمر السهل. كان الشعب منهكاً، منشغلاً بفواتيره وديونه، وكان من الصعب جعلهم يهتمون بقضية تبدو بعيدة.

لكن فيدل لم ييأس. بدأ يوزع المنشورات في شوارع لييج، يتحدث إلى العمال في المصانع، إلى الطلاب في الجامعات، إلى كبار السن في المقاهي. كان يحكي قصص ريجين وأندريه، يجعلها رمزاً لكل مواطن بلجيكي سُرقت أحلامه. كان يتحدث عن فلسطين، عن الأطفال الذين يموتون تحت القنابل التي تحمل علامة "صنع في بلجيكا." كان يقول: "إذا لم نقاوم، فسنكون جميعاً ضحايا هذا النظام."

في إحدى المظاهرات، وقف فيدل أمام حشدٍ أكبر من المعتاد. كان الحشد يملأ ساحة القديس لامبرت، وكانت اللافتات ترتفع عالياً: "كفى ظلماً!"، "أوقفوا تصدير الأسلحة!"، "عدالة لفلسطين!" كان فيدل يشعر بالأمل ينمو في قلبه، لكنه كان يعرف أن الطريق طويل. في تلك اللحظة، رأى الشرطة تتقدم نحو الحشد، تحمل الهراوات والدروع. كان يعرف أن المواجهة قادمة، لكنه لم يتراجع. "هذه شوارعنا!" صرخ، وهو يرفع قبضته. "هذه أحلامنا!"

في تلك الليلة، عندما عاد فيدل إلى شقته، كان جسده متعباً، لكن روحه كانت مشتعلة. جلس على مكتبه الصغير، فتح دفتر ريجين، وكتب: "سنواصل النضال، من أجلك، من أجل أندريه، من أجل الجميع." كان يعرف أن الطريق مليء بالعقبات، لكنه كان يؤمن أن النار التي أشعلها لن تنطفئ. وفي شوارع لييج، تحت أضواء المدينة الخافتة، بدأت أحلام ريجين وأندريه تعود إلى الحياة، محمولة على أكتاف رجلٍ رفض أن يستسلم.


الفصل الرابع : بيتر، النار الهادئة



في زاوية هادئة من لييج، بعيداً عن ضوضاء ساحة القديس لامبرت وصخب المظاهرات، كان بيتر يجلس في مكتبه الصغير في مبنى قديم يطل على نهر الميز. كانت الغرفة متواضعة، جدرانها مغطاة بأرفف مليئة بالكتب والصحف القديمة، ومكتب خشبي متهالك يحمل جهاز كمبيوتر قديماً وأكواماً من الأوراق المبعثرة. كان الضوء الخافت يتسلل من نافذة صغيرة، يرسم ظلالاً رقيقة على الأرضية الخشبية البالية. بيتر، في الثلاثين من عمره، كان شاباً هادئاً، ذا مظهر عادي: شعر بني قصير، نظارات دائرية، وملابس بسيطة تحمل رائحة القهوة والحبر. لكنه كان يحمل في داخله ناراً خفية، شغفاً بالكلمات التي كان يؤمن أنها يمكن أن تغير العالم. كان صحفياً في جريدة محلية صغيرة، "صوت لييج"، جريدة لم يكن لها تأثير كبير، لكنها كانت منبراً له ليروي قصص المهمشين، قصص أولئك الذين سحقتهم سياسات "ائتلاف أريزونا".

كان بيتر يكتب مقالاته بعناية، كأنه ينحت تمثالاً من حجر صلب. كان يختار كلماته بعناية، يحاول أن يجعلها تحمل ثقل الحقيقة دون أن تفقد جمالها. كان يؤمن أن الكتابة ليست مجرد وظيفة، بل سلاح. كان يكتب عن العمال الذين فقدوا وظائفهم لصالح الروبوتات، عن كبار السن الذين طُردوا من إعانات البطالة، عن المهاجرين الذين يواجهون التمييز في بلد يدعي أنه ديمقراطي. لكنه كان يكتب أيضاً عن قضايا أكبر، قضايا تجاوزت حدود لييج ووالونيا. كان يكتب عن صمت الحكومة البلجيكية المخزي تجاه تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، دون أي عقوبات أو محاسبة، بينما شعب فلسطين يعاني تحت وطأة القمع. كان يرى في هذا الصمت خيانة للقيم التي كان يؤمن بها، خيانة للعدالة التي كان يحلم بها.

كان بيتر قد التقى بريجين قبل خمس سنوات، في إحدى الفعاليات الثقافية التي نظمتها جمعيتها. كانت تقف هناك، توزع منشورات عن حقوق العمال المهاجرين، وعيناها تلمعان بالأمل رغم إرهاقها الواضح. كان قد اقترب منها، يحمل مفكرة صغيرة، وسألها عن عملها. تحدثت إليه بصوت هادئ لكنه قوي، حكت له عن العمال الذين ساعدتهم، عن الأمهات اللواتي يقاتلن من أجل أبنائهن، عن الأحلام التي تُسحق تحت أقدام البيروقراطية. كان بيتر مفتوناً بها، ليس فقط بشجاعتها، بل بحلمها البسيط: تعلم العربية، السفر إلى الشرق، اكتشاف عالمٍ جديد. كتب مقالاً عنها في تلك الليلة، بعنوان "ريجين: قلب لييج النابض". لكنه لم يكن يعرف، وهو يكتب تلك الكلمات، أن ريجين لن تعيش طويلاً. عندما توفيت، شعر بيتر بألم عميق، كأنه فقد جزءاً من نفسه. كتب مقالاً آخر، هذه المرة بعنوان "ريجين: الحلم الذي سُرق". كانت كلماته مليئة بالغضب، لكنه حاول أن يجعلها تحمل أملاً، أملاً بأن قصتها ستلهم الآخرين.

كان بيتر قد التقى أيضاً بأندريه، في مقهى صغير على ضفاف نهر الميز. كان أندريه يجلس هناك، يحتسي قهوته ببطء، يتحدث عن حلمه ببيت ريفي. كان بيتر يستمع إليه، يدون ملاحظاته، ويشعر بالحزن وهو يرى رجلاً قضى حياته في العمل، لكنه لم يحصل على فرصة ليعيش. عندما مات أندريه، كتب بيتر مقالاً آخر، بعنوان "أندريه: الرجل الذي هزمه الأسمنت". كان المقال مؤلماً، لكنه كان أيضاً دعوة للعمل. "كم من أندريه يجب أن نموت قبل أن نستيقظ؟" كتب في نهاية المقال.

