ناضل حسنين
الكاتب الصحفي
(Nadel Hasanain)
الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 16:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ فجر الوعي البشري، ظل سؤال العبادة يتردد في أذهاننا، متجاوزًا حدود الزمان والمكان. إنه ليس مجرد طقس أو عادة، بل هو تجلٍّ لعلاقة الإنسان بقوة عليا، تتجاوز إدراكه المحدود. ولكن، هل تساءلنا يومًا عن الدافع الحقيقي وراء هذه العبادة؟ هل هي نابعة من حب خالص لوجه الخالق، أم أنها مجرد صفقة ضمنية، نؤدي فيها واجباتنا طمعًا في مكافأة أو خوفًا من عقاب؟
هذا السؤال، الذي قد يبدو بسيطًا في ظاهره، يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا ودينيًا يستدعي التأمل. فإذا كانت العبادة وسيلة لتحقيق غايات شخصية، كدخول الجنة والنجاة من النار، فهل تفقد بذلك قدسيتها وتتحول إلى مجرد معاملة تجارية؟ وماذا عن النعم الموعودة في الجنة؟ هل هي حقًا ما نسعى إليه، أم أن هناك ما هو أعمق وأكثر جوهرية؟ وهل الخلود، الذي يُنظر إليه غالبًا كأقصى درجات النعيم، قد يحمل في طياته وجهًا آخر قد لا ندركه؟
في هذا المقال، سنغوص في هذه التساؤلات الجريئة، مستكشفين أبعاد العلاقة بين الإنسان وربه، ومحاولين تفكيك الدوافع الكامنة وراء أفعالنا التعبدية. سنبحث في مفهوم العبادة بين الحب الخالص والصفقة المشروطة، ونتأمل في دور الجنة والنار كدوافع، ونطرح تساؤلات فلسفية حول طبيعة الخلود، لنصل في النهاية إلى دعوة للتفكير العميق في جوهر إيماننا ودوافعنا الحقيقية.
العبادة بين الحب والطمع
يُطرح التساؤل الأبرز في هذا السياق: هل العبادة فعل حب صادق، أم مجرد استثمار طويل الأجل؟ يرى البعض أن العبادة قد تتحول إلى ما يشبه الصفقة التجارية، حيث يكون الدافع الأساسي هو الحصول على منافع معينة في الآخرة، كالجنة ونعيمها، وتجنب عقاب النار. في هذا التصور، يصبح رضا الله ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق هذه الغايات الشخصية. وكما أشار الطرح الأولي، إذا كانت العبادة تعني: "أعطني الجنة، أعطيك عبادتي"، فإنها تتحول إلى معادلة حسابية باردة، تفقد جزءًا من روحانيتها وعمقها.
إن النعم الموعودة في الجنة، من خمر وفاكهة وأنهار وحور عين، قد تبدو للوهلة الأولى كحوافز قوية للعبادة. ولكن، كما أشار الطرح، ألسنا قادرين على الحصول على نسخ دنيوية من معظم هذه النعم؟ هذا التساؤل يدفعنا إلى التفكير فيما هو أبعد من مجرد المكافآت المادية. فإذا كانت العبادة تهدف فقط إلى تذوق ما لم نحصل عليه في الدنيا، فهل نحن نعبد الله حقًا، أم نعبد طموحنا الشخصي في تحقيق رغباتنا؟
في المقابل، يؤكد الفكر الإسلامي والفلسفي على أن العبادة الحقيقية تنبع من منبع أعمق وأسمى: الحب الخالص لله تعالى. فالإمام الغزالي، على سبيل المثال، يرى أن جوهر العبادة ودوافعها هو القيام بحق الشكر للخالق، ودافع الشوق والرغبة التي تملأ القلوب والنفوس. إنها ليست طاعة قهرية، بل هي استجابة طبيعية لجمال الله وكماله وإحسانه. وبالمثل، يؤكد الإمام ابن القيم أن محبة الله تعالى هي أصل من أصول العبادة وركن من أركانها، وأن التعبد هو غاية الحب، حيث يكون العبد في حالة من التسليم المطلق أمام محبوبه.
