أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة التاسعة














المزيد.....

لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة التاسعة


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 02:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في عالمٍ تتضاءل فيه مساحة القرار الإنساني لحساب البرمجيات، ويُعاد تشكيل وعي الإنسان عبر إشعارات من تطبيقات لم يصنعها، تبرز واحدة من أقدم وأخطر الأسئلة الفلسفية، هل لا تزال لدينا إرادة حرّة؟ كانت الإرادة الحرة دائمًا حجر الأساس في فكرة الإنسان ككائن أخلاقي مسؤول وفاعل، وباسمها قامت الثورات، وبهدمها بُني الطغيان، لكننا اليوم لا نواجه مستبدًا علنيًا يُملي علينا رغباته، بل نظامًا ناعمًا يزرع الرغبات في داخلنا دون أن نشعر، لم نعد نُجبر على شيء، بل يُعاد تشكيل ما نرغب فيه، ومن نرغب، ومتى نرغب، الحرية لم تعد خيارًا بين الأبيض والأسود، بل شبكة من “المقترحات” الذكية التي تُقدَّم لنا كما لو كانت نابعة من داخلنا، فهل نشاهد ما نريد حقًا؟ أم ما قررته الخوارزمية؟ هل نشتري ما نحتاج فعلًا؟ أم ما فُرض علينا عبر بياناتٍ قُرئت في أعماقنا أعمق مما نقرأ نحن أنفسنا؟
وفي ذروة هذا الانزياح بين الوهم والاختيار، ظهر دونالد ترامب كأنه تجسيدٌ درامي لهذا السؤال، بدا، في لحظة انتخابه، كأنه البرهان على أن الإرادة الحرة للشعب الأمريكي قادرة على كسر سطوة المؤسسة، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى انعكاس لأعقد لعبة قوى نسجتها الدولة العميقة العصرية، حيث تلاقت مصالح الشركات الخوارزمية والبنوك العملاقة واللوبيات السياسية، فجعلت منه الأداة الصاخبة لتجديد هيمنتها، رفع شعار "أمريكا أولًا" ليبدو متمرّدًا على النظام، بينما كان في العمق مجرد وظيفة داخل آلياته، لقد تحوّل ترامب نفسه إلى اختبار فلسفي، هل كان ثمرة إرادة شعبية حرة؟ أم صناعة مدروسة لإيهام العالم بأن الديمقراطية ما زالت حية؟
وهنا يطل السؤال الصادم الذي لا يفارقنا، لو أصاب القنّاص ترامب فعلًا، هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالصواريخ كما فعلت إمبراطوريات الأمس، أم أنها كانت ستواصل غزوها الناعم بالذكاء الخوارزمي والتعريفة الاقتصادية، لتبني إمبراطوريتها دون أن تطلق رصاصة واحدة؟
تُروى حكاية أن الشاعر الروسي بوريس باسترناك، حين مُنع من نشر دكتور زيفاكو، رفض أن يغادر الاتحاد السوفييتي رغم شهرته العالمية، لأنه لم يكن يريد أن يُساق إلى خيار محدَّد مسبقًا، قال: " الحرية ليست أن تختار الطريق، بل ألا يُحدَّد لك الطريق أصلًا".
وهذا ما بدا يفرض نفسه على واقعنا الراهن، خياراتٌ كثيرة ظاهريًا، لكنها محكومة مسبقًا بمسارات وضعتها قوى تعرف كيف تُوجّه وعينا الجمعي، هنا لم يعد الخطر مجرد قمع سياسي مباشر، بل انتقال مركز السيطرة من الدولة التقليدية إلى منظومات عابرة للحدود، الشركات الخوارزمية في وادي السيليكون، والمنصات الرقمية التي خرجت من حدود الصين لتتجاوزها إلى العالم، باتت تُعيد تشكيل السلوك السياسي والاجتماعي بآليات أدق من أدوات الأنظمة الاستبدادية القديمة.
إنها سلطة لا تُشهر سلاحها علنًا، ولا تفرض إرادتها بالقوة العسكرية، بل تستثمر في علم النفس السلوكي، وفي هندسة الرغبات، لتجعل القرارات التي نعتقد أنها "حرة" متوقعة ومبرمجة، وهنا يظهر البُعد السياسي العميق، لم تعد الإمبراطوريات تُدار فقط بالدبابات أو بالعقوبات، بل بالقدرة على احتكار البيانات وصياغة الإدراك الجمعي، من يملك هذه الشبكات لا يحتاج إلى إخضاع الشعوب بالقهر، بل يكفي أن يضعهم في مسارات محسوبة، تجعلهم ينفذون ما يخدم مصالحه وكأنه خيارهم الطبيعي.
وإذا كانت الفلسفة قد مجّدت الإرادة بوصفها مركز الذات، فإننا في زمن ترامب اكتشفنا هشاشتها أمام شبكة المصالح والخوارزميات التي تعيد تشكيل خياراتنا، فترامب لم يأتِ بوصفه الإرادة الحرة للشعب الأمريكي وحدها، بل جاء كنتاج معقّد للعبة المال والإعلام والشركات الخوارزمية التي حوّلت الغضب الشعبي إلى مشروع سياسي، بدا، في لحظة معينة، وكأنه تمرّد على الدولة العميقة العصرية، بشعاراته الصاخبة عن كسر النخبة و"أمريكا أولًا"، لكنه كان في العمق أحد أبرز منتجاتها، صعد بفضل أدواتها، واستند إلى نفس الأنظمة التي ادّعى مواجهتها.