لكن بيتر لم يكن يكتفي بالكتابة. كان يشارك في المظاهرات التي ينظمها فيدل، لكنه كان يفضل أن يبقى في الخلفية، يسجل الملاحظات، يلتقط الصور، يكتب التقارير. كان يؤمن أن دوره هو توثيق النضال، جعل قصص الناس تصل إلى العالم. في إحدى الجلسات مع فيدل، قال له: "أنت النار، فيدل، وأنا الريح التي تحملها. معاً، يمكننا أن نغير شيئاً." كان فيدل يبتسم، يقدر شغف بيتر، لكنه كان يعرف أن الكلمات وحدها لا تكفي. كان يحتاج إلى أفعال، إلى حشود، إلى ثورة.

في إحدى الليالي، وبينما كان بيتر يجلس في مكتبه، قرأ تقريراً عن تصدير الأسلحة البلجيكية إلى إسرائيل. كان التقرير يتحدث عن صفقات بملايين اليورو، عن أسلحة تُستخدم في قمع شعبٍ بأكمله، دون أي محاسبة من الحكومة. شعر بيتر بالغضب يعتصر قلبه. كيف يمكن لحكومة تدعي الديمقراطية أن تكون شريكة في هذا الظلم؟ قرر أن يكتب مقالاً جديداً، لكنه هذه المرة قرر أن يكون أكثر جرأة. كتب بعنوان "بلجيكا: شريكة في الجريمة"، وفي المقال، وصف كيف تدعم الحكومة النيوليبرالية مصالح الشركات على حساب الأخلاق. كتب عن فلسطين، عن الأطفال الذين يموتون تحت القنابل، عن الصمت المخزي للسياسيين. لكنه كتب أيضاً عن لييج، عن العمال الذين يفقدون وظائفهم، عن كبار السن الذين يُطردون من إعاناتهم، عن شعبٍ يعاني تحت وطأة نفس النظام الذي يدمر حياة الآخرين.

نشر المقال في اليوم التالي، وانتشر بسرعة في لييج. كان الناس يتحدثون عنه في المقاهي، يشاركونه على وسائل التواصل الاجتماعي، يناقشونه في الشوارع. لكن بيتر كان يعرف أن المقال سيجلب له المشاكل. في اليوم التالي، تلقى مكالمة من رئيس تحرير الجريدة. "بيتر"، قال الرئيس بصوتٍ حاد، "هذا المقال خطير. أنت تهاجم الحكومة مباشرة. هل تعرف العواقب؟" لكن بيتر لم يتراجع. "إذا لم نقل الحقيقة، فلماذا نكتب؟" أجاب.

في الأيام التالية، بدأ بيتر يتلقى رسائل تهديد مجهولة. كانت رسائل قصيرة، مكتوبة بخط يدٍ مرتبك، تحذره من "التدخل في أمور لا تعنيه". لكنه لم يخف. كان يعرف أن الكتابة عن الحقيقة لها ثمن، وكان مستعداً لدفعه. في إحدى الليالي، وبينما كان يسير في شوارع لييج، شعر أن هناك من يتبعه. كان الشارع مظلماً، والمطر يهطل بهدوء، لكنه لم يلتفت. واصل المشي، يده في جيبه تمسك بقلمه، كأنه سلاحه الوحيد.

في اليوم التالي، التقى بيتر بفيدل في مقهى صغير. كان فيدل يبدو متعباً، كأن السنوات قد أضافت إلى عمره. "سمعت عن مقالك"، قال فيدل، وهو يبتسم. "أنت شجاع، لكنك تجعل نفسك هدفاً." رد بيتر: "إذا لم نكن أهدافاً، فكيف سنغير شيئاً؟" كان فيدل ينظر إليه بعيون مليئة بالإعجاب، لكنه كان قلقاً. "كن حذراً، بيتر. الحكومة لن تتردد في سحقنا إذا أصبحنا تهديداً حقيقياً."

في الأسابيع التالية، بدأ بيتر يعمل مع فيدل بشكل أوثق. كان يحضر الاجتماعات السرية التي ينظمها فيدل مع مجموعة من النشطاء، يكتب المنشورات، يساعد في تنظيم المظاهرات. لكنه كان يصر على أن دوره الأساسي هو الكتابة. كان يكتب عن كل مظاهرة، عن كل قصة، عن كل ظلم. كان يكتب عن ريجين، عن أندريه، عن العمال الذين يفقدون وظائفهم، عن المهاجرين الذين يواجهون التمييز، عن فلسطين التي تنزف تحت أسلحة بلجيكية. كان يكتب بقلمٍ لا يتوقف، كأنه يحاول أن ينقذ العالم بكلماته.

في إحدى الليالي، وبينما كان يجلس في مكتبه، قرر بيتر أن يكتب مقالاً جديداً، هذه المرة عن فيدل. كتب عن رجلٍ يحمل شعلة المقاومة، عن مدرس تاريخ أصبح صوت الشعب. كتب عن حلمه بتغيير بلجيكا، بإنهاء حكم "ائتلاف أريزونا"، بإحقاق العدالة للجميع. لكنه كتب أيضاً عن مخاوفه، عن الليالي التي لا ينام فيها فيدل، عن الضغط الذي يحمله على كتفيه. عندما أنهى المقال، كتب في النهاية: "فيدل ليس بطلاً، لأن الأبطال ينتمون إلى القصص. فيدل هو واحد منا، رجل يرفض أن يستسلم. وإذا استطاع فيدل أن يحارب، فكلنا نستطيع."