هذه الرؤية للعبادة كحب وشكر وامتنان تتجاوز مفهوم الصفقة. فالله تعالى يستحق العبادة لذاته، لكماله وعظيم صفاته، بغض النظر عن الجنة والنار. فالعبادة في جوهرها هي علاقة روحية عميقة، مبنية على التعظيم والتبجيل والشوق، وليست مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية. إنها تعبير عن الارتباط الروحي العميق بين العبد وربه، حيث يصبح رضا الله هو الغاية الأسمى، وليس مجرد وسيلة.
الجنة والنار كدافع للعبادة
لا يمكن إنكار الدور الذي تلعبه مفاهيم الجنة والنار في تحفيز الكثيرين على العبادة. فهما يمثلان نظامًا إلهيًا للثواب والعقاب، يهدف إلى توجيه البشر نحو الخير وتجنب الشر. فالوعد بالجنة بما فيها من نعيم أبدي، والتحذير من النار بما فيها من عذاب أليم، يشكلان دافعًا قويًا للالتزام بالأوامر الإلهية واجتناب النواهي.
من هذا المنطلق، يرى البعض أن الخوف من النار والطمع في الجنة هما دافعان مشروعان للعبادة، بل هما جزء لا يتجزأ من الإيمان. فالله تعالى قد خلق الجنة والنار، ورغب في الأولى ورهب من الثانية، ليكون ذلك حافزًا للعباد على طاعته. وقد ورد في النصوص الدينية ما يؤكد على أهمية هذين الدافعين في سلوك المؤمن.
ومع ذلك، يطرح السؤال: هل يجب أن تكون هذه هي الدوافع الوحيدة أو الأساسية للعبادة؟ يؤكد الفكر الصوفي والروحاني على أن العبادة الحقيقية تتجاوز مجرد الخوف والطمع. فالله تعالى يستحق العبادة لذاته، لكماله وجماله وجلاله، حتى لو لم تكن هناك جنة أو نار. فالعبادة التي تنبع من الحب الخالص والشكر العميق هي أسمى مراتب العبادة، حيث لا يكون الدافع هو الحصول على منفعة أو دفع ضرر، بل هو تعبير عن العبودية المطلقة لله، والرضا بقضائه وقدره.
إن الجمع بين هذه الدوافع هو ما يشكل الإيمان المتكامل. فالمؤمن يخشى عقاب الله ويرجو ثوابه، ولكنه في الوقت ذاته يعبد الله حبًا وشكرًا وامتنانًا. فالخوف والطمع قد يكونان نقطة البداية، ولكنهما لا يجب أن يكونا نقطة النهاية. فكلما ازداد العبد معرفة بربه، ازداد حبه له، وتعمقت عبادته، وتحولت من مجرد صفقة إلى علاقة حب وشوق لا ينتهي.
الخلود بين النعمة واللعنة
يُعد الخلود، أو الحياة الأبدية، من أسمى الغايات التي يتطلع إليها الإنسان في كثير من الأديان والفلسفات. ففكرة الحياة التي لا تنتهي، حيث لا مرض ولا موت ولا فناء، تبدو كنعمة مطلقة، تتوج سعي الإنسان في الدنيا. إنها الوعد بالراحة الأبدية، والسعادة السرمدية، والتحرر من قيود الزمن والفناء.