قال ألبير كامو: "الحرية ليست شيئًا نُمنح، بل شيئًا ننتزعه " لكن كيف تُنتزع الحرية من نظام لا يسجنك مباشرة، بل يغريك؟ نظام يمنحك كل شيء مقابل كل شيء، من الراحة والسرعة إلى الأمن والهيمنة، ليحوّل ذاتك إلى مادة قابلة للتسويق والاستهلاك؟ هذا هو جوهر الدولة العميقة العصرية، ليست قوة عسكرية تقمعك بمدافعها، بل خوارزميات تُعيد برمجة وعيك من الداخل، حتى تظن أن ما تختاره نابع منك، بينما هو في الحقيقة اقتراح دُسّ في عقلك بدقة.
ترامب كان المرآة التي عكست هذا التناقض، رئيسٌ ظنّ أنه كسر القيد، فإذا به يفضح حدود الحرية نفسها، طرح سؤالًا وجوديًا، لو أصابه القنّاص فعلًا، هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالتعريفة والذكاء الاصطناعي أم بالصواريخ والجيوش؟ السؤال لم يكن افتراضيًا فحسب، بل كاشفًا لحقيقة أن الدولة الأمريكية لم تعد تتحرك بدافع "قرار سياسي حر" بل ضمن مزيج من إرادة عصرية مضبوطة بالخوارزميات، ورغبات إمبراطورية تتنقّل بين أدوات ناعمة وأخرى خشنة.
وهكذا بات التحدي الأكبر للقرن الجديد ليس فقط مواجهة الطغيان السياسي التقليدي، بل حماية ما تبقى من الإنسان فينا من برمجة ناعمة تُمارس باسم الكفاءة، الحرية لم تختفِ تمامًا، لكنها حوصرت، ما زالت تطلّ في لحظات وعي ومقاومة، حين نرفض الانقياد الأعمى، أو نتوقف لنسأل قبل أن نمرّر، أو نختار عكس ما تُمليه الخوارزميات. في تلك اللحظات يثبت أن في الإنسان شيئًا لم يُبرمج بعد.
لكن الدرس الذي كشفت عنه إدارة ترامب بوضوح هو أن هذه اللحظات لن تُحمى بالصدفة، بل تحتاج إلى مشروع إنساني جديد يعيد تعريف الحرية، لا فقط في وجه المستبدين، بل في وجه الدولة العميقة العصرية التي توحّدت فيها الشركات الخوارزمية ورأس المال والنخب السياسية. فالمسألة لم تعد بين يمين ويسار، أو بين زعيم وشعب، بل بين إنسان يُعاد تشكيله ليكون أداة، وإنسان يقاوم ليبقى ذاتًا.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
11/4/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجولاني بين وهم الأبدية وحتمية السقوط
- مؤتمر الرقة ورسائل الصراع غير المعلن بين أمريكا وتركيا
- هل صار الاستجداء هوية كردية؟
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- الثقافة السائلة في المأساة السورية والكوردية
- السعودية وتركيا في الملف السوري من صراع الخلافة إلى رهبة الف ...
- في لحظة مفصلية كهذه لا مكان للرمادية أو الهروب خلف التفاصيل
- الفيدرالية بين التجربة الكوردية في سورية ودروس الأمم قراءة ف ...
- خيوط زيارة هاكان فيدان إلى دمشق
- نتائج عبثية الحكومة السورية الانتقالية وتحول مواقف الدول الك ...
- كونفرانس الحسكة ومؤتمر دمشق بين الوطن الجامع والدولة أحادية ...
- الفيدرالية واللامركزية السياسية في سوريا حدود لا تُمس
- رسالة إلى الشعب السوري، وقيادة قسد والإدارة الذاتية والحراك ...
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 3/3
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 2/3
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 1/3
- كيف نُسقط مشروع الإلغاء العنصري ونبني سوريا التعددية؟
- هل هناك فخ في حوارات باريس؟
- الإسلام بريء منكم من داعش إلى الحكومة الانتقالية
- رد سياسي إلى وزارتي الخارجية الأمريكية والفرنسية بشأن المذكر ...


المزيد.....




- فيديو يظهر لحظة مقتل عاملين في مجال الرعاية الصحية وصحفيين ب ...
- عاصفة عنيفة تضرب سواحل إيطاليا وتتسبب في أضرار معتبرة بالمنت ...
- مئات الباحثين لمجموعة هارفارد للنشر: لا تُسكتوا النقاش بشأن ...
- ما تكلفة استدعاء جنود الاحتياط بعد قرار احتلال مدينة غزة؟
- -تتذكر بشو كنتو تعذبونا؟-.. مواجهة ضحايا صيدنايا جلاديهم تشع ...
- تسريبات استخبارات الاحتلال: 83% من شهداء غزة مدنيون
- قبلة طفلة غزية على قدمي والدها الشهيد تشعل مواقع التواصل غضب ...
- بعد الضربات على مستشفى ناصر في غزة.. رئيسة لجنة حماية الصحفي ...
- ضربة إسرائيلية مزدوجة على مستشفى ناصر تقتل 4 صحفيين على الأق ...
- زلة لسان مذيعة حول عمر ملك المغرب تشعل مواقع التواصل


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة التاسعة