نشر المقال في اليوم التالي، وكان له تأثير كبير. بدأ الناس يتحدثون عن فيدل بإعجاب، يرون فيه رمزاً للأمل. لكن بيتر كان يعرف أن هذا الإعجاب سيجلب المزيد من الخطر. في اليوم التالي، تلقى مكالمة أخرى من رئيس التحرير. "بيتر"، قال الرئيس، "أنت تلعب بالنار." لكن بيتر أجاب بهدوء: "إذا لم نلعب بالنار، فكيف سنضيء الظلام؟"

في تلك الليلة، وبينما كان بيتر يمشي في شوارع لييج، شعر مرة أخرى أن هناك من يتبعه. لكنه هذه المرة التفت، ورأى ظلاً يختفي في زقاق مظلم. لم يكن خائفاً، بل كان مصمماً. عاد إلى مكتبه، وفتح جهاز الكمبيوتر، وبدأ يكتب مقالاً جديداً. كان يعرف أن الكلمات هي سلاحه، وأنه لن يتوقف حتى يسقط النظام الذي سحق ريجين وأندريه وآلافاً غيرهم. وفي تلك اللحظة، تحت ضوء المصباح الخافت، شعر بيتر أنه ليس وحيداً. كان يشعر بروح ريجين وأندريه معه، تحثه على الاستمرار. كان يشعر بصوت فيدل يتردد في أذنيه، يقول: "نواصل النضال." وكتب، كأنه يكتب من أجل حياته، من أجل حياة الجميع.


الفصل الخامس : مظاهرة في لييج


شوارع لييج كانت تنبض بحياةٍ متمردة، كأن المدينة قد استيقظت من سباتها الطويل تحت سماء خريفية رمادية، حيث تتراكم الغيوم كأنها تحمل أوزار السنين. في ساحة القديس لامبرت، تجمع حشد هائل، أكبر مما شهدته المدينة منذ عقود، آلاف من الوجوه المتنوعة: عمال فقدوا وظائفهم لصالح الروبوتات، كبار سن طُردوا من إعانات البطالة، طلاب يائسون من مستقبل مسدود، ومهاجرون يبحثون عن كرامة في بلدٍ يدعي الديمقراطية. كانت اللافتات ترتفع كأعلام في معركة: "كفى ظلماً!"، "أوقفوا تصدير الأسلحة!"، "عدالة لريجين وأندريه!"، "فلسطين حرة!". كان نهر الميز يجري في الخلفية، صامتاً كشاهدٍ على هذا التمرد العظيم، مياهه تعكس أضواء المصابيح الخافتة وألوان اللافتات المتماوجة. في المقدمة، وقف فيدل، الشيوعي الملتهب، صوته يصدح كالرعد، يحمل دفتري ريجين وأندريه كأنهما كتابان مقدسان. كان معطفه الرمادي المهترئ يتطاير في الريح الباردة، لكنه بدا كقائدٍ لا يعرف الهزيمة، عيناه تلمعان بنارٍ لا تنطفئ. "هذه ليست مجرد مظاهرة!" صرخ، وهو يرفع الدفترين عالياً، "هذه ثورة! هذه أحلامنا التي رفضت أن تموت!" كان الحشد يردد كلماته، أصواتهم تملأ الساحة كموجةٍ عاتية، تهدد بإغراق كل شيء، من البرلمان البعيد إلى مكاتب الشركات متعددة الجنسيات التي نهبت المدينة.

على رصيف مرتفع، كان بيتر يقف، قلمه يتحرك بسرعة في مفكرته الصغيرة، يحاول الإمساك بلحظةٍ شعر أنها ستغير تاريخ لييج. كان يرتدي سترته البنية المعتادة، نظاراته الدائرية تنزلق قليلاً على أنفه، لكنه لم يكن يهتم. كان منشغلاً بتوثيق كل شيء: وجوه الحشد، اللافتات، صوت فيدل، الغضب الذي يملأ الهواء كرائحة المطر الوشيك. كان يرى امرأة عجوز، ربما في السبعين، تحمل لافتة مكتوب عليها "ريجين لم تمت"، تقاوم ريح الخريف بعنادٍ يفوق الشباب. كان يرى شاباً يساعد طفلاً على الوقوف وسط الفوضى، وآخر يصرخ في وجه الشرطة التي بدأت تتجمع في الأطراف. كتب في مفكرته: "لييج ليست مدينة. إنها قلب ينبض." لكنه كان يعرف أن هذه اللحظة هشة، كورقة في مهب الريح. كان يرى الشرطة في دروعهم السوداء، يحملون هراوات ومدافع الغاز المسيل للدموع، وكان يعرف أن المواجهة قادمة، كما كانت دائماً في وجه كل تمرد.

كانت حكومة "ائتلاف أريزونا"، بقيادة سياسيين مثل لوييه ميشيل وشارل ميشيل، قد أمضت عقوداً في بناء نظامٍ يعبد الأرباح على حساب الكرامة. كانوا يرون في الشعب أرقاماً في جدول بيانات، وفي الثقافة مضيعة للوقت، وفي العدالة الاجتماعية حلماً رومانسياً لا يستحق الاهتمام. كانوا قد رفعوا سن التقاعد إلى 67، قلصوا إعانات البطالة، وسمحوا للشركات متعددة الجنسيات باستبدال العمال بالروبوتات، مما أدى إلى طرد عشرات الآلاف من سوق العمل. وفوق كل ذلك، كانوا يواصلون تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، دون أي عقوبات أو محاسبة، بينما شعب فلسطين يعاني تحت وطأة القمع. كان هذا الصمت، بالنسبة إلى فيدل وبيتر، أكثر من مجرد تقصير؛ كان خيانة لكل قيم الإنسانية التي كانوا يؤمنون بها. كان فيدل يربط نضاله المحلي بقضية فلسطين، يرى فيهما وجهين لعملة واحدة: نظام عالمي يعبد الربح ويتجاهل الإنسان.

في تلك اللحظة، وبينما كان فيدل يخاطب الحشد، بدأت الشرطة تتقدم من الأطراف. كانوا يشكلون حاجزاً بشرياً، دروعهم تلمع تحت أضواء المصابيح، وهراواتهم جاهزة للضرب. كان الحشد يشعر بالتوتر، أصواتهم تخفت للحظة، لكن فيدل لم يتوقف. "لا تخافوا!" صرخ، صوته يرتفع فوق ضوضاء الخطوات الثقيلة للشرطة. "هذه شوارعنا! هذه حياتنا!" كان الحشد يستعيد قوته، يردد كلماته، يرفع اللافتات أعلى. فجأة، انطلق الغاز المسيل للدموع، وملأ الهواء برائحة حادة أحرقت العيون والحلق. بدأ الناس يسعلون، يتراجعون، لكن فيدل ظل واقفاً في مكانه، يصرخ: "لا تتراجعوا! هذه معركتنا!" كان صوته كمنارة في عاصفة، يهدي الحشد وسط الدخان والفوضى.

