احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 16:23
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
كل شيء في العالم ،اليوم، بات يحسب بجزء، من مليون من الثانية ، سواء في السباق التكنولوجي ، أو كم المعلومات المتداولة ، كأنها نسيج عنكبوت عابر للقارات، يقف الإعلام العربي التقدمي على مفترق طرق. من جهة، هناك الإمبراطوريات الإعلامية الغربية، تلك القلاع الضخمة التي بنيت على أسس غوبلزية، حيث الدعاية تتزين بثوب الحقيقة، والمعلومة تُشكَّل بعناية لتخدم أجندات السلطة والمال. ومن جهة أخرى، هناك صحفي عربي، يقف وحيدًا في غرفة صغيرة، ربما في مخيم أو مدينة محاصرة، يحمل هاتفًا ذكيًا أو جهازًا متواضعًا، لكنه مزود بسلاح جديد: الذكاء الاصطناعي. هذا السلاح، الذي يُعد ثورة العصر، يمنحه قدرات تفوق الخيال، تتجاوز حدود الموارد المحدودة، وتضيق الفجوة بينه وبين تلك الإمبراطوريات التي تنفق المليارات. إنه زمن جديد، زمن يمكن فيه لصحفي واحد، إذا أحسن استخدام الذكاء الاصطناعي، أن يصبح إمبراطورية إعلامية بذاته، يتحدى بها جبروت الدعاية الغربية، ويروي قصص شعبه بأسلوب يتجاوز حدود الاستشراق وتصوراته النمطية.
لقد كان الإعلام العربي، لعقود طويلة، يعاني من نقص الموارد، ضعف البنية التحتية، والتحديات السياسية التي تحاصره. في مواجهة إمبراطوريات إعلامية مثل تلك التي يديرها روبرت مردوخ، أو مؤسسات غربية كبرى تملك شبكات من المراسلين، واستوديوهات متطورة، وتقنيات باهظة الكلفة، كان الصحفي العربي يشعر أحيانًا أنه يقاتل جيشًا بسيف خشبي. لكن الذكاء الاصطناعي غيّر قواعد اللعبة. هذا الصحفي، الذي ربما لا يملك سوى فكرة تقدمية وإرادة صلبة، يستطيع اليوم أن ينتج مواد إعلامية بجودة تنافس أكبر المؤسسات، بل وتتفوق عليها في بعض الأحيان. إنه ليس مجرد أداة تقنية، بل شريك إبداعي يختصر المسافات، يجمع المعلومات، يصحح الأخطاء، ويصوغ النصوص بأسلوب أدبي عميق، يترجم المحتوى إلى لغات العالم، ويحول فكرة واحدة إلى مادة إعلامية شاملة، سواء كانت مقالًا، تقريرًا مصورًا، أو حتى رواية.
لنعد إلى الوراء قليلًا، إلى زمن كان فيه الإعلام الغربي يشكل صورة العالم العربي من خلال عدسة الاستشراق. كان إدوارد سعيد، في كتابه الشهير "الاستشراق"، قد كشف كيف صيغت هذه الصورة النمطية التي تصور العرب ككائنات غريبة، متخلفة، أو حتى خطيرة. كانت هذه الصورة تُصنع بعناية في أروقة الإعلام الغربي، حيث يتم التحكم بالرواية لتخدم أهدافًا سياسية واقتصادية. كانت الروايات الغربية، سواء في الأدب أو السينما أو الصحافة، تعتمد على هذه التصورات، فتظهر العربي كبدوي يعيش في الصحراء، أو كإرهابي يهدد الحضارة الغربية. لكن اليوم، مع الذكاء الاصطناعي، يستطيع الصحفي العربي التقدمي أن يكسر هذه الصورة النمطية، أن يروي قصته بنفسه، بأسلوبه، بلغته، وبعمق ثقافته. يستطيع أن ينتج رواية أو تقريرًا أو فيلمًا وثائقيًا يتحدى الرواية الغربية، ويظهر العربي كإنسان، كمقاوم، كحالم، كصاحب قضية عادلة.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة لتحسين النصوص أو جمع المعلومات، بل هو ثورة في طريقة التفكير والإنتاج. تخيل صحفيًا عربيًا يجلس في غرفة متواضعة، يملك فكرة تقدمية عن قضية شعبه. يستطيع أن يزود الذكاء الاصطناعي بهذه الفكرة، فيقوم الأخير بجمع المعلومات التاريخية، والإحصاءات، والوثائق، بل ويحلل النصوص، ويصحح الأخطاء، ويصوغ المادة بأسلوب شيق، عميق، وأدبي. يستطيع الذكاء الاصطناعي أن ينتج مقالًا ينافس ما تنتجه أكبر الصحف العالمية، أو تقريرًا مصورًا يبدو كأنه أُنتج في استوديو بملايين الدولارات. يستطيع أن يترجم هذه المادة إلى عشرات اللغات، بلغة راقية، أدبية، تلمس قلوب القراء في كل أنحاء العالم. هذا ليس خيالًا، بل واقع يعيشه الصحفيون اليوم، إذا أحسنوا استخدام هذه الأداة.