ولكن، هل الخلود دائمًا نعمة مطلقة؟ يطرح المقال الأصلي تساؤلًا فلسفيًا عميقًا حول هذا المفهوم، مشيرًا إلى أن الخلود قد يكون "لعنة مقنعة". فما الذي يجعل الحياة عزيزة علينا؟ إنها هشاشتها، تهديدها الدائم بالموت، خوفنا من أن نخسرها في أي لحظة. هذه الهشاشة هي التي تمنح اللحظات قيمتها، وتجعلنا نقدر كل نفس وكل تجربة. في عالم لا موت فيه، ماذا يبقى من طعم الحياة؟ لن نخشى مرضًا، ولا حادث طرق، ولا أسدًا يهاجمنا، ولا حتى الغرق أو الاختناق. الحياة مضمونة إلى الأبد. وهل يبقى للشيء المضمون طعم؟
هذا التساؤل ليس جديدًا في الفكر الفلسفي والأدبي. فقد تناول العديد من الفلاسفة والكتاب فكرة الخلود من زوايا مختلفة، بعضهم يرى فيه نقمة لا نعمة. فالموت، في هذا السياق، ليس نهاية الوجود، بل هو جزء أساسي من دورة الحياة، وهو الذي يمنحها معناها وقيمتها. إن فكرة أن الموت هو ما يجعل المرء كاملاً، كما ورد في بعض الأفكار، تشير إلى أن الفناء ليس بالضرورة شرًا مطلقًا، بل قد يكون ضروريًا لتحقيق الكمال.
إن هذا القسم يدعونا إلى إعادة التفكير في مفهوم السعادة الأبدية. فهل السعادة تكمن في الخلود بحد ذاته، أم في جودة الحياة التي نعيشها، حتى لو كانت محدودة؟ وهل السعي للخلود هو سعي نحو الكمال، أم هو هروب من حقيقة الفناء التي هي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني؟ هذه التساؤلات تفتح آفاقًا جديدة للتفكير في علاقتنا بالحياة والموت، وتأثيرهما على دوافعنا وأهدافنا.
خاتمة: دعوة للتأمل
لقد غصنا في أعماق سؤال قديم قدم الوعي البشري: هل نعبد الله حبًا أم صفقة؟ وتتبعنا خيوط هذا التساؤل عبر مفاهيم العبادة كمعاملة، ودور الجنة والنار كدوافع، والتأمل في طبيعة الخلود بين النعمة واللعنة. لقد أظهرنا أن الأفكار التي تبدو مبعثرة في البداية، تحمل في طياتها عمقًا فلسفيًا ودينيًا يستحق التحليل والتفكير.
إن العبادة، في جوهرها، هي علاقة معقدة ومتعددة الأوجه. قد تبدأ بدوافع الخوف والطمع، وهي دوافع مشروعة وإنسانية، ولكنها لا يجب أن تتوقف عند هذا الحد. فالمسار الروحي الحقيقي يدعو إلى تجاوز هذه الدوافع الأولية نحو حب خالص وشكر عميق لله تعالى، حيث يصبح رضا الله هو الغاية الأسمى، وليس مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية.
وفي الختام، نعود إلى السؤال الاستفزازي الذي طرح في البداية: لو أُلغيت الجنة والنار، وبقي الله وحده، هل كنت ستستيقظ فجرًا للصلاة؟ أم أنك كنت ستنام قرير العين وتترك الله بلا مقابل؟ هذا السؤال ليس دعوة للتشكيك في وجود الجنة والنار، بل هو دعوة صادقة للتأمل في دوافعنا الحقيقية. إنه اختبار لمدى أصالة إيماننا، وعمق حبنا لله. فهل نعبد الله لأنه يستحق العبادة لذاته، أم لأننا نرجو منه شيئًا؟
دعونا نتأمل في هذه الأسئلة، ليس بهدف الوصول إلى إجابات قاطعة، بل بهدف تعميق فهمنا لأنفسنا، ولعلاقتنا بالخالق، ولجوهر العبادة الذي يتجاوز كل صفقة، ليصبح تعبيرًا عن أسمى درجات الحب والامتنان.
#ناضل_حسنين (هاشتاغ)
Nadel_Hasanain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