بيتر، من مكانه على الرصيف، كان يسجل كل شيء. كان يرى الناس يركضون، يسقطون، يساعدون بعضهم بعضاً. كان يرى امرأة عجوز، تحمل لافتة ريجين، تسقط على ركبتيها لكنها ترفض ترك اللافتة. كان يرى شاباً يحمل طفلاً على كتفيه، يحميه من الغاز. كتب في مفكرته: "هذه ليست مجرد مظاهرة. هذه ثورة." لكنه كان يعرف أن الثورة لن تكون سهلة. كان يرى الشرطة تتقدم، تضرب الحشد بالهراوات، وكان يعرف أن الحكومة لن تتردد في استخدام كل قوتها لقمع هذا التمرد. لكنه كان يرى أيضاً شيئاً آخر: وحدة. كان الحشد، رغم الغاز والضربات، يتماسك. كانوا يساعدون بعضهم، يغنون أغاني شعبية قديمة، يرفضون الاستسلام.

في تلك اللحظة، اقترب فيدل من بيتر، وجهه مغطى بالعرق والغبار، عيناه حمراء من الغاز. "بيتر"، قال بصوتٍ خشن، "وثّق هذا. أخبر العالم بما يحدث." أومأ بيتر، لكنه شعر بثقل المسؤولية على كتفيه. كان يعرف أن كلماته يمكن أن تكون شرارة، لكنه كان يعرف أيضاً أنها قد تجلب المزيد من الخطر. كان قد تلقى تهديدات منذ أسابيع، رسائل مجهولة تحذره من "التدخل في أمور لا تعنيه"، لكنه لم يتوقف. كان يؤمن أن الكلمات هي سلاحه، وأن دوره هو إحياء قصص ريجين وأندريه وكل من سُرقت أحلامهم. في تلك الليلة، وبعد أن تفرق الحشد تحت وطأة الغاز والهراوات، عاد بيتر إلى مكتبه. كان جسده متعباً، عيناه تحترقان من الغاز، لكنه جلس على مكتبه، فتح جهاز الكمبيوتر، وبدأ يكتب.

كتب بيتر مقالاً بعنوان "لييج تقاوم"، وصفه للمظاهرة كان مليئاً بالتفاصيل: اللافتات، الأصوات، الغاز، الهراوات، وحدة الحشد. كتب عن فيدل، عن صوته الذي لم يتزعزع رغم الفوضى. كتب عن ريجين، التي ألهمت الحشد بدفترها وأحلامها المجهضة. كتب عن أندريه، الذي مات قبل أن يرى بيته الريفي. كتب عن فلسطين، عن الأسلحة البلجيكية التي تُستخدم لقتل الأبرياء، وعن صمت الحكومة المخزي. كتب بعاطفة، لكن أيضاً بدقة، كأنه ينحت تمثالاً من كلمات. "لييج ليست مدينة"، كتب، "إنها صرخة. صرخة ريجين، أندريه، وكل من رفض أن يُسحق." نشر المقال في اليوم التالي، وانتشر كالنار في الهشيم. كانت الصحف الأخرى تنقل أخبار المظاهرة، لكن مقال بيتر كان مختلفاً. كان مليئاً بالغضب والأمل، بالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها.

في الأيام التالية، بدأت المظاهرات تنتشر إلى مدن أخرى: بروكسل، أنتويرب، غنت. كان الناس يحملون لافتات تحمل كلمات بيتر، يرددون شعارات فيدل. لكن الحكومة لم تظل صامتة. بدأت حملة تشويه ضد فيدل وبيتر، تصفهما بـ"المتطرفين" و"المحرضين". بدأت الشرطة تعتقل النشطاء، وتلقت جريدة "صوت لييج" تهديدات بالإغلاق. في إحدى الليالي، وبينما كان بيتر يمشي في شوارع لييج المبللة بالمطر، شعر مرة أخرى أن هناك من يتبعه. التفت، ورأى ظلاً يختفي في زقاق مظلم. لم يكن خائفاً، بل كان مصمماً. عاد إلى شقته، أغلق الباب مرتين، وجلس يكتب مقالاً آخر. كتب عن التهديدات، عن الخوف، لكنه كتب أيضاً عن الأمل. "إذا كانوا يخافون من كلماتنا"، كتب، "فنحن على الطريق الصحيح."

في تلك الأثناء، كان فيدل يجتمع مع مجموعة من النشطاء في شقة سرية. كانوا يخططون لمظاهرة أكبر، مظاهرة قد تجبر الحكومة على الاستماع. لكنه كان متعباً، عيناه محاطتان بهالات سوداء، جسده يحمل أثر سنوات النضال. "نحن نكسب"، قال للنشطاء، لكنه كان يعرف أن النصر لن يكون سهلاً. كان يحمل دفتري ريجين وأندريه، يقرأ منهما في كل اجتماع، كأنه يستحضر أرواحهما لتدعمه. في إحدى الليالي، وبينما كان يجلس وحيداً في شقته، فتح دفتر ريجين وكتب: "سننتصر، من أجلك، من أجل أندريه، من أجل الجميع." كان يعرف أن الطريق طويل، لكنه كان يؤمن أن النار التي أشعلها لن تنطفئ.

في ليلة ممطرة، حدثت لحظة حاسمة. تجمع حشد أكبر في ساحة القديس لامبرت، أكبر من أي مظاهرة سابقة. كانوا يحملون مشاعل، يغنون أغاني شعبية قديمة، يرددون شعارات العدالة. كان فيدل في المقدمة، يخاطب الحشد بصوتٍ يرتجف من العاطفة. "هذه ليست نهاية!" صرخ. "هذه بداية! سنواصل النضال حتى تسقط هذه الحكومة، حتى نحقق العدالة!" كانت الشرطة تتقدم، لكن هذه المرة، حدث شيء مختلف. بدلاً من التراجع، تقدم الحشد. كانوا يغنون، يصرخون، يرفضون الخوف. كانت امرأة عجوز تحمل لافتة ريجين تقف في الصف الأول، وشاب يحمل طفلاً على كتفيه يردد شعارات فيدل. كان الحشد كجسد واحد، يتحرك بنبض واحد.

