أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - ما بعد المسرح















المزيد.....

ما بعد المسرح


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8448 - 2025 / 8 / 28 - 15:20
المحور: الادب والفن
    


يمكن النظر إلى المسرح ليس كفضاء الانعكاس المحتمل للواقع، بل كفعل إبستمولوجي يعمل على كشف آليات المعنى بدل ملئه. في هذا السياق، لا يشير مصطلح ما بعد الحداثة إلى مرحلة زمنية لاحقة، بل إلى انزياح في أنطولوجيا الدلالة حيث يفقد المعنى مركزه التقليدي ويتحول إلى شبكة من العلاقات المتشظية. العلامة، بدل أن تثبت، تصبح أداة لزعزعة الاستقرار الظاهر، والمسرح يتحول إلى مساحة تجريبية تهدف إلى اختبار حدود التمثيل وسلطة النص التقليدية.
في أفق ما بعد المسرح، يتوقف الادعاء بأن الخشبة تعكس واقعًا خارجيًا. لم يعد الهدف محاكاة عالم آخر، بل الكشف عن شروط التمثيل ذاتها. ما كان مشروع الحداثة لتقريب الحياة من المسرح وما كان مشروع الكلاسيكية لضمان وهم الثبات، يتحول هنا إلى رفض أي وعود بالتماسك. النص لا يحتكر السلطة، والحوار لا يحمل الصراع؛ الكلمة تخضع للجسد، للإيماءة، للفراغ، وللإيقاع، والزمن لم يعد خطيًا، بل مركب من تباطؤات وتوازيات تجعل الحدث كتلة معلقة بلا نقطة الانكشاف محددة.
المسرح يسحب من الشخصية فكرة الهوية، ويجرد الفعل من قصدية الإرادة. البطل لم يعد حاملًا للحرية التراجيدية، بل أثرًا متشظيًا، ذاتًا في طور الانمحاء. المسرح لا يقدم مأساة مكتملة، بل يختبر قابلية المأساة للتفكيك. الحبكة تتحول إلى بنية مقاومة للحبكة، والسرد إلى كشف لشروط السرد، والتاريخ إلى حطام يمارس عليه إعادة القراءة. كل شيء يصبح تراكبًا من صور وأصوات وحركات متناقضة، في لعبة تشبه الكتابة على سطح ماء، حيث لا تسلسل درامي، بل تناوب بين الحضور والانقطاع.
إذا كان الهدف البريختي هو كشف الوهم وفتح المجال للتفكير النقدي، فإن ما بعد المسرح يذهب أبعد من ذلك: ينفي الوهم ذاته ويعيد السؤال عن الحقيقة. لا شيء يُحاكى، فالمحاكاة بلا مرجع؛ كل علامة تحيل إلى أخرى، والجمهور لا يُدعى لاكتشاف المعنى، بل لتجربة أزمة المعنى. الخشبة تصبح مختبرًا للإدراك، حيث يُسلب المشاهد يقين الرؤية ويُوضع أمام مفارقة إدراكية مستمرة.
أزمة المسرح هنا إبستمولوجية: كل مقولة عن المسرح تفترض مركزًا لم يعد موجودًا. المسرح لا يعيش في قطيعة صافية ولا استمرار تام، بل في زمن تهجين حيث تتداخل الحداثة وما بعدها، وتتراكم الطبقات بلا ترتيب. ما يبدو تجاوزًا أو انقطاعًا هو مجرد تشقق في نسيج الاستمرارية، والمسرح يتحول إلى أثر للانهيار، يفضح هشاشة كل بنية وكل يقين.
ما بعد المسرح إذن ليس زمنًا متعاقبًا، بل شرط دائم لإعادة التفكير في الثوابت. المسرح لا يُمثل ولا يغير بالمعنى التقليدي، بل يمارس التفكيك بلا نهاية، ويضع الجمهور في مواجهة لعبة مفتوحة، حيث السؤال يبقى والجواب دائمًا متأجلًا. هنا يتحقق جوهر ما بعد المسرح: تحويل العدم نفسه إلى عرض، والمسرح ذاته إلى أثر، كتابة قابلة للمحو، ومساحة للإدراك التجريبي المستمر، حيث كل لحظة ابتداءية تؤسس لتجربة جديدة، وكل أفق التعليق يفتح على طبقات غير مستقرة من الدلالة.
في هذا الامتداد المتأرجح، يتضح أن المسرح لم يعد مجرد أداء أو نص، بل حالة مستمرة من التأويل والتجريب، تتحدى كل محاولة لتثبيت المعنى. كل حضور على الخشبة هو غياب متأجل، وكل فعل هو أثر لنية غير مكتملة. الفعل المسرحي يصبح تجربة إدراكية، والجمهور شريكًا في خلق التباين بين الدال والمدلول، بين الإيقاع والفراغ، وبين الأثر وما يلغيه.

هنا يكمن جوهر ما بعد المسرح: تحويل الانهيار نفسه إلى مادة عرضية، حيث تصبح كل لحظة ابتداءية وكل أفق تعليق بمثابة فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الأداء والمعنى، بين النص والفراغ، بين الحضور والغياب. المسرح يتجاوز دوره التقليدي كفن للتمثيل أو وسيلة للتغيير الاجتماعي، ليصبح ممارسة إبستمولوجية وتجريبية مستمرة، تحدد موقع المشاهد ضمن شبكة من التأويلات المفتوحة، وتكشف هشاشة كل يقين.

