أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناضل حسنين - راحة الإعتراف أمام الغرباء..














المزيد.....

راحة الإعتراف أمام الغرباء..


ناضل حسنين
الكاتب الصحفي

(Nadel Hasanain)


الحوار المتمدن-العدد: 8448 - 2025 / 8 / 28 - 17:16
المحور: الادب والفن
    


كم مرة جلست في قطار يقطع المسافات بين مدينة وأخرى، فإذا بالشخص الجالس إلى جانبك يتحول فجأة إلى مستمع صبور؟ وكم مرة انتظرت في غرفة مكتظة في مستشفى أو مؤسسة حكومية، ووجدت نفسك تتبادل مع غريب حديثًا لا يشبه أي حديث آخر؟ هناك، في تلك اللحظات العابرة، نتخفف من ثقلنا ونسمح لكلماتنا أن تتدفق وكأنها تخرج من بئر مغلقة منذ زمن.
مع الغرباء نتحدث بلا كلفة. لا نحتاج إلى تزيين الكلام ولا إلى انتقاء الألفاظ بدقة، لأننا نعرف أنهم سيمضون بعد دقائق أو ساعات، ولن يعودوا أبدًا لمساءلتنا. المفارقة أننا معهم نكون أكثر صدقًا مما نحن عليه مع المقربين. لماذا؟ لأن الغرباء لا يعرفون قصتنا كاملة، ولا يحملون في ذاكرتهم سجلًا طويلًا من ماضينا، وبالتالي لن يضعوا كل جملة نقولها في ميزان الحساب القديم بيننا وبينهم.
للمقربين سلطة خفية: سلطة الحكم علينا. كل كلمة نبوح بها لهم قد تتحول يومًا إلى سلاح يُشهر ضدنا أو إلى ورقة ضغط تُستحضر عند أول خلاف. أما الغريب فليس لديه سوى لحظة عابرة يشاركنا فيها الحكاية، ثم يمضي. لهذا، نشعر معه بحرية لا نجدها في بيت العائلة أو بين الأصدقاء.
دوستويفسكي التقط هذه الحقيقة بعبقرية حين كتب في "الليالي البيضاء": "البوح للغرباء متعة وراحة وأمان". الغريب لا يسعى إلى إصلاحك ولا إلى وعظك، ولا يحاول أن يبرهن أنه أكثر حكمة منك. هو فقط حاضر ليستمع، وربما ليشاركك الضحكة أو الدمعة، ثم يختفي وكأنه لم يكن.
الطريف أننا مع الغرباء نملك رفاهية أن نختار الرواية التي نرويها. يمكن أن نبدو في نظرهم أبطالًا منتصرين، أو مظلومين أبديين، أو حتى مجرد مسافرين عاديين يقتلون الوقت. نحن من يقرر الشكل الذي نقدم انفسنا به، وهم يتقبلون ذلك بلا جدال. قد نخفي فصولًا كاملة من قصتنا، وقد نزيف الحقائق إن شئنا. من سيحاسبنا؟ من سيواجهنا بالقول: "لكنني أعرف الحقيقة بوجه آخر"؟ لا أحد.
وهنا تكمن المتعة: الغرباء يتيحون لنا أن نجرب أدوارًا مختلفة في حياتنا، بلا قيود. معهم لا نخشى الفضيحة ولا نخاف أن نخسر علاقة طويلة، لأن العلاقة معهم أصلاً مؤقتة وعابرة.
لكن، إذا تأملنا أعمق، نكتشف أن الأمر ليس مجرد بوح للترفيه. إنه أشبه بجلسة علاج نفسي مجانية. نترك على كتف الغريب حمولة زائدة، وننهض ونحن أخفّ وزنًا. الغرباء يصغون ببرود أحيانًا، أو باندهاش أحيانًا أخرى، لكنهم في كل الحالات يتيحون لنا أن نسمع صوتنا الداخلي بصوت عالٍ. وفي كثير من الأحيان، مجرد سماع كلماتنا وهي تخرج إلى العلن يفتح أمامنا أبواب فهم جديدة لأنفسنا.
قد يكون هذا السبب في أننا حين نغادر، لا نتذكر أسماء الغرباء الذين استمتعنا بالبوح لهم، ولا حتى ملامحهم. لكننا نتذكر دائمًا الشعور بالراحة بعد أن غادروا. كأنهم أخذوا معهم همومنا الصغيرة، وحملوها بعيدًا.
الإنسان كائن اجتماعي، نعم، لكنه أيضًا كائن حذر. مع الأقربين يضع الأقنعة خشية أن يجرحه الحكم أو أن يفقد مكانته بينهم. ومع الغرباء، لا حاجة لأي قناع. هناك، نكون عراة تمامًا، ومع ذلك نشعر بالأمان.
لهذا، فإن البوح للغرباء ليس ضعفًا كما يظنه البعض، بل هو شكل من أشكال الذكاء العاطفي. هو إدراك أن النفس تحتاج أحيانًا إلى فضاء مؤقت، آمن، للتنفيس عما لا يمكن أن يقال في البيت أو بين الأصدقاء. الغرباء هم مرآتنا العابرة، نرى فيها ما لا نجرؤ على مواجهته في المرايا الدائمة.
قد لا نتذكر وجوههم غدًا، لكننا سنبقى مدينين لهم بشيء لا يُشترى: لحظة صدق نادرة، عشناها معهم بلا خوف من العواقب. لحظة كنّا فيها أبطال قصتنا، بلا شهود ولا قضاة.