بيتر، من مكانه، كان يكتب بسرعة، يحاول الإمساك بكل لحظة. لكنه توقف للحظة، نظر إلى الحشد، وشعر بشيء لم يشعر به من قبل: إحساسٌ بالوحدة. كان يرى في الحشد ريجين، أندريه، كل من فقدهم. كان يرى أحلامهم تعود إلى الحياة، محمولة على أكتاف هؤلاء الناس. في تلك الليلة، لم تتمكن الشرطة من تفريق الحشد. كانوا أقوى، أكثر تصميماً. كانوا شعباً استيقظ أخيراً.

في الأيام التالية، بدأت الأمور تتغير. بدأت الأحزاب المعارضة تتحدث عن إصلاحات: خفض سن التقاعد، زيادة إعانات البطالة، مراجعة سياسات تصدير الأسلحة. بدأت وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن لييج، عن الحركة التي بدأت في ساحة القديس لامبرت. كانت مقالات بيتر تُترجم إلى لغات أخرى، تلهم حركات مقاومة في بلدان أخرى. لكن فيدل وبيتر كانا يعلمان أن النصر لم يتحقق بعد. كان "ائتلاف أريزونا" لا يزال في السلطة، والنظام النيوليبرالي لا يزال يحكم. لكنهما كانا يعلمان أيضاً أن شيئاً قد تغير. كان الشعب قد استيقظ، وكانت النار التي أشعلاها لن تنطفئ.

في إحدى الليالي، وبينما كان المطر يهطل على لييج، جلس بيتر في مكتبه، يكتب مقالاً أخيراً. كتب عن الحشد، عن فيدل، عن الأمل الذي بدأ ينمو. كتب عن ريجين وأندريه، عن أحلامهما التي لم تمت. كتب: "في ظلال الوافل، حيث تختلط روائح الشوكولاتة بالمرارة، تقاوم لييج. فيدل وبيتر، كل بطريقته، يحملان شعلة الأمل. لكن الأحلام هشة، كورقة في مهب الريح. والسؤال الذي يبقى معلقاً كضباب فوق نهر الميز: هل سينتصر الشعب، أم ستبقى الحكومة سيدة المسرح؟" أغلق بيتر مفكرته، ونظر من النافذة إلى شوارع لييج المبللة. كان يعرف أن النضال لم ينته، لكنه كان يشعر، لأول مرة، أن النصر ممكن. في تلك اللحظة، تحت أضواء المدينة الخافتة، شعر بروح ريجين وأندريه معه، تحثه على الاستمرار.

وفي مكانٍ ما، في ساحة القديس لامبرت، كان فيدل يخطط للمظاهرة القادمة، يحمل دفتري ريجين وأندريه، ويعد بأن أحلامهما ستعيش، حتى لو كان عليه أن يحارب وحده. لكن لييج لم تكن وحيدة، والشعب لم يكن وحيداً. كانت النار قد أُشعلت، وكان العالم يراقب.



الخاتمة


شوارع لييج كانت تغلي بالحياة والغضب، كأنها قلب المدينة نفسه ينبض بإيقاع الاحتجاج. في ساحة القديس لامبرت، تجمع الآلاف تحت سماء خريفية رمادية، حيث كانت الغيوم تتراكم كأنها تحمل أوزار السنين. كان الحشد خليطاً من وجوه شابة وعجوز، عمالٍ فقدوا وظائفهم، وكبار سنٍ طُردوا من إعاناتهم، وطلابٍ يحلمون بمستقبل لم يعد مضموناً. كانت اللافتات ترتفع عالياً، تحمل شعاراتٍ كتبها الحشد بأيدٍ مرتجفة من الغضب والأمل: "كفى ظلماً!"، "أوقفوا تصدير الأسلحة!"، "عدالة لفلسطين!"، "أحلامنا ليست للبيع!". في المقدمة، وقف فيدل، صوته يصدح كالرعد، يحمل دفتري ريجين وأندريه كأنهما رايتان في معركة. كان يرتدي معطفه الرمادي المهترئ، لكنه بدا كقائدٍ لا يقهر، عيناه تلمعان بنارٍ لا تنطفئ. "هذه شوارعنا!" صرخ، وهو يرفع قبضته، "هذه أحلامنا! لن نسمح لهم بسرقتها!" كان الحشد يردد كلماته، أصواتهم تملأ الساحة كموجةٍ عاتية، تهدد بإغراق كل شيء.

في الخلفية، كان بيتر يقف على رصيف مرتفع، يدون ملاحظاته في مفكرة صغيرة، قلمه يتحرك بسرعة وكأنه يحاول الإمساك بلحظةٍ قد لا تتكرر. كان يرتدي سترة بنية بسيطة، نظاراته الدائرية تنزلق قليلاً على أنفه، لكنه لم يكن يهتم. كان منشغلاً بتوثيق هذه اللحظة، بكتابة قصة الحشد، قصة فيدل، قصة ريجين وأندريه التي أصبحت رمزاً للنضال. كان يرى في الحشد وجوهاً مألوفة: عمال المصانع الذين كتب عنهم، مهاجرون التقاهم في فعاليات ريجين، طلابٌ شاركوا في مقالاته. كان يشعر أن كلماته، التي كتبها على مدى سنوات، قد بدأت تأتي ثمارها. لكنه كان يعرف أيضاً أن هذه اللحظة هشة، كورقة في مهب الريح، وأن "ائتلاف أريزونا" لن يستسلم بسهولة.

كانت الحكومة، بقيادة سياسيين مثل لوييه ميشيل وشارل ميشيل، قد أمضت عقوداً في بناء نظامٍ يعبد الأرباح على حساب الكرامة. كانوا يرون في الشعب مجرد أرقام في جدول بيانات، وفي الثقافة مضيعة للوقت، وفي العدالة الاجتماعية حلماً رومانسياً لا يستحق الاهتمام. كانوا قد رفعوا سن التقاعد، قلصوا إعانات البطالة، وسمحوا للشركات متعددة الجنسيات باستبدال العمال بالروبوتات. وفوق كل ذلك، كانوا يواصلون تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، دون أي عقوبات أو محاسبة، بينما شعب فلسطين يعاني تحت وطأة القمع. كان هذا الصمت، بالنسبة إلى فيدل وبيتر، أكثر من مجرد تقصير؛ كان خيانة.