في هذا السياق، تتحول العلامة المسرحية إلى إشارة داخل سلسلة لا متناهية، حيث كل إيماءة وحركة وصوت يعيد إنتاج معنى مؤجل. المسرح هنا ليس مجرد تجربة زمنية محددة، بل طبقات متراكمة من الفعل والمعنى، كل طبقة تحمل أثرًا للسابقة وتؤسس لاحقة، ضمن فضاء مفتوح بلا مركز ثابت. المشاهد، من خلال هذه التجربة، لا يكتفي بالملاحظة؛ بل يصبح مشاركًا نشطًا في صناعة المعنى، في مواجهة مسرح يُبنى على التوتر بين الحضور والغياب، بين ما يُعرض وما يلغيه، بين التأثير والإلغاء.

بذلك، يصبح ما بعد المسرح نموذجًا لإعادة التفكير المستمر في الممارسة المسرحية، حيث يتم تفكيك كل بنية على الخشبة وتحويلها إلى تجربة إبستمولوجية وتجريبية. المسرح هنا يرفض أي اكتمال، أي ثبات، وأي وهم بالمعنى النهائي، ليصبح مساحة لتأملات معرفية متجددة، وموقعًا للتفاعل التجريبي الذي يعيد تعريف علاقة المشاهد بالحدث المسرحي. كل لحظة على الخشبة تحمل إمكانية إعادة الكتابة، وكل أفق تعليق يمثل فرصة لتفكيك ما يبدو مستقرًا، لتصبح التجربة المسرحية ممارسة بلا نهاية، فضاء مفتوحًا للتأويل، حيث الفعل والمعنى والغياب والحضور يتشابكون في انسجام لا يُمكن حصره.

هكذا، يتحقق شرط ما بعد المسرح: المسرح ليس عرضًا لما هو موجود أو لواقع متصور، بل فضاءً لإعادة تعريف كل عناصره، حيث كل أثر هو نص يُكتب ويُمحى، وكل حضور هو غياب مؤجل، وكل تجربة على الخشبة فرصة لتفكيك المألوف وإعادة صياغة الإدراك المسرحي في ضوء التجربة الإبستمولوجية والتجريبية المستمرة.

في ضوء ما سبق، يصبح ما بعد المسرح نصًا متحركًا، ليس وحدة مكتملة بل شبكة من التأثيرات والأثر المتبادل بين العلامة والجسد والفضاء. كل مشهد، كل حركة، كل صمت، ليس نهاية بل تراكبًا، ليس معنى ثابتًا بل نصًا مؤجلًا، قابلًا للتفكيك وإعادة القراءة. الجمهور هنا لا يستهلك المسرح، بل يعيش تجربة نصية متعددة الطبقات، حيث كل حضور هو استدعاء لكل ما سبقه، وكل غياب هو بداية جديدة للمعنى.

كما يرى رولان بارت، النص لا يُغلق على نفسه؛ بل يفتح على أنثولوجيا متشابكة من الدلالات، حيث القراءة تتجاوز الكاتب، وتصبح التجربة المشتركة بين الأداء والمشاهد مساحة لإعادة الكتابة المستمرة. المسرح، بهذا المعنى، ليس منتجًا نهائيًا بل نصًا حيًا، يختبر حدود التأويل ويحوّل الانهيار ذاته إلى مادة معرفية. كل أثر على الخشبة هو فرصة لإعادة ترتيب المعاني، وكل أفق تعليق يمثل نقطة في شبكة بلا مركز، حيث يمكن لكل لحظة أن تُقرأ من جديد، وتُعاش كإدراك متجدّد.

إن ما بعد المسرح، بهذا المنظور الأنثولوجي، يصبح تجربة تفاعلية مستمرة، نصًا متشظيًا، وأثرًا مفتوحًا للتأويل، حيث الجمهور ليس متلقٍّ سلبي بل مشارك فاعل، وكتابة المسرح لا تنتهي بل تتواصل في كل لحظة حضور، في كل أثر غائب، في كل لحظة ابتداءية وأفق تعليق، لتشكل أنثولوجيا حية للتجربة المسرحية الإبستمولوجية والتجريبية.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تداخل 2
- تداخل
- الملحد السني والملحد الشيعي: قراءة نقدية في ازدواجية الوعي ا ...
- سأسمّيك حربًا أيتها الأرض المتعدّية
- مخطط معماري
- أعتقد أنها قصيدة بدائية
- الآخر
- الموت يكتب قصيدته في جسدها
- كلاب المثلثات
- داخل الغامض أنت تمارين لمحو الشكل
- شكل المحو
- على سطح علم المثلثات
- ماذا عن الكتابة ؟
- مشاهد في الفندق الخفي
- ملف 555 من الرحلة الأخيرة لسيد غباء الرقم 5ع ت
- (معول النسر يرمي الدم المشتعل عالياً) في المصير الحالي
- العالم كله في صناديق باستثناء بضعة كتب
- تمارين في لمحو السابق
- رياضة المحو
- المقبرة البحرية


المزيد.....




- المغرب.. معجبة تثير الجدل بتصرفها في حفل الفنان سعد لمجرد
- لحظات مؤثرة بين كوبولا وهيرتسوغ في مهرجان فينيسيا السينمائي ...
- مهرجان البندقية السينمائي.. دعوات للتنديد بالأفعال الإسرائيل ...
- رحلة حزب الله من البيئة الفكرية إلى الساحة العسكرية والسياسي ...
- محمد ثروت نجم احتفالية الأوبرا في ذكرى المولد النبوي على الم ...
- ماذا وراء -أكبر سرقة كتب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثاني ...
- الصوت يُعيد القصيدة
- الكتاتيب في مصر: ازدهرت في عصر العثمانيين وطوّرها علي باشا م ...
- رواية -مغنية الحيرة-.. يا زمان الوصل بمملكة الحيرة
- -اللي باقي منك-... فيلم عن مراهق فلسطيني يمثل الأردن في أوسك ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - ما بعد المسرح