لنأخذ مثالًا عمليًا. في غزة، حيث الحرب تمزق الأرواح وتدمر البيوت، يقف صحفي مثل مريم، التي وثّقت قصص شعبها حتى اللحظة الأخيرة. كانت مريم، كما روت في قصتها، تحمل كاميرتها كسلاح، توثق الحياة وسط الموت، تصور الأمهات والأطباء والأطفال الذين يتحدون القنابل بروح لا تنكسر. تخيل لو أن مريم استخدمت الذكاء الاصطناعي. كانت ستقدم له لقطاتها الخام، فيقوم بتحريرها، بإضافة تعليق صوتي بأسلوب شاعري، بترجمتها إلى لغات العالم، بنشرها على منصات التواصل الاجتماعي بسرعة خارقة. كان يمكن أن يحول قصة أحمد، الشاب الذي رسم حمامة على جدار مدمر، إلى فيلم وثائقي قصير يجذب ملايين المشاهدات، أو إلى مقال ينشر في صحف عالمية، أو حتى إلى رواية قصيرة تحكي قصة غزة بأسلوب أدبي عميق. كل ذلك بضغطة زر، أو ببضع كلمات توجه الذكاء الاصطناعي لما تريده.
لكن هذا التحول لا يقتصر على الصحافة التقليدية. الذكاء الاصطناعي يفتح أبوابًا جديدة للإبداع. تخيل روائيًا عربيًا يريد أن يكتب رواية تتحدى تصورات الاستشراق. يستطيع أن يستخدم الذكاء الاصطناعي لجمع المعلومات التاريخية، لتحليل النصوص الأدبية، لصياغة حوارات عميقة، بل وحتى لإنشاء شخصيات تبدو حقيقية، تحمل أحلام وآلام شعبه. يستطيع أن ينتج رواية تتجاوز حدود ما كتبه الكتاب الغربيون، لأنها تأتي من قلب التجربة العربية، من عمق الذاكرة الجماعية. يستطيع أن يترجم هذه الرواية إلى لغات العالم، فيصل صوته إلى كل قارئ، من نيويورك إلى طوكيو، بلغة راقية، أدبية، تنافس أعظم الأعمال الأدبية.
الصين، على سبيل المثال، تقدم نموذجًا مذهلاً لكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام. أدوات مثل تلك التي تطورها الشركات الصينية تتيح للصحفي تحرير الفيديوهات، إنشاء الرسوم المتحركة، وإنتاج محتوى بصري مذهل بسرعة وكفاءة لا تُضاهى. تخيل صحفيًا عربيًا يملك فكرة عن تقرير يحكي قصة اللاجئين الفلسطينيين. يستطيع أن يقدم للذكاء الاصطناعي لقطات خام، بعض الملاحظات، وبضعة أفكار، فيقوم الأخير بتحرير الفيديو، إضافة الموسيقى، صياغة التعليق الصوتي، وترجمته إلى لغات العالم، كل ذلك في ساعات معدودة. النتيجة؟ تقرير يبدو كأنه أُنتج بميزانية هائلة، لكنه في الحقيقة خرج من غرفة صغيرة في مخيم الشاطئ.
لكن هذه القوة لا تأتي دون مسؤولية. الذكاء الاصطناعي، بقدر ما هو أداة تحرر، يمكن أن يكون أداة قمع إذا أُسيء استخدامه. في يد الإمبراطوريات الإعلامية الغربية، يُستخدم الذكاء الاصطناعي لمراقبة البيانات، لتحديد الأهداف، لتشكيل الرأي العام بطرق خفية وخطيرة. لقد رأينا كيف استُخدمت خوارزميات الذكاء الاصطناعي في حروب مثل حرب غزة، حيث حُددت الأهداف بدقة مرعبة بناءً على بيانات المراقبة. لكن هذا بالضبط هو السبب الذي يجعل من الضروري أن يستخدم الصحفي العربي هذه الأداة بنفسه، أن يحولها إلى سلاح للحقيقة، لا للدعاية. يجب أن يكون الصحفي العربي، المسلح بالذكاء الاصطناعي، حارسًا للحقيقة، راويًا لقصص شعبه، ناقدًا للروايات الاستشراقية التي حاولت طمس هويته.
الذكاء الاصطناعي يمنح الصحفي العربي القدرة على التفوق على الكتاب الروائيين الذين نمطوا تصوراتهم على الاستشراق، لأنه يمكنه من إنتاج محتوى أصيل، ينبع من قلب التجربة العربية. يستطيع أن يكتب رواية تحكي قصة فلسطيني في مخيم، أو سوري في المنفى، أو يمني يقاوم الحرب، بأسلوب يتجاوز حدود التصورات الغربية. يستطيع أن ينتج تقريرًا مصورًا يظهر العالم الحقيقي للعرب، لا الصورة المشوهة التي رسمتها هوليوود أو الصحف الغربية. يستطيع أن يترجم هذا المحتوى إلى لغات العالم، فيصل إلى كل قارئ، كل مشاهد، كل إنسان يبحث عن الحقيقة.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي هو أداة، لكنه أداة تحمل في طياتها إمكانيات ثورية. إنه يمنح الصحفي العربي التقدمي القدرة على أن يكون إمبراطورية إعلامية بذاته، يتحدى بها جبروت الإمبراطوريات الغربية. إنه يتيح له أن يكسر الصورة النمطية، أن يروي قصته بنفسه، أن يصل صوته إلى العالم. لكن هذا يتطلب منه أن يكون واعيًا، مبدعًا، ملتزمًا بالحقيقة. يجب أن يحمل فكرة تقدمية، أن يبرمج الذكاء الاصطناعي بما يناسب قيمه، أن يوجهه لخدمة قضيته. عندها فقط، سيصبح الصحفي العربي التقدمي، المسلح بالذكاء الاصطناعي، قوة لا تُقهر، قادرة على تغيير وجه الإعلام، على إعادة كتابة التاريخ، على إحياء صوت شعبه في عالم حاول طويلاً إسكاته.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