في تلك اللحظة، وبينما كان فيدل يخاطب الحشد، بدأت الشرطة تتقدم من الأطراف. كانوا يرتدون دروعاً سوداء، يحملون هراوات ومدافع الغاز المسيل للدموع. كان الحشد يشعر بالتوتر، لكنه لم يتراجع. كانوا قد سئموا الخوف، سئموا الصمت. "لن نرحل!" صرخ أحد العمال، وردد الحشد كلماته. فجأة، انطلق الغاز المسيل للدموع، وملأ الهواء برائحة حادة أحرقت العيون والحلق. بدأ الناس يسعلون، يتراجعون، لكن فيدل ظل واقفاً في مكانه، يصرخ: "لا تتراجعوا! هذه معركتنا!" كان صوته يرتفع فوق الضوضاء، كأنه منارة في عاصفة.

بيتر، من مكانه، كان يسجل كل شيء. كان يرى الناس يركضون، يسقطون، يساعدون بعضهم بعضاً. كان يرى امرأة عجوز، ربما في السبعين، تحمل لافتة مكتوب عليها "عدالة لريجين"، وهي تقاوم الغاز بعنادٍ يفوق الشباب. كان يرى شاباً يساعد طفلاً على الوقوف، وآخر يصرخ في وجه الشرطة. كتب بيتر في مفكرته: "هذه ليست مجرد مظاهرة. هذه ثورة." لكنه كان يعرف أن الثورة لن تكون سهلة. كان يرى الشرطة تتقدم، تضرب الحشد بالهراوات، وكان يعرف أن الحكومة لن تتردد في استخدام كل قوتها لقمع هذا التمرد.

في تلك اللحظة، اقترب فيدل من بيتر، وجهه مغطى بالعرق والغبار. "بيتر"، قال، "وثّق هذا. أخبر العالم بما يحدث." أومأ بيتر، لكنه شعر بثقل المسؤولية. كان يعرف أن كلماته يمكن أن تكون شرارة، لكنه كان يعرف أيضاً أنها قد تجلب المزيد من الخطر. في تلك الليلة، وبعد أن تفرق الحشد، عاد بيتر إلى مكتبه. كان جسده متعباً، لكن عقله كان يغلي بالأفكار. جلس على مكتبه، فتح جهاز الكمبيوتر، وبدأ يكتب. كتب عن المظاهرة، عن فيدل، عن الحشد، عن الغاز المسيل للدموع والهراوات. كتب عن ريجين وأندريه، عن أحلامهما التي سُرقت. كتب عن فلسطين، عن الأسلحة البلجيكية التي تُستخدم لقتل الأبرياء. كتب بعنوان بسيط: "لييج تقاوم."

نشر المقال في اليوم التالي، وانتشر كالنار في الهشيم. كانت الصحف الأخرى تنقل أخبار المظاهرة، لكن مقال بيتر كان مختلفاً. كان مليئاً بالعاطفة، بالغضب، بالأمل. كان الناس يقرأونه في المقاهي، يشاركونه على وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدثون عنه في الشوارع. بدأت مظاهرات أخرى تنطلق في مدن أخرى: بروكسل، أنتويرب، غنت. كان الناس يحملون لافتات تحمل كلمات بيتر، يرددون شعارات فيدل. لكن الحكومة لم تظل صامتة. بدأت حملة تشويه ضد فيدل وبيتر، تصفهما بـ"المتطرفين" و"المحرضين". بدأت الشرطة تعتقل النشطاء، وتلقت جريدة "صوت لييج" تهديدات بالإغلاق.

في إحدى الليالي، وبينما كان بيتر يمشي في شوارع لييج، شعر مرة أخرى أن هناك من يتبعه. هذه المرة، لم يتجاهل الشعور. التفت، ورأى رجلاً يرتدي معطفاً أسود، وجهه مخفي تحت قبعة. "من أنت؟" سأل بيتر، لكن الرجل اختفى في الظلام. في تلك الليلة، عاد بيتر إلى شقته، وقفل الباب مرتين. لكنه لم يستطع النوم. كان يفكر في ريجين، في أندريه، في فيدل، في الحشد. كان يفكر في فلسطين، في الأطفال الذين يموتون تحت قنابل تحمل علامة بلجيكية. كتب في مفكرته: "إذا توقفنا، فسيموت كل شيء."

في اليوم التالي، التقى بيتر بفيدل في مقهى صغير. كان فيدل يبدو متعباً أكثر من المعتاد، عيناه محاطتان بهالات سوداء. "لقد بدأوا يضيقون الخناق"، قال فيدل. "اعتقلوا ثلاثة من رفاقنا أمس." لكن بيتر هز رأسه. "لن يوقفونا، فيدل. لقد بدأنا شيئاً أكبر منا." كان فيدل ينظر إليه، يبتسم بتعب. "أنت محق، لكن الثمن سيكون باهظاً."

في الأسابيع التالية، تصاعدت حدة المواجهات. كانت المظاهرات تتكرر، والحكومة ترد بقوة أكبر. لكن شيئاً كان يتغير. كان الناس يبدأون يستيقظون. كانت قصص ريجين وأندريه تنتشر، تصبح رمزاً لكل مواطن سُرقت أحلامه. كانت مقالات بيتر تصل إلى أنحاء العالم، تترجم إلى لغات أخرى، تلهم حركات مقاومة في بلدان أخرى. كان فيدل يواصل خطبه، يحمل دفتري ريجين وأندريه، يحكي قصصهم كأنها ملحمة.

في إحدى الليالي، وبينما كانت لييج تغرق في المطر، حدثت لحظة حاسمة. تجمع حشدٌ ضخم في ساحة القديس لامبرت، أكبر من أي مظاهرة سابقة. كانوا يحملون مشاعل، يغنون أغاني شعبية قديمة، يرددون شعارات العدالة. كان فيدل في المقدمة، يخاطب الحشد بصوتٍ يرتجف من العاطفة. "هذه ليست نهاية!" صرخ. "هذه بداية! سنواصل النضال حتى تسقط هذه الحكومة، حتى نحقق العدالة!" في تلك اللحظة، بدأت الشرطة تتقدم، لكن شيئاً غريباً حدث. بدلاً من التراجع، تقدم الحشد. كانوا يغنون، يصرخون، يرفضون الخوف.

بيتر، من مكانه، كان يكتب بسرعة، يحاول الإمساك بكل لحظة. لكنه توقف للحظة، نظر إلى الحشد، وشعر بشيء لم يشعر به من قبل: إحساسٌ بالوحدة. كان يرى في الحشد ريجين، أندريه، كل من فقدهم. كان يرى أحلامهم تعود إلى الحياة، محمولة على أكتاف هؤلاء الناس. في تلك الليلة، لم تتمكن الشرطة من تفريق الحشد. كانوا أقوى، أكثر تصميماً.