#ناضل_حسنين (هاشتاغ)       Nadel_Hasanain#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نسير إلى الأمام وعيوننا نحو الخلف
- أخلاق بلا وحي
- غزة: مقبرة الصحافة وصمت العالم
- تحليل: العالم يعيد كتابة الرواية
- ما وراء نوايا احتلال مدينة غزة
- فكر معي: هل نعبد الله حبًا أم طمعًا؟
- حل الدولتين: ستار دخان على فضيحة أخلاقية عالمية
- لماذا يكتب مستقبل فلسطين بغير الحبر العربي؟
- رحيل عبقري لم يعرف التنازل في حياته..!
- العرب يرقصون وغزة تحترق
- فلسطين: فضيحة العرب
- المسجد والكنيسة.. كلاهما بيتنا
- حين يكون الحب شبهة أمنية..!
- العقيدة القديمة والخوف من المجهول
- غزة بين فكّي الاحتلال والتهجير
- نربي القاتل ونبكي القتيل..
- مآذن الصمت العربي
- لماذا علينا، نحن عرب الداخل، أن نقلق؟
- إسرائيل: صناعة رأي عام خائف ومُدجّن
- تآكل حرية التعبير لدى عرب الداخل


المزيد.....




- «أوديسيوس المشرقي» .. كتاب سردي جديد لبولص آدم
- -أكثر الرجال شرا على وجه الأرض-.. منتج سينمائي بريطاني يشن ه ...
- حسن الشافعي.. -الزامل اليمني- يدفع الموسيقي المصري للاعتذار ...
- رواد عالم الموضة في الشرق الأوسط يتوجهون إلى موسكو لحضور قمة ...
- سحر الطريق.. 4 أفلام عائلية تشجعك على المغامرة والاستكشاف
- -الكمبري-.. الآلة الرئيسية في موسيقى -كناوة-، كيف يتم تصنيعه ...
- شآبيب المعرفة الأزلية
- جرحٌ على جبين الرَّحالة ليوناردو.. رواية ألم الغربة والجرح ا ...
- المغرب.. معجبة تثير الجدل بتصرفها في حفل الفنان سعد لمجرد
- لحظات مؤثرة بين كوبولا وهيرتسوغ في مهرجان فينيسيا السينمائي ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناضل حسنين - راحة الإعتراف أمام الغرباء..