ناضل حسنين
الكاتب الصحفي
(Nadel Hasanain)
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 10:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمشي بعض الناس في طرقات الحاضر ووجوههم ملتصقة بمرايا الماضي، كمن يحاول أن يقود سيارة في شارع مزدحم وهو يصرّ على النظر في المرآة الخلفية. كل خطوة عندهم ليست تقدمًا بل اختبار للسقوط، وحين يقع، يكتبون في دفاترهم: "مؤامرة كونية!"، وكأن الأرض نفسها تآمرت عليهم، بينما الحقيقة أبسط: هم الذين وضعوا أقدامهم في الزمن الخطأ.
الماضي، منذ أفلاطون ونيتشه وحتى ابن خلدون، لم يُقصد به أن يكون سجنًا للروح. إنه ذاكرة ودليل، مخزون خبرة يمكن أن يُستَخدم لفهم الحاضر وتوجيه المستقبل. لكن حين يُنظر إليه كمعيار أزلي، يتحول إلى قيد ثقيل، كصندوق مليء بصور قديمة وفتاوى وحكم متوارثة، يصرّ المرء على جرّه على ظهره. بهذا السلوك، لا يصبح الماضي حاميًا للهوية بل حائطًا يُقيد خطواتها، وتتحوّل الذات إلى آلة تدوير للذكريات بدل أن تكون قوة فاعلة في الزمن المتغير.
نرى هذا الانحراف في الحياة اليومية: أشخاص يتمسكون بخطط أجدادهم، يحاولون أن يقودوا بها الحاضر، ويظلون متعثرين عند أول عقبة، ثم يوزعون التهم على الطريق، على الناس، على الزمن نفسه.
ابن خلدون تحدث عن كيف أن المجتمعات تتشبث بالعادات القديمة حتى تصبح عبئًا على التنمية؛ ونيتشه حذر من عبادة الماضي واعتباره قانونًا للحاضر. وهكذا، أولئك الذين يحكمون على المستقبل بمعايير الأمس، يقيدون حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية، ويغلقون الباب أمام التجدد والإبداع.
المفارقة القاسية هي أن هؤلاء لا يجرؤون على مواجهة عيوبهم. سقوطهم لا يؤدي إلى مراجعة ذاتية، بل إلى تحميل العالم مسؤولية إخفاقاتهم. العين المعلقة بالماضي لا ترى المستقبل، والقدم التي لا يقودها إدراك للحاضر، ستظل تدور في دائرة من الطين، تستهلك نفسها عبثًا.
الخروج من هذا النمط ليس عداءً مع الماضي، بل تصالح معه. كما يقول هانز جورج غادامير في فلسفة الفهم: التاريخ يُقرأ ويُستوعب ليشكل أداة للفهم، لا أن يصبح قانونًا يحدّ من الخيارات الحالية.
علينا أن نترك الماضي حيث هو، كذاكرة حية، ونفتح أعيننا على الطريق، لا على ظلٍّ يختبئ خلفنا. وحده من يستطيع رؤية الأمام كما هو، لا كما كان، هو القادر على تحويل العثرات إلى جسور، وعلى قيادة ذاته والمجتمع نحو المستقبل بدل أن يبقى أسير ذكريات عتيقة، يسقط في الحفر ويظل يصرخ: "خانتنا الطريق!"
#ناضل_حسنين (هاشتاغ)
Nadel_Hasanain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