في الأيام التالية، بدأت الأمور تتغير. بدأت الأحزاب المعارضة تتحدث عن إصلاحات، عن خفض سن التقاعد، عن زيادة إعانات البطالة. بدأت وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن لييج، عن الحركة التي بدأت في ساحة القديس لامبرت. لكن فيدل وبيتر كانا يعرفان أن النصر لم يتحقق بعد. كان "ائتلاف أريزونا" لا يزال في السلطة، والنظام النيوليبرالي لا يزال يحكم. لكنهما كانا يعرفان أيضاً أن شيئاً قد تغير. كان الشعب قد استيقظ، وكانت النار التي أشعلاها لن تنطفئ.

في إحدى الليالي، وبينما كان المطر يهطل على لييج، جلس بيتر في مكتبه، يكتب مقالاً جديداً. كتب عن الحشد، عن فيدل، عن الأمل الذي بدأ ينمو. لكنه كتب أيضاً عن ريجين وأندريه، عن أحلامهما التي لم تمت. كتب: "في ظلال الوافل، حيث تختلط روائح الشوكولاتة بالمرارة، تقاوم لييج. فيدل وبيتر، كل بطريقته، يحملان شعلة الأمل. لكن الأحلام هشة، كورقة في مهب الريح. والسؤال الذي يبقى معلقاً كضباب فوق نهر الميز: هل سينتصر الشعب، أم ستبقى الحكومة سيدة المسرح؟"

أغلق بيتر مفكرته، ونظر من النافذة إلى شوارع لييج المبللة. كان يعرف أن النضال لم ينته، لكنه كان يشعر، لأول مرة، أن النصر ممكن. في تلك اللحظة، تحت أضواء المدينة الخافتة، شعر بروح ريجين وأندريه معه، تحثه على الاستمرار. وفي مكانٍ ما، في ساحة القديس لامبرت، كان فيدل يخطط للمظاهرة القادمة، يحمل دفتريهما، ويعد بأن أحلامهما ستعيش، حتى لو كان عليه أن يحارب وحده. لكن لييج لم تكن وحيدة، والشعب لم يكن وحيداً. كانت النار قد أُشعلت، وكان العالم يراقب.

........


ملخص

رواية "ظلال الوافل" هي عمل أدبي يتناول صراعات اجتماعية وسياسية في مدينة لييج البلجيكية، تحت ظل حكومة "ائتلاف أريزونا" النيوليبرالية التي تفرض سياسات قاسية على الشعب، من خلال قصص شخصيات تعكس الأحلام المجهضة والمقاومة المستمرة. تستلهم الرواية أساليب أدبية متنوعة، مع التركيز على الدراما العميقة والتعدد في الرواة، مستخدمة تقنية الفلاش باك لربط الماضي بالحاضر. تدور الأحداث حول شخصيات مثل ريجين، أندريه، فيدل، وبيتر، يواجهون ظلماً نظامياً يتجلى في رفع سن التقاعد، تقليص الإعانات، وتجاهل قضايا عالمية مثل تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. الرواية تنتقد النظام النيوليبرالي وتسلط الضوء على نضال الشعب البلجيكي من أجل العدالة.

الفصل الأول يركز على ريجين، امرأة في الثامنة والستين، تجلس في شقتها المتواضعة في حي أوتريميوز بلييج، تحمل دفتر ملاحظاتها القديم الذي كتبته قبل عقود، حين كانت تحلم بتعلم العربية والسفر إلى مدن الشرق. ريجين، رئيسة جمعية خيرية دعمت العمال المهاجرين لثلاثين عاماً، عانت من السكري وارتفاع ضغط الدم، لكن قوانين "ائتلاف أريزونا" أجبرتها على العمل حتى الستين، مما زاد من تدهور صحتها. كانت تؤمن أن التقاعد سيمنحها فرصة للراحة والسفر، لكن القوانين الجديدة التي رفعت سن التقاعد إلى 67 دمرت هذا الأمل. تتذكر ريجين، من خلال الفلاش باك، أيام شبابها، حين كان مكتبها مليئاً بالحياة، وكيف أثرت السياسات النيوليبرالية على الجمعيات غير الربحية، مما جعل عملها أصعب. التقى فيدل، الشيوعي الشاب، بريجين في إحدى المظاهرات، وحثها على الانضمام إلى النضال، لكنها كانت مريضة ومرهقة. عندما تقاعدت أخيراً، كان جسدها قد استسلم، وتوفيت بعد عام واحد فقط، تاركة دفترها كوصية تحمل أحلامها المجهضة. جنازتها جمعت فيدل وبيتر، اللذين رأيا في قصتها رمزاً للظلم الذي يعانيه الشعب.

الفصل الثاني يروي قصة أندريه، عامل مصنع على ضفاف نهر الميز، بدأ العمل منذ السابعة عشرة، يحمل أكياس الأسمنت في ظروف قاسية. كان يحلم بالتقاعد في الثامنة والخمسين، بشراء منزل ريفي في والونيا لزراعة الخضروات وتربية الدجاج. لكن السياسات النيوليبرالية، التي رفعت سن التقاعد وقلصت الإعانات، جعلت هذا الحلم بعيد المنال. من خلال الفلاش باك، يتذكر أندريه شبابه، حين كان يرقص في ساحات لييج ويحلم بحياة أفضل. لكنه اضطر لترك المدرسة لدعم والديه، وأمضى حياته في المصنع، حيث أصيب بآلام في الظهر والرئتين بسبب الغبار. التقى بفيدل في مقهى، لكنه كان متشككاً في فكرة المظاهرات، مفضلاً العمل بهدوء. في الرابعة والخمسين، شعر بألم حاد في بطنه، واكتشف أنه مصاب بسرطان البنكرياس، نتيجة سنوات العمل الشاق. توفي بعد أشهر، تاركاً دفتر ملاحظات يحمل رسومات لبيته الريفي. جنازته جمعت فيدل وبيتر، اللذين رأيا في موته دليلاً آخر على ظلم النظام.

الفصل الثالث يركز على فيدل، الشيوعي الملتهب في الأربعين من عمره، مدرس تاريخ تحول إلى صوت المقاومة في لييج. يقف في ساحة القديس لامبرت، يخاطب حشداً من العمال وكبار السن، يندد بسياسات "ائتلاف أريزونا" التي أفقرت الشعب ودعمت تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. يحمل فيدل دفتري ريجين وأندريه، يستخدمهما كرمز للأحلام المسروقة. من خلال الفلاش باك، يتذكر لقاءاته بريجين وأندريه، وكيف ألهماه رغم يأسهما. نشأ فيدل في عائلة فقيرة، ورأى والديه يكافحان تحت النظام النيوليبرالي، مما دفعه إلى قراءة كتب الاشتراكية في شبابه. ينظم المظاهرات، يكتب المنشورات، ويربط نضاله المحلي بقضية فلسطين، مندداً بصمت الحكومة. في إحدى المظاهرات، تواجه الشرطة الحشد بالغاز المسيل للدموع، لكن فيدل يظل صلباً، يصرخ: "هذه شوارعنا!" يعود إلى شقته متعباً، لكنه يكتب في دفتر ريجين وعدًا بالاستمرار في النضال، مدركاً أن النار التي أشعلها لن تنطفئ.

الفصل الرابع يسلط الضوء على بيتر، الصحفي الشاب في الثلاثين، الذي يكتب في جريدة "صوت لييج" من مكتبه المتواضع. يؤمن بيتر أن الكلمات يمكن أن تغير العالم، فيكتب عن العمال المهمشين، كبار السن، والمهاجرين. يتذكر لقاءاته بريجين، التي ألهمته بحلمها بتعلم العربية، وأندريه، الذي حكى عن بيته الريفي. يكتب مقالات عنهما، مندداً بظلم الحكومة. يركز بيتر أيضاً على صمت الحكومة تجاه تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ويكتب مقالاً جريئاً بعنوان "بلجيكا: شريكة في الجريمة"، مما يثير غضب الحكومة ويجلب له تهديدات. يعمل بيتر مع فيدل، يوثق المظاهرات، ويشارك في الاجتماعات السرية، لكنه يصر على أن دوره هو الكتابة. يتلقى تهديدات متزايدة، ويشعر أن هناك من يتبعه، لكنه يواصل الكتابة، مدركاً أن كلماته هي سلاحه. يكتب عن فيدل، يصفه كرمز للأمل، ويحث الناس على الانضمام إلى النضال. يشعر بيتر بروح ريجين وأندريه معه، تدفعه للاستمرار، حتى مع تزايد المخاطر.

الفصل الخامس، الخاتمة، يصور مظاهرة ضخمة في ساحة القديس لامبرت، حيث يقود فيدل حشداً متنوعاً يحمل شعارات العدالة. بيتر يوثق الحدث، يكتب عن الغضب والأمل الذي يملأ الشوارع. تواجه الشرطة الحشد بالغاز والهراوات، لكن الناس يرفضون التراجع، يغنون ويرددون شعارات. يشعر بيتر بثقل المسؤولية وهو يوثق هذه اللحظة، مدركاً أن كلماته قد تكون شرارة التغيير. يكتب مقالاً بعنوان "لييج تقاوم"، ينتشر بسرعة ويلهم مظاهرات في مدن أخرى. تواجه الحكومة الحركة بحملات تشويه واعتقالات، لكن الشعب يواصل النضال. في ليلة ممطرة، يتجمع حشد أكبر، يقاوم الشرطة بعناد، مما يجبر الأحزاب المعارضة على التحدث عن إصلاحات. فيدل وبيتر يعلمان أن النصر لم يتحقق بعد، لكن الأمل ينمو. يكتب بيتر مقالاً أخيراً، يتحدث عن ريجين وأندريه، مؤكداً أن أحلامهما تعيش في الحشد. تنتهي الرواية بسؤال مفتوح: هل سينتصر الشعب، أم ستبقى الحكومة سيدة المسرح؟ لكن النار التي أشعلها فيدل وبيتر تستمر في الاشتعال، محمولة على أكتاف شعبٍ استيقظ أخيراً.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية : رقصة الدم على رمال النفط
- رواية: سنغافورة السراب
- رواية: أنقاض الإمبراطورية: غزة تُحرر أمريكا
- نهاية عصر الصهيونية: كيف تحولت أمريكا من عبدة اللوبي إلى ثوا ...
- رواية: أسرى الشرق المفقود
- سيرك الخيانة برعاية الروتشيلد
- رواية : دون كيشوت الفرات والنيل
- رواية :سلاسل العقل، أغلال القلب
- مسرحية العدو الأمريكي والصهيوني الكوميدية
- رواية لحن من الظلال..مع مقدمة نقدية تاريخية
- رواية: الخاتم والنار
- كيف تتحول الى إمبراطورية إعلامية تسخر من مردوخ
- رواية : عدسات مغموسة بالدم والحقيقة (رواية عن الهولوكوست الأ ...
- رواية : صرخة من النهر إلى البحر ( رواية عن الهولوكوست الأمري ...
- رواية الجوع ( عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين ...
- رواية : بكاء تحت الركام (عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد ...
- ملخص خلفيات حرب الاستخبارات الأميركية السرية لإسقاط الدولة ا ...
- رواية : آيات الفوضى الخلاقة
- رواية : خرائط الجميز العجيبة
- رواية: انفاق الزيتون الدامي


المزيد.....




- -صوت هند رجب-... أبرز الأفلام المرشحة لنيل -الأسد الذهبي- بم ...
- أبكى الجمهور... فيلم التونسية كوثر بن هنية حول غزة مرشح لنيل ...
- فيلم -هجرة- للسعودية شهد أمين يفوز بجائزة -NETPAC- في مهرجان ...
- مهرجان البندقية السينمائي: اختتام دورة تميزت بحضور قوي للسيا ...
- -التربية-: إعادة جلسة امتحان اللغة العربية لطلبة قطاع غزة في ...
- يوم في حياة صحيفة مكتوبة بخط اليد في بنغلاديش
- محطة القطارات التاريخية بإسطنبول تخوض صراع البقاء وسط تطلعات ...
- براءة متوحشة أو -أفيون الكرادلة- لمحمد الحباشة
- مصر.. فيلم ضي يتناول مرض -الألبينو- بمشاركة محمد منير
- أولريكة الخميس: الفنون الإسلامية جسر للتفاهم في متحف الآغا خ ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : مكعبات الوافل واناشيد الميز